التحولات الجيوسياسية لفيروس كورونا وتآكل النيوليبرالية

في مبادرة رمزية تنمُّ عن مغزى مثير، هبطت طائرة صينية في روما، عاصمة إيطاليا، التي أصحبت عين العاصفة أو مركز أوروبا لانتشار فيروس كورونا، في الثاني عشر من مارس/آذار 2020، وعلى متنها تسعة خبراء في مجال الصحة العامة و31 طنًا من الإمدادات الطبية بما فيها وحدة العناية المركزة، ومعدات الحماية الطبية، والأدوية المضادة للفيروسات. في الوقت ذاته، عرض رجل الأعمال الصيني جاك ما، مؤسِّس مجموعة علي بابا، التبرع بتقديم 500 ألف وحدة لاختبار الإصابة بفيروس كورونا ومليون كمامة طبية للولايات المتحدة التي أعلنت حالة طوارئ عامة بسبب تفشي الوباء في الأسبوع الثاني من شهر مارس/آذار. كانت الصين بمثابة “ورشة العالم” خلال العقود الثلاثة الماضية لكونها وفَّرت ربع المصنوعات في العالم، كما يقول أستاذ الاقتصاد والحائز على جائزة نوبل بول كروجمان (Paul Krugman). واليوم تنصِّب الصين نفسها الطبيب ومختبر الصحة العامة بالنسبة للغرب. لأكثر من شهرين الآن، تشير الجهود المتعثرة لاحتواء وباء كورونا في أوروبا ومناطق أخرى إلى الحاجة لتحوُّل نَسَقِي في إدارة الصحة العامة والاستراتيجيات الاقتصادية والأمن البيولوجي ومراجعة محتملة لليبرالية الجديدة التي تعني ببساطة الرأسمالية المشحونة بالمنشطات.

في وقت سابق من فبراير/شباط، طلب ممثل إيطاليا الدائم لدى الاتحاد الأوروبي، ماوريتسيو ماساري، المساعدة من الأوروبيين عبر مركز تنسيق الاستجابة للطوارئ. وقال: “لقد طلبنا إمدادات المعدات الطبية، وأحالت المفوضية الأوروبية الاستئناف إلى الدول الأعضاء، لكن ذلك لم يلق أي استجابة”(1). يعمل مركز التنسيق كوحدة للأزمات في الاتحاد الأوروبي، ويرصد الكوارث الطبيعية والكوارث التي من صنع الإنسان على مدار الساعة، ويدير حاجة أي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي التي لا يمكنها التعامل مع الأزمة بمفردها، ويوجه النداء إلى الدول الأعضاء الأخرى التي يمكنها بعد ذلك التطوع بتقديم المساعدة.

أثار التجاهل الأوروبي لكارثة إيطاليا، وهي في قلب القارة، مشاعر الاستياء بين الإيطاليين الذين شعروا أنهم خُذِلوا من قِبَل الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي عدة مرات، وذلك في أوج هجمة فيروس كورونا وفي ذروة أزمة اللاجئين عام 2015، عندما وصل حوالي 1.7 مليون فرد إلى المناطق الجنوبية للاتحاد الأوروبي. وينطوي تصريح المندوب الإيطالي على مذاق المرارة لغياب التضامن في أوروبا. فهو يقول: “إن أزمة فيروس كورونا شبيهة بأزمة اللاجئين، فالبلدان التي لم تتأثر على الفور ليست في الغالب على استعداد لتقديم المساعدة. ومن الواضح أن لدى هذه الدول تصورات مختلفة بشأن التهديد القائم. نحن نشعر أن فيروس كورونا يمثل تهديدًا عالميًّا وأوروبيًّا يحتاج إلى استجابة أوروبية، لكن الدول الأخرى لا ترى ذلك بهذه الطريقة”(2).

أثار هذا الموقف السلبي في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، حيرة المراقبين السياسيين. وأثار أسئلة جديدة حول الغاية من الاتحاد الذي كان يُنظر إليه في وقت من الأوقات على أنه أكثر تحالف موحَّد وأكثر استراتيجية ما فوق بنية الدولة في العالم. وتلاحظ إليزابيث براو (Elizabeth Brow)، مديرة مشروع الردع الحديث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، أن دول الاتحاد الأوروبي “بتنازلها المخزي عن المسؤولية، فشلت في تقديم المساعدة الطبية والإمدادات لإيطاليا أثناء تفشي المرض. والآن الصين تملأ ذلك الفراغ”(3).

ويخشى مؤرخو الاقتصاد الأوروبيون من شبح أن تتكرَّر مأساة الموت الأسود (Black Death)، التي اجتاحت القارة في منتصف القرن الرابع عشر وأدت إلى وفاة نسبة الثلث من مجموع السكان. وتسبب هذا الانخفاض في التركيبة السكانية في ندرة العمالة، وزيادة الأجور، والطعن في النظام الإقطاعي في أوروبا آنذاك. كما مهَّد الطريق للثورة الصناعية التي تعرضت في ظلها بريطانيا لاحقًا لوباء “الملك كوليرا” (King Cholera) في 1831-1832 و1848-1849 و1854 و1867. وكان داء السل مسؤولًا أيضًا عن وفاة ثلث الضحايا في بريطانيا بين 1800 و1850. والآن، يعود هذا الكابوس في أذهان الأوروبيين أقوى، لأن الأوبئة تشمل “معادلات عظيمة”، وقد تؤدي إلى تداعيات طويلة الأمد ليس على النمو الاقتصادي الأوروبي فحسب، بل وأيضًا على الاقتصاد العالمي. وفي الولايات المتحدة، قرَّر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خفض سعر الفائدة القياسي إلى ما بين صفر و0.25 في المائة (بعد أن تراوح بين 1 و1.25 في المائة في السابق) وشراء 700 مليار دولار من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن في اجتماع طارئ يوم الأحد، وتراجع مؤشر داوجونز الصناعي بمجموع 2250 نقطة عند افتتاح البورصة الاثنين الموالي (16 مارس/آذار) وكاد مسؤولو السوق تعليق التداول.

أدى انتشار فيروس كورونا، أو فيروس كوفيد 19، إلى خمود الحركة وتوقَّف العالم تقريبًا. وأبقى على طائرات الشركات العالمية في الأرض مما يمثل تهديدًا وجوديًا للعديد منها. على سبيل المثال، سيؤدي الحظر الذي فرضه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مدة 30 يومًا على معظم الرحلات الجوية من أوروبا إلى أميركا، والذي بدأ سريانه في 14 مارس/آذار، إلى محو 20 مليار دولار، وهي مجموع المكاسب التي حققتها شركات الطيران التي تنقل الركاب عبر المحيط الأطلسي خلال عام 2019. وتتسع الدراما الحقيقية من تصوير مدن الأشباح في أفلام هوليوود إلى حقيقة دول أشباح حقيقية كما هو الحال في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا. كما اختارت دول أخرى فرض الحجر الصحي على سكانها. وفي المحصلة النهائية، أصبحنا نعيش في عصر التمييز الفيروسي الافتراضي والمفروض ذاتيًا بين الذات والآخر في سائر البيئات الاجتماعية التي كانت حميمية، ومنها أماكن العمل والتجمعات العامة وحتى الكنائس والمساجد والمعابد.

علَّق الرئيس ترامب على بدايات انتشار الوباء بعبارات معادية للأجانب وقدم ادعاءً غير مسؤول على نطاق واسع للأميركيين بأن فيروس كورونا “سيختفي من ذاته. فقط كونوا هادئين. سوف تختفي…”. ومع ذلك، كشف الوباء الجديد اللثام عن أكثر مظاهر الليبرالية الجديدة تشاؤمًا. في نقاش إذاعي حول “الرأسمالية مقابل فيروس كورونا”، كان التركيز على ما إذا كان النموذج الأميركي الليبرالي الجديد للرأسمالية يجعل الولايات المتحدة واقتصادها غير مناسبين بشكل خاص وغير مؤهلين للتعامل مع أزمة صحية بحجم جائحة كورونا. ويؤكد جيفري ساكس (Jeffery Sachs)، مدير مركز التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا، أنه “ليس لدينا نظام صحي عام. لدينا نظام خاص للربح. لدينا عشرات الملايين من المواطنين الذين ليس لديهم تغطية صحية. ليس لدينا اختبار منهجي. نحن نتدافع، وقد مرت أسابيع مع تكاثر هذا الفيروس وانتشار الوباء في الولايات المتحدة”(4). ولا غرابة أن عام 2020 سيدخل كتب التاريخ كعام لم يكشف عن فشل منظومة الصحة العامة على الصعيد العالمي فحسب، بل يشير أيضًا إلى حقبة ركود جيوسياسي ولحظة سقوط من عل للنظام النيوليبرالي في القرن الجديد. ولا يمكن الآن تقليل مخاطر الصحة العامة غير المتوقعة أو أن تُعزى “لا إلى الفضائل الأخلاقية ولا إلى الحاجة إلى الاستثمارات”، بل “تسلط الأزمة أضواء كاشفة على عيوب هذه الحقبة التي تتسم بقصر النظر ومنحى الاستغلال وأنانية بعض الأفراد”(5).

تتناول هذه الورقة، وهي في جزأين، ما اعتبره تداخل ثلاثية تحولات رئيسية فيما بينها: 1) تحديد سياق انتشار الوباء بين نهاية ديسمبر/كانون الاول 2019 والعشرين من مارس/آذار 2020، 2) ارتباط أو تزامن انتشاره عالميًّا مع عدم استقرار أسواق المال العالمية والانخفاض المفاجئ في أسعار النفط في منتصف مارس/آذار، حيث انخفض خام برنت بنسبة 12.2 في المائة، أو 4.15 دولار وتم تداوله بسعر 29.68 دولار، وهو أدنى مستوى له منذ يناير/كانون الثاني 2016، 3) القلق بشأن مستقبل الرأسمالية النيوليبرالية. ويبحث الجزء الأول في عدد من الثنائيات التي يتم تداولها الآن في المجال العام في جميع أنحاء العالم: هل فيروس كورونا وباء “من صنع الطبيعة” أو “من صنع الإنسان”؟ كيف يمكن للبحث العلمي فرز الحقيقة من الافتراضات المختلفة القائمة على “نظرية المؤامرة” حول السببية “المتعمدة” أو “التلاعب” المحتمل بالفيروس في السياسة الدولية؟ ثمة سؤال أساسي آخر يظل مفتوحًا حول ما إذا كان المجتمع الدولي ونظام الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني بأكملهم قد فكَّروا في أي توازن ممكن بين الردع النووي والتسلح، اللذين يتم السعي إليهما بشدة، والردع الوبائي أو الحد الأدنى من استراتيجية الأمن البيولوجي. تتناول الورقة أيضًا اتجاهًا جديدًا للتوظيف الانتخابي من قبل الرئيس ترامب للوباء أو (Trumpian electioneering)، وسعيه لشراء واحتكار لقاح مضاد لفيروس كورونا تنكب على تطويره حاليًّا شركة أدوية في ألمانيا.  

يبحث الجزء الثاني من الورقة كيف تفرض جائحة كورونا منحى اقتصاديًّا جديدًا يمكن تسميته اقتصاديات الانتشار بالعرض (trickle-across economics)، وليس من أعلى إلى أسفل التي لوَّحت بها أدبيات (trickle-down economics) أو اقتصاد التأثير التنازلي الذي نادى به الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغن، في الثمانينات من القرن الماضي. ويتبين الآن مدى التشابك الاقتصادي السلبي من جراء الجائحة الراهنة. مثلًا في مدينة نيويورك التي تعدُّ المركز السياحي الأكثر رواجًا في العالم، أمر رئيس بلدية المدينة، بيل دي بلاسيو، أصحاب الحانات والمطاعم المحلية بإغلاق أبوابها في مسعى أخير لوقف انتشار فيروس كورونا. وكتب في رسالة وجَّهها إلى مواطنيه في نيويورك في 16 مارس/آذار “يجب أن نرد بعقلية الحرب”. وفي باريس، قال الرئيس إيمانويل ماكرون، في خطاب كئيب النبرة إلى الأمة الفرنسية: “نحن في حالة حرب. نحن لسنا في حالة مواجهة مع جيش آخر أو دولة أخرى. لكن العدو موجود هناك: هو غير مرئي، وصعب الاقتناص، لكنه يحرز تقدمًا”. وقرَّر ماكرون تجنيد الجيش للمساعدة في نقل المرضى إلى المستشفيات.

في البلدان النامية مثل المغرب والفلبين حيث تمثل الزراعة، والسياحة، والتحويلات المالية للعمال في الخارج العمود الفقري للاقتصاد الوطني، هناك مؤشرات قاتمة لبقية عام لن يكون مريحًا، حيث تبدأ العواقب الوخيمة لفيروس كورونا في يونيو/حزيران أو يوليو/تموز. بشكل عام، تتوقع وكالة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة (UNCTAD) أن عدم اليقين الاقتصادي وعدم القدرة على الحركة حاليًّا سيكبِّدان الاقتصاد العالمي تريليون دولار على الأرجح عام 2020.

ويتناول الجزء الثاني من الورقة النظام النيوليبرالي السائد الذي يصحو على ما يبدو على اختبار واقعي في مواجهة فيروس صغير. وتناقش بقية الدراسة مدى الحاجة للعودة إلى البعد الإنساني والأسبقية للمجتمع قبل الاقتصاد والربح في إعادة بناء نظام ديمقراطي اجتماعي منقَّح يكون بمثابة تصحيح حان وقته في حقبة أفول النيوليبرالية على ما يبدو في وجه لعنة فيروس كورونا.

WHO-CDC
أكثر الجائحات فتكًا بحياة البشر في التاريخ- (WHO-CDC)

يمثِّل وباء كورونا، الذي تصعب السيطرة على حركته عبر الحدود وبين القارات، تذكيرًا مروِّعًا جديدًا بمدى هشاشة الحياة البشرية في القرن الجديد. ولكن، يمكن اعتباره الوباء الأكثر ديمقراطية في عصرنا لعدم التمييز ضد أي عرق أو جغرافيا أو أيديولوجية سياسية أو ثروة أو مستوى من التنمية أو التخلف. وكما قال أحد المعلقين البريطانيين: “إنه لا يرحم ولا يستثني أحدًا، لا إمامًا ولا طبيبًا صينيًّا، ولا يراعي أي حدود وطنية. لذا، وحتى مع تراجع القادة الوطنيين عن ضمان طرق وطنية ذات إرادة في التعامل مع انتشاره، ينبغي أن تظهر إملاءات العلم والعقل. ومن دونهما، ليس هناك طريق آخر بديل للمضي قدمًا”(6).

يبدو أن نصف نطاق العدوى في مستواه الراهن في القارات الخمس يردِّد الحكمة التي صاغها سايروس إدسون (Cyrus Edson)، مفوض الصحة العامة في مدينة نيويورك، في مقالة بعنوان “الجرثوم كرافعة اجتماعية” (The Microbe as a Social Leveler) عام 1895. وكان معجبًا بأفكار الكاتب الاشتراكي البريطاني جيرارد وينستانلي (Gerrard Winstanley)، الذي عاش في القرن السابع عشر، والذي كتب يقول إن: “جرثوم المرض لا يحترم الأشخاص”. وأوضح أن الفقراء سيكونون الأكثر تعرضًا لخطر الإصابة بالمرض، وإنْ كان الأغنياء غير آمنين تمامًا من العدوى. ومن هذا المنظور، يقول إدسون: “إن اشتراكية الجرثوم هي سلسلة الوباء التي تربط بين جميع أفراد المجتمع (7). وخلال شهر مارس/آذار، لم تتمكن الدول الغنية في أوروبا وأميركا الشمالية والخليج من منع انتشار حالات الإصابة الجديدة في حين ظلت الدول الفقيرة تكافح من أجل توفير الموارد الأساسية من الماء والمطهرات والأدوية لمواطنيها. وبين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار، انتشر الفيروس بسرعات تفوق حد التصور.

أرقام زاحفة

بحلول الثامن عشر من مارس/آذار، أعلنت منمة الصحة العالمية مجموع 200106 حالة مؤكدة للإصابة و8010 حالة وفاة، فيما تمَّ شفاء 82813 حالة في 167 دولة. وينمُّ انتشار الفيروس عن دلالات مثيرة من حيث تفشيه في مناطق أكثر من غيرها. وتشمل قائمة الدول التي لديها أكثر من 200 حالة مؤكدة الصين 81048، إيطاليا 21157، إيران 12729، كوريا الجنوبية 8086، إسبانيا 5753، فرنسا 4469، ألمانيا 3795، الولايات المتحدة 1678، سويسرا 1359، المملكة المتحدة 1144، هولندا 959، السويد 924، النرويج 907، الدنمارك 827، اليابان 780، بلجيكا 689، النمسا 655، قطر 337، اليونان 227، سنغافورة 212، والبحرين 211. وقد خضع من يقرب من 60 مليون شخص في الصين لإجراءات الحجر الصحي. وأصبحت إيطاليا المركز الأوروبي للوباء بإجمالي 21157 حالة إصابة و1441 حالة وفاة.

ترددت منظمة الصحة العالمية في تصنيف فيروس كورونا “جائحة رسميًّا”. ولم تقرِّر نشر هذا الخبر السيئ حتى 11 مارس/آذار. وتحدُّد المنظمة مفهوم الجائحة بأنه “الانتشار العالمي لوباء جديد”، وتقتصر الجائحة على “مجتمع أو منطقة”. وصرح المدير العام لمنظمة الصحة العامة، الدكتور تيدروس غيبريسوس (Tedros A. Ghebreyesus)، بالقول “يسترعي لفظ “جائحة” الكثير من الاهتمام. بيد أن هناك ألفاظًا أخرى أكثر أهمية: الوقاية والاستعداد والقيادة السياسية والأفراد. نحن معًا في هذه المعركة”.

تقول لورا سبيني (Laura Spinney)، مؤلفة كتاب “الراكب الشاحب: الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 وكيف غيَّرت العالم” Pale Rider: The Spanish Flu of 1918 and How it Changed the World “، إن تفشي الإنفلونزا أودى بحياة 50 مليون شخص عام 1918، وأنشأت الدول منظمات جديدة لمكافحة العدوى. لكن في عصر الأوبئة وتجدد التنافس بين القوى العظمى، لم تعد تلك المنظمات كافية”(8).

(سي دي سي)
تاريخ الجائحات  (CDC)

على الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي، قفزت حالات الإصابة بفيروس كورونا في الولايات المتحدة من حالة واحدة في 22 يناير/كانون الثاني إلى 2179 في 13 مارس/آذار. وهذا يمثِّل ما يسمى المنحى المتسارع؛ إذ يتضاعف عدد الحالات كل يومين أو ثلاثة أيام مما قد يصل إلى مائة مليون حالة بحلول مايو/أيار وفقًا لتقديرات صحيفة واشنطن بوست. تلاحظ أنثيا روبرتس (Anthea Roberts) ونيكولاس لامب (Nicolas Lamp)، مؤلِّفا كتاب سيصدر قريبًا بعنوان “الفائزون والخاسرون: سرديات عن العولمة الاقتصادية”Winners and Losers: Narratives about Economic Globalization أنه بدلًا من اعتماد إطار مشترك لفهم هذا التهديد، “يضاعف الفاعلون انتقاداتهم الحالية للعولمة والنيوليبرالية… وينظر المراقبون السياسيون إلى الفيروس الحالي على أنه توضيح مثالي لمزايا أو عيوب الاستبداد أو الديمقراطية، ويمكن للمرء أن يختار ما ينتقد”(9).

