دراسات قانونيةدراسات مغاربيةقضايا بيئية

البيئة في منظور التشريع الوطني التونسي

مقدمـة:

يتفق العلم والدين على أن الكون إكتمل خلقه قبل نشأة الإنسان واستقراره فوق أرضه. وقد بدأ التفاعل بين الإنسان ومحيطه الطبيعي من خلال شعوره بالضآلة والضعف بعد أن وجد نفسه مضطرا للتخفّي والتكيّف من أجل ضمان بقائه. وقد رافق هذا الشعور شعور آخر جوهره تهيّب هذا المحيط أو بعض عناصره، فأعلن خضوعه له وبذلك نشأت مشاعر التدين الأولى.

وبتقدم الأزمان وتكيّف الإنسان مع محيطه بدأ يتلذّذ العيش بعد شعوره بالأمان فانطلق يتأمل في المحيط فلسفة ويتغنّى به شعرا ويرسمه في لوحاته إكبارا للجمال والكمال.

على أن الحياة لم تستمر بسيطة كذي قبل، فانطلق الإنسان خائضا معارك ضدّ عناصر الطبيعة بغرض السيطرة عليها والاستفادة منها بدون ضوابط أو حدود، وبدأ نشاطه يؤثّر سلبا على هذا المحيط وتطور ذلك بشكل مطّرد من خلال الإستثمار في الصناعة والحرب وغيرها من الأنشطة التي أربكت ولا تزال التوازن الذي كان سائدا من قبل.

على أن الاهتمام بالبيئة والمحيط تعزّز خلال نهاية القرن الماضي من خلال إتساع دائرة المخاطر المترتّبة عن النشاط الإنساني غير الموزون.

وقد بدأ الإهتمام بالبيئة مع الاتفاقيات التي نظّمت الحرب والسلم والمقصود بذلك اتفاقيات القانون الدولي الإنساني التي أشارت في بعض أحكامها إلى ضرورة عدم الاعتداء على المحيط الطبيعي أو الثقافي عند قيام الحروب.

كما وقع الإهتمام بالبيئة أيضا من خلال النصوص المنظمة لجرائم معيّنة من الجرائم المنظمة والمقصود بذلك الجرائم الإرهابية حيث وقع الحديث عن جرائم الإرهاب البيئي وهي الجرائم المنظمة التي تستهدف المحيط الطبيعي للإنسان.

وبالرجوع إلى الإتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية يتبين بأنها تستعمل في مجملها عبارتين مختلفتين “البيئة” و”المحيط”.

وتجدر الملاحظة إلى أن المادة التشريعية التونسية في مجال البيئة متعددة بتعدد مكوّنات الطبيعة من ماء وهواء وبحر وتربة ونبات…وقد أصرّ المشرّع على استعمال عبارة “محيط” منذ قانون 1988 المحدث للوكالة الوطنية لحماية المحيط، حيث لم تستعمل عبارة “بيئة” إلا صلب أحكام الأمر المؤرخ في 11 أكتوبر 1991 والمحدث لوزارة البيئة والتهيئة الترابية.

فقد عرّف الفصل الثاني من القانون عدد 91  لسنة 1988 المؤرخ في 02 أوت 1988 المشار إليه أعلاه، المحيط بأنه “العالم المادي بما فيه الأرض والهواء والبحر والمياه الجوفية والسطحية (الأودية والبحيرات الشاطئية والسباخ وما شابه ذلك…) وكذلك المساحات الطبيعية والمناظر الطبيعية والمواقع المتميزة ومختلف أصناف الحيوان والنباتات وبصفة عامة كل ما يشمل التراث الوطني”.

ولمقاربة هذا الموضوع في إطار التشريع الوطني التونسي سنتناول بالبحث محاور ثلاث:

  • المحور الأول: التدابير الوقائية والإدارية لحماية البيئة
  • المحور الثاني: منظومة الردع الجزائي لجرائم البيئة
  • المحور الثالث: نظام التعويض عن أضرار البيئة

المحور الأول التدابير الوقائية والإدارية لحماية البيئة

أمام ظهور عديد الحوادث التي وقعت بسبب تلوث البيئة والتي مسّت عديد الأرواح البشرية ونتجت عنها بروز عديد التشوهات الخلقية اقتضت الحاجة إلى إيجاد آليات قانونية من شأنها أن تحول دون تفاقم الأخطار التي تهدّد البيئة والهدف منها حماية المحيط قبل تفشّي هذه الأخطار وظهورها. فكان الحديث عن الإجراءات الوقائية لحماية البيئة.

وقد ظهرت أولى التدابير الوقائية خلال قمّة الأرض المنعقدة بالبرازيل فـي 05 جوان 1992. حيث خرجت بعديد الإجراءات لصالح البيئة أهمها خطة العمل “الأجندة 21”  “21 AGENDA” وتمثل هذه الخطة برنامج عمل من أجل ضمان التنمية البيئية المستديمة للقرن 21 وربطها بمختلف فروع التنمية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.

وتنقسم هذه التدابير إلى نوعين:

– تدابير وقائية

– تدابير إدارية

أولا: التدابير الوقائية لحماية البيئة

توصف الإجراءات الوقائية بكونها استثنائية بآعتبار وأنها تتضمّن حوافز وتحمّلات مالية تمنح في نطاق التشجيع على حماية البيئة من طرف المنتفعين بها إلى جانب إقرار نظام الحالات المستعجلة أو الطارئة التي تقتضي وضع مخططات وقائية تهدف إلى التصدي إلى الصعوبات التي تطرأ على المحيط على المستويين الوطني والجهوي.

1)    نظام المعالجة الجبائية

وتنقسم إلى نوعين:

  • الحوافز الجبائية
  • التحمّلات الجبائية

1-1/ نظام الحوافز الجبائية:

خصّص المشرّع التونسي الفصول 09 و37 و38 من مجلة التشجيع على الإستثمار للحديث عن الإمتيازات الجبائية المتعلقة بميدان مقاومة التلوث الصناعي حيث أعفى المؤسسات الصناعية من المعاليم الديوانية والأداءات ذات الأثر المماثل كما مكّن من توقيف العمل بالأداء على المعلوم على الإستهلاك وتخفيض الأداء على القيمة المضافة إلى نسبة 10 في المائة بالنسبة للتجهيزات المستوردة المنصوص عليها بالفصل 09 من مجلة التشجيع على الاستثمارات إلى جانب توقيف العمل بالأداء على القيمة المضافة بالنسبة للتجهيزات المصنوعة.

كما خوّلت مجلة تشجيع الإستثمارات للمؤسسات التي تنشط في ميدان جمع أو تحويل أو معالجة الفضلات والنفايات المنزلية والنفايات الناتجة عن الأنشطة الاقتصادية:

* طرح في حدود 50 % من المداخيل أو الأرباح الصافية الخاضعة للضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين أو للضريبة على الشركات.

* الإكتتاب في الرأس مال الأصلي للمؤسسة أو الترفيع فيه

* طرح الأرباح التي تخصص للاستثمار صلب المؤسسة وذلك في حدود 50 % من الأرباح الصافية الخاضعة للضريبة على الشركات.

تضاف إلى هذه الحوافز الجبائية الخاصة بهذا النشاط تشجعيات مشتركة جاءت بها الفصول 07 و 08 و 09 من ذات المجلة وتتمثل أساسا في:

– طرح المداخيل والأرباح التي يقع استثمارها وذلك في حدود 35 % من المداخيل والأرباح الصافية الخاضعة للضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين أو الضريبة على الشركـات.

– إمكانية اختيار نظام الإستهلاكات التنازلية:

Dégressifs Les Amortissements  بعنوان  التجهيزات ومعدات الإنتاج التي تفوق مدة استعمالها 07  سنوات.

– إخضاع التجهيزات المصنوعة محليا للأداء على القيمة المضافـة بنسبـة 10 % وذلك عندما تكون مقتناة بعد دخول الإستثمارات طور النشاط الفعلي.

كما خوّلت مجلة تشجيع الإستثمارات الانتفاع بالتشجيعات الممنوحة بعنوان  التنمية الجهوية وذلك عند تركيز مصانع أو  وحدات لرسكلة النفايات وتتمثل أهمها:

* تقديم  منحة استثمار بقيمة  15 % من كلفة الإستثمار الجملي دون احتساب الأموال المتداولة بالنسبة للمشاريع المنتصبة في مناطق التنمية الجهوية مع تحديد سقف للمنحـة بـ 450 ألف دينار.

* تقديم منحة استثمار بقيمة 25 % من كلفة الإستثمار الجملي دون احتساب الأموال المتداولة بالنسبة للمشاريع المنتصبة في مناطق التنمية الجهوية ذات الأولوية مع تحديد سقف للمنحة بـ 750 ألف دينار.

* تقديم منحة استثمار بقيمة 30 % من كلفة الاستثمار الجملي دون احتساب الأموال المتداولة بالنسبة للمشاريع المنجزة من طرف باعثين جدد منتفعين بتدخل صندوق التطوير واللاّمركزية الصناعية والمنتصبة في مناطق التنمية الجهوية ذات أولية مع تحديد  سقف للمنحة بـ 750 ألف دينار.

* منحة بعنوان مساهمة الدولة في مصاريف أشغال البنية الأساسية حسب مكان الإنتصاب كما خوّلت تشجيع الاستثمارات لهذا لنوع من المشروعات للانتفاع بامتيازات جبائية خصوصية منصوص عليها بالفصل 23.

أما في ميدان التأهيل البيئي للمؤسسات الصناعية فقد تمّ إحداث عديد الصناديق التي تساهم في تمويل المشاريع التي تعتمد تقنيات نظيفة كصندوق مقاومة التلوث وصندوق تنمية القدرة التنافسية الصناعية ويخول لهذا النوع من النشاط الانتفاع بامتيازات  جبائية نصّت عليها الفصول 07 و 9 و 37 و 38 من مجلة تشجيع  الإستثمارات.

وتعتبر مسألة الحفاظ على الموارد الطبيعية من الأولويات التي شملتها الحوافز الجبائية وذلك في نطاق ما يسمى بالإقتصاد في الطاقة إذ خوّلت أحكام الفصل 41 من مجلة تشجيع الإستثمارات الإنتفاع بالإعفاء في المعاليم الديوانية والأداءات ذات الأثر المماثل وإخضاعها للأداء على القيمة المضافة بنسبة 10 % بالنسبة للتجهيزات المستوردة وتوقيف العمل بالأداء على القيمة المضافة بالنسبة للمعدات والتجهيزات المصنوعة محليا. هذا بالنسبة للإستثمارات التي تهدف إلـى تحقيق اقتصاد في الطاقة وإلى البحث عن الطاقات المتجـددة وإنتاجها وتسويقها وإلى البحث عن الطاقة الحرارية الجوفية.

أما فيما يخصّ مجال الإقتصاد في الماء فقد مكنت مجلة تشجيع الإستثمار من الإنتفاع بامتيازات جبائية جاءت بها أحكام الفصل 41 السالفة الذكر إضافة إلى إسناد عديد المنح والمساعدات المالية والفنية التي تقدمها مختلف الهياكل والمصالح الإدارية المعنية بحماية البيئة خاصة منها الوزارة المكلفة بالبيئة.

غير أنه في المقابل حرص المشرّع التونسي على إخضاع عديد الأنشطة الإقتصادية إلى أداءات جبائية Des Taxes Fiscales   تتعلق أساسا بالميدان البيئي.

1-2/ نظام التحمّلات الجبائية

أحدث المشرّع معلوما للمحافظة على البيئة بمقتضى قانون المالية عدد 101 لسنة 2002 المؤرخ في 07/12/2002 وهو معلوم يوظّف على المواد الأولية البلاستيكية ومواد ملوثة أخرى كزيوت التشحيم وزيوت الفرامل والبطاريات الموردة أو المصنوعة محليا بنسبة 5 % على أساس رقم المعاملات خال من الأداء على القيمة المضافة المحقق من قبل مصنّـعي المنتجات الخاضعة في النظام الداخلي وعلى أساس القيمة الديوانية  بالنسبة  إلى التوريد.

وقد تمّ توسيع تطبيق المعلوم للمحافظة على البيئة على بعض المنتوجات البلاستيكية عند التوريد وذلك بموجب قانون المالية لسنة 2008.