منذ عام 2009، تم الإعلان عن حالات طوارئ الصحة العامة خمس مرات على نطاق عالمي: جائحة إنفلونزا الخنازير عام 2009، وشلل الأطفال عام 2014، وإيبولا في غرب إفريقيا عام 2014، واندلاع فيروس زيكا عام 2015، واندلاع آخر لإيبولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية الكونغو في 2019. ورصد خبراء منظمة الصحة العالمية حدوث 1483 انتشار وبائي في 172 دولة بين 2011 و2018. واعتبرت المنظمة تلك الحوادث بمثابة مؤشرات على حقبة جديدة من الأوبئة شديدة التأثير والانتشار السريع. وحذرت من التهديد الموثوق تمامًا لمسببات الجهاز التنفسي التي تؤدي في نهاية المطاف إلى كارثة بيولوجية عالمية يمكن أن “تتسبَّب في وفاة حوالي 50 إلى 80 مليون شخص وتدمير ما يصل إلى 5 في المائة من الاقتصاد العالمي، فضلًا عن التسبُّب في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي”(10).

تعقُّب المعطيات العلمية

في عصر الإنترنت السريع ووسائل التواصل الاجتماعي، استهلك الرأي العام فيضًا متدفِّقًا من المعلومات الخاطئة أو المضلِّلة بشأن حقيقة انتشار فيروس كورونا وتشبَّع بمشاعر الخوف والقلق العميق. كانت هناك مزاعم حول وجود “مختبرات سرية” و “مؤامرات حكومية” و”تلاعب” ضمني بالفيروس ضمن المنافسة الجيوستراتيجة والاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، وربما حتى مؤامرة معادية لإيران. وبحلول 16 مارس/آذار، تجاوز عدد القتلى في إيران 850 شخصًا، بمن فيهم آية الله هاشم بهتاي غولبايغني، عضو مجلس الخبراء المكلف بتعيين المرشد الأعلى للجمهورية، بعدما أظهر اختبار حالته أنه مصاب بالفيروس الجديد وتم إدخاله المستشفى.

ساعدت حالة الذعر العام في الترويج لمعلومات مثيرة للقلق. ويشير صامويل سكاربينو (Samuel Scarpino)، أستاذ إدارة الأعمال وعلوم الشبكات في كلية العلوم بجامعة نورث إيسترن، إلى أن “العلاقة بين العدوى الاجتماعية والعدوى البيولوجية الحقيقية هي سمة من سمات التفشي الحديث بسبب تردُّد المعلومات الخاطئة والأخبار المزيفة”. وحتى الآن، يتم تداول سرديتيْن رائجتيْن في أرجاء العالم: الصين “صنعت” الفيروس، والولايات المتحدة “بدأت” تفشي المرض عمدًا. وقال فيليب ريكر، المسؤول الكبير بوزارة الخارجية في واشنطن: “إن المسؤولين الروس الخبثاء يحاولون بث معلومات مضلِّلة عن أصل فيروس كورونا”.

(غيتي)
 امرأة تنعي فقيدًا في مقبرة بهشتي معصومة لضحايا الفيروس التاجي الجديد في قم بإيران – 17 ماس/آذار (غيتي)

يمكن تصنيف الفهم العام للفيروس الجديد حاليًّا إلى خطابيْن رئيسييْن: أحدهما علمي والآخر تأويلي يفسِّر بعض الحوادث. نبدأ بالخطاب العلمي؛ إذ وضعت دراسة حديثة لعلم البيئة أجراها فريق خبراء في بورنيو الماليزية وبعض المناطق في الصين سبب تفشي الفيروس تحت أضواء جديدة. فقد خلص علماء يعملون مع منظمة إيكوهيلث ألاينس (EcoHealth Alliance)، وهي مجموعة بحثية غير ربحية، إلى أن الوباء كان نتيجة “آثار غير مباشرة”، لحالات انتقال فيروس حيواني إلى الإنسان. فقد جمع كيفين أوليفال (Kevin Olival)، عالم أمراض البيئة، وزملاؤه عينات من آلاف الخفافيش في الصين. وأوضح قائلاً “وجدنا دليلًا من جميع العينات التي أجريناها في الصين إجمالًا على حوالي 400 سلالة جديدة من فيروسات كورونا”(11). والمعروف أن الخفافيش تحمل بعض الفيروسات الخطرة خاصة التي لديها القدرة على الانتشار عالميًّا(12). واكتشف الباحثون أن بعض فيروسات كورونا متقاربة جدًّا جينيًّا من فيروس السارس (SARS).

خبيرة أخرى في فريق الاستطلاع الميداني هونغييغ لي (Hongying Li) تقول إنها تعقبت كيف أصبح بعض الأفراد في وضع جعلهم يلمسون لعاب الخفافيش أو بولهم أو برازهم دون قصد. وتوضح أن الخفافيش يعيشون في بعض المنازل مع البشر في بعض المناطق. وأفاد بعض السكان المحللين بأن “خفاشًا استقر في منزلهم، أو أنهم قتلوه، أو أنه يقتات على الثمار في الفناء الخلفي لمنزلهم”(13). وقارن الباحثون في معهد ووهان للفيروسات، وأيضًا في مستشفى ووهان جينينتان في الصين الذين تعاونوا مع منظمة إيكوهيلث ألاينس، عينات الخفافيش التي تمَّ جمعها، وتوصلوا إلى تقارب جيني للغاية. كما أصدروا دراسة تفصيلية تُظهر أن التركيب الجيني لفيروس كورونا الجديد يتشابه بنسبة “96 في المئة مع تكوين الفيروس الموجود في الخفافيش”(14).

على الرغم من تلويح الصين باحتواء الفيروس في مدينة ووهان، لم يتوصل العالم بعد إلى تركيب علاج واضح المعالم لمكافحة الفيروس بينما يتسابق العلماء لتركيب لقاح فعال. ودعت السلطات الصينية المصابين من سكانها إلى استخدام بعض العلاجات التقليدية. ويتم إعطاء المريض كيسًا من الحساء البني، وهو علاج صيني تقليدي يجتمع فيه أكثر من 20 عشبًا، بما فيه الإيفيدرا وأغصان القرفة وجذر عرق السوس، إلى جانب الأدوية المضادة للفيروسات المتداولة، وفقًا لوزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية. وإزاء هذه الإجراءات الصينية، نشر فريق خبراء، في كلية إمبريال كوليدج (Imperial College) في لندن، وثيقة جديدة حذروا فيها من أن التهديد الراهن للصحة العامة هو “الأكثر خطورة” مقارنة مع فيروس الإنفلونزا الإسبانية الذي تفشَّى عام 1918. وأوصوا الحكومة البريطانية بتبني استراتيجية “قمع الوباء” لفترة قد تكون 18 شهرًا أو أكثر، بدلًا من استراتيجية “التخفيف” من انتشاره. وتبيَّن من الدراسة أن احتمال انتشار الفيروس قد يتجاوز استراتيجية التخفيف بما لا يقل عن ثمانية أضعاف فوق قدرات الخدمة الصحية الوطنية في بريطانيا، ويمكن أن يودي بحياة حوالى 250.000 شخص”(15).

(EcoHealth Alliance)
خبراء مؤسسة “إيكوهيلث ألاينس” يستخرجون عينات في مغارة بمنطقة غواندون في الصين، (EcoHealth Alliance)

في الولايات المتحدة، يؤكد المركز القومي لمكافحة الأمراض والوقاية منها أن فيروس كورونا “مجموعة كبيرة من الفيروسات الشائعة في البشر وعدة أصناف مختلفة من الحيوانات بما فيها الجمال والأبقار والقطط والخفافيش. ونادرًا ما يمكن لفيروسات كورونا الحيوانية أن تصيب البشر ثم تنتشر بين الأشخاص مثل فيروس MERS-CoV وSARS-CoV والآن مع هذا الفيروس الجديد المسمى “SARS-CoV-2”. ويمثل السارس وCoV-2 فيروسًا مستنبطًا من أربعة فيروسات في الأصل على غرارMERS-CoV وSARS-CoV. يعود منبت جميع هذه الفيروسات الثلاثة إلى الخفافيش”(16). وخلص المركز أيضًا إلى أن “هذا هو أول جائحة معروف أنها ناجمة عن ظهور فيروس كورونا جديد. في القرن الماضي، انتشرت أربعة أوبئة نتجت عن ظهور فيروسات جديدة للإنفلونزا”(17).

ويفسِّر الدكتور ويليام شافنر (William Schaffner)،  الأستاذ في كلية الطب بجامعة فاندربيلت ومستشار مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، كيف تمَّ ترسيخ انتشار فيروس كورونا بسبب عاملين رئيسيين: “الانتقال دون أعراض وانتقال الأعراض الخفيفة”، ويعتبرها “محركات الانتشار في المجتمع”(18). وصنف علماء آخرون فتك الفيروس الجديد بنسبة 2 في المائة مقارنة مع 10 في المائة بالنسبة لوباء السارس. غير أن المؤرخ العسكري ومحلِّل الشؤون العالمية جوزيف مياكليف (Joseph V. Micallef) يقول إنه “مثل فيروسات كورونا الأخرى وباء حيواني: مرض مُعْدٍ تسببه الجراثيم والطفيليات التي تنتشر من الحيوانات غير البشرية (الفقاريات عادة) إلى البشر. ويكون العديد من المصابين في البداية إما يعملون أو يتردَّدون على سوق ووهان لبيع المأكولات البحرية بالجملة”(19).

(WHO-BBC)
حالات الوفيات بسبب فيروس كورونا في العالم باستثناء الصين بحلول 14 مارس/آذار  (WHO-BBC)

تفسيرات التآمر لسبب فيروس كورونا

عادت بعض الأعمال الأدبية إلى دائرة الضوء مجدَّدًا في ذروة انتشار الفيروس الجديد. من هذه الأعمال رواية “عيون الظلام” (The Eyes of Darkness) التي تم نشرها عام 1981 للأديب دين كونتز (Dean Koontz) الذي تحدث عن فيروس مميت يسمى “ووهان 400″، ووصفه بأنه “مرض شبيه بالالتهاب الرئوي” ينتشر لمهاجمة “الرئتين والأنابيب القصبية” ويشكل “مقاومة أمام جميع العلاجات المعروفة.” يروي دومبي (Dombey)، إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية، قصة عالم صيني أحضر سلاحًا بيولوجيًّا يسمى “ووهان -400” إلى الولايات المتحدة. يقول دومبي “لفهم ذلك، عليك العودة إلى عشرين عامًا إلى الوراء عندما انتقل عالم صيني منشق يدعى (Li Chen) إلى الولايات المتحدة، حاملًا قرص إلكترونيًّا وفيه معلومات عن أهم وأخطر سلاح بيولوجي صيني جديد خلال عقد من الزمن. ويُطلق على هذه المادة اسم “Wuhan-400” لأنه تم تطويره في مختبرات “أر دي إن إي” (RDNA) خارج مدينة ووهان، وكانت سلالة قابلة للحياة من أربعمائة من الكائنات الحية الدقيقة من صنع الإنسان التي تم تركيبها في مركز البحوث هذا”(20).

ينبغي أن يستحضر المرء المسافة بين الخيال والواقع. ومع ذلك، يعتدُّ عدد من مراقبي السياسية الصينيية والمسؤولين العسكريين الغربيين بوجود صلة قوية بين فيروس كورونا والأبحاث الأخيرة التي أجريت في معهد ووهان لعلم الفيروسات. وقد جادل البعض بأن الفيروس الجديد قد يكون علامة استفهام إزاء “الأسرار المظلمة” التي يتم تطويرها في مختبرات الحرب البيولوجية حول العالم. علاوة على ذلك، هناك منحى متزايد نحو إضفاء هوية إثنية أو عرقية للفيروس الجديد باسم “الفيروس الصيني” في وسائل الإعلام والمنشورات الغربية. فقد سمع موظفو مكتب منظمة الصحة العالمية في الصين ما تردَّد كتقارير أولى عن فيروس غير معروف سابقًا بإصابة عدد من الحالات بالالتهاب الرئوي في ووهان في 31 ديسمبر/كانون الأول 2019. بعد ذلك اتجهت الرواية الرئيسية نحو احتمال أن يكون الفيروس الجديد قد نشأ في سوق المأكولات البحرية في ووهان، حيث يتم تداول الحيوانات بما فيها الطيور والأرانب والخفافيش والثعابين بشكل غير قانوني. بعد الاجتماع مع تيدروس أ. غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في قاعة الشعب الكبرى في ميدان تيانانمن في بكين، وهي رمز القوة السياسية للحزب الشيوعي الصيني في 28 يناير/كانون الثاني 2020، صرح الرئيس الصيني شي جين بينغ بأن “الوباء شيطان. ولا يمكننا ترك الشيطان يختبئ”(21). وبحلول 15 فبراير/شباط، أصدرت وزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية توجيهًا جديدًا بعنوان: “تعليمات حول تعزيز إدارة الأمن البيولوجي في مختبرات علم الأحياء الدقيقة التي تتعامل مع الفيروسات المتقدمة مثل فيروس كورونا الجديد”. وفي 11 مارس/آذار، أقرَّت السلطات الصحية الصينية بوجود أكثر من 81032 حالة إصابة و3204 حالة وفاة.

وتساور الشكوكُ ذهنَ ستيفن موشر (Steven Mosher)، رئيس معهد البحوث السكانية ومؤلف كتاب “بلطجي آسيا: لماذا يكون حلم الصين هو التهديد الجديد للنظام العالمي”، بشأن السبب وراء النداء الاستعجالي للرئيس الصيني لإنشاء نظام وطني للتحكم في الأمن البيولوجي الذي يهدد “حماية صحة المواطنين”، ما دام أن سلامة المختبر هي قضية “الأمن القومي”، بعد أسبوع واحد من تصريحه بشأن “الحاجة لاحتواء فيروس كورونا” في 15 فبراير/شباط. ويعتقد موشر أيضًا أن لدى الصين مشكلة “الاحتفاظ بمسببات الأمراض الخطيرة في أنابيب الاختبار حيث ينبغي أن تكون محفوظة، أليس كذلك؟ وما هو عدد “مختبرات علم الأحياء الدقيقة” الموجودة في الصين التي تتعامل مع “الفيروسات المتقدمة مثل فيروس كورونا الجديد؟”(22)، ويدعو رئيس معهد أبحاث السكان إلى بعض الاستدلال الاستنتاجي لكون ووهان مكان ولادة فيروس كورونا. ويجادل بالقول: “اتضح في كل ربوع الصين، أن هناك مركزًا واحد فقط، ويقع في مدينة ووهان التي تصادف أنها عين انتشار الوباء. صحيح. إن مختبر الأحياء الدقيقة الوحيد والمجهز للتعامل مع فيروسات كورونا المميتة في الصين، والمسمى المختبر الوطني للسلامة البيولوجية، هو فرع من فروع معهد ووهان لعلم الفيروسات”(23).

(غيتي)
المرضى ينتظرون نقلهم من مستشفى ووهان رقم 5 إلى مستشفى ليشنشان الذي تم بناؤه حديثًا لمرضى فيروس كورونا، في ووهان بالصين، 3 مارس/آذار 2020 (غيتي)

وأشارت التقارير إلى أنه تمَّ إرسال كبيرة خبراء جيش التحرير الشعبي في الحرب البيولوجية، المايجور جنرال تشين وي (Chen Wei)، إلى ووهان في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي للمساعدة في الجهود المبذولة لاحتواء تفشي المرض. وفقًا لصحيفة “بي إلى إي ديلي” (PLA Daily)، كانت تشين تبحث في فيروسات كورونا منذ تفشي وباء السارس عام 2003، وكذلك إيبولا والجمرة الخبيثة. لم تكن هذه رحلتها الأولى إلى معهد ووهان لعلم الفيروسات، لكونه واحدًا من مختبريْ أبحاث الأسلحة البيولوجية فقط في الصين كلها. ويقول موشر إن فيروس السارس القاتل تسرب مرتين إلى خارج مختبر في بكين. وسرعان ما تم احتواء وباء كورونا والسارس بسرعة، وهما وباءان من صنع الإنسان. ولكن لم يكن أي من انتشارهما سيحدث على الإطلاق لو تم اتخاذ احتياطات السلامة المناسبة.

وينتقد إيفو دالدر (Ivo Daalder)، رئيس مجلس شيكاغو للشؤون العالمية وسفير الولايات المتحدة السابق لدى حلف شمال الأطلسي، الصين “لسرِّيتها وتقاعسها عن التعاون”، الأمر الذي سهَّل إمكانية تحوُّل الوباء إلى حقيقة(24). ويتذكر كيف تذكَّر الأطباء في ووهان، المدينة الصناعية التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة بحلول نهاية ديسمبر/كانون الأول 2019، زيادة عدد المرضى الذين يعانون أعراضًا مشابهة لمرض السارس الذي أودى بحياة ما يقركانون الثاني ب من 800 شخص في عامي 2002 و2003. فتمَّ حجر المرضى، وأصدرت لجنة الصحة في ووهان إشعارًا عامًا يؤكد عدم وجود سبب للقلق، وتمَّ تعقب العدوى إلى سوق الحيوانات الحية، والذي تم إغلاقه في 1 يناير/كانون الأول، وتحديد التسلسل الجيني لفيروس جديد بعد يومين.

نتيجة لذلك، أثارت المقالة الافتتاحية التي كتبها دالدر بعض الرجة مع المسؤولين الصينيين. وأرسل تشاو جيان، القنصل العام الصيني في شيكاغو، رسالة إلى رئيس تحرير صحيفة شيكاغو تريبيون يتهم فيها دالدر بـ”عدم الدقة والتحيز”(25). وتمت تعبئة الدبلوماسية الصينية في الغرب للسيطرة على مثل هذه السردية، ولتعزيز فكرة أن استجابة الحزب الشيوعي للفيروس كانت في الواقع شفافة وفعالة. واتهمت السفارة الصينية في لندن مجلة الإيكونوميست بـ”موقف التحيز ضد النظام السياسي الصيني”. وفي باريس، قالت السفارة الصينية: إن تغطية بعض وسائل الإعلام تركز على “الانتقاد الانعكاسي لكل شيء صيني بما يقترب من حد جنون الشك”. واتهم دبلوماسيون صينيون في برلين وسائل الإعلام الألمانية بـ”مواصلة إثارة الذعر ونشره”. ومن المفارقات أن سفارة الصين في كوبنهاجن طالبت من “جوتلاند بوست” (Jutland Post)، وهي الصحيفة الأكثر مبيعًا في الدنمارك، بتقديم “الاعتذار علنًا للشعب الصيني” لنشرها رسمًا كاريكاتوريًّا يظهر العلم الصيني مع رسوم توضيحية لفيروس بدلًا من النجوم”(26).

ويشكِّك عدد من المراقبين الغربيين في ما يعتبرونه إفراط الصين في توخي السرية بشأن دينامييات انتشار فيروس كورونا وتعبئة المدافعين عنها بأعداد هائلة بغية فرض رواية رسمية، لكنها أقل مصداقية. وتشير لوكريسيا بوغيتي (Lucrezia Poggetti)، محللة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين في معهد ميركاتور لدراسات الصين (Mercator Institute for China Studies)، إلى أن “الحزب الشيوعي قام بتضييق الخناق على المعلومات التي تم تبادلها حول الوباء، وأرسل أكثر من 300 شخص لإنتاج وترويج قصص إخبارية إيجابية حول الصين وتعاملها مع تفشي المرض”(27). ويحذر مراقبون آخرون من فقدان معلومات لم تقدمها الصين. وعلى سبيل المثال، يشير أنتوني فوسي (Anthony Fauci)، مدير المعهد الوطني الأميركي لأمراض الحساسية والأمراض المعدية، إلى الفجوة بين الواقع والمعلومات المتوفرة، ويتساءل عن الفرق بين “الأرقام التي يتم تقديمها في مؤتمر صحفي مقابل الأرقام التي يمكنك في الواقع البحث عنها من خلال  تحليل البيانات”(28).

(رويترز)
 إيواء المصابين بفيروس كورونا في ساحة رياضية تم تحويلها إلى مستشفى مؤقت يوم الأحد في ووهان(رويترز)

مناورة انتخابية ترمبية بانتظار لقاح مضاد لفيروس كورونا

في تطور مثير للاهتمام في الحملة العالمية ضد الوباء الجديد، تحوَّل علم فيروس كورونا إلى معركة جديدة حول المعرفة واستنزاف العقول، واتجاه جديد في منحى الاستغلال على طريقة الرئيس ترامب. فقد أعرب أعضاء الحكومة الألمانية عن استيائهم من الأخبار التي أفادت بأن الرئيس الأميركي عرض مبلغ مليار دولار لشركة كيورفاك (CureVac) لصنع الأدوية الحيوية ومقرها مدينة توبنغن، لتأمين اللقاح “للولايات المتحدة فقط”(29). وقد تأسست الشركة عام 2000، وهي متخصصة في “تطوير العلاجات ضد السرطان والعلاجات المستخلصة من الأجسام المضادة وعلاج الأمراض النادرة واللقاحات الوقائية”(30).

اتهم كريستيان ليندنر، زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي الألماني، الرئيس ترامب بمحاولة استغلال اللقاح المطلوب لاعتبارات حملته الانتخابية، قائلًا: “من الواضح أن ترامب سيستخدم أي وسيلة متاحة في الحملة الانتخابية”. وشدد وزير الاقتصاد الألماني، بيتر ألتماير، بوضوح أن “ألمانيا ليست للبيع”. وقال زميله وزير الخارجية، هايكو ماس، في حديثه مع إحدى الشبكات التلفزيونية: “إن الباحثين الألمان يقومون بدور رائد في تطوير الأدوية واللقاحات كجزء من شبكات التعاون العالمية. ولا يمكننا أن نسمح بوضع يريد فيه الآخرون الحصول على نتائج أبحاثهم لمصلحتهم حصريا”(31).

مقابل الموقف الألماني، سعت واشنطن لتهدئة الضجة. وصرح مسؤول أميركي قائلًا: “تحدثت الحكومة الأميركية مع العديد من الشركات، أكثر من 25 شركة تدِّعي أنها تستطيع المساعدة في تركيب اللقاح. وقد تلقت معظم هذه الشركات بالفعل تمويلًا أوليًّا من مستثمرين أميركيين”(32). بيد أن المستثمرين في شركة كيروفاك قرروا عدم بيع اللقاح لأي دولة بعينها. وذكرت الشركة المستثمرة الرئيسة فيها ديفيني هوب بيوتيك (dievini Hopp BioTech Holding ) “أنه إذا نجحنا في تطوير لقاح فعال، فيجب أن يساعد ويحمي البشر في جميع أنحاء العالم”. وقد أدت محاولة المناورة الانتخابية لترامب إلى ترسيخ الشائعات التي تدور حول الإنتاج المتعمد المحتمل للفيروس في مختبر لأهداف استراتيجية.

غيتي
ألمانيا تقول لترامب: “ألمانيا ليست للبيع” (غيتي)

حتى الآن، راجت بعض الأنباء الواعدة حول تحقيق اختراق محتمل في تصميم دواء لمحاربة الوباء. وأعلنت وزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية عن دواء جديد يعرف باسم “فافيبيرافير” (Favipiravir)، طورته إحدى الشركات التابعة لشركة فوجي فيلم توياما كيميكال اليابانية (Fujifilm Toyama Chemical)، وقد أسفر عن نتائج مشجعة في التجارب الأولية التي شملت 340 مريضًا في ووهان وشنتشن. وفي أستراليا، يشعر خبراء الأمراض في جامعة كوينزلاند في بريسبان بالحماس تجاه اثنين من الأدوية الموجودة التي من شأنها القضاء على عدوى الفيروس: الكلوروكوين (Chloroquine)، وهو دواء مضاد للملاريا، ومركب قمع فيروس نقص المناعة البشرية (lopinavir ritonavir).

لا يوجد يقين حتى الآن حول صحة هذه التجارب الطبية بينما تتسابق 35 شركة ومعهد أكاديمي لابتكار لقاح محتمل. والحكمة الشائعة بين معظم خبراء الصحة هي أن مجرد أمل في تطوير لقاح فيروس كورونا يحتاج بين 12 إلى 18 شهرًا. ويضغط الرئيس ترامب على أن يكون اللقاح جاهزًا في نوفمبر/تشرين الثاني، وهو الموعد المقرر للانتخابات الرئاسية الأميركية. ومع ذلك، فإنها تبدو مهلة مستحيلة. وتشرح أنيليس ويلدر سميث (Annelies Wilder-Smith)، أستاذة الأمراض المعدية الناشئة في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي “مثل معظم أخصائيي اللقاحات، لا أعتقد أن هذا اللقاح سيكون جاهزًا قبل 18 شهرًا”.

سيتناول الجزء الثاني من الورقة أربعة محاور، وهي تسييس فيروس كورونا في السياسة الدولية، وحرج النيوليبرالية في ساعة الحقيقة، وفيروس كورونا والبشر والنظام، والعودة إلى البعد الإنساني والديمقراطية الأخلاقية ونسق الاحتياجات البشرية البسيطة.

يخشى مؤرخو الاقتصاد الأوروبيون من شبح أن تتكرَّر مأساة الموت الأسود (Black Death)، التي اجتاحت القارة منتصف القرن الرابع عشر، وأدت إلى وفاة نسبة الثلث من مجموع السكان. وتسبَّب هذا الانخفاض في التركيبة السكانية في ندرة العمالة، وبالتالي زيادة الأجور، والطعن في النظام الإقطاعي في أوروبا آنذاك. كما مهَّد الطريق لقيام الثورة الصناعية التي تعرَّضت بريطانيا بفعلها لاحقًا لوباء “الملك كوليرا” King Cholera)) في أعوام 1831-1832 و1848-1849 و1854 و1867. وكان داء السلِّ مسؤولًا أيضًا عن وفاة ثلث الضحايا في بريطانيا بين 1800 و1850. والآن، يعود هذا الكابوس إلى أذهان الأوروبيين أقوى، لأن الأوبئة والجائحات تشمل “معادلات عظيمة”، وقد تؤدي إلى تداعيات طويلة الأمد ليس على النمو الاقتصادي الأوروبي فحسب، بل وأيضًا على الاقتصاد العالمي. وفي الولايات المتحدة، قرَّر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خفض سعر الفائدة القياسي إلى ما بين صفر و0.25 في المائة (بعد أن تراوح بين 1 و1.25 في المائة في السابق) وشراء 700 مليار دولار من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن في اجتماع طارئ يوم الأحد 15 مارس/آذار. وبعد أقل من يوم واحد، تراجع مؤشر داو جونز بمجموع 2250 نقطة عند افتتاح التعامل في بورصة نيويورك، وكاد مسؤولو السوق تعليق التداول. 

أدى انتشار فيروس كورونا، أو كوفيد 19، إلى خمود الحركة وتوقُّف العالم تقريبًا. وأبقى على طائرات الشركات العالمية في الأرض مما يمثِّل تهديدًا وجوديًّا للعديد منها. على سبيل المثال، سيؤدي الحظر الذي فرضه الرئيس الأميركي ترامب مدة 30 يومًا على معظم الرحلات الجوية من أوروبا إلى أميركا، والذي بدأ سريانه في 14 مارس/آذار، إلى محو 20 مليار دولار، وهي مجموع المكاسب التي حققتها شركات الطيران التي تنقل الركاب عبر المحيط الأطلسي خلال العام الماضي. وتتَّسع الدراما الحقيقية من تصوير مدن الأشباح في أفلام هوليوود إلى حقيقة دول أشباح حقيقية كما هو الحال في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا. كما اختارت دول أخرى فرض الحجر الصحي على سكانها. وفي المحصلة النهائية، أصبحنا نعيش في عصر التمييز الفيروسي الافتراضي والمفروض طوعيًّا بين الذات والآخر في سائر البيئات الاجتماعية التي كانت حميمية، ومنها أماكن العمل والتجمعات العامة وحتى الكنائس والمساجد والمعابد.

لا غرابة أن يدخل عام 2020 كتب التاريخ كعام لم يكشف عن فشل منظومة الصحة العامة على الصعيد العالمي فحسب، بل ينطوي أيضًا على حقبة ركود جيوسياسي ولحظة سقوط النظام النيوليبرالي من عل في القرن الجديد. ولا يمكن الآن تقليل مخاطر الصحة العامة غير المتوقعة أو أن تُعزى “لا إلى الفضائل الأخلاقية ولا إلى الحاجة إلى الاستثمارات”، بل “تسلط الأزمة أضواء كاشفة على عيوب هذه الحقبة التي تتسم بقصر النظر ومنحى الاستغلال وأنانية بعض الأفراد”(1).

تتناول هذه الدراسة، وهي في جزأين، ما اعتبره تداخل ثلاث تحولات رئيسية فيما بينها: 1) تحديد سياق انتشار الوباء بين نهاية ديسمبر/كانون الأول 2019 والعشرين من مارس/آذار 2020. 2) ارتباط أو تزامن انتشاره عالميًّا مع عدم استقرار أسواق المال العالمية والانخفاض المفاجئ في أسعار النفط في منتصف مارس/آذار، حيث انخفض خام برنت بنسبة 12.2 في المائة، أو 4.15 دولار وتم تداوله بسعر 29.68 دولار، وهو أدنى مستوى له منذ يناير/كانون الثاني 2016. 3) القلق بشأن مستقبل الرأسمالية النيوليبرالية. وبحث الجزء الأول المنشور من قبل في عدد من الثنائيات التي يتم تداولها الآن في المجال العام في جميع أنحاء العالم: هل فيروس كورونا وباء “من صنع الطبيعة” أو “من صنع الإنسان”؟ كيف يمكن للبحث العلمي فرز الحقيقة من الافتراضات المختلفة القائمة على “نظرية المؤامرة” حول السببية “المتعمدة” أو “التلاعب” المحتمل بالفيروس في السياسة الدولية؟ ثمة سؤال أساسي آخر يظل مفتوحًا حول ما إذا كان المجتمع الدولي ونظام الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني بأكملهم قد فكَّروا في إيجاد أي توازن ممكن بين الرَّدع النووي والتسلح، اللذين يتم السعي إليهما بشدة، والرَّدع الوبائي أو ضمان الحد الأدنى من استراتيجية الأمن البيولوجي. تناولت الورقة أيضًا اتجاهًا جديدًا للتوظيف الانتخابي للوباء من قبل الرئيس ترامب (Trumpian electioneering)  وسعيه لشراء واحتكار مشروع لقاح مضاد للفيروس الجديد تنكبُّ على تطويره حاليًّا شركة أدوية في ألمانيا. 

يبحث الجزء الثاني من الورقة الآن كيف تفرض جائحة كورونا منحى اقتصاديًّا جديدًا يمكن تسميته اقتصاديات الانتشار الأفقي (trickle-across economics)، وليس من أعلى إلى أسفل التي لوَّحت بها أدبيات (trickle-down economics) أو اقتصاد التأثير التنازلي الذي نادى به الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغن، في الثمانينات من القرن الماضي. ويتبيَّن الآن مدى التشابك الاقتصادي السلبي بين الدول من جراء انتشار الجائحة الراهنة. مثلًا في مدينة نيويورك التي تُعَدُّ المركز السياحي الأكثر رواجًا في العالم، أمر رئيس بلدية المدينة، بيل دي بلاسيو، أصحاب الحانات والمطاعم المحلية بإغلاق أبوابها في مسعى أخير لوقف انتشار الفيروس. وكتب في رسالة وجَّهها إلى مواطنيه في نيويورك في 16 مارس/آذار “يجب أن نردَّ بعقلية الحرب”. وفي باريس، قال الرئيس إيمانويل ماكرون، في خطاب كئيب النبرة إلى الأمة الفرنسية: “نحن في حالة حرب. نحن لسنا في حالة مواجهة مع جيش آخر أو دولة أخرى. لكن العدو موجود هناك: هو غير مرئي، وصعب الاقتناص، لكنه يحرز تقدمًا”. فقرَّر ماكرون تجنيد الجيش للمساعدة في نقل المرضى إلى المستشفيات. ونسجت حكومات أخرى على هذا المنوال.

في البلدان النامية مثل المغرب والفلبين، حيث تمثِّل الزراعة والسياحة والتحويلات المالية للعمال في الخارج العمود الفقري للاقتصاد الوطني، هناك مؤشرات قاتمة تُنْذِر ببقية عام لن يكون مريحًا، خاصة عندما تبدأ تداعيات العواقب الوخيمة لفيروس كورونا تظهر في يونيو/حزيران أو يوليو/تموز. وبشكل عام، تتوقع وكالة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة (UNCTAD) أن عدم اليقين بشأن المستقبل وعدم القدرة على الحركة حاليًّا سيكبِّدان الاقتصاد العالمي تريليون دولار على الأرجح بالنسبة لعام 2020 وحده. ويتناول الجزء الثاني من الورقة أيضًا النظام النيوليبرالي السائد الذي يصحو على ما يبدو أنه اختبار واقعي في مواجهة فيروس صغير. وتناقش بقية الدراسة مدى الحاجة للعودة إلى البعد الإنساني والأسبقية للمجتمع قبل الاقتصاد والربح في إعادة بناء نظام ديمقراطي اجتماعي منقَّح يكون بمثابة تصحيح حان وقته في حقبة أفول النيوليبرالية على ما يبدو في وجه لعنة فيروس كورونا. 

وباء كورونا اقتصاديات الانتشار الأفقي (Trickle-Across’ Economics)

بحلول السادس عشر من مارس/آذار، عانت أسواق المال العالمية، بما فيها وول ستريت في نيويورك، خسارات قياسية عقب انخفاض مؤشر داو جونز بنسبة 13 في المائة تقريبًا في أسوأ نسبة انتكاسة منذ الانهيار المالي يوم “الاثنين الأسود” عام 1987. وكانت سوق الأسهم الأميركية قد خسرت قبل أربعة أيام كامل المكاسب التي حققتها بمجموع 11.5 تريليون دولار منذ فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016. والمفارقة أن الرئيس ترامب الذي كان منشرحًا في بدايات الأزمة، عندما أبلغ مواطنيه الأميركيين بأن “فيروس كورونا سيزول، لا تقلقوا، فقط حافظوا على هدوئكم”، هو نفسه الذي أصبح يقرُّ أنهم في مواجهة “عدو غير مرئي”، وأن هذا الفيروس يمكن أن يدفع الولايات المتحدة إلى حالة الركود، مضيفًا أنها “محنة سيئة، سيئة للغاية”(2). يبدو أن ترامب يستحضر في ذهنه عواقب الكارثة الاقتصادية التي وقعت عام 1929، وهو يعاين أزمة فيروس كورونا. ويقول بعض المحللين إنه بمثابة يوم “الاثنين الأسود” يحدث من جديد، ويتوقعون “حجمًا هائلًا في الضرر بالاقتصاد الأميركي، واحتمال فقدان ملايين الوظائف في شهر واحد، وانكماش تاريخي ومفاجئ في النشاط الاقتصادي في جميع أنحاء الولايات المتحدة، فضلًا عن وتيرة تقلُّبات حادة في السوق المالية لم تشهدها منذ الكساد الكبير”(3).

كتب روبرت شيلر (Robert Shiller)، أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل والحائز على جائزة نوبل عام 2013، عن السرديات التي تؤثر على الاقتصاد. فهو يؤكد أن الوضع الراهن بفعل فيروس كورونا “غير عادي للغاية. ولم يتوقع المواطنون حدوث أي أمر من هذا القبيل قبل بضعة أشهر. لم يدر في خلد أي كان أن في هذا العصر الحديث يمكن أن نكون عرضة بالفعل لوباء خطير، وأن الحكومة ستواجه تحديات صعبة في مسعاها لاحتوائه”(4). وتثير هذه التحولات السلبية التي تنتجها فيروسات كورونا أسئلة ملحة جديدة حول السياسة الاقتصادية التي تتبعها حكومة ترامب، والتي استرشدت بنظرية اقتصاديات الانتشار العمودي (Trickle-down economics) أو الاقتصاديات الريغانية (Reaganomics)، والتي تمَّ الاحتفاء بها كمنقذ للأنظمة الاقتصادية الغربية من ركود بدايات الثمانينات خلال رئاسة ريغان في البيت الأبيض. فمن خلال اعتماد بعض الامتيازات، مثل: التخفيضات الضريبية على التزامات الشركات والأشخاص ذوي الدخل المرتفع ومكاسب الرأسمال المُستَثمر والأرباح على المدخرات، لوَّحت هذه السياسة بأن فوائد تلك الامتيازات بالنسبة للأثرياء ستتدفق نزولًا إلى بقية الفئات الوسطى والفقيرة في المجتمع.

ويكمن جوهر هذا الادِّعاء بإمكانية حركة عمودية من أعلى إلى أسفل في نمو الاقتصاد في الضبابية بين براغماتية العلم ومغالطة الأيديولوجية الرأسمالية. فخلال عامه الأول في البيت الأبيض، وقَّع الرئيس ترامب على قانون تخفيضات الضرائب والوظائف الذي قلَّص معدل الضريبة على الشركات من 35 في المائة إلى 21 في المائة اعتبارًا من عام 2018. وانخفض معدل الضريبة الفردية الأعلى بالنسبة الشريحة الاجتماعية الثرية إلى 37 في المائة. وقضت خطة ترامب الضريبية أيضًا بتخفيض معدلات الضريبة على الدخل الفردي، وضاعفت الخصم الاعتيادي، وألغت الإعفاءات الشخصية. وفي ضوء القرار بأن التخفيضات الضريبية بالنسبة للشركات ستظل دائمة، تنتهي التغييرات الضريبية بالنسبة لدخل الأفراد بنهاية عام 2025(5). وفي الأسبوع الأول من مارس/آذار 2020، تمَّ استدعاء مديري البنوك الكبرى في وول ستريت إلى البيت الأبيض لمناقشة التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا. ونقلت التقارير أن حكومة ترامب تفكِّر في إقرار مزيد من التخفيضات الضريبية لصالح الشركات، مثل شركات الطيران والشركات السياحية، وتخفيض مؤقت للضريبة على الرواتب. ويفكِّر البيت الأبيض في طلب موافقة الكونغرس على حزمة مساعدات تحفيزية بقيمة 850 مليار دولار لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، و50 مليار دولار أخرى للتحفيز المباشر لإعادة إنعاش شركات الطيران. وتشمل خطة البيت الأبيض أيضًا 100 مليار دولار أخرى لتمويل البرامج التي تهدف إلى التعويض عن الإجازات المرضية، والمساعدات الغذائية، ومساعدات أخرى للعمال الأميركيين. ومن المحتمل أن يصل إجمالي التخصيصات المالية المطلوبة للحد من تبعات فيروس كورونا إلى تريليون دولار.