وعليه فإن التدابير والإجراءات المالية سواء كانت في شكل امتيازات جبائية أو منح مالية أو أداءات موظفة لتمويل بعض الصناديق التي تعنى بحماية البيئة لا تكفي لوحدها لتحقيق الهدف المنشود بل يجب أن تتظافر هذه الإجراءات مع تدابير أخرى ذات طبيعة فنية أو تقنية من شأنها أن تساهم في التصدي للمخاطر التي قد تصيب المحيط الطبيعي بأضرار بالغة الجسامة.

2/ نظام التدخّل الإستعجالي

إن إحداث الوكالة الوطنية لحماية المحيط بمقتضى القانون عدد 91  لسنة 1988 بتاريخ  02 أوت 1988 قد ساهم في وضع تدابير تقنية وفنية الهدف منها الوقاية والتصدي للأخطار التي قد تضر بالبيئة قبل وقوعها أو بعدها.

كما نصّت الفقرة الثالثة من الفصل 03 أن الوكالة تتولى إعداد مخطط وطني لمواجهة الحالات الإستعجالية ضمانا للتدخل السريع في حالة وقوع حوادث تلوث أو عند وقوع أخطار خارجية تهدد توازن المحيط ونوعية الحياة.

وعليه فقد جسّد المشرّع التونسي هذا الإتجاه الذي كرّسه قانون 02 أوت 1988 من خلال وضع القانون عدد 38 لسنة 1991 مؤرخ في 08 جوان 1991 المتعلق بتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة.

وقد عرّف الفصل الأول أن الكارثة: “تشمل الحرائق والفيضانات والزلازل والعواصف وبصفة عامة كل الآفات بأنواعها سواء كانت برية أو بحرية أو جوية والتي تفوق أخطارها ومخلفاتها حدود الإمكانيات العادية المتوفرة لمجابهتها جهويا أو وطنيا”.

وقد جاء بالفصل الثاني أنه “يتم في نطاق  مخطط وطني أو مخططات جهوية اتخاذ التدابير اللازمة لتفادي الكوارث ومجابهتها بكل الإمكانيات المتوفرة وتنظيم النجدة وتضبط بأمر طرق إعداد وتطبيق هذه المخططات”.

وقد صدر في هذا المجال الأمر عدد 942 لسنة 1993 المؤرخ في 26 أفريل 1993 ليتولى ضبط طرق إعداد وتطبيق المخطط الوطني والمخططات الجهوية لتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة وتركيبة وطرق تسيير اللجنة الوطنية الدائمة واللجان الجهوية وقد تمّ تنقيح هذا الأمر بمقتضى الأمر عدد 2723 لسنة 2004 المؤرخ في 21/12/2004.

ويتولى وزير الداخلية تنفيذ المخططات المتعلقة بتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة على المستوى الوطني أما على المستوى الجهوي فهي من مهام والي الجهة. ويتم تنفيذ المخططات لمجابهة الكوارث وتنظيم عمليات النجدة بموجب قرار في التسخير يتضمن استعمال كل ما هو متوفر من علاقات بشرية وجميع المعدات والآليات والعقارات ومنشآت الخدمات التي يمكن تسخيرها عند الإقتضاء مهما كان أصحابها أو مصدرها وذلك لمجابهة الكوارث المحتملة.

والملاحظ أن الفصل 06 من الأمر عدد 942 لسنة 1993 المؤرخ في 26 أفريل 1993 ضبط محتوى المخططات لتنظيم النجدة وآعتبر أنها تشمل مخططات خصوصية ملائمة لكل نوع من الفواجع أو لكل صنف من الأحداث التي تعتبر آفة وكارثة على معنى الفصل الأول من قانون 08/06/1991 كما وضع المشرّع التونسي في هذا الإطار نظام الاستشعار المبّكر والذي يتمثل في استعمال إنذارات مسبقة تقع برمجتها مسبقا وترمي إلى جمع وانتصاب اللجان المعنية بالأمر.

ولقد أكّد المشرّع التونسي أهمية الخطط الوطنية والجهوية للتصدي للكوارث التي  تصيب البيئة بآعتبارها تمثل وسائل وقائية فعّالة من خلال إصدار القانون عدد 29 لسنة 1996 مؤرخ في 03 أفريل 1996 الذي بموجبه تمّ إحداث خطة وطنية للتدخل العاجل لمكافحة حوادث التلوث البحري.

ويفسر  تدخل المشرّع التونسي بهذا القانون بوجود البلاد التونسية في حوض البحر الأبيض المتوسط فضلا عن ظهور عديد الإتفاقيات الدولية المتعلقة بهذا المجـال من ذلك الإتفاقية الدولية للاستعداد والتصدي والتعاون في ميدان التلوث الزيتي لسنـة 1990 واتفاقية برشلونة المتعلقة بحماية البحر الأبيض المتوسط من التلوث المبرمـة ببرشلونة في ماي 1976 والإتفاقية الدولية للوقاية من التلوث الناجم عن السفن (78/73 MASPOL).

وتتضمن الخطة التي وضعها قانون 1996 دراسة وتحليل الأخطار وانعكاساتها المحتملة على الصحة العامة والبيئة كوضع الإجراءات التي تمكّن كل المتداخلين من القيام بمساهمتهم بطريقة متناسقة وبالتعبئة السريعة والناجعة لإمكاناتهم.

وقد تمّ إسناد مهمة تنفيذ الخطة الوطنية لمكافحة التلوث البحري إلى اللجنة الوطنية للوقاية ولمكافحة حوادث التلوث البحري التي تمّ تنظيمها بمقتضى الأمر عدد 1250 لسنة 1996 مؤرخ في 15 جويلية 1996.

 

ثانيا: التدابير الإدارية لحماية البيئة

تنقسم هذه التدابير إلى صنفين:

– تدابير إدارية ذات طبيعة فنية وتقنية تتمثل أساسا في مراقبة الجانب التقني بما قد يؤثّر في سلامة المحيط عند تركيز بعض النشاطات الإقتصادية وهو ما أطلق عليه المشرّع التونسي بنظام دراسة المؤثرات.

– إجراءات إدارية أولية تتمثل أساسا في مراقبة مشروعية النشاط الذي قد يهدد توازن المحيط وهو ما يعبر عنه بنظام الترخيص المسبق.

1/ نظام دراسة المؤثرات:

تعتبر عملية دراسة المؤثرات على المحيط من أهم الإجراءات الوقائية التي كرسها الأمر عدد 362 لسنة 1991 المؤرخ في 13/03/1991 وقد عرّف الفصل الأول من الأمر المذكور دراسة المؤثرات بكونها “الدراسة الواجب الإدلاء بها قصد الحصول على ترخيص إداري والتي تسمح بتقدير وتقييم وقيس الآثار المباشرة وغير المباشرة على المحيط لهذه الوحدات على المدى القصير والمتوسط والطويل”.

وعليه يعتبر هذا الإجراء الوقائي أحد الشروط الأساسية والمسبقة التي بدونها لا يمكن الترخيص لصاحب المشروع بممارسة نشاطه خاصة إذا اعترضت مصالح الوكالة الوطنية لحماية المحيط على بعث الوحدة عملا بأحكام الفصل الثاني من الأمر المذكور.

ولعل ما يبرّر وجوبية هذا الإجراء الوقائي أن الفصل الخامس لم يلزم فقط صاحب الوحدة أو المشروع بالتقيّد به بل أوجب على السلطة أو الإدارة المعنية بتسليم الرخصة أن تطالب صاحب المشروع أو طالبه بتقديم وصف موجز للمشروع مع ذكر تأثيراته على المحيط. والظروف التي تجعله مستجيبا لمتطلبات حماية المحيط وذلك قصد إحالته على الوكالة الوطنية لحماية المحيط التي تتولى البتّ في الطلب في ظرف عشرين يوما ويصدر قرارها بالاعتراض على المشروع أو بإبداء موافقتها المبدئية عليه وتلزم صاحبه بتقديم دراسة المؤثرات.

وتتولى الوكالة الوطنية لحماية المحيط البتّ في الملف خلال أجل لا يتجاوز ثلاثة أشهر من تاريخ الإيداع وبعد أن تتلقى الرأي الفني للسلطة الإدارية المختصة والمسؤولة عن المواقع التي سيتم فيها إنجاز المشروع موضوع دراسة المؤثرات وذلك في أجل شهر من تاريخ إعلامها.

وتصدر الوكالة قرارا بالاعتراض على المشروع إذا تبين وأن له تأثيرات سلبية على الموقع الذي يتمّ فيه إحداث المشروع أو تتولى إبلاغ المعني بالأمر بالموافقة على المشروع.

2/ نظام الترخيص المسبق:

لقد وضع المشرّع التونسي آليات قانونية عديدة ومتنوعة بتنوع الميادين التي يقتضى التدخل فيها استصدار رخص إدارية تخول للإدارة المختصة مراقبة استغلال الثروات الطبيعية والمحافظة على سلامة البيئة.

من ذلك ما جاء به الفصل 08 من القانون عدد 87 لسنة 1983 المؤرخ فـي 11 نوفمبر 1983 والذي اعتبر الأراضي الفلاحية التي لا تدخل في نطاق مناطق التحجير ومناطق الصيانة مناطق خاضعة للترخيص الوزاري ولا يجوز لذلك تغيير صلوحيتها إلا بعد الحصول على ترخيص مسبق من وزير الفلاحة ويعتبر هذا الإجراء إحدى التدابير الوقائية التي جاء بها المشرّع التونسي لحماية الأراضي الوطنية الفلاحية ومجابهة أخطار الزحف العمراني على المساحات الفلاحية.

كما جاء استصدار مجلة التهيئة الترابية والتعمير إحدى الإجراءات الأساسية والفعالة لحماية المحيط العمراني وذلك بمقتضى القانون عدد 122 لسنة 1994 مؤرخ في 28/11/1994 وتهدف النصوص المنظمة لهذه المجلة إلى مراقبة تقسيم الأراضي الصالحة للبناء ومراقبة طرق بنائها وذلك دعما للمجهود الرامي إلى مقاومة البناء الفوضوي خاصة بالمناطق التي تشهد كثافة سكانية ضخمة ومتزايدة.

ولقد أفرد المشرّع التونسي بدوره إجراءات وقائية لحماية القطاع النباتي الوطني أو ما عبر عنه البعض التراث الغابي. فقد وضعت مجلة الغابات مجموعة من القواعد المتعلقة بآستغلال المنتوجات الغابية ورفعها ونقلها وبيعها إضافة للقواعد المتعلقة بتكسير الغابات والإقامات الوقتية بالغابات والتجوّل بها من ذلك أن الفصل 16 من مجلة الغابات نصّ على ضرورة إعداد برنامج فني يدعى “برنامج التهيئة” يتضمن ضبط طرق إنتاج الخشب بالغابات ومختلف المنتوجات الأخرى وطرق استغلالها في ميدان الرعي وذلك وفق تراتيب معيّنة تتعلق أساسا بنظام الإعلام المسبق أو الترخيص المسبق وطبق كراس شروط يتمّ ضبطها مسبقا من طرف المصالح الإدارية المعيّنة وخاصة الوزارة المكلفة بالغابات”.

كما ساهمت مجلة الغابات في وضع إجراءات وقائية لحماية الثروة الحيوانية، إذ وضعت شروطا خاصة وفترات معيّنة يتمّ من خلالها ممارسة أنشطة الصيد البري وذلك تجنبا للإفراط في الصيد من ذلك أنه حجر كل عمليات الصيد الواقعة خارج موسم الصيد الذي يحدّده كل سنة وزير الفلاحة بعد أخذ رأي المجلس الأعلى للصيد البري بقرار ينشر مسبقا قبل 15 يوما من تاريخ فتح وغلق موسم الصيد.

كما أجاز الفصل 170 من مجلة الغابات لمدير الغابات إسناد رخص استثنائية ومؤقتة لممارسة الصيد بالأراضي الخاضعة لنظام الغابات أو الأراضي الدولية وذلك بهدف البحث العلمي.

أما فيما يتعلق بميدان الصيد البحري ونظرا لأهمية الثروة البحرية فقد سعى المشرّع التونسي إلى تنظيم قطاع الصيد البحري إذ حجر ممارسة الصيد بدون رخصة مسلّمة من السلط المعنية طبق أحكام الفصل 05 من أمر 26 جويلية 1951 المنقح بالقانون عدد 49 لسنة 1963 المؤرخ في 30 ديسمبر 1963.

هذه الصبغة الوقائية التي انتهجها المشرّع التونسي بآستعمال آليات الترخيص والتحجير لم تشمل فقط حماية الكائنات الحية “بل شملت أيضا حماية استغلال العناصر المادية للبيئة”.