أغيتي
أوقات عصيبة في أسواق المال العالمية (غيتي)

قرَّرت بعض الدول الأوروبية تقديم حزم مساعدات حكومية سخية للمساعدة في تحفيز اقتصادها المحلي. فتبنَّت بريطانيا خطة تحفيز اقتصادي بقيمة 39 مليار دولار بعد ساعات فقط من قرار بنك إنجلترا خفض أسعار الفائدة. وبدأت إيطاليا إجراءات تحويل 28 مليار دولار لضمان مساعدة الشركات والعمال خلال الأزمة. في آسيا، خصَّصت قطر حزمة بقيمة 23.35 مليار دولار لحماية اقتصادها، فيما خصصت الصين 15.9 مليار دولار لمكافحة الوباء. هذه بعض أفضل العلاجات المالية الممكنة لتداعيات وباء كورونا الذي لا يمكن وقف زحفه في العالم. ولكن، لا يمكن أن يكون لها أكثر من تأثير حبة أسبرين قصيرة الأجل في مفعولها لصداع اقتصادي طويل الأمد. وتساورني الشكوك في أن هذه الإجراءات التي تأمل الحكومات أن ينتشر مفعولها عموديًّا (من أعلى إلى أسفل) ستحلُّ المشكلة. لن يتطابق المنحى العمودي، أو المنشِّطات المماثلة للشركات الخاصة الكبيرة، مع واقع المنحى الأفقي السلبي الشاسع للركود الاقتصادي بفعل تفشي فيروس كورونا. لقد دمَّر تفشِّي الفيروس الجديد الشركات العامة والخاصة تقريبًا بأكملها، ويؤثر على عنصريْن أساسييْن في حركية الاقتصاد: العرض والطلب. ويمكن القول مجازًا إن المحرِّك الرئيسي للاقتصاد العالمي فَقَد قوته وتوقف فجأة، وأصبح خاملًا في منتصف مارس/آذار مع تداعيات مفتوحة الأجل تنذر بمزيد من الحذر والعزلة. وعلاوة على ذلك، من المرجح أن تأثير فيروس كورونا سيعزز ويعمق التوجُّه نحو سياسات الأبواب والحدود المغلقة، وتعاظم الشعور العام بعدم الثقة، والتمييز، وقلب مسار العولمة. كما سيزيد في حالة عدم اليقين بعد تراجع دور منظمة التجارة العالمية، باعتبارها إحدى أهم نقاط التحوُّل ذات الصلة نحو إلغاء العولمة، وكذلك صعود القومية، والشعبوية، والسياسات الحمائية، والتوجُّهات المتزايدة ضد الهجرة في السنوات الخمس الأخيرة. 

أدَّى تفشي الوباء الجديد إلى تعطيل جميع محرِّكات الاقتصاد بما فيه شركات التصنيع ومراكز التسوق وشركات الطيران والفنادق ومتنزهات ديزني. فأصبحت معظم المدن في عزلة، حيث يقبع الأفراد في منازلهم، ولا يخرجون إلى المطاعم، ولا يتجهون إلى مراكز التسوق، ولا يسافرون، ولا يشترون سيارات جديدة. وتظل القاعدة الذهبية أن أي نظام اقتصادي يكره الركود والعزلة. على سبيل المثال، تتأتى نسبة سبعين بالمائة من الاقتصاد الأميركي من الإنفاق الاستهلاكي، وقد توقَّف حاليًّا في الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق. ومن غير المرجح أن تتمكن معظم الاقتصادات من تجنب موجة ركود عارمة على المدى القصير. من المرتقب أن يُفْلِس عدد كبير من الشركات. وستفقد الطبقة الوسطى مرة أخرى بعض قدرتها المالية. ولن يمكن معرفة الآثار الضخمة للفيروس إلا عندما يتمكَّن الأفراد من العودة إلى العمل والخروج إلى الأسواق وإنفاق المال بحلول يوليو/تموز أو أغسطس/آب المقبلين. ويضع نموذج بلومبيرج إيكونوميكس (Bloomberg Economics) احتمالات الركود خلال العام المقبل عند نسبة 52 في المائة، وهي أعلى مستوى منذ عام 2009. ويقول جون نورمان (John Normand)، من شركة إدارة الأموال الضخمة جيه بي مورجان (JPMorgan): إن مؤشرات قيمة الأصول في الأسواق المالية تُنْذِر بحدوث ركود اقتصادي بنسبة 80 في المائة.

يبقى السؤال معلَّقًا حول مقدار الوقت الذي سيحتاجه العالم لاستعادة ثقة المستهلكين والشركات. هذه حقبة يغلب عليها الشك والغموض بامتياز. ويتوقَّع العديد من خبراء المالية أنه لن يمكن التغلب على تداعيات فيروس كورونا وتغيير مسار الاقتصاد في اتجاه النمو مجددًا إلا بحلول عام 2031. فقد أعلن محللو حركة الاقتصاد، في مؤسسة غولدمان ساكس (Goldman Sachs)، أن تداعيات الفيروس الجديد تدحض فرضية أن الاقتصاد الأميركي خالٍ من عناصر الركود كما كان شائعًا بحلول عام 2020. ويقول آلان بليندر (Alan Blinder)، نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق والأستاذ في جامعة برينستون الأميركية حاليًّا: “لن أتفاجأ إذا نظرنا إلى البيانات مرة أخرى، وهي تنذر بأن الركود بدأ فعليًّا في مارس/آذار. لن أتفاجأ من هذه الحقيقة على الإطلاق”. أما روبرت رايتش (Robert Reich)، أستاذ السياسات العامة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي ووزير العمل السابق في حكومة كلينتون، فيعتقد أن إجراءات الرئيس ترامب ستكون “غير مجدية”. ويجادل بالقول إنها “ستكون بطيئة للغاية في تحفيز الاقتصاد، ولن تصل إلى الأسر والمستهلكين الذين ينبغي أن يكونوا هم المستفيدون الحقيقيون من أي حزمة مساعدات مالية، بل ستكافئ الأغنياء الذين لا ينفقون الكثير من دولاراتهم الإضافية، دون وضع المال في أيدي الفقراء والطبقة الوسطى الذين هم من ينفقون فعلًا”(6).

لمواجهة الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة كمثال، تحتاج الحكومة الفيدرالية إلى رؤية براغماتية لتجنب الخسائر الاقتصادية بين الفئات الفقيرة والوسطى في السلم الاجتماعي والاقتصادي. ويدعو الأستاذ رايتش أعضاء الكونغرس الأميركي لسنِّ قانون يسمح بتخصيص ميزانية طارئة بمبلغ 400 مليار دولار على الفور. ويوصي أيضًا بإنفاق الأموال في المجالات الرئيسية: أ) اختبار وعلاج فيروس كورونا، ب) دفع الأجر عن الإجازة المرضية أو الإجازة العائلية هذا العام وتكون قابلة للتجديد للعام القادم إذا لزم الأمر. ج) التأمين الطبي الموسع والتأمين ضد البطالة، د) تسديد مبلغ بقيمة 1000 دولار لكل شخص بالغ و500 دولار لكل طفل مرة واحدة قابل للتجديد للعام المقبل إذا لزم الأمر.

وجادل خبراء اقتصاد آخرون بأن فيروس كورونا قد يكون “الأمر الأكثر إيجابية” الذي حدث بالنسبة للاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة. ويعتقد بيتر زيهان (Peter Zeihan)، مؤلِّف الكتاب الجديد “أمم غير متحدة: التدافع من أجل السلطة في عالم غير خاضع للحكم” (Disunited Nations: The Scramble for Power in an Ungoverned World)، أن الصين تمثِّل ورشة التصنيع العمل العالمية، وأنها من حيث القيمة المطلقة، تُعَدُّ أكبر مستفيد من هذا النظام الذي تقوده الولايات المتحدة. فقد نجحت سياسة اليابانيين والأوروبيين في تحويل الأراضي الصينية إلى مناطق نفوذ إمبراطورية، قبل أن ينهي الأميركيون تلك الاستراتيجية. وقد تطلبت براعة التصنيع في الصين اقتصادات الحجم الكبير لبلاد تحوَّلت جميعها إلى نظام حكومي واحد”(7).

لا ينبغي للمرء أن يركِّز على تداعيات الإغلاق الاقتصادي الشامل الذي فرضه انتشار الفيروس الجديد فقط، ولكن أيضًا على صلة الترابط بفعل التزامن مع الخلاف الروسي-السعودي على أسعار النفط وكمية إنتاجه وتصديره، وهو ما يمثِّل صبَّ البنزين على النار الملتهبة. في الأسبوع الأخير من شهر فبراير/شباط، اجتمع أعضاء منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، التي تضم خمس عشرة دولة من الدول المنتجة للنفط، في فيينا لمناقشة كيفية التعامل مع تأثير الوباء الذي أدى إلى انخفاض الطلب العالمي على النفط. تمَّت دعوة روسيا إلى الاجتماع على الرغم من أنها ليست عضوًا رسميًّا في المنظمة. لكنها قبل ثلاث سنوات، تعهدت بتنسيق مستويات إنتاجها مع الأعضاء الخمسة عشر في تحالف يعرف باسم “أوبك +”.

رويترز
وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان آل سعود ونظيره الروسي ألكسندر نوفاك في لقاء بين أعضاء أوبك وغيرهم في النمسا 6 ديسمبر/كانون الأول  2019  (رويترز)

هناك قضايا استراتيجية عالقة بين موسكو والرياض بشأن مدى التخفيض المعقول لإنتاج النفط. فقد اقترحت السعودية، باعتبارها زعيمة أوبك، على بقية الأعضاء بشكل جماعي تقليص إنتاجهم بحوالي مليون برميل يوميًّا. غير أن روسيا، التي حذَّرت من الخطة المقترحة، توقَّفت عند مستوى 500 ألف برميل في اليوم. ويتردد في بعض اللقاءات أن الكرملين يفضِّل إبقاء أسعار النفط عند مستوى منخفض، الأمر الذي “سيُلحق الضرر بصناعة النفط الصخري الأميركي أو يستعد للاستيلاء على شريحة أكبر من الطلب الآسيوي والعالمي على النفط لنفسه”. وتشرح إيما أشفورد (Emma Ashford)، الخبيرة في الدول النفطية في معهد كاتو (CATO) في واشنطن، أن “الروس أكثر قلقًا بشأن حصتهم في السوق ويعتقدون أنهم سيفضِّلون التنافس مع السعوديين بدلًا من التعاون معهم في هذه المرحلة”(8). ولم تثر استراتيجية روسيا ارتياح السعوديين الذين قرَّروا خفض صادراتهم النفطية بشكل أكبر في أوائل مارس/آذار، مما تسبب في شنِّ حرب أسعار مع روسيا. فانخفض سعر البرميل بنحو 11 دولارًا إلى 35 دولارًا للبرميل، وهو أكبر انخفاض في يوم واحد منذ عام 1991.

وفوق شتى التداعيات السلبية، يمثِّل فيروس كورونا فتحًا معرفيًّا في علم الأوبئة. فقد عرضت كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا دورة جديدة لتدريس فيروس كورونا وفيروسات البجعة السوداء الأخرى. ويكمن الهدف الأساسي من هذه الدورة التي تسمى “الأوبئة والكوارث الطبيعية والجغرافيا السياسية: إدارة الأعمال العالمية والغموض المالي” Epidemics, Natural Disasters and Geopolitics: Managing Global Business and Financial Uncertainty في تقديم “معرفة الخبراء حول كيفية التعامل مع هذه الأزمات للمستثمرين والعمال والمستهلكين والمدخرين، حتى يكونوا أكثر اطلاعًا بما يساعدهم في اتخاذ قرارات أفضل”، كما يوضح ماورو جويلين (Mauro Guillen)، أستاذ الإدارة الدولية، الذي يتولى تنسيق هذه الدورة الجامعية. وقد شهدت هذه الدورة نصف الفصلية، التي بدأت في 25 مارس/آذار، إقبالًا جيدًا عليها بعد أن سجل 450 طالبًا أنفسهم بالفعل، وهو عدد يساوي ما يقرب 5½ أضعاف حجم الأقسام الجامعية في كلية وارتون. 

في الوقت ذاته، بدأ بول كروغمن(Paul Krugman) ، أستاذ الاقتصاد والحائز على جائزة نوبل، سلسلة دروس بعنوان “الاقتصاد والمجتمع” ضمن سلسلة (MasterClass) عبر الإنترنت باشتراك مبدئي قدره 15 دولارًا. ويهدف إلى تعليم الأفراد المبادئ التي تشكِّل القضايا السياسية والاجتماعية، بما فيها الحصول على الرعاية الصحية، ومناقشة معدلات الضريبة، والعولمة، والاستقطاب السياسي. فهو يجادل بأن الاقتصاد ليس مجموعة من الإجابات، بل “طريقة لفهم العالم”.

غيتي
بول كروغمن الحائز على جائزة نوبل يستهل سلسلة دروس “الاقتصاد والمجتمع” عبر الإنترنت (غيتي)

تَسْيِيس فيروس كورونا في العلاقات الدولية

لا غرابة أن يتمَّ التلاعب بالأوبئة والجائحات سياسيًّا على مرِّ التاريخ. وكثيرًا ما ساهم في الترويج لدعوات رجال السياسة اليمينيين لضبط الحدود ومنع الهجرة. وعلى سبيل المثال، أقامت عائلة هابسبورغ (Habsburg) المالكة في الإمبراطورية النمساوية-المجرية في القرن الثامن عشر تطويقًا امتدَّ من الدانوب إلى البلقان، على شكل سلسلة من الحصون، كان من المفترض أنها ستوقف العدوى التي تدخل من الإمبراطورية العثمانية المجاورة. وشكلت تلك الحصون أيضًا حدودًا عسكرية واقتصادية ودينية، بل وخط ترسيم الحدود بين المسيحية والإسلام، وتم تسييرها من قبل الفلاحين المسلحين الذين وجَّهوا الأفراد المشتبه في إصابتهم إلى محطات الحجر التي بنيت على طول الحدود”(9).

ويردِّد الجدل السياسي الحالي في الولايات المتحدة وأوروبا حول فيروس كورونا صدى الانعزالية وسياسة الأبواب المغلقة. ويستغل الأميركيون ذوو العقلية الترمبية وأيضًا بعض الأوروبيين المتشكِّكين في الوحدة الأوروبية عامل الخوف من الوباء لفرض المزيد من الحواجز وأمن الحدود. وخلال جدلهم بشأن الهجرة والإرهاب، يجادل هؤلاء اليمينيون والشعبويون بأن فيروس كورونا يبرِّر مخاوف القلق بشأن الحاجة لحماية حدود بلادهم. ويتمُّ تصوير التهديد القادم من الفيروس على أنه “أجنبي، وأن الرد هو بناء الجدران ووقف الرحلات الجوية. ووفقًا لهذه السردية، تزيد العولمة في التسريع من نطاق التهديد”(10).

في فرنسا، دعت مارين لوبان (Marine Le Pen) زعيمة “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، المعروف سابقًا باسم “الجبهة الوطنية”، لإغلاق حدود فرنسا مع إيطاليا. وعقب اجتماعها مع رئيس الوزراء إدوارد فيليب، قالت للصحافيين: “إنني أطلب فرض السيطرة على حدودنا. أشعر وكأنني أسأل عن القمر، بينما ينبغي أن يكون إجراء الفحوصات في الواقع على حدود البلاد أول فعل من قبيل المنطق السليم”. وحذَّرت زميلتها أوريليا بكينيو (Aurélia Beigneux) من أن “التداول الحر للسلع وحركة الأشخاص وسياسات الهجرة والضوابط الضعيفة على الحدود تسمح بانتشار هذا النوع من الفيروسات”(11) وقد تكون المدن العالمية شديدة الارتباط بقوى الاقتصاد المتعاظمة، ولكنها تظل أيضًا نقاط ومرافئ دخول العدوى. ويقول البعض إن العيش في “مدن تربطها جسور جوية هو موقف تحسد عليه”(12). 

واتسمت الجولة الأولى من الانتخابات المحلية الفرنسية التي أجريت في 15 مارس/آذار بأجواء غريبة من شبه الإغلاق الكلي وتداعيات انتشار الوباء عالميًّا، مما أدى إلى امتناع قياسي عن التصويت من قبل الكثير من الناخبين. واشتكى دعاة القومية الآخرون من قادة أوروبا مثل رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان (Viktor Orban)، من أن أوروبا لا يمكن أن تفتح حدودًا داخلية إذا كانت حدودها الخارجية ضعيفة، مما يسمح لطالبي اللجوء بالدخول دون رادع. علاوة على ذلك، دعا لورينزو كوادري (Lorenzo Quadri)، من الجناح اليميني ليغا دي تيسينسي (Lega dei Ticinesi) في سويسرا، وهي ليست عضوًا في الاتحاد الأوروبي، إلى اتباع سياسة “الأبواب المغلقة”. وجادل قائلًا “من المثير للقلق أن عقيدة الحدود المفتوحة تعتبر أولوية على نطاق واسع”. ويبدو أنه زواج في الجنة بين السياسة اليمينية والخوف والتخويف من انتشار الوباء الجديد.

قد يؤدي صعود تيار القومية إلى إنهاء الوحدة المتوترة أصلًا داخل الاتحاد الأوروبي على نظام شنغن (Schengen) في حين لم يستقر الجدل بعد بين الأوروبيين حول “حكمة” خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي ظل المخاوف الراهنة، أقرَّت تسع دول، بما فيها ألمانيا وفرنسا، العمل بأحكام الطوارئ لإعادة بعض الضوابط في أوقات مختلفة(13). وتشير ماري دي سوم (Marie De Somer)، رئيسة برنامج الهجرة في مركز السياسة الأوروبية، وهو مركز أبحاث مقره بروكسل، إلى أن “نظام شنغن في حالة سيئة للغاية ومثيرة للمشاكل”، وأن استعادته لكامل وظائفه يتوقف على “تغيير قواعد اللجوء والهجرة داخل دول الكتلة”(14). في الوقت ذاته، تستفيد بعض الأنظمة الاستبدادية، مثل الصين، من تفشي بعض الأوبئة والجائحات. ويفاخر القادة الصينيون تاريخيًّا بقدرتهم “على التغلب على الوباء كعلامة على القوة. فقد عزَّز الرئيس شي جين بينغ صلاحياته وقوته، مما قد يجعله هدفًا أكثر عرضة للوم جماعي من شعب غاضب وخائف إذا فشلت التجربة. ولعل هذا هو السبب في تراجعه عن أعين الجمهور مؤخرًا، مما سمح لضباطه بإدارة الوضع الراهن”(15). 