فقد سعى المشرّع التونسي إلى اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة لصيانة الثروة المائية فجاء القانون عدد 16 المؤرخ في 31 مارس 1975 المتعلق بمجلة المياه  ليضع قواعد وإجراءات لتنظيم واستغلال المياه العذبة سواء كان ذلك عند تنظيم استعمال المياه السطحية من عيون ومياه جارية أو عند استغلال المياه الباطنية حيث أخضع جملة هذه النشاطات إلى تنظيم الترخيص المسبق من المصالح الإدارية المعنية بوزارة الفلاحة.

أما فيما يتعلق بميدان الوقاية من التلوث المائي فقط جاء الأمر عدد 50 لسنة 1985 المؤرخ في 02 جانفي 1985 ليخضع في فصله 12 تصريف النفايات في المحيط إلى الحصول على رخصة طبق الشروط المقرّرة.

وفضلا عما تقدم  بيانه، جاء القانون عدد 41 لسنة 1996 مؤرخ في 10/06/1996 ليخضع مراقبة التصرف في النفايات وإزالتها إلى رخص مسبقة تسلم من الوزير المكلف بالبيئة.

أما فيما يتعلق بحماية الهواء فقد صدر القانون عدد 39 المؤرخ في 07/07/1961 المتعلق  بإجراء المراقبة على الاتجار في المواد المستعملة في الفلاحة لمكافحة الأوبئة وعلى استعمال تلك المواد وقد أخضع الفصل الثالث كل شخص يرغب في توريد المواد المستعملة في الفلاحة لمكافحة الأوبئة أو صنعها أو الاتجار فيها إلا بعـد الحصول على رخصة من الوزير المكلف بالفلاحة وبعد تقديم مطلب في الغرض.

وفـي نفس السيـاق أخضـع الفصل الثاني من القانون عدد 51 لسنة 1981 المـؤرخ في 18 جوان 1981 مسك مصـادر الأشعة الذرية مهما كان نوعهـا إلـى رخصة من وزير الصحة العمومية بعد استشارة الوزير المسؤول عن ميدان النشـاط المعني بالأمر.

هذا وقد ساهمت أحكام مجلة الشغل في إيجاد الوسائل والتدابير الوقائية لحماية المحيط خاصة وأنها أخضعت المؤسسات الصناعية المضرة بالصحة والبيئة لمواصفات وشروط فنية وقانونية يتم على ضوئها مراقبتها والتحقق من مدى احترامها للضوابط المتعلقة بحماية البيئة.

كما جاء القانون عدد 20 المؤرخ في 22 فيفري 1989 المتعلق بتنظيم استغلال المقاطع وقد حاول المشرّع من خلاله معالجة مشاكل الإفراط في الإستغلال غير المنظم وغير المراقب وغير المرخّص فيه وقد أخضع المشرّع التونسي استغلال المقاطع إلى ترخيص إداري وقيّده بعدّة إجراءات إدارية من شأنها القضاء على الأفعال المؤدية للإضرار بالمحيط.

ويفهم مما سبق عرضه أن الإجراءات الإستثنائية الوقائية لحماية مكوّنات البيئة تتخذ حيزا مهمّا في مجال التدخل التشريعي وذلك بهدف الحيلولة دون وقوع حوادث أو التحسّب لها من خلال إعداد مخططات للتدخل السريع عند الإقتضاء.

على أن هذه الإحتياطات الإستباقية لا تحول في مطلق الأحوال دون إقتراف أفعال إتيان تصرفات مضرّة بالبيئة لذلك تدخّل القانون الجزائي لردع هذه التصرفات.

 

المحور الثاني: منظومة الردع الجزائي للجرائم البيئية

يتدخّل التشريع الجزائي كلما كان الأمر يتعلق بالنظام العام وذلك من أجل ردع كل التصرفات التي تربك هذا النظام وتعرضه للاهتزاز وكثر الحديث بين الفقهاء عن ضرورة حماية النظام العام البيئي.

وبالرجوع إلى النصوص الزجرية في هذا المجال يتبين بأنها تتسم بمظهرين:

  • اتساع مجال التجريم
  • خصوصية إجراءات التتبع

أولا: اتساع مجال التجريم:

يقصد بمجال التجريم نوعية الأفعال التي وضع المشرّع عقابا لمخالفتها. وبآستقراء مجموعة النصوص الرامية لحماية البيئة جزائيا يتضح اتساع هذا المجال. فالمشرّع سعى من ناحية إلى زجر الإضرار بالبيئة، وهدف من ناحية ثانية إلى زجر خرق الاحتياطات المجعولة لمنع الإضرار بالبيئة.

1/ زجر الإضرار بالبيئة:

يتجه في هذا المجال فهم لفظ الإضرار في أوسع معانيه بما هو تغيّر حالة الشيء جراء اعتداء انصبّ عليه، ذلك أن ضرر البيئة قد يكون في صورة التلوث أو في صورة التّدهور.

1-1/ التلويث:

ينصّ الفصل 2 من القانون عدد 91 لسنة 1988 على أنّ التّلويث هو “إدخال أيّة مادّة ملوّثة في المحيط بصفة مباشرة أو غير مباشرة سواء كانت بيولوجيّة  أو كيميائية أو ماديّة.

كما يُعَرَّفُ التّلوث البحري بأنّه “كلّ حدث ينجرّ عنه أو يمكن أن ينجرّ عنه انسكاب في البحر لمحروقات أو لمواد ضارّة أخرى يحدث أو يمكن أن يحدث أضرارا في المحيط البحري أو على السواحل”.

وتعرّف الهيئة العلميّة الرسميّة للبيت الأبيض الأمريكي التلوّث “بالتغيير السيئ للوسط الطبيعي الذي يبدو كليّا أو جزئيّا كعمل من إنتاج الإنسان وذلك عن طريق الآثار المباشرة أو غير المباشرة لطرق توزيع وتدفق الطاقة ومستويات الإشعاعات والتّكوين الفيزيائي والكيميائي للوسط “.

ويقسم بعض الباحثين التلوّث إلى درجات:

  • التّلوث المعقول أو المقبول وهي درجة لا تصاحبها أخطار واضحة، من ذلك ما نصّ عليه الفصل 84 من مجلة الطرقات فقرة 10 من أنه يعاقب بخطية تتراوح من 11 إلى 60 دينار كل من استعمل عربة تنفث دخانا أو تحدث ضجيجا يتجاوز المقاييس المسموح بها بنسبة تفوق العشرين بالمائة وتقل عن الخمسين بالمائة، بما يفهم منه أنه إذا  لم تفق نسبة التلويث الهوائي أو السمعي العشرين بالمائة فلا جريمة، باعتبار أن التلوث يعدّ في هذه الحالة مقبولا أو معقولا.
  • التلوث الخطير وهي درجة يتعدّى فيها التلوث خط الأمان ولها الأثر الكبير على التوازن البيئي فتضر الأحياء وغير الأحياء.
  • التّلوث القاتل أو المدمّر وهو أخطر درجات التّلوث وهو يشكّل خطرا جاداّ على حياة البشر.

ورغم أن المشرّع التونسي لم يقسّم التلوث إلى الأنواع المذكورة،  إلا أنه اعتمد التّقسيم عند سنّه عقوبات التّلويث.

وبغضّ النظر عن جسامة التلوث وفداحته، فإنّ أنواعه مختلفة ومسبّباته متعدّدة، وهو ما آل إلى صدور نصوص تشريعيّة متعدّدة اختص كل منها بتجريم جوانب معيّنة سنتولى عرض بعضها:

جريمة إلقاء نفايات أو حيازتها في وسط طبيعي دون احترام  الشروط على نحو يؤول إلى تلويثه

جريمة حرق نفايات في الهواء الطلق

جريمة صنع مغلفات حاوية لمواد محوّلة لتغليف مواد غذائيّة

جريمة استعمال معلبات المواد الكيميائية لحفظ الموّاد الغذائيّة

جرائم تلويث المياه مهما كان نوع المياه ونوع التلويث

جريمة استعمال عربة تنفث دخانا أو تحدث ضجيجا يتجاوز المقاييس المسموح بها بنسبة تفوق 20 بالمائة وتقلّ عن 50 بالمائة

جريمة استعمال عربة تنفث دخانا أو تحدث ضجيجا يتجاوز المقاييس المسموح بها بنسبة تساوي أو تفوق الخمسين بالمائة

جريمة عدم إزالة الفواضل الملوثة أو الحدّ منها أو استعادتها.

ومهما يكن من أمر فإنّ الجرائم المنصوص عليها أعلاه تشترط لقيامها ركنا ماديّا متمثّلا في حصول فعل التلويث على النحو المذكور أعلاه، أمّا بالنسبة لركنها المعنوي فإنّ القصد الجنائي ليس بشرط واجب، فمن ذا الذي يلوّث لمجرّد التلويث؟ فهذه المخالفة تكون عادة من أجل غاية اقتصادية خاصة، ولذلك عمد المشرّع إلى تجريم الأفعال دون البحث في مدى توفّر عنصر القصد فيها عكس جرائم التسبّب في تدهور البيئة.

2-1/ التسبّب في تدهور البيئة:

لم يعرّف المشرّع التونسي تدهور البيئة رغم أنه جعل مقاومته من بين أهداف الوكالة الوطنيّة لحماية المحيط. ويعرّف البعض تدهور المحيط بأنه إنقاص أو إتلاف عنصر من عناصر الطبيعة مثل قتل الحيوانات المحمية أو إتلاف الغابات بالتكسير أو الحرق أو الهدم أو طمس الآثار والمعالم التاريخية أو المناظر الطبيعية المتميّزة، فلا يشترط على هذا النحو إلقاء فضلات أو أيّة مواد دخيلة على المجال الطبيعي، وإنّما هو قائم بالأساس على تغيير الحالة المّاديّة كليّا أو جزئيّا. وفي واقع الأمور فإنّ التسبّب في تدهور الوسط الطبيعي سابق حتما لكل جرائم التلويث التي تكون مرتبطة بالتّطوّر الصناعي، ولكن رغم ذلك فإن النصوص التشريعية التونسيّة الزاجرة للتسبّب في تدهور البيئة لم تسنّ إلاّ بصورة متأخّرة وكان بعضها تالٍ زمنيّا للنُصوصِ المجرمة للتلويث.

ويمكن عموما ذكر الأفعال التالية مثالا:

جريمة الإضرار  بالآثار المنقولة وتغيير مظهرها

جريمة المساس بمظهر أو منظر موقع طبيعي أو عمراني ذي أهمية تاريخية

جريمة  الإضرار  بالآثار غير المنقولة

جريمة الصيد بوسائل ممنوعة

جريمة صيد الأصناف المائيّة المحجّرة

جريمة استعمال آلات خدمة أرض تفتت التربة المهدّدة  بالانجراف

جريمة الرّعي بضفاف مجاري المياه المتدهورة

جريمة تكسير غابة

جريمة الرعي بالغابات

تمثّل هذه النصوص بعضا من القواعد التي سنّها المشرّع لحماية المحيط من التدهور، وهي بطبيعة الحال مثل النصوص الزاجرة للتلويث لا تطبّق إلا بعد ارتكاب الفعل الإجرامي وإلحاق الضرر بالبيئة، ما من شأنه أن يجعل تدارك الآثار أحيانا شبه مستحيل في حال تلوّث سام، وهو ما جعل المشرّع يضع قواعد لاستباق التلوّث بفرض جملة من الاحتياطات أوجب لخرقها جزاء.

2/ زجر خرق احتياطات منع الإضرار  بالبيئة:

ينصّ الفصل الأول من القانون عدد 41 لسنة 1996 أن “هذا القانون يهدف إلى وضع الإطار الملائم في ميدان النفايات وطرق التّصرف فيها من أجل تحقيق الغايات الأساسية التالية:

الوقاية والحدّ من إنتاج النفايات ومن مضارها خاصة عن طريق التدخّل على مستوى صنع وتوزيع المنتجات”.

من البيّن أنّ إرادة المشرّع قد تحوّلت في السنوات الأخيرة من زجر أعمال التلويث إلى اتخاذ تدابير احتياطية من شأنها الحيلولة دون حصول الضّرر. غير أن اتخاذ التدابير الاحترازية لن يكون ذا جدوى كبيرة إذ لم يكن مرفقا بعقاب في حالة المخالفة خاصة إذا تبيّن أنّ التقيّد بالتدابير من شأنه تكليف صاحبه مصاريف إضافيّة. وبقدر ما حرص المشرّع على إقرار تشجيعات، فإنّه حرص على فرض عقوبات في حال خرق الاحتياطات.