ويلاحظ المرء كيف أن تغطية فيروس كورونا في وسائل الإعلام العالمية قد وضعت الصين في موقف الصنديد الذي يفاخر بسردية مكافحة انتشار الوباء ويعزز سعيه نحو زعامة العالم. فقد سعت بكين للحصول على اهتمام العالم بشأن “نجاحها” في مقاومة انتشار الفيروس من خلال القيام بتقديم المساعدة لإيطاليا وإسبانيا، والاستفادة من عدم كفاية استراتيجية الولايات المتحدة في التعامل معه وسط تركيز السياسة الأميركية على الداخل. كما حاولت بيجين إعادة صياغة السردية منذ أن تم تفسير تفشي المرض على أنه كارثة دعائية ضد الحكومة. وكانت الصين تخشى أن يُطلق على انتشار فيروس كورونا لديها اسم “تشيرنوبيل” الصين، مما قد يقوِّض قيادة الحزب الشيوعي في نهاية المطاف. وأشارت التقارير إلى أن الدكتور لي وينليانغ (Li Wenliang)، وهو المخبر الشاب الذي أطلق صفارة الإنذار قبل أن تسكته الحكومة، والذي استسلم لاحقًا لمضاعفات الفيروس، أصبح يُشَبَّه بـ”رجل الدبابة” الذي وقف في تحّ للسلطات في ميدان تيانانمن عام 1989(16). 

وبحلول منتصف مارس/آذار، لوَّحت الصين بتحقيق النصر على انتشار الوباء. وأعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية في بيجين تشاو ليجيان (Zhao Lijian) أن “وقف زحف الوباء يعزى إلى المحاجر الجماعية، ووقف السفر والإغلاق الكامل لمعظم مجالات الحياة اليومية في جميع أنحاء البلاد”، وأن “قوة الصين وكفاءتها وسرعتها في هذه المعركة تحظى بتقدير كبير”(17). وذكرت إحدى مقالات الرأي التي نشرتها وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا) التي تديرها الدولة، أن الصين تبنَّت “الإجراءات الوقائية الأكثر شمولًا والأكثر صرامة ووقائية” لمكافحة الوباء. وبنبرة البهجة الوطنية، لوَّحت صحيفة الشعب اليومية بأن بإمكان الصين أن “تجمع بين الخيال والشجاعة اللازمين للتعامل مع الفيروس، بينما تتعثر الولايات المتحدة في ذلك”. كما استغل المسؤولون الصينيون الضغوط التي خلفها انتشار الوباء على الأوروبيين والأميركيين لتذكير الجمهور العالمي بشكل مطرد بتفوق الجهود الصينية وانتقاد “عدم المسؤولية وعدم الكفاءة” لـدى من تسمى “النخبة السياسية في واشنطن”، كما جاء في افتتاحية نشرتها وكالة أنباء شينخوا الرسمية(18).

رويترز
عمال النظافة يركبون دراجات بخارية ذاتية التوازن للتحكم في رشاش للتطهير في مجمع سكني في ووهان يوم 3 مارس/آذار (رويترز)

أعرب نيكولاس كريستاكيس (Nicholas Christakis)، الأستاذ في جامعة ييل Yale الأميركية، عن انطباع واسع النطاق يمتدح الصين على “الإنجاز المذهل من وجهة نظر الصحة العامة”(19). وأشادت منظمة الصحة العالمية أيضًا بنهج الصين في السيطرة على انتشار فيروس كورونا، مما يجسد ترويجًا مغاليًا للدبلوماسية العامة والقوة الناعمة الصينية. وقد أرسلت بيجين إمدادات طبية إلى إسبانيا وإيطاليا اللتين تضررتا بشدة، وقدمت المشورة إلى حكومات إسبانيا والعراق وإيران ودول أخرى. ووصف المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس غيبريسوس، التعاون الصيني الإيطالي بأنه “مثال مثلج للصدر على أواصر التضامن”. وردَّ تشانغ جون (Zhang Jun)، سفير الصين لدى الأمم المتحدة، بقوله “الصديق المحتاج هو الصديق بالفعل. سنفعل كل ما في وسعنا لمساعدة البلدان الأخرى على محاربة الفيروس”. لقد نجح المسؤولون الصينيون في تحويل فيروس كورونا “محلي الصنع” على ما يبدو إلى فرصة ضخمة عالمية للترويج والدبلوماسية العامة. باختصار، تتفوق الصين عام 2020 على القوة الناعمة للولايات المتحدة في أوروبا، والتي أعيد بناؤها بفضل “خطة مارشال” التي صممتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. واليوم تمرُّ بكين بلحظة تاريخية وكأنها رائدة عالمية في مجال الصحة العامة، وعلى استعداد لتولي أدوار أخرى في زعامة العالم.

النيوليبرالية المُحرَجة في لحظة الحقيقة!

مع انتشار الآثار الصحية والاقتصادية بسبب تفشي وباء كورونا عبر أرجاء العالم، تنزلق الإنسانية إلى أسفل عام 2020. ويتحوَّل الشعار الشهير لآدم سميث “دعه يمر، دعه يعمل” (Laissez passer, Laissez faire) إلى شعار مأساوي “ابقى في بيتك، ومُتْ في بيتك”  (rester chez sois, mourir chez soi). فقد ظلت فرص الأميركيين مثلًا في إمكانية فحص أجسادهم بشأن أعراض الفيروس ضئيلة جدًّا لأسابيع ولاتزال كذلك مع اتساع نطاق الإصابات. وذكرت شبكة “سي إن إن” (CNN) أن العديد من الأميركيين الذين يعانون أعراض مرتبطة بالفيروس قالوا إنهم غاضبون ومحبطون بسبب إبعادهم عن المستشفيات والمراكز الصحية أثناء محاولتهم إجراء الاختبار. ويختزل حاكم ولاية ماريلاند، لاري هوجان (Larry Hogan)، التحدي على المستوييْن المحلي والفيدرالي. ويقر بأنه “ليس لدينا ما يكفي من وحدات الاختبار وليس لدى أي ولاية أخرى ولا الحكومة الفيدرالية إجابة مفيدة. نحن متخلِّفون عن ركب انتشار الوباء، وستستمر هذه المشكلة”. 

لقد أخذ نظام الصحة العامة منحدرًا بئيسًا في الولايات المتحدة. ويؤكد آدم جافني (Adam Gaffney)، من كلية الطب بجامعة هارفارد ورئيس منظمة “الأطباء من أجل برنامج وطني للصحة”، أن “هذا ليس نظام رعاية صحية، إنه فوضى مزرية. مرة أخرى، هناك أنساق متباعدة وغير متجانسة حسب الطريقة التي ندفع بموجبها أقساط الرعاية الصحية، فضلًا عن المنظومات المختلفة لإدارة مستشفياتنا: بعضها غني وبعضها فقير، كل منها يعيل نفسه، ومنغلقة على ذواتها بسبب الانحسار في نظام منافسة السوق”(20). في أوروبا، سجلت إيطاليا أعلى معدل للوفيات وكان العديد من الضحايا من بين الأشخاص في الثمانينات والتسعينات. ووفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، يوجد في إيطاليا أكبر عدد من المسنِّين في أوروبا بحوالي 23 في المائة من السكان في سن الخامسة والستين أو أكبر، في حين أن متوسط العمر في القارة يبلغ 47.3، مقارنة مع نسبة 38.3 في الولايات المتحدة.

غيتي
شهدت إيطاليا أكبر زيادة يومية في الوفيات جراء الإصابة بفيروس كورونا يوم 18 مارس/آذار (غيتي)

بين دونالد ترامب أواخر العشرينات من القرن الجديد ومارغريت تاتشر ورونالد ريغان في الثمانينات من القرن الماضي، يمكن للمرء أن يتصوَّر تحوُّل النيوليبرالية كدعوة براقة لتحرير القيود، أو إلغاء القوانين التنظيمية، أو التحرُّر، أو توسيع القطاع الخاص، أو التقشف المالي. لقد استمدت النيوليبرالية من عدة مفاهيم يفترض أنها ترتكز على المفهوم الكلاسيكي: (homo economicus) أو الإنسان الاقتصادي، وهو الإنسان العقلاني تمامًا الموجود في العديد من النظريات الاقتصادية، والذي يسعى دائمًا لمصلحته الذاتية. كان المصطلح الأصلي رائجًا إلى حد ما بصيغته الفرنسية (néo-libéralisme)، ظهر عام 1898 في أعمال المنظر الفرنسي شارل غيد (Charles Gide) لوصف الأفكار الاقتصادية التي خطها الإيطالي (Maffeo Pantaleoni). 

اكتسبت “النيوليبرالية” كمفهوم اقتصادي متطور زخمًا في ندوة دولية عُرفت باسم “ملتقى والتر ليبمان”(Colloque Walter Lippmann)، دعا إليها الفيلسوف الفرنسي لويس روجير (Louis Rougier) في باريس عام 1938. وكان ليبمان صحفيًّا أميركيًّا نشر كتابًا جيد الانتشار بعنوان “تحقيق في مبادئ المجتمع الصالح” (An Enquiry into the Principles of the Good Society) عام 1937. وكان الهدف من الندوة هو بناء نظرية ليبرالية جديدة كرفض للمنحى الجماعي أو الاشتراكي. وتوصَّل المشاركون إلى تعريف “النيوليبرالية”، أو “الليبرالية الجديدة”، وقتها بأنها تنطوي على أولوية “آلية تحديد السعر، والمشاريع الحرة، ونظام المنافسة، ودولة قوية ومحايدة”(21).

في سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، استخدم المنظِّر الليبرالي الكلاسيكي ميلتون فريدمان (Milton Friedman) المصطلح في مقاله المنشور عام 1951 بعنوان “الليبرالية الجديدة وآفاقها”(Neo-Liberalism and its Prospects) (22)؛ فرفض ما اعتبره عندئذ “إيمانًا واسع النطاق، وإن كان ساذجًا، بين الطبقات المثقفة بأن التأميم سيحلُّ محلَّ الإنتاج من أجل الربح بمقولة الإنتاج من أجل الاستخدام”. كما اعترض على ما اعتبره تراجعًا للمنحى الجماعي، في إشارة ضمنية إلى الاشتراكية والأشكال الأخرى للديمقراطية الاجتماعية. وقال: “من المرجح أن يثبت أن المنحى الجماعي أكثر صعوبة في عكس التيار أو تغييره بشكل أساسي مقارنة مع نظرية عدم التدخل، خاصة إذا كانت تذهب إلى حد يقوض أساسيات الديمقراطية السياسية. ومن المؤكد أن هذا الاتجاه، الذي سيكون موجودًا على أي حال، سيزداد تسارعه بسبب الحرب الباردة، ناهيك عن البديل الأكثر رعبًا وهو حرب واسعة النطاق. لكن إذا كان يمكن تجاوز هذه العقبات، فإن الليبرالية الجديدة تقدِّم أملًا حقيقيًّا بمستقبل أفضل، وهو أمل يمثِّل بالفعل تيارًا تتقاطع حوله الآراء وهو قادر على إثارة حماس الرجال ذوي النوايا الحسنة في كل مكان، وبالتالي يصبح التيار الرئيسي للرأي العام”(23).

Hoover Institution Archives
لقاء ميلتون فريدمان مع الرئيس جورج بوش الابن ومستشاريه (Hoover Institution Archives)

في الثمانينات، قام الثنائي السياسي الشهير، تاتشر وريجان، بأداء رقصة النيوليبرالية بشكل جيد. فخلال تولِّيها رئاسة الوزراء بشكل صارم مدة 11 عامًا في لندن، عملت تاتشر على إدخال تحوُّل عميق على المجتمع البريطاني، فكانت القوة الدافعة وراء إدخال محرك ليبرالي جديد في السياسات العامة. وخلَّفت وراءها بريطانيا “مكانًا مختلفًا بشكل ملحوظ”(24). فقد ازدهرت النيوليبرالية البريطانية “من خلال برنامج نيوليبرالي يقضي بمنح تخفيضات ضريبية ضخمة للأغنياء، وسحق النقابات العمالية في نهاية المطاف، وخصخصة واسعة النطاق لمجالات الإسكان والاتصالات والصلب والغاز، ورفع القيود المالية، وإدخال المنافسة في تقديم الخدمات العامة”(25). وعبر المحيط الأطلسي، كانت لدى حكومة ريغان لحظتها الذهبية في التهام قوة النقابات وخفض الإنفاق العام. وساعد الأسلوب الخطابي لريغان على إقناع الأميركيين بشعاره في تلك المرحلة: “إن أهم سبب لمشاكلنا الاقتصادية هو الحكومة ذاتها”.

في مقالة مهمة ظهرت عام 1982 بعنوان “بيان ليبرالي جديد” (A Neo-Liberal’s Manifesto)، استعرض تشارلز بيترز (Charles Peters)، رئيس تحرير صحيفة “ذو واشنطن مانثلي” (The Washington Monthly)، كيف سعى النيوليبراليون للدفاع عن التحرُّر المالي وتشجيع المشاريع الفردية على أنهما “فضيلة”. وكتب يقول “إذا كان المحافظون الجدد ليبراليين قد ألقوا نظرة نقدية لليبرالية، وقرَّروا أن يصبحوا محافظين، فنحن ليبراليون أخذوا نفس المظهر وقرَّرنا الاحتفاظ بأهدافنا، ولكن نتخلى عن بعض أحكامنا المسبقة … مخاوفنا الأساسية هي المجتمع والديمقراطية والازدهار، ومن بينها النمو الاقتصادي الذي نعتبره الأكثر أهمية الآن، لأنه ضروري لكل شيء آخر نريد تحقيقه تقريبًا”(26). ومع ذلك، فإن أي اتجاه للفلسفة النيوليبرالية يدعو إلى ما يعتبرونه “حكمة” أربع ركائز معينة، وهي “الخصخصة”، و”إلغاء القيود”، و”الأسواق الحرة”، و”النزعة الفردية”، باعتبارها بناءًا مضادًّا لحماية مصالح المجموعة أو المنحى الجماعي أو الاشتراكي. وعلى مدى العقود التالية، لم يتم تبنِّي النيوليبرالية من قبل المحافظين أو الجمهوريين في الغرب فحسب، بل وأيضًا بين العمال في بريطانيا والديمقراطيين في الولايات المتحدة بمن فيهم بيل كلينتون. ويقول جوزيف ستيجليتز (Joseph Stiglitz)، أستاذ الاقتصاد والحائز على جائزة نوبل، إنه لا ينبغي أن تؤدي الرأسمالية إلى عدم المساواة، بل إن عدم المساواة هي نتيجة الخيارات التي تتخذها الدول الرأسمالية.

في أواخر التسعينات، ارتبط مصطلح “الليبرالية الجديدة” بتطورين جديدين: إلغاء القيود المالية مما سيساهم لاحقا في الانهيار المالي عام 2008 وفي أزمة اليورو التي لا تزال مستمرّة. والثاني هو العولمة الاقتصادية التي عجلت بصنف أكثر طموحًا من الاتفاقات التجارية في عالم التدفقات المالية الحرة. وأصبحت قوة المال والعولمة أكثر مظاهر النيوليبرالية تجليًّا في عالم اليوم(27). ويشدِّد ديفيد هارفي (David Harvey)، المتخصص في دراسة النيوليبرالية، على أنها “مشروع سياسي” أطلقته طبقة الشركات الرأسمالية بهدف “الحد من قوة العمل”.(28). ويتذكَّر كيف أن صعود الحركات الاجتماعية، والدعوة لحماية المستهلك، والمبادرات الإصلاحية الأخرى شكلت تهديدًا لمصالح الطبقة السائدة. ويلاحظ أنها “لم تكن على دراية كاملة، لكنها أدركت أن هناك عددًا من الجبهات التي كان عليها أن تناضل عليها: الجبهة الأيديولوجية، والجبهة السياسية، وقبل كل شيء كان عليها أن تكافح من أجل كبح قوة العمل بأي وسيلة ممكنة”. هكذا ظهر مشروع سياسي أسمِّيه “النيوليبرالية “(29). ويعتقد هارفي اعتقادًا راسخًا أن المشروع السياسي النيوليبرالي لم يكن “هجومًا أيديولوجيًّا” فحسب، بل وأيضًا “هجومًا اقتصاديًّا وضعته البرجوازية أو الطبقة الرأسمالية التجارية موضع التنفيذ تدريجيا”(30). 

ويجادل متشككون آخرون من دعاة الواقعية الجديدة أن السياسات العامة التي اتبعها الرئيسان أوباما وكلينتون وأمثالهم في العالم، وتغاضيهم عن معاناة المواطنين الضعفاء، ساعدت في انتخاب دونالد ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني 2016. ويقول كورنيل ويست  (Cornell West)”نحن نُعِدُّ أنفسنا لمستقبل مخيف. فقد انتهى العصر النيوليبرالي في الولايات المتحدة بانفجار الفاشية الجديدة. وأدى الانتصار السياسي لدونالد ترامب إلى تحطيم المؤسسات في الحزبين الديمقراطي والجمهوري المرتبطين كلاهما بحكم قوة المال وحكم رجال السياسية المتسلِّلين إلى السلطة”(31). ويعتقد ويست أيضًا أن حقبة أوباما كانت آخر نفس للنيوليبرالية. ويجادل بأنه “على الرغم من بعض الخطابات التقدمية والإيماءات الرمزية، اختار أوباما تجاهل جرائم وول ستريت، ورفض خطة الإنقاذ لأصحاب المنازل الذين خسروها لصالح البنوك، والإشراف على عدم المساواة المتزايدة وتسهيل جرائم الحرب، مثل قتل المدنيين الأبرياء خارج البلاد بواسطة طائرات أميركية دون طيار”(32).

من منظور قد يبدو “معياريًّا”، تدعي النيوليبرالية مبادئ تشجيع الشركات الحرة، وتكافؤ الفرص في السوق، والازدهار المحتمل كقانون “طبيعي” للسوق. وقد طوَّرت ذاتها إلى حد ما بعد الحداثة اليمينية. ويتذكَّر جون هورغان (John Horgan)، مؤلف كتاب “نهاية العلم” (The End of Science)، عندما كانت ما بعد الحداثة تحظى بشعبية بين اليسار ودعاة الثقافة المضادة اليسارية، والذين ربطوا العلم بالرأسمالية والعَسْكَرَة وغيرها من الأمور السيئة في الستينيات والسبعينيات. ولكن، “على مدى العقود القليلة الماضية، أصبحت ما بعد الحداثة المتطرفة، وخاصة فكرة أن جميع الادعاءات تعكس مصالح المدعي، أكثر شعبية بين أولئك من أنصار اليمين”(33).

غيتي
رئيسة الوزراء البريطانية، مارغريت تاتشر، والرئيس الأميركي، رونالد ريغان، في البيت الأبيض (غيتي)

شقَّت السياسات العامة النيوليبرالية طريقها في لندن وواشنطن وعواصم أخرى في العالم. وانتشرت من خلال الانقسام الأيديولوجي بين اليمين واليسار، وكذلك عبر التكتلات الحزبية في مجلس العموم والكونغرس. وحتى الأحزاب اليسارية اسميًّا، مثل حزب العمال البريطاني والحزب الديمقراطي في أميركا، انتهى بها المطاف إلى الاستسلام في نهاية المطاف لممارساتها واستيعاب مبادئها الأساسية(34). ووجدت الأيديولوجية النيوليبرالية الترحيب أيضًا لدى العديد من المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وفرضت نفسها على نطاق غير مسبوق من الحكومات والمؤسسات في جميع أنحاء العالم. فأخذت معظم الدول النامية زمام المبادرة منها في تنفيذ ما توصي به من إصلاحات بنيوية. ويتذكر ديفيد هارفي مثلًا خلال أزمة الديون في المكسيك عام 1982، على سبيل المثال، عندما قال صندوق النقد الدولي: “سوف ننقذكم”. وفي الواقع، ما كانوا يفعلونه هو “إنقاذ البنوك الاستثمارية في نيويورك وتنفيذ سياسة التقشف”. وتم تنفيذ سيناريو مماثل في مواجهة أزمة اليونان الأخيرة. وفي نهاية المطاف، تبيَّن أنهم “أنقذوا البنوك ودفعوا المواطنين مرغمين إلى التسديد من خلال اتباع سياسة التقشف”(35). 