ومثالا على القواعد الموجبة لتدابير الوقاية من التلوّث نذكر:

جريمة استعمال مواد وتراكيب ممنوعة للّف

جريمة عدم الانخراط في أنظمة استعادة نفايات اللّف والتعليب

جريمة امتناع مؤسسات إزالة النفايات عن الخضوع للمراقبة

جريمة إزالة النفايات خلافا للشروط المضبوطة

جريمة امتناع المؤسسة المتعهدة بالنفايات عن الإعلام حول النفايات الخطرة

جريمة تعمّد مخالفة شروط تكييف النفايات الخطرة ونقلها وعنونتها

جريمة تعمّد مخالفة التراتيب المتعلّقة بالحدّ من إنتاج  النفايات الخطرة

جريمة توريد نفايات خطرة

جريمة تصدير نفايات خطرة أو جعلها تعبر عبر تراب الجمهورية التونسية

جريمة توريد نفايات غير خطرة أو تصديرها أو جعلها تعبر عبر تراب الجمهورية التونسية

جريمة عدم التقيّد بطرق التّصرف في النفايات الخطرة

جريمة مزج أنواع النفايات عند التثمين

جريمة مسك معدّات الصيد المحجّرة

جريمة مخالفة قرار غلق مؤسسة خطرة على البيئة

جريمة عدم تجهيز منشأة بآليّات كفيلة بالحدّ والوقاية من تلوّث الهواء عند المصدر

– جريمة عدم وضع خطّة خصوصيّة للتّدخل العاجل لمكافحة حوادث تلوّث البحر

يتّضح من جملة النصوص المذكورة أنها تضع تدابير تمنع حصول التلويث أصلا وتحدّ من خطورته في حال وقوعه عبر آليات أهمّها منع استعمال المواد الملوّثة في الصناعة، وخاصّة في تركيب وسائل اللّف وإجبار الصناعيين على التقيّد بضوابط عند إزالة النفايات، وفرض نظام معيّن على المؤسّسات المتعهدة بالتّصرف في النفايات.

ويختلف الرّكن المادي بالنسبة لكل جريمة من الجرائم المذكورة شأنها في ذلك شأن جرائم الإضرار بالمحيط، ولكنّها تختلف عنها في وجوب توفّر القصد الجنائي حيث أن المشرّع ينصّ صراحة على وجوب تعمد المخالف ارتكاب الجريمة في بعض النصوص، ولكن لا ينبغي فهم عدم التنصيص على التعمّد في بعض النصوص استغناء عن القصد الجنائي، باعتبار أن المشرّع وضع جملة من الشروط واجبة الاحترام لا يمكن للمخالف خرقها إلاّ عمدا وهو ما يخضعه لتتبّع يتميز بالشدّة حينا وبالمرونة حينا آخر.

ثانيا: خصوصيّة إجراءات  التتبع:

تبرز خصوصيّة الجرائم البيئية على مستوى الإجراءات أكثر منه على مستوى الأصل، حيث أدخل المشرّع عديد القواعد الخاصة في هذا المجال وذلك ابتغاء التشديد حينا وبقصد المرونة حينا آخر.

1/ التشديد:

يقصد بالتشديد اعتماد إجراءات أكثر حزما لضمان ردع المخالف. وباستقراء مختلف النصوص المذكورة أعلاه يتضح أن المشرّع كان متشدّدا من خلال توسيع دائرة أعوان معاينة المخالفات البيئيّة ومراقبتها من جهة أولى، وتوسيع مفهوم الشخص المخالف من جهة ثانية.

1-1/ تعدّد أعوان المعاينة والمراقبة:

علاوة على وكلاء الجمهورية ومساعديهم وحكّام النواحي ومحافظي الشرطة وضباطها ورؤساء مراكزها وضباط الحرس الوطني وضبّاط صفّه ورؤساء مراكزه ومشائخ التّراب وحكام التحقيق في الحالات المضبوطة قانونا، تختلف الجرائم البيئية عن بقية جرائم الحق العام بإمكانيّة إثباتها من طرف أعوان متخصّصين أحالت إليهم الفقرة السادسة من الفصل 10 من مجلة الإجراءات الجزائيّة. ولكن ما يميّز معاينة الجرائم البيئية حتى عن بعض الجرائم الخاصّة، هو تعدّد أنواع أعوان المعاينة والمراقبة كما يلي:

– اختصاص أعوان وخبراء مراقبين تابعين للوزارة المكلّفة بالبيئة بمعاينة أعمال التّصرف في النفايات

– اختصاص أعوان السلط البحرية وأعوان التراتيب البلديّة وأعوان السلط الأثارية بمعاينة المخالفات المتسلطة على المواقع الطبيعيّة والعمرانية ذات القيمة التاريخية

– اختصاص أعوان الوكالة الوطنيّة لحماية المحيط بمعاينة الأفعال المخالفة للقانون المنظم  للوكالة

– اختصاص قادة وضباط البحرية الوطنية وحرس الصيد البحري والأعوان المحلفين التابعين لإدارة البحرية التجارية وإدارة الديوانة والمصلحة الوطنية لحراسة السواحل وأعوان السلطة المختصة المحلفين للغرض بمعاينة جرائم الصيد البحري

– اختصاص أعوان وخبراء تابعين للوزارة المكلفة بالبيئة بمعاينة مخالفات القوانين والتراتيب المتعلقة بالشريط الساحلي وبالملك العمومي

– اختصاص أعوان وزارتي الفلاحة والبيئة المؤهلين لمعاينة جرائم الإضرار بالمياه والتربة

– اختصاص الأعوان والمستخدمين التابعين لوزارتي الفلاحة والصحّة العمومية بمعاينة المخالفات لأحكام مجلة المياه والأوامر الصادرة لتطبيقها

– اختصاص  مهندسي الغابات وتقنييها بمعاينة جرائم الغابات

– اختصاص مهندسي الغابات وتقنييها وأعوان المراقبة الاقتصادية وأعوان الوزارة المكلفين بالغابات المؤهلين بمعاينة جرائم الصيد

– اختصاص الأعوان المؤهلين التابعين للوزارة المكلفة بالبيئة والوزارات المكلفة بالصحة العمومية والنقل بمعاينة جرائم تلويث الهواء

– اختصاص أعوان وزارة البيئة المؤهلين بمعاينة جرائم التلوث والضجيج الصادر عن العربات

– اختصاص أعوان الوزارة المكلفة بالتجارة والوزارة المكلفة بالصناعة والإدارة العامّة للديوانة بمعاينة جرائم المواد الكيميائية

فيبدو جليّا تعدّد الأعوان المكلفين بمعاينة الجرائم البيئية.

ولعلّ هذا الأمر عائد إلى التّنوع الكبير لهذه الجرائم نتاج تعدّد العناصر الطبيعيّة المكونّة للبيئة من جهة، ومن جهة ثانية يعود الأمر إلى وجوب التكوين العلمي الخاص بكل مجال، فمثلا تحتاج معاينة جرائم تلوث المياه إلى معدّات تقنية ينبغي لمستعملها الإلمام بها لاعتمادها فضلا عن استخلاص النتائج عن طريقها.

2-1/ التوسّع في تحديد الشخص المخالف:

يغلب أن يكون المعتدي على البيئة ممارسا لأحد الأنشطة الاقتصادية باعتبار أن التلوث هو نتاج مخلفات تلك الأنشطة أو حاصل أحد عوارضها الكارثية، وهو ما نجم عنه تورط عديد الشركات في تلويث المحيط، بل إن بعض الإحصائيات تفيد أن عدد عمليات الاعتداء على البيئة من طرف الشركات هو ثلاثة أضعاف الاعتداءات المرتكبة من طرف أشخاص طبيعيين.

وقد كان هذا الوضع يثير إلى حدود سنة 1988 نقاشات قانونية حول إمكان توجيه التهمة إلى شخص معنوي، نجم عنها تردّد في فقه القضاء والفقه ما بين مؤيد لتجريم الشخص المعنوي وبين رافض لتحميله المسؤولية. ورغم أن القضاء اتخذ قرارات مبدئية سنة 1976 وسنة 1982، إلا أن جانبا كبيرا من الفقه ظل مدافعا عن فكرة عدم مسؤولية الشخص المعنوي باعتبار أن الذات المعنوية ليست موجودة حقا وهي لا تتصرف إلا عن طريق الأشخاص الطبيعيين المشرفين عليها، فتدخّل المشرّع بموجب القانون المحدث للوكالة الوطنية لحماية المحيط سنة 1988، ونّص صراحة صلب الفصل 8 منه على عقاب “الأشخاص الماديين أو المعنويين وخاصة المؤسسات الصناعية أو الفلاحية أو التجارية الذين يلحقون ضررا بالمحيط“.

وقد تدخّل المشرّع ثانية بموجب الفصل 49 من قانون 10/06/1996 المتعلق بالنفايات وبمراقبة التصرف فيها وإزالتها الذي ينصّ “عندما يكون المخالف ذاتا معنوية تطبق عليها العقوبات المالية المنصوص عليها بهذا القانون. ويمكن للمحكمة تسليط  العقوبات المنصوص عليها بهذا القانون ضدّ الأشخاص الطبيعيين المكلفين بأي صفة كانت بتسيير ذوات معنوية أو بإدارتها أو بالتصرف فيها إذا ثبت أنهم تعمّدوا أو جعلوا منظوريهم أو الأشخاص الخاضعين لمراقبتهم يتعمدون تجاهل أو خرق أحكام هذا القانون”.

2) التيسير: إمكانية الصلح:

وخلافا لبقية المواد التي كان حظها من الصلح متأخرا، فإن النصوص المنظمة لحماية البيئة جزائيا ولدت وهي تعتمد آلية الصلح.

فخلافا لمجلة المياه فإنّ جميع النصوص الجزائية السابق التّعرض إليها أعلاه تخصّص فصلا أو اثنين لمسألة الصلح مع المخالف على النحو التالي:

 – الفصل 51 من قانون 10 جوان 1996 “يمكن للوزير المكلف بالبيئة إجراء الصلح مع المتسببين في المخالفات المنصوص عليها بالفصلين 46 و47 من هذا القانون. ويوقف الصلح المبرم التتّبعات قبل صدور حكم نهائي، ولا يعفي الصلح المخالفين من القيام بالالتزامات التي ينصّ عليها القانون ولا من مسؤوليتهم المدنية عن كل ضرر لحق أو يلحق بالغير من جراء تصرفاتهم”.

 – الفصـل 11 جديـد من قانون 2 أوت 1988 فقـرة 3 :”غير أن الوكالة مؤهلة للتصالح مع الأشخاص الماديين والمعنويين المخالفين بعد موافقة سلطة الإشراف ويوقف إبرام الصلح التّتبعات”.

– الفصل 41 من قانون 31 جانفي 1994 المتعلق بالصيد البحري :”في ما عدا الحالات المنصوص عليها بالفصل 42 من هذا القانون يمكن للسلطة المختصة أن تبرم قبل صدور الحكم البات صلحا إداريا في شأن الجرائم المرتكبة خرقا لأحكام هذا القانون وللتراتيب المتّخذة لتطبيقه.

ويترتّب عن الصلح انقضاء الدعوى العموميّة وتوقيف تنفيذ العقاب”.

وينصّ الفصل 42 ” لا يمكن إبرام الصلح في الحالات التالية:

– في صورة انتفاع المخالف بإجراءين صلحيين خلال السنة السابقة لتاريخ تحرير آخر محضر ضدّه.

– في صورة ارتكاب الجريمة خلال السنتين المواليتين لتاريخ صدور آخر حكم يدين المخالف لارتكابه إحدى الجرائم المنصوص عليها بهذا القانون وبالتراتيب المتخذة لتطبيقه.

– في صورة ارتكاب جريمة الصيد بواسطة المتفجرات أو المواد التي من شأنها أن تخدّر الأصناف المائية أو تسمّمها أو تلحق بها ضررا.

– في صورة اقتران جريمة الصيد بجريمة أخرى متعلقة بهضم جانب أعوان المعاينة أو بخرق أحكام مجلة التنظيم الإداري للملاحة البحرية”.

– الفصل 32 من قانون 17 جويلية 1995 متعلّق بالمحافظة على المياه والتّربة “بالنسبة للمخالفات المنصوص عليها بالفصل 31  أعلاه يمكن لكل من الوزير المكلّف بالفلاحة والوزير المكلف بالبيئة والتهيئة الترابية حسب مصدر تحرير المحضر إجراء صلح مع المخالفين شرط أن يقوموا بإرجاع المنشآت والأشغال التي ألحقوا بها ضررا إلى  حالتها الأصليّة”.