في المغرب، أحد المنفِّذين الجادِّين لتوصيات صندوق النقد الدولي بشأن الإصلاحات النيوليبرالية المعروفة باسم “برنامج التقويم البنيوي” منذ أوائل الثمانينيات. وقرَّر المسؤولون في الرباط “التخلي عن دعم الخدمات العامة، مثل التعليم والصحة، ونقل عدد من المرافق والمؤسسات العامة إلى ملكية القطاع الخاص، والتحوُّل نحو اقتصاد موجَّه نحو التصدير لاسيما في الزراعة، وفتح السوق المغربي أمام المنتجات الأجنبية، وخفض الدعم للمنتجات الأساسية، مثل القمح والسكر والزيت، وحتى إلغاء دعم البنزين. وقد تعمَّقت هذه الاتجاهات الاقتصادية من خلال اتفاقيات التجارة “الحرة” التي وقعها المغرب في منتصف التسعينات”(36). بعد عقدين من الزمن، برزت تناقضات صارخة في ظهور مغربيْن اثنيْن منشطريْن، وأثارت موجة متواترة من الاحتجاجات الممتدة: “مغرب المشاريع الضخمة: ميناء طنجة المتوسط، والطرق السريعة والقطارات عالية السرعة، والسيارات الفاخرة، والفيلات، والقصور، والمنتجعات السياحية ذات حمامات السباحة الكبيرة وملاعب الغولف الواسعة. أما المغرب الآخر فيجد نفسه في مرتبة متأخرة للغاية في مؤشر التنمية البشرية، تتأرجح بين 126 و130 من أصل 188 دولة خلال السنوات الأخيرة”(37).

أدت هذه السياسات النيوليبرالية أيضًا إلى تفاوتات كبيرة والشعور بالقنط الاجتماعي بين جلِّ المغاربة، مما يتقاطع مع سياسة شمولية ينهجها المخزن كشبكة تشمل كبار المسؤولين والضباط العسكريين وملاك الأراضي والموظفين الإداريين وغيرهم من المقرَّبين من حاشية الملك. وهي شبكة هيمنت على اتخاذ “جميع القرارات الاقتصادية والسياسية تقريبًا في البلاد وسط تبني النيوليبرالية الاقتصادية، من خلال وجود قوى مسيطرة تمدِّد استعمارًا جديدًا، والخصخصة، والتنمية الموجهة نحو التصدير، وأخيرًا تغيِّر المناخ، وخاصة الأحداث المتطرفة مثل الجفاف والفيضانات”(38).

والآن، قد يؤدي تأثير مضاعفات فيروس كورونا وتعثرات السياسات النيوليبرالية إلى تقويض صلاحية اللجنة الخاصة بصياغة النموذج التنموي (la Commission Spéciale sur Le Modèle de Développement (CSMD))، التي أنشأها المغرب أواخر عام 2019 بهدف التشاور مع مختلف الأحزاب والجهات الاجتماعية الفاعلة في البلاد. ويبدو أن اختيار أعضاء هذه اللجنة كان بقرار ثلاث شخصيات ثقيلة الوزن السياسي: فؤاد علي الهمة مستشار الملك، وحفيظ العلمي وزير التجارة، ومصطفى التراب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للمكتب الشريف للفوسفاط الذي تملكه الدولة. ومن المرتقب أن تقدم اللجنة تقريرًا بحلول نهاية يونيو/حزيران 2020 لتحديد تحديات النمو وتصميم سياسات من شأنها أن تضمن توزيعًا أفضل للثروة عبر مناطق المغرب ومختلف الطبقات الاجتماعية. لكن من المرجح أن يستند التقرير الجديد على فلسلفة السياسة الاقتصادية النيوليبرالية ذاتها. 

رويترز
المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، تتحدث خلال مؤتمر صحفي في الرباط، 20 فبراير/شباط 2020، المغرب (رويترز)

قد تلوِّح النيوليبرالية العالمية ببريق البراغماتية إلى أن “تبدأ الأسلحة النووية في الطيران أو يجتاح فيروس ما. بيد أن نظر المواطنين المحتاجين للرعاية الصحية في خياراتهم في السوق يتبع منطقًا ضيقًا يصل إلى النقطة التي لا يكون فيها أي من الخيارات ذات صلة بحالات الطوارئ الصحية العامة … كانت الفرضية الأساسية للنيوليبرالية دائمًا مراوغة بشكل ساخر للسماح للأغنياء بمواصلة نهبهم”(39). وعلى سبيل المثال، استفادت حكومة ترامب من الادِّعاء بمزيج من سياسة تدخل الحكومة في الاقتصاد في مقام وسياسة رفع اليد في مقام آخر. وتلاحظ ليلي روبرتس (Lily Roberts)، مديرة برنامج الحراك الاقتصادي، وأندي غرين ،(Andy Green) المدير الإداري لبرنامج السياسة الاقتصادية في مركز التقدم الأميركي، أن “السياسة الاقتصادية التي يتبعها ترامب تواصل الضغط على الأميركيين الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم المعيشية. ومع استمرار ارتفاع تكاليف الإيجار، ورعاية الأطفال، والرعاية الصحية، والتعليم ما بعد الثانوي، بشكل أسرع من نمو الأجور، وانخفاض الأرباح واستمرار الأجور وثغرات الثروة، توضح أنه بالنسبة للعديد من الأميركيين يقلِّص قدرتهم على الادخار لسنوات التقاعد أو إرسال أبنائهم إلى كليات لا يستطيعون تسديد تكاليف الدراسة فيها”(40).

هناك نتيجة أكبر لتفوُّق هذه الأيديولوجية النيوليبرالية، والسؤال هو كيف استطاعت أن تقلِّص سلطةَ الدولة، بل انتقلت السلطة عمدًا إلى أيدي “الشركات العابرة للحدود الوطنية والتي لا تخضع للمساءلة. ويتم الاستعانة بمصادر خارجية للخدمات فيما أصبحت قوى السوق هي سيدة الموقف. وانطوى هذا التحوُّل على مخاطر بسبب تضاءل قدرة الحكومة على الاستجابة لاحتياجات ناخبيها. وأدَّى هذا التحوُّل أيضًا إلى عدم تمكين عدة فئات من تسلُّق السلم الاجتماعي، وهو شعور انتاب نفوس المواطنين لاحقًا بعدما وجدوا أنفسهم في العديد من الحالات يعانون الحرمان من الحقوق”(41). مرة أخرى، تستعد الشركات الكبرى الأميركية وحليفاتها من الشركات متعددة الجنسيات لكسب الغنيمة من العائدات المالية المرتقبة بعد التوصل إلى صنع لقاح ضد فيروس كورونا.

غيتي
الرئيس ترامب ووزير الصحة والخدمات الإنسانية، أليكس عازار، في البيت الأبيض (غيتي)

خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض، بدا وزير الصحة والخدمات الإنسانية الأميركي، أليكس عازار (Alex Azar)، الذي كان يعمل في مجال الضغط لصالح شركات صناعة الأدوية ومديرًا لشركة أدوية في السابق، مرتاحًا لاتباع نظام يضع أرباح الشركات أولًا قبل الصحة العامة. وقال: “بصراحة، هذا الوباء يحظى باهتمام عالمي في الوقت الحالي، ويسعى اللاعبون في القطاع الخاص واللاعبون الرئيسيون في مجال الأدوية كما سمعتم لإيجاد لقاح جديد. ونعتقد أن هذا الوباء ليس مثل منهجنا الطبيعي في اقتناء ما يصدُّ الإرهاب البيولوجي، حيث قد تكون الحكومة هي المشتري الوحيد لعلاج الجدري على سبيل المثال. نعتقد أن السوق هنا سيرتب الأمور بالفعل من حيث الطلب والشراء والتخزين وما إلى ذلك. لكننا سنعمل على ذلك للتأكد من أننا قادرون على التعجيل بوصول اللقاحات وكذلك البحث والتطوير العلاجي”(42).

يبدو أن المسؤولين ذوي العقلية النيوليبرالية يلعبون مسبقًا بطاقة الضغط أو اللوبي لصالح شركات الأدوية والمختبرات المهيمنة. ويبدو أن الوزير عازار عاد إلى فصول المجلد الأصلي للنيوليبرالية، وهو يزعم أن “السوق ستقوم بالفعل بتنظيم الفوضى”. نعم، السوق المقدسة هي المنقذ! يحاول هؤلاء السياسيون اليمينيون فرض ما أصبح تشخيصًا غير منطقي للمعضلة، وتمهيد الطريق مرة أخرى لشركات الأدوية لتحقيق أرباح هائلة في الأشهر والسنوات المقبلة. في لحظة تأمل حزينة، يلاحظ الطبيب وأستاذ الصحة العامة في هوائي، سييجي يامادا (Seiji Yamada)، كيف يكشف فيروس كورونا نقاط الضعف التي وضعها البشر لأنفسهم “عن طريق تشبِّعهم بالنظام النيوليبرالي”(43).

فيروس كورونا… والبشر… والنظام

على مرِّ التاريخ، كانت الديمقراطية غير مفيدة في حقب انتشار الجائحات. وعلى غرار حالات انتشار الأوبئة السابقة، يتسبب فيروس كورونا في اضطراب كبير في الحياة العامة في جميع أنحاء العالم. ويؤكد فرانك سنودن (Frank Snowden)، الأستاذ الفخري لتاريخ الطب في جامعة ييل الأميركية، أنه “ليس هناك مجال رئيسي من حياة الإنسان لم يتأثر بشكل عميق بانتشار الأوبئة؛ إذ أن لها آثارًا هائلة على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. لقد حددت مآل الحروب، ومن المحتمل أيضًا أنها كانت من العوامل التي أدت إلى اندلاع الحروب في بعض الأحيان “(44). خلال العقدين الماضيين، تعرَّض البشر لموجات سريعة ومكثفة من الأوبئة والجائحات مثل سارز، وميرس، وإيبولا، وأنفلونزا الخنازير، والآن فيروس كورونا. إنها طريقة مروِّعة لإعادة صياغة “كيف نفكر في تاريخ البشرية، ليس كتسلسل العصور والعهود، ولكن من نذير حشرجة الموت المروعة والانهيارات المجتمعية”(45). يقول كورت كامبل (Kurt Campbell)، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق لشؤون آسيا والمحيط الهادئ، وتوماس ورايت (Thomas Wright)، الباحث في معهد بروكنجز، “لقد نما العالم خلال العقد الماضي أكثر استبدادية، وقومية، وكراهية للأجانب، وأحادية المنحى، ومعاداة للمؤسسة، ومناهضة لأهل المعرفة والخبرة. وتؤدي الحالة الراهنة للسياسة والجغرافيا السياسية إلى تفاقم الأزمة، وليس إلى استقرارها”(46).

وخلال العقود الثلاثة الماضية، كان للنظام النيوليبرالي كلمته في توجيه السياسات العامة في الدول، ولم يكن أمام العمال اليائسين أي خيار سوى “العمل لفترة أطول وأصعب، والوفاة في سن مبكر”(47). وإذا استمر الوباء الجديد حتى أوائل صيف 2020، فلن يتمكن العمال من تغطية نفقاتهم المعيشية، وقد لا يحصلون على فرص مواتية للتعويض عما خسروه من مصدر دخل. سيضطر عدد كبير من الشركات الصغيرة إلى إعلان الإفلاس. وسواء في الغرب أو في الدول النامية، تقلص دور الدولة إلى مجرد وكالة لتنظيم الخوف ومنع التجمعات العامة. وأصبحت منظمة الصحة العالمية مؤسسة عالمية لا تقدِّم بحكم الواقع سوى إحصاءات عن حالات الإصابة والوفيات ونطاق انتشار فيروس كورونا. ومع ذلك، فإن مثل هذه الأوبئة والجائحات تكشف عما “يهمُّ حقًّا المواطنين، وما هو على المحك، ولاسيما مَنْ وماذا تُقدِّر هذه المجتمعات”.(48) لم يعد بمقدور معظم المنظمات الدولية أكثر من القيام بتدبير العلاقات العامة. وبحلول منتصف مارس/آذار، اتفقت غرفة التجارة الدولية (ICC) ومنظمة الصحة العالمية (WHO) على التعاون لضمان وصول أحدث المعلومات وأكثرها موثوقية وكذلك التوجيهات المصممة خصيصًا لمجتمع الأعمال العالمي. وتعهَّدت الغرفة التجارية الدولية “بإرسال نصائح محيَّنة بانتظام إلى شبكتها التي تضم أكثر من 45 مليون شركة حتى تتمكن الشركات في كل مكان من اتخاذ إجراءات مستنيرة وفعالة لحماية عمالها وزبائنها والمجتمعات المحلية، وتساهم في إنتاج الإمدادات الأساسية وتوزيعها”(49).

يمكن أن يكون صراع الدول مع فيرس كورونا حاليًّا لحظة انعكاس في مسار العالم ومرحلة مفصلية في التاريخ الحديث. وثمة أكثر من سؤال: هل لدينا شبكة أمان في مجال الصحة العامة؟ كيف يتعامل الفقراء مع انتشار فيروس كورونا؟ هل لدينا استراتيجية للردع الوبائي بعدما بذلت القوى العظمى قصارى جهودها لتطوير قدراتها على الرَّدع النووي منذ الحرب العالمية الثانية؟ ومع احتدام المعركة ضد الوباء الجديد، أصبح الأمريكيون أيضًا بمثابة أضرار جانبية. وكما ذكرت بعض التقارير، فإن حكومة ترامب “غير مستعدة بشكل خاص لمثل هذه المهمة. ولا يقتصر الأمر على عدم ثقتهم بتحذيرات النخبة بفضل عقود كرست هجمات المحافظين على المؤسسة الفكرية الأميركية فحسب، بل وأيضًا فإن الرئيس ترامب كان شخصيًّا غير راغب في تصديق أن أخبار كورونا قد تدمر مستقبله السياسي، فأحاط نفسه بطاقم خائف للغاية أو غير كفؤ للغاية لإقناعه بطريقة أخرى. لقد تجاهلوا نصيحة خبراء الصحة العامة الذين حذَّروهم من تكثيف الاختبارات، وتجاهلوا تحذيرات الأطباء العاملين في الديوان من أن الأمور ستسوء، وفشلوا أيضًا في إبلاغ الأميركيين أن الحفاظ على مسافة معينة بين الذات والآخر كان ضروريًّا قبل فوات الأوان”(50).

يُبدي مؤرخو الأوبئة الاستغراب من مفارقة مثيرة تكمن في أنه “كلما أصبح البشر متحضِّرًا مع وجود مدن أكبر وطرق تجارية أسرع، وتقنيات التواصل بين مجموعات مختلفة، ونظم بيئية، كلما تفجَّرت أوبئة أكثر”(51). وبإغلاق للمجتمعات بالكامل في جميع أنحاء العالم، يدحض فيروس كورونا فرضية السياسات النيوليبرالية، ويدعو إلى تفكيك وإزالة الغموض عن أي أيديولوجية نيوليبرالية عندما تتنكَّر كعلم اقتصادي. في مقاله “الطاعون النيوليبرالي” (The Neoliberal Plague)، يلاحظ بوب يوري (Bob Uri) أن الوحشية الجاهلة لهذا النظام تبدو في طريقها إلى “الكشف عن حقيقتها من خلال انتشار فيروس صغير”(52). وتلوح في الأفق أسئلة أخرى ذات صلة: ما الذي يجب أن يأتي في المقام الأول: المجتمع أم الاقتصاد، الصحة العامة أم الربح، رفاهية المواطنين أم البلوتوقراطية (حكم الأثرياء)؟ هل حان الوقت لتغيير نموذجي في السياسات العامة؟ وما نوع الرؤية أو النسق النقدي الجديد اللذين سيظهران من حطام فيروس كورونا؟ من المؤكد أن وعود الدولة الحديثة التي تأسست في ضوء فلسفة اتفاقية ويستفليا عام 1648 و”العقد الاجتماعي” الحديث كانت مخيبة للآمال بتغييب واحدة من الاحتياجات الإنسانية الأساسية: الصحة العامة. ولا يزال يتردد صدى أحد الأقوال الشهيرة لمارغريت تاتشر: “لا يوجد شيء اسمه المجتمع”. ونتيجة لذلك، تمَّ تحويل البشر إلى متنافسين اقتصاديين. وكما يلاحظ ويليام بيرس (William  Pearse) ، فإن “النيوليبرالية من خلال عقلانيتها الباردة التي لا ترحم قد أثارت البشر ضد بعضهم بعضًا، مهرولين نحو فكرة “المضي إلى الأمام”. والسؤال: ممَّن وبأي وسيلة، نادرًا ما يُطرح”(53).

ويقول إيان بريمر (Ian Bremmer)، أستاذ الجيوسياسة التطبيقية في جامعة كولومبيا، “إن التحدي الذي يواجهنا اليوم هو انحلال النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة، وغياب القيادة العالمية للتدخُّل وتولِّي دورها. نحن نعيش في عالم فراغ الزعامة (G-Zero)، أي وجود فراغ للقوى في السياسة الدولية بسبب تراجع دور الولايات المتحدة وتركيز الدول النامية على أوضاعها الداخلية، وسط حالة جديدة من الركود الجيوسياسي واتساع نطاق تأثيرها. في حالة الركود الجيوسياسي هذه، يؤدي انكسار السياسات العالمية إلى تأجيج المخاطر العالمية بدلًا من المساعدة في حلها”(54). وترسل لحظة فيروس كورونا إشارة أخرى حول الاختلال الوظيفي للسياسة العالمية التي تحرِّكها الواقعية السياسية. ومن المؤكد أنه ستكون هناك نزعة قومية تكنولوجية وحمائية اقتصادية ضمن دائرة التنافس الأميركي الأوروبي الصيني(55). ويحدد بريمر أربعة عوامل تساهم في ذلك التحوُّل، والتي ينبغي معالجتها قبل أن يتمكن العالم من الخروج من حالة فراغ زعامة العالم: 

  1. عدم المساواة والاضطرابات الاقتصادية الأخرى الناتجة عن العولمة؛ إذ يتزامن صعود سياسة “بلدي أولًا” في الديمقراطيات الصناعية المتقدمة في العالم مع نزع الشرعية المحلية عن المؤسسات السياسية في الديمقراطيات وامتداده إلى المجال الدولي.
     
  2. ميول بعض الدول العظمى والقوى الإقليمية الناشئة نحو تقويض جهود أكثر الديمقراطيات تقدمًا ونجاحًا اقتصاديًّا في القرن العشرين في التعامل مع أزماتها الوجودية الحقيقية للغاية هنا في القرن الحادي والعشرين. ويعتبر بريمر روسيا من بين دول الفئة الأولى “التي تبحث، بعد ثلاثين عامًا من نهاية الحرب الباردة، عن طرق لزعزعة استقرار الغرب مع تعزيز ثرواتها الجيوسياسية”(56).
     