– الفصل 134 جديد من مجلة الغابات “يجوز للوزير المكلف بالغابات أن يبرم صلحا قبل صدور الحكم النهائي بشأن الجرائم المنصوص عليها وعلى عقابها بهذه المجلة.

والصلح تنقضي به الدعوى العمومية بعد تنفيذه.

غير أن الصلح لا يشمل حالات العَوْد وارتكاب الجرائم الخطيرة المنصوص عليها بالفصل 134 مكرّر من هذه المجلة وكذلك الانتفاع بالصلح خلال السنتين السابقتين لارتكاب الجريمة الجديدة.

ويتضح من جملة هذه النصوص أن المشرّع فتح الباب أمام المخالف للانتفاع بصلح تنقرض معه الدعوى العمومية أو يتوقّف به تنفيذ العقاب، ولكنّه في جميع الأحوال صلح مشروط من جهة بتنصيص القانون على جوازه، فالصلح استثنائي لا يمكن الإنتفاع به إلاّ بتصريح القانون على إمكانه. ومن جهة ثانية هو مشروط باقتصاره على أنواع من الجرائم دون أخرى، فالفصل 41 من قانون 31 جانفي 1994 المتعلق بالصيد البحري والفصل 134 جديد من مجلة الغابات منعا التصالح في شأن الجرائم الخطيرة التي تضر بالبيئة بشكل مجحف كإلقاء النفايات السامة والتلويث المكثف.

وبصدور القانون المؤرخ في 4 جوان 2007 المتعلق بنوعية الهواء تطوّر دور النيابة العمومية، فحسب الفصل 15 منه بات بإمكان وكيل الجمهورية قبل إثارة الدعوى العمومية أن يأذن بإجراء الصلح بطلب من المخالف، ثم يصادق على الصلح الكتابي المبرم بين المخالف والوكالة الوطنية لحماية المحيط. يعتبر هذا الفصل تطبيقا للفصل 335 ثالثا من مجلة الإجراءات الجزائية باعتباره مكّن من الصلح بالوساطة. ويختلف الصلح الوارد بالفصل 15 المذكور عن الصلح الوارد بالفصول المتقدم ذكرها في أنّه لا يتمّ مباشرة بين الإدارة والمخالف وإنّما بوساطة بينهما، وتعرّف الوساطة بأنّها ” تعهّد شخص من تلقاء نفسه أو بطلب من الفرقاء بالسعي إلى تقريب وجهات النظر بين الأطراف وإقناعهم بحل ودّي صلحي للخلاف الطارئ بينهم”.

يمكّن هذا الفصل وكيل الجمهورية بإجراء محاولة صلحية بين الطرفين بطلب من المخالف دون الإدارة ويصادق على الصلح في حال إبرامه.

إن الإعتداء على البيئة ينجرّ منه حتما إضرار بالموجودات والأشخاص. لذلك لابدّ من توخّي نظام رشيد لتعويض هذه الأضرار.

 

 

المحور الثالث

 نظام التعويض عن الأضرار البيئية

رغم كل هذا الزخم التشريعي فلا أحد ينكر تواصل الانتهاكات وخطورتها مرتبة أضرارا بيئية كان لابدّ من التعويض عنها في إطار مسؤولية مدنية.

غير أن الحديث عن هذه المسؤولية المدنية ضمن قانون المحيط ليس أمرا سهلا ذلك أن المفاهيم التقليدية للمسؤولية المدنية تعدّ قاصرة عن الوفاء بالغرض.

فكان لابدّ من التوقّف عند خصوصية التأسيس في مرحلة أولى لنقف في مرحلة ثانية عند خصوصية التعويض عن الأضرار البيئية.

أولا: خصوصية التأسيس للمسؤولية المدنية عن الأخطار البيئية.

ويطرح التأسيس للمسؤولية المدنية عن الأضرار البيئية عدّة صعوبات نظرية وعملية نظرا لخصوصية الضرر البيئي سواء عند تناول أركانها المادية أو أركانها القانونية.

1) الأسس الواقعية للمسؤولية المدنية عن الأضرار البيئية:

 

إن الحديث عن التأسيس الواقعي للمسؤولية المدنية عن الأضرار البيئية هو الوقوف على أركانها المادية من خطإ بيئي وضرر بيئي والعلاقة السببية بين الضرر والخطإ وما تطرحه هذه الأركان من خصوصيات.

1-1  خصوصية الخطأ البيئي:

عرّفت الفقرة الأخيرة من الفصل 83 من مجلة الالتزامات والعقود الخطأ بأنه “ترك ما وجب فعله أو فعل ما وجب تركه بغير قصد الضرر..”.

وتفريعا عن العام فإن خصوصية الخطإ البيئي تفترض ترك المخطئ ما وجب عليه فعله لحماية محيطه أو أنه فعل ما كان عليه تركه من أفعال من شأنها الإضرار بمحيطه.

ولتكييف فعل على أنه خطأ بيئي كان لابدّ من استحداث معايير موضوعية تحدّد نسب الإفرازات المسموح بها سواء كانت سائلة أو غازية أو صلبة والتي من شأنها عدم إلحاق الأذى بالطبيعية، وإن تجاوز هذه النسب من شأنه الإضرار بالبيئة وعليه اعتبار الإفراز في حدّ ذاته حدثا عاديا لا يشكّل أي خطإ إلا إذا تجاوز النسبة المسموح بها في المعيار الموضوعي ويقع استنباط المعيار الموضوعي على ضوء جملة من المعطيات العلمية والتقنية والاقتصادية والتي تنتهي إلى تحديد نسبة تركيز معيّنة من الإفرازات في مدّة زمنية محدّدة.

ولقد حاولت البلاد التونسية وضع مثل هذه المعايير كتلك المتعلقة بالتلوث الهوائي والمصادق عليها سنة 1994 تحت عدد 004 06/NT والتي تنقسم بدورها إلى نوعين من المعايير.

معايير قصوى، وتعيّن الحدّ الأقصى من الإفرازات الغازية التي يمكن نفثها في الهواء ولا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال وإن تجاوزها يشكّل خطأ بيئيا.

معايير توجيهية ونسب الإفرازات المسموح بها، فإذا تمّ التشكي من إفراز غازي معيّـن على أنه خطأ بيئي كان لابدّ من الرجوع  إلى هذه المعايير، هذا ما حدث بالضبـط عندما قام عدد من الفلاحين أمام محكمة ناحية قابس ضدّ شركة المجمع الكيميائي التونسـي وشركة الصناعات الكيمائية للفليور وشركة الكيمياء يدّعون انبعاث غازات حارقة عن هذه الشركات أضرّت المنتوجات الفلاحية، وبعد إجراء الاختيارات اللازمة تبيّن وأن بعض الإنبعاثات الغازية قد تجاوزت النسب القصوى المسموح بها بكثير وتحولت بذلك إلى ملوثات وأهمها غاز ثاني أكسيد الكبريت ” (so2 ) soufre  de Dioxyde  ” إذ تراوحت  نسبة  تركيز هذا الغاز في المتر المكعب الواحد من الهواء  بين 30 و60 و171 في حين أن النسبة المسموح بها لا تتجاوز 50 ميكرو غرام.

كما تراوحت كمية الجزئيات الصلبة (PH) بين 38 و119 حسب إتجاه الرياح التي تهبّ على المنطقة الصناعية في حين أن النسبة العالمية المسموح بها لا تتجاوز 40 ميكرو غرام وهذا ما جعل محكمة الناحية في مرحلة أولى والمحكمة الابتدائية بقابس في مرحلة ثانية كمحكمة استئناف تعتبر الشركات المدعى عليها مرتكبة لأخطاء بيئية.

ولقد واجهت محاكم الأصل بمدينة قابس هذه الصعوبة إذ تمّ اللجوء في مرحلة أولى إلى الخبراء المختصين في الفلاحة إلا أن الشركات المدعى عليها دفعت بعدم أهلية هؤلاء لبيان الخطإ البيئي وما ينجرّ عنه من أضرار فتمّ اللجوء في مرحلة ثانية إلى خبراء البيئة فدفعت المدعى عليها بأن خبراء البيئة بإمكانهم تحديد الملوثات ولكن غير قادرين على بيان تأثيرها السلبي على الغطاء النباتي والمغروسات فتمّ إجراء الاختبارات في مرحلة ثالثة بالتعاون بين خبراء البيئة والفلاحة وصياغـة تقاريـر مشتركة بعد أن أنجزت دراسة في الغرض كانت الأساس الفني لهذه الاختيارات وتعلقت الدراسة بتأثير الإفرازات الغازية للمركّب الكيمائي بقابس على المقاسم الفلاحية بشط السلام وبوشمة وغنوش وتمّت الاستعانة في إنجاز هذا العمل بدراسة قامت بها وزارة البيئة بالاستعانة بالمركز الدولي لتكنولوجيا البيئة خلال السنوات 2001 و2002 و2003 كما تمّت الاستعانة بمختصّ من المخبر الفرنسي “لاباف” وهذا دليل على أن تكييف الخطأ البيئي يتجاوز قـدرة المدعي الفرد والخبير المختص للخصوصيات السالفة الذكر ويفترض تظافر الجهود وتداخل أكثر من اختصاص بما يستوجبه ذلك من إمكانيات مادية هامة لا يقدر عليها المواطن العادي فيتعذّر عليه مواجهة الأضرار البيئية لأنه غير قادر على إثبات الخطإ البيئي وهذا من شأنه أن يشجّع المخطأ على التمادي في الإضرار بالبلاد والعباد، ومن هنا كان لابدّ من التفكير في إيجاد جهة محايدة لها القدرة الفنية والعلمية والقانونية والمادية على إجراء مثل هذه الاختبارات وتطبيق المعايير الموضوعية ولإتاحة الإمكانية أمام المتضرّر للتعويض عن ضرره البيئي رغم ما يطرحه أيضا هذا الضرر من خصوصيات.

1-2 خصوصية الضرر البيئي:

خلافا للأضرار الدارجة كالتي تلحق بالنفس البشرية نتيجة حادث مرور مثلا والتي يمكن تشخيصها وتبويبها بين ضرر بدني ومعنوي وجمالي ومهني يمكن تقديرها بواسطة اختبار طبي يتسنى القضاء على أساسه بالتعويضات المناسبة ويكون التعويض قائما على عمليات حسابية دقيقة جاء بها القانون.

وخلافا للأضرار التي تلحق بالأموال المعروفة بسهولة تشخيصها. وتقديرها على أساس الفصل 107 من مجلة الالتزامات والعقود فإن الضرر البيئي يطرح جملة من الإشكاليات سواء من حيث تشخيصه أو من حيث تقديره.

فمن حيث التشخيص يطرح السؤال التالي، متى يمكن الجزم بوقوع ضرر بيئي؟.

للإجابة عن السؤال يمكن في مرحلة أولى الإستئناس بالنص الجزائي البيئي واعتبار كل جريمة بيئية تشكل ضررا بيئيا ومثال ذلك جريمة تلويث الماء المعاقب عليها بالفصول 158 و151 و160 من مجلة المياه باعتبارها تشكل ضررا بيئيا وعملية إتلاف أراضي فلاحية من أجل بناء محلات سكنية أو تجارية تشكّل جريمة على معنى القانون عدد 87 لسنة 1983 المؤرخ في 11 نوفمبر 1983 المتعلق بحماية الأراضي الفلاحية. ونثر الغبار في الهواء نتيجة استغلال المقاطع دون أخذ الاحتياطات اللازمة يعتبر ضررا بيئيا جرّمه القانون عدد 20 لسنة 1989 المؤرخ في 22/02/1989 المتعلق بتنظيم استغلال المقاطع وقرار وزير الاقتصاد والمالية المتعلق بتنظيم استغلال المقاطع المؤرخ في 31 ماي 1990 وغيرها من الجرائم البيئية التي تخرج عن العدّ والحصر تشكل أضرارا بيئية خطيرة.