  3. تراجع كفاءة وفعالية النظام الدولي. وأصبحت المؤسسات متعددة الأطراف الموجودة في العالم حاليًّا للمساعدة في إدارة السياسة العالمية والتنسيق بين الدول غير صالحة لهذا الغرض.
     
  4. لا يمكن المبالغة في قرار اللامبالاة لدى أميركا ترامب بالتراجع عن قيادة العالم. ويشعر الأميركيون بشكل متزايد أن الولايات المتحدة كانت تتحمَّل الكثير من الناحية العسكرية وغيرها من أجل الآخرين(57).
غيتي
مظاهرة مناهضة للرأسمالية (غيتي)

ما دمنا لم نأخذ العبرة من أزمة الأسواق المالية عام 2008، جاء فيروس كورونا الآن لإلهامنا بتأملات عميقة في البنية التحتية الاقتصادية والسياسية القائمة والفجوة المستمرة بين الأغنياء الذين يمثِّلون نسبة 1 في المائة وفئة 99 في المائة الأكثر فقرًا من مجموع السكان. فمنذ عام 2008، عانى الكثير من خسائر في المدَّخرات وتجليات التفاوتات الصارخة. في الوقت ذاته، تخسر الطبقة الوسطى معركتها في الحفاظ على مستواها المعيشي وانخفاض قدرتها الشرائية. والآن، نخسر المزيد: الثقة في الدولة، في وزارة الصحة، في الاقتصاد، وفي النظام بأكمله لفشلهم في إنقاذ البشر من فيروس صغير. وفي البلدان النامية، كان على المدارس والجامعات أن تقفز إلى نظام التعليم عن بُعد، وهي غير مستعدة ودون تدريب مسبق محدد، أو معرفة كيفية التنفيذ، أو مؤشرات النجاح. 

تحدث توماس كون (Thomas Kuhn)، صاحب كتاب “بنية الثورات العلمية”، خلال مقابلة أجراها معه جون هورغن (John Horgan)، في مكتبه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام 1991، خلال فترة الجدل العلمي حول انتشار وباء الإيدز قائلًا: إن “السؤال عن ماهية الإيدز كحالة سريرية وما هو كيان المرض ذاته لا يوصل إلى الجواب، بل يخضع للتعديل. وهكذا دواليك. فعندما يتعلَّم المرء أن يفكر بشكل مختلف في هذه الأمور إذا فعل ذلك، فإن السؤال عن الصواب والخطأ لا يغدو هو السؤال المهم”(58). ومع انتشار فيروس كورونا الراهن في ظل عدم وجود استراتيجية واضحة لاحتوائه أو العلاج منه، يحتاج العالم للعودة مجدَّدًا إلى لوحة التخطيط والتصميم بعد أربعين عامًا من تيار العولمة والتجارة الحرة وغيرها من التركيبات الأيديولوجية التي لوَّحت بها النيوليبرالية. للتفكير في الأمر، سأقتبس عبارة ديفيد هارفي “ماذا لو أن كل طريقة إنتاج مهيمنة، بتركيبتها السياسية الخاصة، تخلق نمطًا من المعارضة كصورة مرآة لنفسها؟”(59) هناك حاليًّا فرصة لليسار، ودعاة الإنسانية، والمثقفين، ومجموعات الدعوة للصالح العام، والمجتمع المدني العالمي، لبدء نقاش حول مرحلة ما بعد فيروس كورونا، وفوق مرحلة النيوليبرالية لإعادة التنظيم السياسي والاقتصادي الجديد للمجتمع. 

العودة إلى البعد الإنساني والديمقراطية الأخلاقية

جادل بعض المعلِّقين بضرورة تبنِّي نظام ديمقراطية اجتماعية أو دولة اجتماعية. لكن أترقب أن مناصرة هذين المفهومين ستصطدم مع تلك المواقف الكلاسيكية التي شكَّكت في المنحى الجماعي والتيارات الأخرى التي انطلقت من الاشتراكية. لقد تم تلويث مفاهيم الديمقراطية “الاشتراكية” و”الاجتماعية” ووصمها بما يكفي من سلبيات لإثارة ردود فعل مماثلة في المستقبل. ويمكن للنقاش العام أن يجنبنا معركة ضائعة بالفعل في فترة الخمسينات. لقد نادى بيرني ساندرز (Bernie Sanders)، أحد المرشحين الديمقراطيين في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، بعدة خيارات من أجل تحسين السياسات العامة، ومنها توفير خدمات الصحة العامة المجانية، والتعليم الجامعي المجاني. لكن تمَّ وصمه بأنه “اشتراكي راديكالي”، واختار الحزب الديمقراطي في مؤتمره القومي في صيف 2016 هيلاري كلينتون بدلًا منه كقوة مضادة للمرشح ترامب في المحصلة النهائية. لكن في مارس/آذار 2020، أعاد ساندرز إثارة معضلة الصحة العامة التي أبرزها انتشار فيروس كورونا في الولايات المتحدة. وكتب في مقالة افتتاحية قائلًا: إن “فيروس كورونا يسلط الضوء على العيوب الكامنة في نظامنا الصحي والاقتصادي”. وأشار إلى أنه “ليس سؤال الأوقات العادية، وإنْ كان مأساويًّا بشكل لا يصدق بأن يتحدث 13 في المائة من الأميركيين، أو حوالي 34 مليون شخص، عن وفاة صديق أو فرد من العائلة مؤخرًا بسبب عدم قدرته على تسديد نفقات العلاج من مرض ما، وفقًا لما أظهره استطلاع للرأي العام أجرته مؤسسة غالوب (Gallup) وويست هيلث (West Health). الآن، ومع تفشِّي فيروس كورونا، يهددنا جميعًا نقص الرعاية الصحية، مما يدل على أننا آمنون فقط مثل أي شخص آخر له الحد الأدنى من التغطية الصحية في أميركا”(60). ودعا المرشح الديمقراطي أيضًا لتقديم دفعات نقدية مباشرة طارئة بقيمة 2000 دولار لكل شخص في أميركا كل شهر طوال فترة الأزمة، وأن “من المرجح أننا في حالة ركود بالفعل”.

ولاحظ سكوت جوتليب(Scott Gottlieb) ، مفوض إدارة الغذاء والدواء الأميركية سابقًا نمطًا لفرص “التقنين” للخضوع للفحص الطبي، في حين أن المسؤولين الحكوميين الفيدراليين ثبطوا المستشفيات عن تطوير واستخدام أطقم الاختبار الخاصة بهم، لأنهم بحاجة للحصول على إذن إدارة الغذاء والدواء قبل استخدامها. وأظهر استطلاع للرأي أجرته مؤخرًا مؤسسات يوغوف (YouGov) وهيلثكير.كوم (Healthcare.com) في 10 مارس/آذار أن نصف المشاركين تقريبًا (48%) قالوا إنهم ليسوا واثقين تمامًا من قدرتهم على دفع التكاليف التي تتجاوز 3000 دولار (23%)، أو أنهم ليسوا واثقين على الإطلاق (25%). وقالت نسبة 31% فقط إن بإمكانهم الدفع من مدخراتهم، بينما قالت نسبة 42% إنهم سيقترضون من خلال بطاقاتهم الائتمانية (22%) أو أسرهم (12%) أو بنوكهم (8%).

ويشعر بعض خبراء الاقتصاد بالحنين إلى أفكار آدم سميث حول السوق الحرة حيث “توقَّع حدوث الكثير من الفساد والاستغلال الملحوظ حاليًّا في النظام الرأسمالي”. وحذَّر سميث من بعض تحولات الاستغلال للرأسمالية في تجاهل فضيلة العدالة. وجاء في كتابه “ثروة الأمم” الصادر عام 1776 أن “إيذاء مصالح أي من المواطنين من أي فئة كانوا بأي حال من الأحوال دون أي غرض آخر سوى تعزيز مصالح البعض الآخر، يتعارض بوضوح مع تلك العدالة والمساواة في المعاملة”. ويشير عالم النفس الصناعي بول فورستر(Paul Vorster)  إلى أنه “ليس من المبالغة أن نقول إن سميث كان من دعاة فكرة أن أخلاقيات العمل تدور حول القيام بما هو جيد للذات (المؤسسة) والآخر ( المستهلك والموظف) بطريقة مفيدة للطرفين بشكل متبادل. وإذا كان صاحب المؤسسة يرعى احتياجات المستهلكين، فسيفعلون الشيء ذاته من أجله”(61). ولا يزال فورستر يأمل في أن تنظر المجتمعات في شكل أنقى من الرأسمالية كفلسفة اقتصادية أخلاقية تستدعيها اقتصاديات العودة إلى مبادئ الازدهار والعدالة والحرية، بدلًا من مجرد فلسفة اقتصادية حصرية(62).

بالنظر إلى أن انتشار فيروس كورونا قد أقعد النيوليبرالية على ركبتيها مع إغلاق كامل للنظام في جميع أنحاء العالم، سيظهر فجر جديد بأسئلة أكثر حدَّة: ما الذي سيقوله عالم ما بعد احتواء الفيروس عن قدرة الأفراد والعائلات والمجتمعات على البقاء؟ ستكون فرصة لإعادة النظر في نموذج “العقد الاجتماعي”، الذي ساعد تاريخيًّا على تطوير الليبرالية الكلاسيكية. ويجادل جيفري ساكس (Jeffery Sachs) بأنه ينبغي الحكم على أداء الحكومة الأميركية “من حيث عدم كفاءتها وفسادها وجهلها، وستضيف إلى تكاليفنا وأخطارنا بطريقة محبطة وهائلة للغاية”(63).

تدعو الحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى لنقاش عام حول الاستقلالية الأخلاقية للمواطنين في إعادة تعريف حقوق الدولة والتزاماتها وإعادة بناء سلطتهم الأخلاقية. وينبغي أن يبدأ النقاش على أرضية جديدة وزخم جديد. أدعو لبنية ديمقراطية أخلاقية ودولة أخلاقية كصيغة مناهضة لأطروحة النيوليبرالية وتفريعاتها الأنيقة بمسمَّى “الرأسمالية الأخلاقية”(Ethical Capitalism) ، والتي تنبثق من التفسير الكلاسيكي الواضح لأدم سميث بشأن القوى التي تشكل ما نسميه “السوق الحرة”، وهي الازدهار والعدالة والحرية. يبدو أن واقع فيروس كورونا وغياب الدولة، فضلًا عن عدم وجود شبكة أمان صحي استباقي، يستدعي العودة إلى القانون الطبيعي، ومبادئ فلسلة إيمانويل كانط، ونموذج الاحتياجات البشرية الأساسية. لقد أعادنا الوباء الجديد إلى سؤال جوهري: كيف نملأ الفجوة عندما تفشل الدولة في حماية المواطن؟ ما الذي يجب أن يأتي أولًا: الشخص أم الربح؟ باقتباس مصطلحات كانط، ما هي “ميتافيزيقيا الأخلاق” في عام 2020، وهي تمثِّل “نظامًا من المبادئ الأخلاقية الأولية التي تطبق الضرورة الحتمية على البشر في جميع الأوقات والثقافات؟”.

قال الفيلسوف روبرت وولف (Paul Wolff)، وهو من أنصار الفلسفة الكانطية، في كتاب لقي رواجًا جيدًا بعنوان “دفاعًا عن الفوضوية” (In Defense of Anarchism) إن “العلامة المميزة للدولة هي السلطة والحق في الحكم. أما الالتزام الأساسي للإنسان هو الحكم الذاتي ورفض الحكم. وقد يبدو إذن أنه لا يمكن التوصل إلى حل للصراع بين استقلالية الفرد والسلطة المفترضة للدولة. فبقدر ما يفي الرجل بواجبه في جعل نفسه صاحب قراراته، فإنه سيقاوم مطالبة الدولة بالسلطة عليه”(64). 

 كتاب كانط "ميتافيزيقا القيم والأخلاق"
   كتاب كانط “ميتافيزيقا القيم والأخلاق”

لا ينبغي اعتبار الفضيلة والأخلاق مجرد عفاف خيالي، بل هما بالأحرى قوة دفع واقعية للتقدم الجماعي. فمنذ معاهدة ويستفليا، احتكرت الدولة والقطاع الخاص وسوق الأوراق المالية والقوى البنيوية الأخرى وضع وحدة التحليل الرئيسية لفترة طويلة. وينبغي الآن أن يتنازلوا عن تلك المكانة للفرد، والأسرة، ودولة الرفاهية، ومبدأ الصحة للجميع، والتعليم للجميع، والازدهار للجميع. جادل الفيلسوف كانط بأن المبدأ الأعلى للأخلاق هو معيار العقلانية الذي أطلق عليه “الضرورة الحتمية” (Categorical Imperative)، التي وصفها بأنها مبدأ موضوعي وضروري وغير مشروط ينبغي علينا دائمًا اتباعه على الرغم من أي رغبات طبيعية أو ميول نحو مناقضته. وأي قانون كان يمِّثل مجموعة من المعايير لتنظيم العلاقة بين الدولة والمواطنين، ويُنظر إليه في الفلسفة الكانطية كعنصر يربط جميع المجالات مباشرة: الأخلاق، وفلسفة القانون، وفلسفة السياسة، والفلسفة التاريخية. تمسَّك كانط بالتركيز على مركزية الفرد وعلى الذات الأخلاقية الحرة والموضوع في قلب الدائرة، في حين وضع البنية وجميع المؤسسات السياسية والتنظيمات الاقتصادية المندمجة معها في المحيط. كما ظل منفتحًا على فكرة السلام الدائم. وحثَّ كانط الذات على “التصرف فقط على هذا الأساس الذي يمكنه في الوقت ذاته أن يصبح قانونًا عالميًّا”(65). 

في خضم الاضطراب الراهن بسبب انتشار فيروس كورونا، يشعر إدغار مورين (Edgar Morin)، الفيلسوف وعالم الاجتماع ومدير البحوث الفخري في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا، بالتفاؤل. فقد تحدث مؤخرًا عن موضوع “لتغيير العالم: لم يفت الأوان” (Changer le monde: il n’est pas trop tard) في الجلسة الأولى من سلسلة المحاضرات العامة “حقبة عجيبة” (Une Époque Formidable). يلاحظ مورين أن البشر اكتسبوا الكثير من المعرفة حتى عن الموت، لم يكن لديهم أبدًا ما لهم حاليًّا من المعلومات والخبرات المتعددة. لكنهم فقدوا القدرة على تحديد الوجهة الصحيحة، بل أضاعوا البوصلة. فهو يقول “لقد جمعنا الكثير من المعلومات حول البشر، لكننا لم نعرف بعد كيف نكون بشرًا. ليست معرفة هويتنا البشرية جزءًا من منهجنا الأكاديمي في مدارسنا وجامعاتنا. وعلى مستوى السياسة، “فقدنا البوصلة “. ويبقى السؤال “إلى أين يجب أن نذهب من هناك؟(66).  

لعقود طويلة حتى الآن، جادل عدد من علماء النفس الاجتماعي ومنظري الصراعات بشأن الحكمة من تبني نموذج الاحتياجات الأساسية (basic human needs) في تصميم السياسات العامة. فقد جادل جون بيرتون  (John Burton) عام 1998 بالقول “إذا كان هناك اكتساب مادي تنافسي من جهة، ورغبة فردية في علاقات تعاونية من ناحية أخرى، فإن تفسير أرجحية السلوكيات العدائية والعدوانية يجب أن يكون الشروط التي تفرضها الأنظمة حسب تطورها. إذا كان هذا هو الحال، فإن الصراعات على جميع المستويات الاجتماعية تُعزى إلى مكامن الفشل السابقة في تضمينها في خطط المؤسسات وفي صنع القرار لعنصر بشري وتوظيف الموارد الفكرية المتاحة باستمرار لإعادة تقييم المؤسسات والأعراف الاجتماعية، وبالتالي حل المشاكل عند ظهورها”(67). 

دافع مؤسس دراسات السلام ومرشح جائزة نوبل للسلام لعام 2016، يوهان غالتونغ(Johan Galtung) ، أيضًا عن وجود ترابط قوي بين الاحتياجات البشرية الأساسية والتنمية. ويقول إن “من المنطقي التحدث عن فئات معينة من الاحتياجات، مثل “الاحتياجات الأمنية” و”احتياجات الرفاهية” و”احتياجات الهوية” و”احتياجات الحرية” لأخذ التصنيف الذي سيتم استخدامه هنا، وافترض أن بطريقة ما حاول البشر الآخرون في كل مكان وفي جميع الأوقات، وسيحاولون التعامل مع شيء من هذا القبيل، بطرق مختلفة جدًا”(68). 