ولكن، ولأن الخطإ الجزائي أضيق من الخطإ المدني، فإن الاستئناس بالخطإ الجزائي يبقى قاصرا على تشخيص  كل الأضرار البيئية، فما العمل؟

هنا كان لابدّ من العودة إلى الأصول العامة في التأسيس واعتبار الضرر البيئي واقعه قانونية ليس تصرفا قانونيا وبالتالي يمكن تشخيصه وإثباته بجميع الوسائل فإذا تمّ تشخيص الضرر البيئي كان لابدّ من المرور إلى تقديره وهنا تطرح جملة أخرى من الإشكاليات.  فكيف يمكن تقدير حرمان إنسان من متعة السباحة في مياه البحر أو من صيد السمك لأن مياه البحر أصبحت ملوّثة؟ وكيف يمكن تقدير حرمان إنسان من تنفّس هواء نقي مشبع بالغازات الكيمائية التي فاقت المعاملات المسموح بها؟

وكيف يمكن تقدير حرمان إنسان من التجوّل بين الغابات بعد إتلافها وقطع أخشابها؟

وكلها تساؤلات دفعت ببعض رجال القانون إلى اعتبار “الأضرار البيئية تستعصي عادة عن التقدير إذ هي عادة تتعلق بنمط العيش وظروفه أو أنها تهمّ العناصر المكونة للطبيعة والأجناس الحيوانية والنباتية التي لا تخضع إلى مقاييس مضبوطة “.

1-3 خصوصية العلاقة السببية بين الضرر والخطإ البيئي:

تكمن خصوصية الركن المادي الثالث للمسؤولية المدنية عن الأضرار البيئية في حصول فارق زمني بين تحقق الركن الأول وتحقق الركن الثاني منه. فعادة ما يظهر الضرر البيئي بعد مدّة زمنية من حصول الفعل الضار، فمثلا لم يقع رفع دعوي مدنية للمطالبة بالتعويض عن الأضرار البيئية الناجمة عن الغازات الملوثة بمدينة قابس إلا بعد حوالي عشرين سنة من تركيز الوحدات الصناعية المدعى عليها وهي خصوصية استغلتها الأخيرة للتشكيك في وجود أية علاقة سببيّة بين تسرّب الغازات وحصول الضرر. ففي إطار القضية المدنية عدد 11651 والصادر فيها الحكم عن محكمة ناحية قابس في 03/05/2000 دفعت إحدى المطلوبات بأن الاختبار العدلي أجريّ بعد ثلاثة أشهر من تسرّب غازي تمّ خلال سنة 1997 الأمر الذي يشكّك في مصداقية النتائج التي توصّلت إليها وتمّت إثارة نفس الأمر أمام المحكمة الابتدائية بوصفها محكمة استئناف لأحكام النواحي التابعة لها فأجابت في إحدى حيثيات قرارها المؤرخ في 03/12/2001 تحت عدد 10455 “وحيث أن إجراء الاختبار بعد ثلاثة أشهر من تاريخ المضرّة لا يحول دون تبين قيمتها وذلك اعتبارا وأن المدّة لم تكن بحال طويلة بشكل يعوق تقدير الضرر بل بالعكس من ذلك إذ أن مرور هذه المدة من تاريخ حصول المضرة  يجعل الأثر السلبي للفعل الضار قد استمر وظهرت حقيقة حجمه “وإعمالا لقاعدة القياس بالخلاف لهذه الحيثية فإن مرور مدّة طويلة بين الضرر والفعل الضار قد يكون سببا في عدم معرفة المتسبب في الضرر البيئي إذا كان الضرر لا يظهر بعد مدّة قصيرة من حصول الفعل الضار وهذا احتمال أول أما الاحتمال الثاني فيمكن بواسطة اختبارات مدققة وإمكانيات هامة معرفة المتسبب في الضرر. لكن ونظرا لمرور فترة طويلة عن الفعل الضار فإن المتسبب نفسه يكون قد توقف عن النشاط إذا كان ذاتا معنوية أو غادر البلاد إذا كان  شخصا أجنبيا وهي خصوصية تطرح بدورها جملة من الإشكاليات القانونية. إذ كيف سيقع مواصلة دعوى التعويض في مثل هذه الحال؟ وعلى من سيقع القيام؟ وعلى من سيقع التنفيذ؟

وكلها إشكاليات تطرحها الأركان المادية للمسؤولية المدنية عن الأضرار البيئية ستؤثر حتما على أركانها القانونية.

2/ الأسس القانونية للمسؤولية المدنية عن الأضرار البيئية:

 

إن إثبات أول الأركان المادية للمسؤولية المدنية ألا وهو الخطأ البيئي وما يطرحه من صعوبات جعل الكثير من رجال القانون  ينادون بضرورة التخلّي عن المسؤولية الشخصية إلى المسؤولية الموضوعية في جهد تأسيسي يتلاءم وخصوصية المسؤولية عن الأضرار البيئية.

2-1 المسؤولية الشخصية عن الأضرار البيئية:

يمكن أن تؤسس المسؤولية الشخصية عن الأضرار البيئية على أكثر من سند قانوني وبالتالي فعلى طالب التعويض إن يختار بين المسؤولية المدنية التقصيرية أو المسؤولية عن التعسف في استعمال الحق أو المسؤولية عن مضار الجوار.

* المسؤولية المدنية التقصيرية:

تقوم هذه المسؤولية على مفهوم الخطإ الشخصي وتؤسس قانونا على أحكام الفصلين 82 و83 من مجلة الالتزامات والعقود القاضيان بأن من تسبب في مضرّة غيره قاصدا  الإضرار أو بغير قصد يلزم بالتعويض.

فإذا تسبّب شخص معين طبيعيا كان أو معنويا في تلويث المحيط ونتج عن التلوث ضرر لغيره كان على الملوث جبر الضرر.

ويعتبر الفصلان 82 و83 المذكوران الأكثر شهرة واستعمالا بين المتعاملين في المجال البيئي إذ أن القضايا المذكورة أعلاه مثلا أسّست على أحكام الفصل 83  وهو ما تبنته المحكمة الابتدائية بقابس وقد جاء في حيثيات قرارها الاستئنافي عدد 0654 الصادر في 25/03/2002: “وحيث يتضح  أن مستندات الاستئناف لم تأت بما من شأنه أن يوهن حكم البداية الذي اعتمد سندات واقعية وقانونية سليمة وبين بشكل واضح توفر أركان الفصل 83 م.إ.ع المتعلقة بالأضرار اللاحقة  بمغروسات المدعي في الأصل ونسبة تلك الأضرار إلى الغازات المنبعثة عن الشركات المطلوبة واتجه لذلك إقراره“.

غير أن نجاح البعض في الحصول على تعويضات على أساس الفصل 83 يجب ألا يحجب عنا صعوبة عملية كبيرة يفرضها الفصل 420 من نفس المجلة.

وقد جاء فيه أن ” إثبات الالتزام على القائم به “ فالقائم بالدعوى لا ينجح في الحصول على تعويض إلا إذا نجح في تحمل عبء إثبات الخطإ البيئي وهو عبئ ثقيل قد لا يتحمله أغلب المتضررين مما جعل بعض رجال القانون يقترحون أساسا ثانيا ألا وهو التعسف في استعمال الحق.

* المسؤولية عن التعسف في استعمال الحق ّ

تقوم المسؤولية المدنية عن التعسف في استعمال الحق على ركنين أساسيين أولهما ذاتي ويجمع  بين الخطإ وانعدام نية الإضرار وهذا ما  نص عليه الفصل 103 من م.إ.ع التونسية والفصل 1382 من المجلة المدنية الفرنسية وثانيهما موضوعي ويتمثل في الضرر الفادح وقد جاء به أيضا الفصل 103 المذكور الذي اقتضت أحكامه” من فعل ما يقتضيه حق بدون قصد الإضرار بالغير فلا عهدة مالية عليه.

فإذا كان هناك ضرر فادح ممكن اجتنابه أو إزالته بلا خسارة على صاحب الحق ولم يفعله فعليه العهدة المالية”.

غير أن البعض الآخر من رجال القانون توسّع في شروط هذه المسؤولية واعتبرها أربعة:

“أولها أن يكون مرتكب الفعل الضار ممارسة لحق مشروع قانونا وثانيها أن يحصل الضرر الفادح للغير وثالثها أن يمتنع المرتكب للفعل الضار عن إزالة المضرة ورابعها أن تكون إزالة هذه المضرة بلا خسارة على صاحب الحق”.

* المسؤولية عن مضار الجوار:

تتأسس هذه المسؤولية على الفصلين 99 و 100 م.إ.ع ولقد اقتضت أحكام الفصل 99 “للمجاورين حق القيام على أصحاب الأماكن المضرة بالصحة أو المكدّرة لراحتهم بطلب إزالتها أو اتخاذ الوسائل اللازمة لرفع سبب المضرّة والإجازة المعطاة لأصحاب تلك الأماكن ممن له النظر لا تسقط حق المجاورين في القيام”.

وأضاف الفصل 103 “ليس للجيران القيام بإزالة الضرر الناشئ وما أشبهه من المضار التي لا محيص عنها إذا لم تتجاوز الحدّ الاعتيادي”.

ولقد قبلت المحاكم التونسية التأسيس على معنى هذين الفصلين وعلى رأسها محكمة التعقيب في قرارها المدني عدد 4484 المؤرخ في 03/11/1981 ولقد جاء فيه:” أن مكتري محل السكنى الذي تضرّر في سكناه من أعمال جاره بتسرب فضلات هذا الأخير إليه من حقه القيام عليه مباشرة في منع الضرر وجبر التعويض ولذلك فإن الحكم الصادر به على الجار في طريقه ولا مطعن فيه”.

غير أن تأسيس المسؤولية المدنية عن الأضرار البيئية على مضار الجوار يطرح إشكاليتين قانونيتين هامتين: أولاهما أصلية تتعلق بإثبات الضرر الذي يجب أن يتجاوز الحدّ الاعتيادي وهو مفهوم عام يفتقر لأي  معيار موضوعي يمكن الرجوع إليه للتفرقة بين الضرّر العادي والضرر غير العادي وبإمكانه تكييف الضرر الأخير فيبقى لقاضي الأصل مهمة الاجتهاد والتقدير والتكييف ثانيها إجرائية تتعلق بتكييف الدعوى المؤسسة على الفصلين 99 و100  هل هي دعوى حوزية على معنى أحكام الفصل 51 وما يليه من مجلة المرافعات المدنية والتجارية أم دعوى رفع مضرة؟ وهل أن الدعوى الأخيرة مقدرة  أو يمكن تقديرها أو غير مقدرة ؟ ويترّتب عن الإجابة تحديد المحكمة المختصة بالنظر المبدئي إن كانت محكمة الناحية أم المحكمة الابتدائية وهي من المسائل المتعلقة بالنظام العام الإجرائي.

2-2 المسؤولية الموضوعية عن الأضرار البيئية:

تتأسس هذه المسؤولية في القانون التونسي على الفصل 96 من م.إ.ع الذي اقتضت أحكامه “على كل إنسان ضمان الضرر  الناشئ بما هو في حفظه إذا تبين أن سبب الضرر من نفس تلك الأشياء إلا إذا أثبت ما يلي:

أولا: أنه فعل كل ما يلزم لمنع الضرر.

ثانيا: إن الضرر نشأ بسبب أمر طارئ أو قوة قاهرة أو بسبب من لحقه”.

فإذا نتجت أضرار عن الأشياء التي في حفظ المطلوب يلزم الأخير بتعويضها متحملا قرينة ارتكابه خطأ وهذا ما يخفف على المطالب  عبء الإثبات الذي كان محمولا على كاهله في إطار المسؤولية الشخصية ويكتفي بإثبات الضرر البيئي فقط.

ومن هنا كان على المشرّع التونسي التدخل للتأسيس لنظرية عامة للمسؤولية  المدنية عن الأضرار البيئية تتميز  عن النظرية العامة للمسؤولية المدنية بما يميز الخطأ و الضرر البيئي و العلاقة السببية  بينهما.

3 ـ خصوصية التعويض عن الأضرار البيئية:

 

تفريعا عن خصوصية الخطإ والضرر البيئي يكتسي التعويض حتما خصوصية أكبر سواء من حيث طرقه أو من حيث آلياته.

3-1 طرق التعويض عن الأضرار البيئية :

التعويض  جبر للضرر  قد  يأخذ شكلين مختلفين إما إزالة سبب المضرة بوضع حد للخطإ وإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه و تسمى هذه الطريقة بالتعويض العيني وإما بدفع مقابل مادي يتلاءم و قيمة المضرة و تسمى بالتعويض النقدي.

* التعويض العيني عن الأضرار البيئية:

اقتضت أحكام الفصل 8 من القانون عدد 91 لسنة 1988 المحدث للوكالة الوطنية لحماية المحيط: أن كل مؤسسة صناعية أو فلاحية أو تجارية وكل شخص مادي أو معنوي  له أنشطة قد تلوث المحيط بواسطة الفواضل مطالبون بإزالة هذه المخلفات أو الحد منها أو استعادتها عند الاقتضاء ” مكرسة بذلك أولوية إلزام المتسبّب في الضرر البيئي بإزالة أسباب المضرة و العودة إلى الوضعية السابقة لحصول الإعتداء البيئي.