Simply Psychology
شجرة الاحتياجات البشرية الأساسية  (Simply Psychology)

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. Elizabeth Braw, “The EU Is Abandoning Italy in Its Hour of Need”, Foreign Policy, March 14, 2020 https://foreignpolicy.com/2020/03/14/coronavirus-eu-abandoning-italy-china-aid/
  2. Elizabeth Braw, “The EU Is Abandoning Italy in Its Hour of Need”, Foreign Policy, March 14, 2020 https://foreignpolicy.com/2020/03/14/coronavirus-eu-abandoning-italy-china-aid/
  3. Elizabeth Braw, “The EU Is Abandoning Italy in Its Hour of Need”, Foreign Policy, March 14, 2020 https://foreignpolicy.com/2020/03/14/coronavirus-eu-abandoning-italy-china-aid/
  4. Ali Hasan, “Capitalism versus Coronavirus, The Intercept, March 12, 2020 https://theintercept.com/2020/03/12/capitalism-vs-the-coronavirus/
  5. Karin Pettersson, “The corona crisis will define our era”, Social Europe, March 16, 2020 https://www.socialeurope.eu/the-corona-crisis-will-define-our-era
  6. Will Hutton, “Coronavirus won’t end globalisation, but change it hugely for the better,” The Guardian, March 8, 2020 https://www.theguardian.com/commentisfree/2020/mar/08/the-coronavirus-outbreak-shows-us-that-no-one-can-take-on-this-enemy-alone
  7. New Frame Editorial, “Coronavirus and the crisis of capitalism”, New Frame, March 16, 2020 https://www.newframe.com/coronavirus-and-the-crisis-of-capitalism/
  8. Laura Spinney, “Coronavirus and the Geopolitics of Disease”, The Statesman, February 19, 2020 https://www.newstatesman.com/politics/health/2020/02/coronavirus-and-geopolitics-disease
  9. Anthea Roberts and Nicolas Lamp, “Is the Virus Killing Globalization? There’s No One Answer”, Barron’s, March 15, 2020 https://www.barrons.com/articles/is-the-virus-killing-globalization-theres-no-one-answer-51584209741
  10. Mariano Turzi, “Coronavirus: The Weight Of Geopolitics And Macroeconomics”, Worldcrunch  March 4, 2020  https://www.worldcrunch.com/world-affairs/coronavirus-the-weight-of-geopolitics-and-macroeconomics
  11. Nurith Aizenman, “New Research: Bats Harbor Hundreds Of Coronaviruses, And Spillovers Aren’t Rare”, NPR, February 20, 2020 https://www.npr.org/sections/goatsandsoda/2020/02/20/807742861/new-research-bats-harbor-hundreds-of-coronaviruses-and-spillovers-arent-rare
  12. Nurith Aizenman, “New Research: Bats Harbor Hundreds Of Coronaviruses, And Spillovers Aren’t Rare”, NPR, February 20, 2020 https://www.npr.org/sections/goatsandsoda/2020/02/20/807742861/new-research-bats-harbor-hundreds-of-coronaviruses-and-spillovers-arent-rare
  13. Nurith Aizenman, “New Research: Bats Harbor Hundreds Of Coronaviruses, And Spillovers Aren’t Rare”, NPR, February 20, 2020 https://www.npr.org/sections/goatsandsoda/2020/02/20/807742861/new-research-bats-harbor-hundreds-of-coronaviruses-and-spillovers-arent-rare
  14. Nurith Aizenman, “New Research: Bats Harbor Hundreds Of Coronaviruses, And Spillovers Aren’t Rare”, NPR, February 20, 2020 https://www.npr.org/sections/goatsandsoda/2020/02/20/807742861/new-research-bats-harbor-hundreds-of-coronaviruses-and-spillovers-arent-rare
  15. Greg Heffer, “Coronavirus: PM moves UK to ‘suppression’ after new analysis of COVID-19 death rate”, Sky, March 17, 2020 https://news.sky.com/story/coronavirus-govt-ramped-up-measures-after-new-prediction-of-250-000-deaths-11958680
  16. CDC, Situation Summary, March 15, 2020 https://www.cdc.gov/coronavirus/2019-ncov/cases-updates/summary.html
  17. CDC, Situation Summary, March 15, 2020 https://www.cdc.gov/coronavirus/2019-ncov/cases-updates/summary.html
  18. Elizabeth Cohen “Infected people without symptoms might be driving the spread of coronavirus more than we realized”, CNN, March 14, 2020 https://edition.cnn.com/2020/03/14/health/coronavirus-asymptomatic-spread/index.html
  19. Joseph V. Micallef, The Geopolitics of the Coronavirus, Military.com, February 25, 2020 https://www.military.com/daily-news/2020/02/25/geopolitics-coronavirus.html
  20. Brian Ives, “Dean Koontz: Did He Predict The Coronavirus In ‘The Eyes Of Darkness’ In 1981?”, March 14, 2020 https://wmmr.com/2020/03/14/dean-koontz-did-he-predict-the-coronavirus-in-eyes-of-darkness-1981/
  21. Laura Spinney, “Coronavirus and the Geopolitics of Disease”, The Statesman, February 19, 2020 https://www.newstatesman.com/politics/health/2020/02/coronavirus-and-geopolitics-disease
  22. Steven W. Mosher, “Don’t buy China’s story: The coronavirus may have leaked from a lab”, The New York Post, February 22, 2020 https://nypost.com/2020/02/22/dont-buy-chinas-story-the-coronavirus-may-have-leaked-from-a-lab/
  23. Steven W. Mosher, “Don’t buy China’s story: The coronavirus may have leaked from a lab”, The New York Post, February 22, 2020 https://nypost.com/2020/02/22/dont-buy-chinas-story-the-coronavirus-may-have-leaked-from-a-lab/
  24. Ivo Daalder, “Commentary: China’s secrecy has made the coronavirus crisis much worse”, Chicago Tribune, February 13, 2020, https://www.chicagotribune.com/opinion/commentary/ct-opinion-china-coronavirus-epidemic-secrecy-daalder-20200213-xs5uhj2lqverbde6aprxldh5q4-story.html
  25. Annabelle Timsit, “China is mobilizing to control the narrative on coronavirus”, Quartz, March 5, 2020 https://qz.com/1812162/china-mobilizes-against-medias-malicious-coronavirus-coverage/
  26. Annabelle Timsit, “China is mobilizing to control the narrative on coronavirus”, Quartz, March 5, 2020 https://qz.com/1812162/china-mobilizes-against-medias-malicious-coronavirus-coverage/
  27. Annabelle Timsit, “China is mobilizing to control the narrative on coronavirus”, Quartz, March 5, 2020 https://qz.com/1812162/china-mobilizes-against-medias-malicious-coronavirus-coverage/
  28. Ariana A. Berengaut, “Democracies Are Better at Fighting Outbreaks”, the Atlantic, February 24, 2020 https://www.theatlantic.com/ideas/archive/2020/02/why-democracies-are-better-fighting-outbreaks/606976/
  29.  “Coronavirus: anger in Germany at report Trump seeking exclusive vaccine deal,” The Gurdian, march 16, 2020 https://www.theguardian.com/world/2020/mar/16/not-for-sale-anger-in-germany-at-report-trump-seeking-exclusive-coronavirus-vaccine-deal
  30.  “Coronavirus: anger in Germany at report Trump seeking exclusive vaccine deal,” The Gurdian, march 16, 2020 https://www.theguardian.com/world/2020/mar/16/not-for-sale-anger-in-germany-at-report-trump-seeking-exclusive-coronavirus-vaccine-deal
  31. “Coronavirus: anger in Germany at report Trump seeking exclusive vaccine deal,” The Gurdian, march 16, 2020 https://www.theguardian.com/world/2020/mar/16/not-for-sale-anger-in-germany-at-report-trump-seeking-exclusive-coronavirus-vaccine-deal
  32. “Coronavirus: anger in Germany at report Trump seeking exclusive vaccine deal,” The Gurdian, march 16, 2020 https://www.theguardian.com/world/2020/mar/16/not-for-sale-anger-in-germany-at-report-trump-seeking-exclusive-coronavirus-vaccine-deal.

    (1)  Karin Pettersson, “The corona crisis will define our era”, Social Europe, March 16, 2020 https://www.socialeurope.eu/the-corona-crisis-will-define-our-era 
     
    (2) Ben White, “How ugly could it get? Trump faces echoes of 1929 in coronavirus crisis”, POLITICO, March 16, 2020 https://www.politico.com/news/2020/03/16/trump-faces-1929-save-economy-…;
     
    (3) Ben White, “How ugly could it get? Trump faces echoes of 1929 in coronavirus crisis”, POLITICO, March 16, 2020 https://www.politico.com/news/2020/03/16/trump-faces-1929-save-economy-…
     
     (4) John Detrixhe, “Nobel prize winning economist Robert Shiller says this economic disruption is different”, Quartz, March 13, 2020 https://qz.com/1818061/robert-shiller-says-the-coronavirus-disruption-i…;

     (5) Kimberly Amadeo, “Why Trickle-Down Economics Works in Theory But Not in Fact”, The Balance, October 27, 2019 https://www.thebalance.com/trickle-down-economics-theory-effect-does-it…;
     
     (6) Robert Reich: “Coronavirus won’t respond to trickle-down economics”, Salon, March 11, 2020 https://www.salon.com/2020/03/11/robert-reich-coronavirus-wont-respond-…;

     (7) Peter Zeihan, “The “Gift” of Coronavirus”, Zeihan on Geopolitics, March 6, 2020 https://zeihan.com/the-gift-of-coronavirus/
     
     (8) Alex Ward, “The Saudi Arabia-Russia oil war, explained,” Vox, Mar 9, 2020, https://www.vox.com/2020/3/9/21171406/coronavirus-saudi-arabia-russia-o…
     
     (9) Laura Spinney, “Coronavirus and the Geopolitics of Disease”, The Statesman, February 19, 2020 https://www.newstatesman.com/politics/health/2020/02/coronavirus-and-ge…
     
     (10) Anthea Roberts and Nicolas Lamp, “Is the Virus Killing Globalization? There’s No One Answer”, Barron’s, March 15, 2020https://www.barrons.com/articles/is-the-virus-killing-globalization-the…
     
     (11) Anthea Roberts and Nicolas Lamp, “Is the Virus Killing Globalization? There’s No One Answer”, Barron’s, March 15, 2020 https://www.barrons.com/articles/is-the-virus-killing-globalization-the…
     
     (12) Anthea Roberts and Nicolas Lamp, “Is the Virus Killing Globalization? There’s No One Answer”, Barron’s, March 15, 2020 https://www.barrons.com/articles/is-the-virus-killing-globalization-the…

     (13) Lionel Laurent, “Salvini and Le Pen Don’t Have a Coronavirus Cure, Bloomberg, February 25, 2020, https://www.bloomberg.com/opinion/articles/2020-02-25/salvini-and-le-pe…
     
     (14) Lionel Laurent, “Salvini and Le Pen Don’t Have a Coronavirus Cure, Bloomberg, February 25, 2020, https://www.bloomberg.com/opinion/articles/2020-02-25/salvini-and-le-pe…
     
     (15) Laura Spinney, “Coronavirus and the Geopolitics of Disease”, The Statesman, February 19, 2020 https://www.newstatesman.com/politics/health/2020/02/coronavirus-and-ge…
     
     (16) Kurt M. Campbell and Rush Doshi, “The Coronavirus Could Reshape Global Order”, Foreign Affairs, March 18, 2020 https://www.foreignaffairs.com/articles/2020-03-18/coronavirus-could-re…
     
     (17) Kurt M. Campbell and Rush Doshi, “The Coronavirus Could Reshape Global Order”, Foreign Affairs, March 18, 2020 https://www.foreignaffairs.com/articles/2020-03-18/coronavirus-could-re…
     
     (18) Kurt M. Campbell and Rush Doshi, “The Coronavirus Could Reshape Global Order”, Foreign Affairs, March 18, 2020 https://www.foreignaffairs.com/articles/2020-03-18/coronavirus-could-re…
     
     (19) Gideon Rachman, “How Beijing reframed the coronavirus response narrative”, Financial Times, March 16, 2020 https://www.ft.com/content/20ab52d8-676a-11ea-800d-da70cff6e4d3
     
     (20) Adam Gaffney, “America’s extreme neoliberal healthcare system is putting the country at risk”, The Guardian, Marc 21, 2020 https://www.theguardian.com/commentisfree/2020/mar/21/medicare-for-all-…
     
     (21) Philip Mirowski, Dieter Plehwe, The road from Mont Pèlerin: the making of the neoliberal thought collective, Harvard University Press, 2009, 

     (22) Milton Friedman “Neo-Liberalism and its Prospects”, Farmand, 17 February 1951, pp. 89-93 

     (23) Milton Friedman “Neo-Liberalism and its Prospects”, Farmand, 17 February 1951, pp. 89-93 

     (24)  https://inomics.com/insight/a-critique-of-neoliberalism-1379580 
     
     (25) William Pearse, “A Critique of Neoliberalism”, ENOMICS, April 9, 2019 https://inomics.com/insight/a-critique-of-neoliberalism-1379580
     
     (26) Charles Peters, “A Neo-Liberal’s Manifesto”, The Washington Post, September 5, 1982 https://www.washingtonpost.com/archive/opinions/1982/09/05/a-neo-libera…;

     (27) Dani Rodrik, “The fatal flaw of neoliberalism: it’s bad economics, The Guardian, November 14, 2017 https://www.theguardian.com/news/2017/nov/14/the-fatal-flaw-of-neoliber…
     
     (28) Bjarke Skærlund Risager, “Neoliberalism Is a Political Project: An Interview with David Harvey”, Jacobin, https://www.jacobinmag.com/2016/07/david-harvey-neoliberalism-capitalis…
     
     (29) Bjarke Skærlund Risager, “Neoliberalism Is a Political Project: An Interview with David Harvey”, Jacobin, https://www.jacobinmag.com/2016/07/david-harvey-neoliberalism-capitalis…
     
     (30) Bjarke Skærlund Risager, “Neoliberalism Is a Political Project: An Interview with David Harvey”, Jacobin, https://www.jacobinmag.com/2016/07/david-harvey-neoliberalism-capitalis…
     
     (31) Cornel West, “Goodbye, American Neoliberalism. A New Era is Here”, The Guardian, November 17, 2016 https://www.theguardian.com/commentisfree/2016/nov/17/american-neoliber…
     
     (32) Cornel West, “Goodbye, American Neoliberalism. A New Era is Here”, The Guardian, November 17, 2016 https://www.theguardian.com/commentisfree/2016/nov/17/american-neoliber…
     
     (33) John Horgan, “The Coronavirus and Right-Wing Postmodernism”, Scientific American, March 9, 2020 https://blogs.scientificamerican.com/cross-check/the-coronavirus-and-ri…
     
     (34) William Pearse, “A Critique of Neoliberalism”, ENOMICS, April 9, 2019 https://inomics.com/insight/a-critique-of-neoliberalism-1379580
     
     (35) Bjarke Skærlund Risager, “Neoliberalism Is a Political Project: An Interview with David Harvey”, Jacobin, https://www.jacobinmag.com/2016/07/david-harvey-neoliberalism-capitalis…
     
     (36) Jawad Moustakbal, “Despotism, neoliberalism and climate change: Morocco’s catastrophic convergence”, Middle East Eye, July 31, 2017 https://www.middleeasteye.net/big-story/despotism-neoliberalism-and-cli…
     
     (37) Jawad Moustakbal, “Despotism, neoliberalism and climate change: Morocco’s catastrophic convergence”, Middle East Eye, July 31, 2017 https://www.middleeasteye.net/big-story/despotism-neoliberalism-and-cli…
     
     (38) Jawad Moustakbal, “Despotism, neoliberalism and climate change: Morocco’s catastrophic convergence”, Middle East Eye, July 31, 2017 https://www.middleeasteye.net/big-story/despotism-neoliberalism-and-cli…
     
     (39) Rob Urie, “The Neoliberal Plague”, March 6, 2020 Counterpunch, https://www.counterpunch.org/2020/03/06/the-neoliberal-plague/ 

     (40) Lily Roberts and Andy Green, “The State of the Trump Economy”, Center for American Progress, February 5, 2019 https://www.americanprogress.org/issues/economy/news/2019/02/05/465835/…
     
     (41) William Pearse, “A Critique of Neoliberalism”, ENOMICS, April 9, 2019 https://inomics.com/insight/a-critique-of-neoliberalism-1379580
     
     (42) Jeffrey Sachs, “The Trump administration’s ludicrous approach to coronavirus vaccine”, CNN. March 5, 2020 https://edition.cnn.com/2020/03/05/opinions/ludicrous-plan-coronavirus-…
     
     (43) Seiji Yamada, “Neoliberalism and the Coronavirus”, Counterpunch, February 7, 2020 https://www.counterpunch.org/2020/02/07/neoliberalism-and-the-coronavir…
     
     (44) Ishaan Tharoor, “How epidemics have changed the world,” The Washington Post, March 8, 2020 https://www.washingtonpost.com/world/2020/03/06/how-epidemics-have-chan…
     
     (45) Ishaan Tharoor, “How epidemics have changed the world,” The Washington Post, March 8, 2020 https://www.washingtonpost.com/world/2020/03/06/how-epidemics-have-chan…
     
     (46) Thomas Wright & Kurt M. Campbell, “The Coronavirus Is Exposing the Limits of Populism”, The Atlantic, March 4, 2020  https://www.theatlantic.com/ideas/archive/2020/03/geopolitics-coronavir…
     
     (47) Rob Urie, “The Neoliberal Plague”, March 6, 2020 Counterpunch, https://www.counterpunch.org/2020/03/06/the-neoliberal-plague/
     
     (48) Ann Scott Tyson and Sara Miller LIana, “Containing coronavirus: Where democracy struggles – and thrives”, The Christian Science Monitor, March 2, 2020 https://www.csmonitor.com/World/2020/0302/Containing-coronavirus-Where-…
     
     (49) WHO, “ICC-WHO Joint Statement: An unprecedented private sector call to action to tackle COVID-19”, March 16, 2020 https://www.who.int/news-room/detail/16-03-2020-icc-who-joint-statement…
     
     (50) Zack Beauchamp, “The deep ideological roots of Trump’s botched coronavirus response”, VOX, Mar 17, 2020 https://www.vox.com/policy-and-politics/2020/3/17/21176737/coronavirus-…
     
     (51) Nicolas LePan, A visual history of pandemics”, Word Economic Forum March 15, 2020 https://www.weforum.org/agenda/2020/03/a-visual-history-of-pandemics
       
     (52) Rob Urie, “The Neoliberal Plague”, March 6, 2020 Counterpunch, https://www.counterpunch.org/2020/03/06/the-neoliberal-plague/
     
     (53) William Pearse, “A Critique of Neoliberalism”, ENOMICS, April 9, 2019 https://inomics.com/insight/a-critique-of-neoliberalism-1379580
     
     (54) Ian Bremmer, “We Are in a Geopolitical Recession. That’s a Bad Time for the Global Coronavirus Crisis”, Time, March 13, 2020 https://time.com/5802033/geopolitical-recession-global-crisis/
     
     (55) Patrick M. Cronin, Michael Doran & Peter Rough, “Geopolitical Implications of the Coronavirus”, March 13, 2020 https://www.hudson.org/research/15816-geopolitical-implications-of-the-…
     
     (56) Ian Bremmer, “We Are in a Geopolitical Recession. That’s a Bad Time for the Global Coronavirus Crisis”, Time, March 13, 2020 https://time.com/5802033/geopolitical-recession-global-crisis/
     
     (57) Ian Bremmer, “We Are in a Geopolitical Recession. That’s a Bad Time for the Global Coronavirus Crisis”, Time, March 13, 2020 https://time.com/5802033/geopolitical-recession-global-crisis/
     
     (58) John Horgan, “The Coronavirus and Right-Wing Postmodernism”, Scientific American, March 9, 2020 https://blogs.scientificamerican.com/cross-check/the-coronavirus-and-ri…
     
     (59) Bjarke Skærlund Risager, “Neoliberalism Is a Political Project: An Interview with David Harvey”, Jacobin, https://www.jacobinmag.com/2016/07/david-harvey-neoliberalism-capitalis…
     
     (60) Bernie Sanders, “Coronavirus highlights the flaws in our health care and economic systems”, CNN, March 15, 2020 https://edition.cnn.com/2020/03/15/opinions/bernie-sanders-opinion-coro…
     
     (61) Paul Vorster, “The three principles of ethical capitalism”, The Ethics Institute, February 29, 2019 https://www.tei.org.za/index.php/resources/articles/ethics-opinions/771…
     
     (62) Paul Vorster, “The three principles of ethical capitalism”, The Ethics Institute, February 29, 2019 https://www.tei.org.za/index.php/resources/articles/ethics-opinions/771…
     
     (63) Ali Hasan, “Capitalism versus Coronavirus, The Intercept, March 12, 2020 https://theintercept.com/2020/03/12/capitalism-vs-the-coronavirus/
     
     (64)  Robert Paul Wolff, “In Defense of Anarchism”, Harper, 1970

     (65) Kant, Groundwork of the Metaphysics of Morals, trans. Jonathan F. Bennett, http://www.earlymoderntexts.com/pdf/kantgw.pdf
     
     (66) Pierrick Merlet, “Vidéo: “Pas trop tard pour changer le monde”, selon Edgar Morin”, La Tribune, March 17, 2020 https://toulouse.latribune.fr/evenements/2020-03-17/video-pas-trop-tard…
     
     (67) John Burton, “Conflict Resolution: The Human Dimension”, The International journal of Peace Studies, Volume 3, Number 1, January 1998 https://www.gmu.edu/programs/icar/ijps/vol3_1/burton.htm
     
     (68) Johan Galtung, The New International Economic Order and the Basic Needs Approach, Alternatives,  Volume: 4 issue: 4, March 1, 1979, page(s): 455-476

محمد الشرقاوي

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button