* التعويض النقدي عن الأضرار البيئية :

يتمّ التعويض في هذه الصورة بدفع مبلغ مالي يتلاءم ونسبة الضرر ويكون تقدير الضرر على أساس الفصل 107 من م.إ.ع ” الخسارة الناشئة عن  جنحة أو ما ينزل منزلتها تشمل ما تلف حقيقة لمطالبها وما صرفه أو لابد أن يصرفه لتدارك عواقب الفعل المضر به والأرباح المعتادة التي حرم منها بسبب ذلك الفعل وتقدير الخسارة من المجلس القضائي يختلف باختلاف سبب الضرر من كونه تغريرا أو خطأ”.

فيكون تقدير الضرر البيئي راجع لقاضي الأصل الذي يستأنس عادة برأي أهل الخبرة في ذلك الإختصاص.

ويطرح التعويض النقدي عدة إشكاليات قانونية.

فماذا لو شمل الضرر ممتلكات عدة أشخاص في نفس الوقت هل يمكنهم المطالبة مجتمعين بالتعويض؟

وجاءت الإجابة بنعم في القضية عدد 12048 الصادرة عن المحكمة الابتدائية بقابس في 20/02/2001 إذ رفعت الدعوى من عدة فلاحين وتم الحكم لصالح الدعوى.

 لكن مـاذا لو شملت الأضرار قرية كاملة؟ أو مدينة؟ أو دولة  بأسرها كما هو الشأن بالنسبة للمتسربات الكيميائية أو البترولية أو النووية؟ كل هذه التساؤلات وغيرها تضع الشروط التقليدية لرفع الدعوى من صفة ومصلحة وأهلية  لا تف بالغرض وكان لابد من إعادة صياغة مضامين جديدة لها تتماشى وخصوصية الأضرار البيئية.

ثم ماذا لو تفاقم الضرر البيئي؟ هل يمكن الدفع بأن التعويض الحاصل على أساس الفصل 107 هو تعويض نهائي؟.

وأيّ كانت طريقة التعويض وقيمته فإن الأضرار البيئية عادة ما تكون جسيمة مما يجعل مبالغ التعويض مهولة قد يصعب توفيرها وإن توفّرت قد يتسبب صرفها في كارثة للمحكوم عليه قد تصل إلى إفلاسه.

4- آليات التعويض عن الأضرار البيئية:

 

لإيجاد جهات مليئة قادرة على التعويض إن ثبت الضرر تم التفكير في تامين النشاط الذي يترتب عنه تلويث المحيط أو إيجاد صناديق تعويض ثم استنباط مبدإ جديد على مستوى القانون الدولي العام  سميّ بمبدإ العهدة على من لوّث.

4-1 التأمين على المسؤولية المدنية من الأضرار البيئية:

لحماية المسؤولية المدنية للأشخاص الذين قد تسببت نشاطاتهم في تلويث المحيط تم التفكير في التأمين فيدفع المؤمن جائزة تامين مقابل تغطية مسؤوليته المدنية من طرف المؤمن في حالة حصول الخطر ألا و هو الضرر البيئي

وباعتبار أن التأمين عمل تجاري فإن القائمين عليه وأمام تهديد التعويضات الكبيرة يرفضون التأمين أو يطالبون بجوائز مشطّة لتغطية الأخطار المفترضة وهذا ما يعيق تطوّر هذه المؤسسة القانونية.

4-2 صناديق التعويض عن الأضرار البيئية:

يمكن أن تكون هذه الصناديق داخلية أو دولية ففي بلادنا تم إحداث صندوق مقاومة التلوث بالفصول 35 و 36 و 37 من القانون عدد 22 لسنة 1992 المؤرخ في 29/12/1992 المتعلق بقانون المالية لسنة 1993 و المنظم بالأمر عدد 2120 لسنة 1993 المؤرخ في 25/10/1993.

و لقد حدّدت أحكام الفصل 11 منه أهداف الصندوق الرامي  إلى تشجيع الأعمال الرامية إلى حماية البيئة من التلوث الصناعي والمساهمة في تمويل التجهيزات التي من شأنها أن تحدّ أو تزيل التلوث الصادر عن المؤسسات الصناعية ومشاريع وحدات تجميع ورسكلة الفضلات.

ويمكن للصندوق المساهمة في تمويل تجهيزات جماعية لإزالة التلوث ينجزها متدخلون عموميون أو خواص لحساب عدد من المؤسسات الصناعية التي تمارس نفس النشاط أو تفرز نفس التلوث.”

ويكون نشاط الصندوق داخل حدود الدولة وتساهم المؤسسات الملوثة في موارده المالية.

كما يمكن أن تكون صناديق التعويض دولية تولد في إطار معاهدات دولية كالصندوق الدولي للتعويض عن الأضرار الناجمة عن التلوث بالنفط المحدث بمقتضى اتفاقية  بروكسال لسنة 1965 والتي صادقت عليها الجمهورية التونسية بالقانون عدد 13 المؤرخ في جانفي 1976. فبحصول كوارث بيئية تجاوزت حدود الدول دعت الحاجة إلى بعث مثل هذه الصناديق التي  تمول من ميزانيات الدول و تسمح لها إعتماداتها الضخمة بأن تواجه ما تعجز مؤسسات التأمين والصناديق الداخلية على مواجهته فإمكانها تطويق التلوث في أسرع وقت ممكن وصرف التعويض للمتضررين حتى إذا كان الضرر ناشئا عن أمر طارئ أو قوّة قاهرة كأن تجنح حاملة نفط في عرض البحر فينتج عنه تسرّب البترول أو تتسرب إشعاعات نووية فتطال دولا مختلفة.

4-3 مبدأ العهدة على من لوّث:

لقد تمّ سنّ هذه الآلية في مؤتمر الأرض المنعقد بريو دي جينيرو بالبرازيل في جوان  1992 في إطار المبدإ التاسع من الإتفاقية تحت عبارة مختصـرة:

(P.P.P  ) pollueur payeur Principe

وتقوم هذه الآلية على فكرة أن النشاط الاقتصادي يؤثر على البيئة بشكل من الأشكال وأن المصاريف التي تبذل  لتقليص الآثار السلبية وإزالتها إن أمكن لا تتحملها المجموعة الوطنية بأسرها بل تتحملها الجهات المتسببة في التلوث عندها تصبح حماية البيئة من العناصر الاقتصادية الواجب تقديرها عند تقدير الكلفة الإجمالية للمنتوج فلا تقتصر تكلفته في أجرة اليد العاملة والمواد الأولية و الطاقة والتغطية الاجتماعية وما إلى ذلك  بل وأيضا ما يلزم من مصاريف للحدّ من الآثار السلبية للنشاط الاقتصادي على البيئة و هذا الأمر سيجعل من المنتجين الصناعيين أكثر المسؤولين عن البيئة وحمايتها للتقليص من تكلفة الإنتاج وإكساب المنتوج القدرة لتنافسية في السوق.

ويمكن لهذه الآلية أن تتخذ إشكالا عديدة في القوانين الداخلية إذ يمكن توظيفها في شكل ضريبة تفرضها السلط العمومية على الملوثين ” يعتمد في تقديرها على عناصر ثلاثة:

ـ أولا النفقات اللازمة لرفع الأضرار الناجمة عن النشاط  المستغل والتي أضرّت بالبيئة.

ـ ثانيا مبلغ التعويضات المستحقة  من طرف المتضررين  من النشاط المستغل

ـ ثالثا: قيمة الوسائل الاحتياطية الواجب  اتخاذها للحدّ من الآثار السلبية “.

وقد كرّس المشرع التونسي هذا المبدأ من خلال الحوافز والتحمّلات الجبائية أو الهبات للمؤسسات التي تٌنجز مشاريع للحدّ من الآثار السببية لنشاطها على المحيط وكلها حلول من شانها المساهمة في الحفاظ على البيئة في مرحلة أولى والحفاظ على حقوق  المتضررين إذا ما تضررت البيئة في مرحلة ثانية.

 

الخاتمــة

إن المتأمل في الإطار التشريعي الوطني والاتفاقي الدولي يقف على إهتمام واضح بقضايا البيئة والمحيط ويتجلى ذلك من خلال كثرة النصوص والمواثيق. بل أن ذلك تجاوز حدود المعالجات القانونية لتقتحم قضايا البيئة عوالم السياسة فنحتت هويّة بعض الأحزاب السياسية (أحزاب الخضر) التي اتخذت من قضايا البيئة برنامجا ومشروعا.

لكن قضايا البيئة لا تزال مستعصية عن الحلّ لأسباب مختلفة منها:

  • أن الأنشطة الملوّثة أو المدمرة تصدر بشكل شبه كلّي عن الدول المتقدمة صناعيا وإقتصاديا التي لا تزال تصرّ على الاستثمار في الأنشطة الملوّثة وخاصة في المجال النووي والعسكري. وهذه الدول لم تقتنع إلى حدّ الآن بضرورة التراجع عن هذه الخيارات.
  • أن آثار الانشطة الملوّثة تتجاوز غالبا حدود المدينة أو الدولة الواحدة الأمر الذي يطرح إشكالية التتبع الجزائي والتعويض المدني.
  • أن الأحزاب السياسية المهتمة بالبيئة وكذا المنظمات الإنسانية والدول التي أضحت ضحيّة لمظاهر التلوّث، لم تستطع فرض خيارات استراتيجية على الدول مصدر التلوّث والمصدرة له بشكل يوقف عملية الاستنزاف والتخريب للمحيط الطبيعي.

وخلاصة القول أنه لا جدال أن الإنسان المعاصر هو مصدر المخاطر التي هددت البيئة ولا تزال من خلال إصراره على ممارسة أنشطة مدمّرة على المدى المتوسطي والبعيد…” ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون” (سورة الروم آية 41)

ولا يزال هذا الخطر مستمرّا طالما لم يغير هذا الإنسان استراتيجية التعاطي مع المحيط الطبيعي.

وسوف لن تحلّ قضايا البيئة وغيرها من القضايا الإنسانية الأخرى إلا إذا تولّدت لدى الإنسان المعاصر مرجعيات قيمية قادرة على أن تقنعه بضرورة مراجعة أفعاله وتصرفاته خاصة فيما له علاقة بالحفاظ على توازن المحيط الطبيعي بالقدر الذي يضمن حق الإنسان في محيط يحفظ كيانه ويكفل لذريّته هذا الحقّ على مدى الأزمان.

الاستنتاجات

بعد طول انتظار، تمت دسترة الحق في بيئة سليمة ومتوازنة. وكانت هذه الفكرة قد طرحت منذ بداية التسعينيات، وتواصلت دعوات الدسترة إلى آخر تعديل للدستور التونسي الصادر في 1-6-1959. وقد حصلت هذه الدعوة بمناسبة التعديل الدستوري المؤرخ في 1-6-2002، من المرجع الحكومي المعني (الوزارة المكلفة بالبيئة)، لكن الإرادة السياسية العليا ممثلة في رئاسة الجمهورية، وتحديداً وزير الدولة المستشار الخاص لرئيس الجمهورية، لم تكن راغبة في إدراج هذا الحق صلب الدستور

إلا أن غياب التنصيص الدستوري لم يمنع إقرار الحق في بيئة سليمة، سواء في القوانين الصادرة قبل جانفي/كانون الثاني 2014 أو في أحكام القضاء بنوعيه العدلي والإداري

فعلى المستوى التشريعي، يعدّ القانون الصادر في 2 أوت/ آب 1988 أول نصّ قانوني كرّس الحماية الشاملة للبيئة وأقر الضرر البيئي الصرف والجريمة البيئية الصرفة أيضاً. كما كرّس مجمل الآليات الحمائية للبيئة على المستوى الاستباقي بإقراره ضرورة دراسات التأثير على البيئة  أو على المستوى اللاحق بإقراره مبدأ الملوث المسؤول. وأوجد لأول مرّة الأداءات البيئية الصرفة ونص على إحداث صندوق لمكافحة التلوث وجعل من الوكالة الوطنية لحماية المحيط، الهيكل المختص في حماية البيئة وفي تمثيل مصالح البيئة أمام القضاء دون سواها. ثم توالت عديد النصوص القانونية التي أقرت “الحق في بيئة سليمة” ابتداءً من الأمر الصادر في سنة 1993 والمتعلق بإحداث اللجنة الوطنية للتنمية المستدامة. ثم أقرت مجلة التهيئة الترابية الصادرة سنة 1994 هذا الحق وأكده قانون نوعية الهواء لسنة 2007 وكذلك قانون 2009 المتعلق بالمحميات البحريّة

أما على المستوى القضائي، فإن الملاحظ هو تفاوت الدور الذي يقوم به كل من القضاء العدلي والقضاء الإداري في تكريس الحق في بيئة سليمة
فالقضاء العدلي أصبح منذ صدور قانون 1988 المتعلق بالوكالة الوطنية لحماية المحيط، هو القضاء المتخصص في قضايا البيئة، خاصة أن معظم الاعتداءات على البيئة تكون متأتية من الخواص[1]. وقد أدى ذلك الى تطوير سريع للنزاع البيئي العدلي على أساس هذا القانون. أما القضاء الإداري وبحكم تخصصه في النزاعات التي تكون الهيئات العمومية طرفاً فيها، وبحكم أن الوكالة هي بدورها شخص عمومي، فلم تكن ترفع قضايا ضدّ غيرها من الهيئات إلا في مناسبة واحدة سنة 1991 ضدّ بلدية. وكانت معظم هذه النزاعات تسوى داخلياً (إما ادارياً أو سياسياً) ولا ترفع للقضاء الإداري. وقد اقتصر عمل القضاء الإداري في القضايا التي يرفعها الخواص ضد الإدارة ولم يكن عندها مخولاً لتطبيق قانون 1988، وعندها يطبق القوانين المشتركة والتي لم تكن مؤسسة على حماية البيئة بالمعنى الصرف. إلا أن ذلك لم يمنع القضاء من تطوير مبادئ هامة لحماية البيئة وحق المواطن في بيئة سليمة “إذ صدرت عديد القرارات القضائية التي أكدت خصوصية النزاع البيئي (استئناف تونس 1994)، على شمولية مبدأ الملوث المسؤول (تعقيب 1996)، عدم اعتبار الجريمة البيئية جريمة مستحيلة (استئناف صفاقس 1992)، عدم سقوط جرائم التلوث (تعقيب 1996)، تكريس مبدأ الحيطة/الاحتياط في ما يتعلق بالأضرار التي قد تنتج من لاقطات ذبذبات الهواتف الخلوية (استئناف صفاقس 2007، استئناف بن عروس 2010، استئناف تونس 2011)

هذا الإطار العام مهّد للمطالبة بدسترة الحق في بيئة سليمة. فمع سقوط نظام الحكم في 14 جانفي/ كانون الثاني 2011 وبداية الإعداد لانتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر /تشرين 2011 كانت كل الأحزاب والقائمات الانتخابية قد أدرجت، بصفة تلقائية، “حماية البيئة والحق فيها” في برامجها الانتخابية. وكان لمنظمات المجتمع المدني في تلك الفترة دور هام في الترويج لهذه الدسترة. وكوّنت هذه المنظمات شبكة الجمعيات الناشطة في المجال البيئي. وكترجمة لذلك، كان الفصل المتعلق بإقرار الحق في بيئة سليمة ومتوازنة محل توافق وقبول من كل مكونات المجلس الوطني التأسيسي، علماً أن دسترة حماية البيئة والحق فيها لم تقتصر على فصل واحد في الدستور. فهذه الدسترة شملت مواضيع عدة من دستور 2014، ما يدعونا إلى التساؤل عن المقاربة التي اعتمدها الدستور في تكريس حماية البيئة (1) والمكونات البيئية التي ركز عليها نص الدستور(2) والضمانات الدستورية لحماية البيئة وتكريس الحق فيها (3)

المقاربة الدستورية في حماية البيئة وضمان الحق فيها
يقر الدستور التونسي الجديد مقاربة شاملة لضمان الحق في بيئة سليمة، إلا أن الطابع الغالب على مقاربة حماية البيئة هو التأكيد على التنمية المستدامة، ما قد يهدّد بتعويم حماية البيئة في مقاربة اقتصادية أساساً يمكن أن تحجب الأصل وهو المحافظة على البيئة لتعلي الجانب الاقتصادي على البعد البيئي

– التكريس الصريح للحق في البيئة: أقر الدستور الجديد هذا الحق بصفة صريحة في توطئته والتي لها قيمته نفسها، بمقتضى الفصل 145 الذي عدها “جزء(اً) لا يتجزأ منه”. فقد أسس الدستور وفق توطئته على “الوعي بضرورة… المحافظة على البيئة سليمة…”. ثم كان الفصل 45 الذي أقر: “تضمن الدولة الحق في بيئة سليمة ومتوازنة…”. هذا الإقرار جاء عاماً وشاملاً ويصنف بذلك كحق من حقوق الإنسان وجاء محمولاً على الدولة ضمانه وليس فقط المساعدة على التمتع به، ويكون بذلك شبيهاً بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتفاقية أكثر منه بحقوق الجيل الثالث

غلبة مقاربة التنمية المستدامة على المقاربة الحمائية الصرفة للبيئة

على مستوى التعامل مع الموارد البيئية، نلاحظ أن الدستور يقرن بصفة آلية وفي كل المواضيع بين البيئة والاستدامة. فقد نصت الديباجة على أن “الحفاظ على البيئة سليمة بما يضمن استدامة مواردنا الطبيعية واستمرارية الحياة الآمنة للأجيال القادمة” ويتواصل ذلك في الفصل 12 حيث “تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة…” وفي باب الهيئات الدستورية تم التنصيص على “هيئة التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة” (الفصل 129)

هذا التمشي الذي توافق عليه أعضاء المجلس التأسيسي بمختلف مكوّناته، بالرغم من مطالب المجتمع المدني البيئي الذي كان يرغب في دسترة هيئة عليا للحفاظ على البيئة، من شأنه أن يغلب المقاربة التنموية (الاقتصادية) على المقاربة البيئية الصرفة. إلا أن هذا التمشي الشمولي يجب ألا يحجب عنا بعض الاهتمام الدستوري ببعض المسائل والعناصر البيئية دون غيرها

تركيز الدستور على بعض المسائل البيئية
خصّ الدستور الجديد بعض المسائل البيئية بأحكام معينة، تمييزاً لها عن غيرها أو تأكيداً لأهميتها

فقد أكد الدستور وجوب “القضاء على التلوث البيئي” جاعلاً منه مسؤولية محمولة على الدولة التي توفر الوسائل الكفيلة بالقضاء عليه” (الفصل 45). وهو إقرار هام بمسؤولية الدولة، ولكنه يبقى منقوصاً لأن واجب المحافظة على البيئة وسلامتها وتوازنها يبقى محمولاً على الكافة: مؤسسات وأفراداً  ومجموعات.

أولى الدستور أيضاً أهمية خاصة لمسألة “سلامة المناخ” (التوطئة والفصل 45). وهي مسألة هامة جداً، ذلك أن هذا الإقرار الدستوري من شأنه أن يعزز انخراط الجمهورية التونسية في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بسلامة المناخ وأن يدفع بالمشرّع لاحقاً إلى إصدار قوانين وطنية متعلقة بذلك وسد فراغ تشريعي لا يزال يطبع القوانين التونسية المتعلقة بالبيئة

خص الدستور الجديد “الحق في الماء”  بفصل خاص به سبق في ترتيبه الفصل الخاص  بحماية البيئة ككل. حيث نص الفصل 44 على أن: “الحق في الماء مضمون، المحافظة على الماء وترشيد استغلاله واجب على الدولة والمجتمع”. وهذا الإقرار الهام جاء نتيجة عاميلن: نضال منظمات المجتمع المدني ذات الصلة وتكوينها لشبكة جمعيات عملت على الضغط في اتجاه هذا الإقرار، وكذلك تمسك نواب الجهات الداخلية وخاصة منها جهات الوسط والجنوب في تضمين الحق في الماء في فصل دستوري

إلا أن هذا الإقرار أثار عديد النواب الذين تمسكوا بأن ضمان هذا الحق يجب ألا يحمل فقط على الدولة ومؤسساتها، بل يجب تقاسم هذا العبء مع المجتمع. وهو ما من شأنه أن يجعل المسؤولية مشتركة  في الحفاظ عليه وترشيده. أما من حيث ضمان الحق في حد ذاته فقد جاء الفصل عاماً حيث لم يحدد محتوى هذا الحق: الماء. ولكن أيّ ماء نضمن؟ لذا كان الأجدر وهو ما دعت إليه مكونات المجتمع المدني أن يتم ضمان الحق في الماء بكميات كافية وجودة مقبولة وهو ما لم يأخذ به التوافق الذي حصل في المجلس

الاهتمام بالموارد والثروات الطبيعية

فيما نصت التوطئة على حماية الموارد، تناول الفصلان 12 و13 الثروات. ويعكس اختلاف المصطلحات المقاربة الدستورية المعتمدة: اقتصادية أو بيئية. وهو ما يعود بنا إلى الفكرة السابقة التي تؤكد مقاربة التنمية المستدامة أكثر من المقاربة الحمائية لهذه العناصر البيئية

اهتم الدستور أيضاً بالموروث الثقافي حيث جعل من الدولة هي الحامي له وهي الضامن لحق الأجيال القادمة فيه (الفصل 42 فقرة 2).  هذا الإقرار جاء ليعكس كل المخاوف التي أحاطت بالموروث الثقافي والإنتهاكات التي تعرض لها طيلة العهد السابق وكشف عن بعضها بعد 14 جانفي 2011. وهو إقرار يعزز المكوّنات الاصطناعية للبيئة

إن التأسيس للتنمية المستدامة والتركيز الدستوري على بعض عناصر البيئة ومكوّناتها يتطلب وضع آليات لتحقيقها

الضمانات الدستورية للحق في البيئة وحمايتها
بالرجوع إلى نص الدستور  الصادر في 27 جانفي / كانون الثاني 2014، نلاحظ أنه عمد إلى وضع بعض الضمانات للتمتع بالحق في البيئة
فقد اعتبر الحق في بيئة سليمة من بين حقوق الإنسان المكرسة في الباب الثاني المخصص للحقوق والحريات. وبذلك، بات الحق في البيئة من “مكتسبات حقوق الإنسان” المصنفة “فوق دستورية” التي لا يجوز وفق الفصل 49 من الدستور “لأي تعديل” أن ينال منها. كما أن القانون هو الذي “يحدد الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها

بالمقابل، فإن الفصل 65 من الدستور حصر صلاحية المشرّع بوضع النصوص المتعلقة بـ”المبادئ الأساسية لنظام … البيئة والتهيئة الترابية والعمرانية والطاقة ….”, ليترك للسلطة الترتيبية  العامة (التي تعود بمقتضى أحكام الدستور الجديد لرئيس الحكومة من حيث الأصل وبصفة محدودة لرئيس الجمهورية) وضع التفاصيل والآليات الكفيلة بممارسة هذا الحق، وهو ما من شأنه أن يجعل من السلطة التنفيذية  هي المتحكم في التشريعات البيئية، ما قد يمثل خطراً على العناصر البيئية وعلى حمايتها خاصة، ولا سيما أن السلطة التنفيذية محمولة عادة على المصالح الآنية

وعلى المستوى المؤسساتي، فقد استحدث الدستور في فصله 129 “هيئة التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة”، وهو الهيكل الذي سيعنى من حيث الأصل بالمسائل البيئية ولكن دائماً في إطار مقاربة  التنمية المستدامة وليس بمنظور حماية البيئة فقط. بالإضافة الى ذلك، نلاحظ  أنه لا يعود إلى هذه الهيئة إلا صلاحيات استشارية فقط بحيث تستشار في مشاريع القوانين المتعلقة بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وفي مخططات التنمية. فيكون دورها بالأساس ذا بعد معنوي وقيمة أخلاقية، فتلعب دورها بوصفها هيئة عليا مؤثرة في القرارات الكبرى

خلاصة
إن التمشي الدستوري الجديد في ما يتعلق بالحقوق البيئية جاء ليؤكد التمشي التشريعي والقضائي السائد قبل إصدار الدستور وليعطيه القيمة العليا. إلا أن المستقبل التشريعي هو الذي سيخبرنا عن مدى الالتزام بهذه المبادئ الدستورية، خاصة أن العمل على صياغة “مجلة البيئة” أصبح في مرحلة متقدمة.

نشر في العدد الواحد و العشرين من مجلة المفكرة القانونية

source
http://legal-agenda.com/article.php?id=873&folder=articles&lang=ar

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى