التدخل الإنساني في ضوء الاتفاقيات الإقليمية والثنائية

تُشكل المنظمات الدولية إحدى الأدوات الدولية التي كانت ومازالت من صناعة الدول، والتي اتفقت الدول على العمل من خلالها على تنمية العلاقات وتطوير التعاون فيما بينها في العديد من مناحي الحياة. ومن هنا جاءت أهمية المواثيق التي تحكم عمل هذه المنظمات، سواء فيما بينها وبين الدول الأعضاء الذين يدخلون في عضويتها، أو غيرها من الدول والمنظمات الأخرى. كما أن المنظمات الدولية لا تخرج من حيث أهدافها، عن كونها منظمات سياسية، أو منظمات متخصصة.. عالمية أو إقليمية..

ومنذ تناول الفقه التنظيم الدولي بالدراسة والتحليل لأهميته، خاصة من الناحية القانونية، فقد أثار موضوع التمييز بين المنظمات العالمية والإقليمية، في القانون الدولي الكثير من الجدل، لأنه وإن كان مدلول العالمية يعني شمول دول العالم أجمع، أو على الأقل قابليته لأن يشمل تلك الدول، فإن الإقليمية تحتاج إلى شيء من التمحيص.

فالإقليمية عند البعض وحدة أرضية تضم مصالح مترابطة، بينما يري البعض الآخر أن الظروف هي التي تحدد مقصود الإقليم في كل حالة على حدة، أي أنه لا يمكن وضع قواعد لتحديد الإقليمية، بل يرجع في ذلك إلى الاتفاق الإقليمي، وبذلك لا يتقيد هذا الفريق بالمعنى الجغرافي للفظ إقليمية، بينما قال فريق ثالث إنه يجب أن يفهم تعبير الإقليمية في مجال القانون الدولي على أنه يعني جزءاً من كل، أي يعني القانون الذي يضم بعض دول العالم، وليس جميعهاً، وذلك على أساس أن كلمة “إقليم” مهما اتسع مدلولها الجغرافي فهي تشير إلى جزء من كل، وهو الكرة الأرضية [1].

وحتى يمكن تناول طبيعة التدخل الدولي في إطار الاتفاقيات الإقليمية والثنائية، فقد تم تقسيم هذه الدراسة إلى مبحثين: المبحث الأول: التدخل الدولي في ضوء الاتفاقيات الإقليمية، المبحث الثاني: التدخل الدولي في ضوء الاتفاقيات الثنائية.

المبحث الأول: التدخل الدولي في ضوء الاتفاقيات الإقليمية

تأتي أهمية تناول طبيعة التدخل الدولي ومدي مشروعيته في إطار الاتفاقيات والمنظمات الإقليمية، من كون التعاون الإقليمي في معظم الحالات يزيد بسبب حاجة يحس بها الإقليم لمقاومة نفوذ خارجي، كما يجري التعاون الإقليمي بين دول متقاربة في نظمها السياسية وفي خلفيتها الثقافية والاقتصادية ويزيد التعاون بين الدول التي يكمل بعضها بعضاً، حيث أن التجانس مصدر هام لقوة المنظمات الإقليمية، ولذلك تتميز بعض هذه المنظمات بدرجة أكبر من القوة والفاعلية. وكلما زاد التجانس زادت قوة المنظمة الإقليمية، وهذا من شأنه التأثير على الحد من الصراعات المسلحة، وكذلك يمكنها من الاتفاق بصورة أكثر فاعلية حول مبدأ عدم التدخل الدولي، خاصة إذا منحت فرصتها بعيداً عن هيمنة الدول الكبرى والتدخلات الخارجية [2].

فالمنظمات الإقليمية شأنها شأن الأمم المتحدة، نصت مواثيقها على مبدأ عدم التدخل الدولي في شئون الدول الأخرى، وهو ما يمكن تناوله في العرض الآتي:

أولاً: ميثاق منظمة الدول الأمريكية:

تعرضت منظمة الدول الأمريكية في ميثاقها للتدخل الدولي من خلال المادة 15، والتي تنص على: أنه “ليس لأي دولة، أو مجموعة من الدول ـ الحق في التدخل بطريق مباشر أو غير مباشر، لأي سبب كان، في الشئون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى، ولا يمنع المبدأ السابق استخدام القوة المسلحة فحسب، بل يمنع أيضاً أي صورة من صور التدخل، أو محاولة الاعتداء على شخصية الدولة، أو على إحدى العناصر السياسية أو الاقتصادية، أو الثقافية التي تكونها”.

وتوضح المادة 16 من ميثاق المنظمة الأمريكية حظر التدخل بقولها: “ليس لأي دولة أن تطبق، أو تعد العدة لاتخاذ وسائل تعسفية ذات صفة اقتصادية أو سياسية لإكراه دولة أخرى، والحصول منها على امتيازات من أى نوع كان”.

كذلك أكدت اللجنة القانونية المشتركة لدول أمريكا اللاتينية، على أن بعض الأعمال لا يجوز إتيانها من قبل الدول الأمريكية ضد غيرها من الدول الأخرى، لأن ذلك يعد غير مشروع ومن هذه الأعمال:

أ ـ السماح بتهريب الأسلحة وأدوات الحرب التي يقصد بها إثارة القلاقل والاضطرابات والفتن، وتشجيع أو تغذية الحروب الأهلية في دول أمريكية.

ب ـ التزويد لأي سبب سابق بالأسلحة أو قطع الغيار لأشخاص أو جماعات أخرى، ويكون بقصد توجيهها للأعمال السابق ذكرها.

ج ـ تشجيع حركات الانفصال أو التمرد في دولة أمريكية، حتى ولو كانت ضد حكومة غير معترف بها.

د ـ الأعمال التي من شأنها الاعتراض على تشكيل حكومة من دولة أخرى، سواء تم ذلك الاعتراض بصورة مباشرة أو غير مباشرة [3].

وجاءت اللجنة القانونية المشتركة وفسرت ما جاء في “م15” من ميثاق المنظمة حيث عددت مجموعة من التصرفات، والأعمال الدولية التي لا يجوز إتيانها من قبل الدول الأمريكية في مواجهة بعضها لأنها تشكل تدخلاً في شئون الدول الأخرى، خاصة أوقات الأزمات الداخلية أو النزاعات المسلحة، مثل السماح بتهريب الأسلحة لبث القلاقل والاضطرابات والفتن في الدول الأخرى. أو تغذية الحروب الأهلية في إحدى الدول الأمريكية، حيث أن ذلك يمثل خطراً مباشراً على الدول الأخرى.

ولم يقف الأمر عند عدم التدخل في الصراعات المسلحة، بل إن المنظمة أكدت على أنه لا يجوز مساعدة أى أشخاص أو جماعات تسعى إلى التمرد على الدولة حتى لو كانت هذه الجماعات تتمرد على حكومة غير معترف بها. كذلك لا يجوز لدولة ما في المنظمة الأمريكية أن تعترض بشكل مباشر أو غير مباشر على تشكيل حكومة في دولة ما من الدول الأمريكية.

وما جاء في “م15” من ميثاق منظمة الدول الأمريكية، وكذا ما تم تفسيره في تقرير اللجنة القانونية المشتركة لدول أمريكا اللاتينية، يعد أكثر وضوحاً لبيان الأعمال التي تعد تدخلاً غير مشروع. وهي تعد بحق أكثر تقدماً من “م2/7” الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، لأن هذا الموقف الأمريكي من مبدأ عدم التدخل الدولي في شئون الدول إذا صاحبته آليات إقليمية فاعلة تضع هذه القواعد موضع التنفيذ، فإن ذلك مما لا شك فيه، سيأتي بالاستقرار على المستوى الإقليمي لأنه يعبر عن رغبة إقليمية لها تاريخها، خاصة في علاقة الدول الأمريكية ببعضها، كما أكدت على ذلك اتفاقية مونتفيديو عام 1933.

وعلى الرغم من هذا التقدم، إلا أن عدم وجود تعريف جامع مانع للتدخل الدولي في ميثاق بوجوتا ـ ميثاق منظمة الدول الأمريكية ـ فإن ذلك قد يكون له أثره في إمكانية فتح الباب أمام التدخل لاعتبارات سياسية، وهو ما أكدته الأحداث والواقع عندما تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في نيكاراجوا 1984، لتأييد قوات الكونترا ضد الحكومة المركزية، وكذا تدخلها في هايتي عام 1994 للعمل على عودة الرئيس “أريستيد” للسلطة وعزل العسكريين عنها.

ولا تكاد تنقضي حقبة من الزمان حتى تشكو دولة أمريكية، من تدخل دولة أمريكية أخرى في شؤونها، بل إن الانقلابات العسكرية المتوالية، التي تهز الحياة السياسية في القارة الأمريكية، تعد أكثر ما تعد في دولة مجاورة للدولة التي يراد أن يقع الانقلاب فيها، ضاربة بذلك عرض الحائط مبدأ عدم التدخل، الذي أريد به أن يكون ركناً من أركان العلاقات الدولية بين الدول الأمريكية [4].

ثانياً: ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية:

تعرض ميثاق منظمة الوحدة لأفريقية لمبدأ عدم التدخل، حيث نصت م3/2 منه: “على أنه من المبادئ التي تقوم عليها المنظمة، عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأعضاء”. كما أن م3/3 تنص على: “أنه يجب احترام سيادة كل دولة، وسلامة أراضيها وحقها الثابت في كيانها المستقل”. وكذلك م3/5 تنص على: “أنه يجب الاستنكار مطلقاً لأعمال الاغتيال السياسي في جميع الصور، وكذلك ألوان النشاط الهدام التي تقوم بها الدول المجاورة أو أي دولة أخرى”.

كما أن المنظمة في قمتها الثانية “بأكرا” في أكتوبر عام 1965، أصدرت قرارها رقم 27 لبعض الصور والأنشطة التخريبية، التي ربط الميثاق بينها وبين عدم التدخل، حيث أكد القرار المشار إليه على خمسة أنواع من الأنشطة التخريبية، ومنها التشجيع والتحريض للانقسام، والنزاع الداخلي في الدول الأفريقية باستخدام الاختلافات القائمة على أساس الدين أو العنصر أو اللغة، والعمل على تعميق الخلافات السالف ذكرها. وانتهت القمة، إلى عدم مشروعية هذه التصرفات على اعتبار أنها تدخل في شئون الدول الأخرى [5].

وأكدت المنظمة من خلال تطبيق ميثاقها ونصوصه ذات الصلة عل أن التدخل الدولي غير مشروع في الظروف العادية، ويكون عدم مشروعيته أشد في ظروف النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي. والمنظمة الأفريقية وأن كانت أقل حسماً، في تحديد موقفها من التدخل الدولي، عما قالت به منظمة الدول الأمريكية، إلا أنها تظل أكثر وضوحاً من الأمم المتحدة، في مجال تحديد مبدأ عدم التدخل الدولي، غير أن ذلك لا يمنع من القول بأنها مازالت في حاجة إلى مزيد من الخطوات لتحديد موقفها بدقة وبصورة أكثر وضوحاً من مبدأ عدم التدخل الدولي.

وفي مؤتمر أديس أبابا تكلم أكثر من مسئول عن ضرورة احترام مبدأ عدم التدخل. فقال “هوفويه بواني” رئيس جمهورية ساحل العاج: “إن ما نعتبره مخالفاً لروح الوحدة التي تحركنا جميعاً هو الاغتيال، أو القتل المدبر في الخارج، أو الذي تشترك فيه دولة أجنبية بصورة خفية، وذلك بغية قلب حكومة أو نظام حكم لا يلقى تأييد الدول الأفريقية التي تدبر أو تشجع مثل هذه الأعمال، ومن ثم يتعين على مؤتمرنا أن يحدد سياسة مشتركة نتبعها في مثل هذه الحالات. ويجب أن تكون هذه السياسة واضحة تماماً لهؤلاء الأخوة المزيفين حتى لا تنزلق أفريقيا، فنغرق في مثل هذه الثورات التي طالما مزقت دولاً كثيرة نتيجة لتحريض بعض الطموحين المتعطشين للشهرة، وهذا ما يأتي دائماً على حساب الجماهير المجاهدة التي تغرق بالتالي في الفقر والبؤس، وهي النتائج الحتمية لمثل هذه الاضطرابات”.

كذلك قال “تافاوا باليو” رئيس وزراء نيجيريا حينذاك: “إننا لا نستطيع أن نحقق الوحدة طالما أن بعض الدول الأفريقية لا تزال تمارس أوجه نشاط هدام في دول أفريقية أخرى”.

ولم يمض على هذه التصريحات، وعلى ميثاق أديس أبابا وقت طويل حتى تجاهلت الدول الأفريقية مبدأ عدم التدخل، وانقسمت إلى فريقين: فريق يتدخل في الكونغو ليساند حكومة “ليموبولد فيل” وفريق يتدخل ليساند حكومة “ستانلي فيل”[6].

3ـ  ميثاق جامعة الدول العربية:

نصت “م8” من ميثاق جامعة الدول العربية الذي تحرر في 22 مارس 1945، في مدينة القاهرة، على “أن تحترم كل الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدول وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها”[7].

وبالاطلاع على مواد الميثاق نجد أنه لم يتعرض لمبدأ عدم التدخل الدولي بصورة واضحة، كما جاء في ميثاق الأمم المتحدة في م2/7 منه، أو ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية في “م3” منه، أو ميثاق منظمة الدول الأمريكية “م15” منه والتي تعد أكثرها تقدماً، لأنها نصت على مشروعية التدخل المباشر أو غير المباشر، في شئون الدول الأخرى.

ولما كان ميثاق الجامعة العربية لم يتصد لمبدأ عدم التدخل الدولي، إلا بصورة غير مباشرة من خلال “م8” لأنها أكدت على عدم جواز التدخل لتغيير نظام الحكم في الدول العربية، وهي في الحقيقة إحدى صور التدخل، كما أكد الميثاق على أنه لا يجوز لأي دولة عربية أن تلجأ إلى القوة لفض المنازعات التي تقع بينها وبين غيرها من الدول العربية، كما الزم كل دولة عربية أن تحترم نظام الحكم القائم في غيرها، وأن تنظر إليه على أنه حق من حقوق تلك الدول، وتتعهد بألا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها.

وعلى الرغم من ذلك، طالما ارتفعت الشكوى من جانب دولة عربية تتدخل في شؤونها دولة عربية أخرى ـ بل إن هناك من جاهر، باستنكار مبدأ عدم التدخل بالنسبة إلى العالم العربي، على اعتبار أن القومية العربية تقتضي التدخل المستمر بين الدول العربية بعضها وبعض متخطية الحدود السياسية، والحكومات المحلية، تحقيقاً للإرادة الشعبية العربية [8].

ونظرة واضعي الميثاق لمبدأ عدم التدخل من خلال عدم جواز تغيير أنظمة الحكم في الدول الأخرى فقط دون غيرها من الأمور التي قد تمس كيان الدولة، هو أمر يمثل في الحقيقة قصوراً واضحاً، يضع الميثاق والمنظمة ككل في مرتبة متدنية بالنسبة للتنظيم الدولي، خاصة في عصرنا الحديث الذي شهد تطورات جد مهمة في إطار إنشاء الكيانات الإقليمية الفاعلة والقوية على الساحة الدولية. وهذا الوضع الذي رسمه الميثاق للمنظمة جعلها عاجزة عن مواجهة مشاكلها، خاصة ما يتعلق بالنزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي.

رابعاً: ميثاق حلف وارسو:

تنص المادة الثامنة من ميثاق الحلف الذي تشكل بين الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوربا عام 1947، على ما يلي: “تعلن الدول المتعاقدة أن رائدها هو الصداقة والتعاون على تنمية علاقاتها الاقتصادية الثقافية، وأن شعارها هو الاحترام المتبادل، وعدم تدخل إحداها في الشؤون الداخلية للآخرين”.

ولكن على الرغم من هذه المادة لم تتردد الحكومة السوفيتية في التدخل في شؤون المجر الداخلية، عندما وقعت اضطرابات بودابست عام 1956[9].

خامساً: ميثاق حلف شمال الأطلنطي:

حلف الأطلنطي، أحد الأحلاف العسكرية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، لمواجهة حلف وارسو، الذي كان يقوده الاتحاد السوفيتى سابقاً، وعلى الرغم من الطبيعة العسكرية التي تحكم تنظيم هذا الحلف، الذي يضم بعض الدول الأوروبية الغربية بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والذي تأسس في 14 أبريل عام 1949، فإنه قد نص في “م2” من معاهدة إنشائه على عدم جواز التدخل في شئون الدول الأخرى [10]. والتزم الحلف بذلك إلى حد كبير منذ نشأته حتى 1990.

ولكن مع انتهاء الحرب الباردة عام 1990، أخذ الحلف يوسع من نفوذه على حساب حلف وارسو الذي انهار مع انهيار الاتحاد السوفيتى، وبدأ الحلف يتخلى عما جاء في “م2” من المعاهدة المنشئة له. حيث صدرت عدة تصريحات، من قادة الحلف والدول التي تشترك فيه، خاصة ما صدر عن قادة الحلف في نوفمبر 1991، بإعلان “روما” حول السلام والتعاون الدولي، وأكد الإعلان على أن التحديات والمخاطر الأمنية التي أصبح الحلف يواجهها، تختلف في طبيعتها عما كانت في الماضي، منها الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخطيرة، خاصة الصراعات العرقية التي تواجه العديد من دول أوروبا الوسطى والشرقية، وهذه التوترات وإن كانت لا تهدد بشكل مباشر أمن وسيادة أعضاء الحلف، إلا أنها قد تؤدي إلى أزمات خطيرة تهدد استقرار أوروبا، وربما بتطورها إلى نزاعات مسلحة تتورط فيها قوى خارجية ومن بينها أعضاء في الحلف، الأمر الذي قد يؤثر على أمن الحلف.

كذلك عندما حدثت أزمة إقليم كوسوفا مع حكومة بلجراد الصربية عام 1998، اتخذ الحلف قراره بالتدخل في الصراع وباستخدام القوة دون الرجوع إلى الأمم المتحدة ضد صربيا والجبل الأسود، مما دفع البعض إلى القول بأن الأمم المتحدة في ظل ممارسات حلف الأطلنطي، قد تم تهميشها، ولم يبق سوى البحث عن مناسبة لإعلان نهاية وجودها [11].

إن حلف الأطلنطي بالإضافة إلى خروجه عن مبدأ عدم التدخل الذي نصت عليه معاهدة الحلف في “م2” منه، وكذا أحكام “م2/7” من ميثاق الأمم المتحدة، قد أعطى لنفسه الحق في تحديد ما قد يهدد السلم والأمن الدوليين، وفقاً لمصالحه ومصالح أعضائه خارج إطار الشرعية الدولية، المتعارف عليها والتي تمثلها الأمم المتحدة بميثاقها وقراراتها، وهذا الوضع من شأنه العمل على إهمال القواعد القانونية، وإعطاء مبررات تقوم على أسس سياسية، مما قد يؤدي إلى، تهديد النظام القانوني الدولي المتعارف عليه، خاصة فيما يتعلق بإعمال مبدأ عدم التدخل الدولي في شئون الدول الأخرى، وأمام هذه الفرصة الواقعية الخطيرة تساءل البعض هل تدخل حلف الأطلنطي في كوسوفو سليم من الناحية القانونية أم لا؟[12].

وذلك التساؤل تزداد أهميته خاصة في ضوء القرار 1239، الصادر من مجلس الأمن في 14/5/1999، بخصوص أزمة كوسوفو، وتأكيده عل أهمية حماية اللاجئين وتقديم المساعدات الإنسانية لسكان كوسوفو في ظل استمرار الضربات العسكرية “للناتو” ضد يوغوسلافيا، إلا أن هذا القرار خلا من أية إشارة إلى الأعمال العسكرية، ومدى مشروعيتها [13].

ولخطورة ما حدث في كوسوفو وما قام به حلف الأطلنطي، حدث خلاف بين الدول والفقه حول مدى مشروعية هذا التدخل، حتى أن هذا الخلاف امتد إلى دول الحلف أنفسهم، عندما عارضت بعض الدول الأوروبية، الفلسفة الأمريكية الجديدة لعمل الحلف، خاصة في مواجهة النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي. ونجد ذلك الخلاف في اجتماع وزراء خارجية الحلف الذي عقد في بروكسل يومي 8، 9 ديسمبر 1998، مما أدى إلى مطالبة بعض الدول الأوروبية داخل الحلف إلى إنشاء قوة عسكرية أوروبية تتولى حماية المصالح الأوروبية في الوقت الذي تتعارض فيه مواقفها مع الولايات المتحدة ولقى هذا التوجه تأييداً من المسئولين الألمان والفرنسيين وحتى الحكومة البريطانية التي قلما خرجت عن تأييد السياسة الأمريكية [14].

ومما سبق يتضح أن الأمم المتحدة وبعض المنظمات الإقليمية أجمعت مواثيقها على عدم مشروعية التدخل الدولي، إلا أن الواقع الدولي أكد على خروج المنظمات وبعض الدول على هذا المبدأ، خاصة في ظروف النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي، وقد يكون ذلك نتيجة لعدم وضع تعريف جامع مانع للتدخل الدولي، مما أدى إلى غلبة الاعتبارات السياسية ومصالح بعض القوى والالتفاف حول مبدأ عدم التدخل، من خلال بعض الذرائع والحجج التي حاولت من خلالها إقناع المجتمع الدولي بمشروعية تصرفاتها [15].

المبحث الثاني: التدخل الدولي في ضوء الاتفاقيات الثنائية

الدول في علاقاتها الثنائية أكثر حساسية لمسألة التدخل، فهي تعتبر التدخل يشمل: إبداء الرأي أو النقد لتصرف سلطات الدولة أو الأشخاص المعبرين عن إرادتها في المجتمع الدولي، أو محاولة التأثير على قرارات السلطات فيها بأي وجه، بدءاً من ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية إلى استخدام القوة العسكرية. وعلى ذلك، فإن تدخل الدولة في شئون الدول الأخرى قد يتخذ أشكالاً متنوعة منها [16]:

أ ـ قيام دولة تعسفاً بمد نطاق تطبيق قانونها الداخلي، على أوضاع تدخل أساساً في اختصاص دولة أخرى.

ب ـ محاولة أعاقة دولة أخرى عن إقرار وتطبيق ما اختارته من نظام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو تعديله.

ج ـ المساس بعلاقات الدولة الخارجية مع غيرها من الدول، ومحاولة فرض اتجاهات وتفسيرات معينة لتصرفات هذه الدولة.

د ـ المساس بالتكامل الإقليمي لدولة أو دول أخرى.

وقد تأكد هذا المفهوم في الإعلانات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبصفة خاصة القرار الذي وافقت عليه الجمعية العامة في 21 ديسمبر 1965، بأغلبية 109 دولة وامتناع دولة واحدة عن التصويت، ويتضمن المبادئ الآتية:

1ـ ليس من حق أي دولة، أن تتدخل بالأسلوب المباشر أو غير المباشر في الشئون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى.

2ـ ليس من حق أي دولة، أن تستخدم أو تشجع، أى وسيلة من وسائل الإكراه السياسي أو الاقتصادي أو ما إلى غير ذلك، لجعل دولة أخرى تتنازل عن سيادتها أو تتنازل عن بعض حقوقها ضد إرادتها.

3ـ ليس من حق أى دولة، أن تنظم أو تدعم أو تحول أو تحرض أو تسمح بممارسة أية أنشطة تخريبية أو إرهابية أو عسكرية، يكون الهدف منها الإطاحة بالقوة بنظام الحكم في دولة أخرى، أو التدخل في النزاعات الأهلية لدولة أخرى.

4ـ إن استخدام القوة لحرمان الشعوب من تأكيد ذاتها الوطنية، يشكل انتهاكاً لحقوقها واعتداءً على مبدأ حظر التدخل.

5ـ ويكون لكل دولة الحق في أن تختار نظامها السياسي والاقتصادي والثقافي، دون تدخل من الخارج.

6ـ تتعهد كل الدول باحترام حق تقرير المصير والاستقلال لكافة الشعوب بعيداً عن أي صورة من صور الضغط الخارجي، مع الاحترام المطلق للحقوق الإنسانية والحريات الأساسية، وعليه فإنه يتعين على كل الدول أن تشارك في تصفية جميع مظاهر التمييز العنصري والتحكم الاستعماري.

وقد تأكدت المبادئ الواردة في هذا الإعلان في ممارسات المنظمات الدولية والقرارات الصادرة عنها، كما أكدتها العديد من الاتفاقيات الدولية الثنائية، وأصبحت ضمن مبادئ القانون الدولي الحديث، وقد وردت القاعدة في المادة 1/3 من دستور اليونسكو، والمادة 3/د من نظام وكالة الطاقة الذرية الدولية.

وتناول “التدخل الدولي” في إطار الاتفاقيات الثنائية، والعلاقات الخاصة بين الدول يثير إشكاليتين رئيسيتين، يمكن تناولهما في المطالب التالية: المطلب الأول: التدخل الدولي وإشكالية سيادة الدولة، المطلب الثاني: مشروعية التدخل بدعوى صالح الإنسانية، المطلب الثالث: مشروعية التدخل لمساندة ثورة في إقليم دولة أخرى

المطلب الأول: التدخل الدولي وإشكالية سيادة الدولة

الدولة بصفتها تنظيماً سياسياً ذا سيادة تتميز بخاصية احتكار القوة المادية وتكلف بوظيفة سياسية تهدف إلى حفظ النظام والسلام، ودعم التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، ولذلك فإن هناك جانبين للسيادة، الجانب الداخلي الذي يعني امتلاك الدولة للسلطة الشرعية المطلقة على جميع الأفراد والمجموعات التي يتعين عليها إطاعة الدولة إقليمياً، أي انتهاك لهذه الأوامر يعرضهم للعقاب، أما الجانب الخارجي فيعني الاستقلال عن كل رقابة وتدخل من أية دولة أخرى أو منظمة دولية، وهنا ينشأ التميز بين دولة كاملة السيادة وأخرى ناقصة السيادة[17].

وقد اتفقت الدول الأوروبية في مؤتمر وستفاليا عام 1648م على مبدأ السيادة الإقليمية من أجل تحقيق السلام الدولي، وكنتيجة ثانوية لهذا المبدأ، اعتبر الطريقة التي تعامل بها الدول الأفراد الذين يقيمون داخل أراضيها مسألة داخلية، ولم تكن حقوق الإنسان جزءاً من السياسة الدولية رغم الاستثناء منذ مؤتمر وستفاليا وحتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد قبلت الدول هذا المبدأ لأنها رأت فيه إفادة في تحقيق السلام والاستقرار الدوليين [18].

لكن نظام وستفاليا لسيادة الدولة، أصبح ضعيفاً في نهاية القرن العشرين، حيث لاحظ الاقتصادي الفرنسي فرانسو بيرو، إن هناك ظواهر متعددة وبسبب طبيعتها لا تستطيع الحكومات السيطرة عليها، لأنها تنبثق في وقت واحد في أماكن عديدة وتهم العديد من الدول في نفس الوقت [19].

وعليه تتناقض قدرات الدول تدريجياً بدرجات متفاوتة فيما يتعلق بممارسة سيادتها في ضبط عمليات تدفق المعلومات والأموال والسلع والبشر عبر حدودها، لأن الثورات الهائلة في مجالات الاتصال والإعلام قد حذت من أهمية حواجز الجغرافيا والحدود، كما حد توظيف التكنولوجيا المتطورة في عمليات التبادل التجاري والمعاملات المالية من قدرة الدولة على ضبط السياسة المالية والضريبية، وقدرتها على محاربة الجرائم الاقتصادية، بل إن القوة الاقتصادية الضخمة للشركات العملاقة تسمح لها بممارسة الضغط على حكومات الدول والتأثير في قراراتها السيادية [20].

لقد انعكست التطورات الاجتماعية الدولية على تطور مفهوم لسيادة، فالانتقال من العزلة إلى حالة التضامن، الذي أخذ يظهر في شكل علاقات تعاون بين الدول لمواجهة الحاجات والمصالح الوطنية المتزايدة، أدى إلى قيام نظام الاعتماد المتبادل الذي أخذت فيه كل دولة على نفسها المساهمة في تحقيق مصالح المجموعة الدولية، وهو ما لا يتم إلا بالاعتراف بحد أدنى من الضوابط الضرورية لاستمرار سلامة العلاقات الدولية، وهذه المعطيات الجديدة للنظام الدولي عملت على تحجيم مفهوم السيادة الوطنية، بحيث يتم التخلي عن بعض الحقوق السيادية وفقاً لما يتطلبه الصالح العام الدولي، وهو ما يعني إفراغ السيادة من مضمونها بامتيازات السلطة المطلقة، وإعطائها مضموناً جديداً قائماً على نشاط وظيفي لصالح الهيئة الدولية، وقد كان هذا التخلي عن بعض حقوق السيادة الوطنية بحكم الضرورة وليس اختياراً بإرادة الدولة، نتيجة للتطور المستمر للجماعة الدولية[21].

ومع ظهور مفاهيم وعلاقات جديدة بين الدولة ومواطنيها، تعرضت الدولة لعوامل عديدة، أدت إلى فشلها في حماية سيادتها الإقليمية، ومنها التطور الكبير في العلاقات الاقتصادية الدولية وثورة الاتصالات وانتشار الأسلحة الفتاكة التي أدت إلى إحلال سياسة الأمن الجماعي محل الأمن الإقليمي، بسبب ضعف القدرات الدفاعية للطبيعة الإقليمية الدولية، والثورة العلمية الهائلة والمتسارعة التي جعلت من العسير التخطيط لمواجهة حقائق المستقبل نظراً لعدم ثبات الجديد، وقد أضعفت هذه التطورات الحديثة نظام الدولة الوطنية [22].

وهذه التطورات الدولية تمس سلطة الدولة على رعاياها، حيث تشهد هذه السلطة جانباً من الانتقاص التدريجي عند دخول الدولة علاقات متعددة مع الدول الأخرى، لأن هذه العلاقات تخضع لبعض الضوابط العامة التي تهز من سلطان الدولة القائم على منطق القوة لتخضعه لمنطق الحق والقانون، وذلك يعني أن تغيراً قد أصاب مبدأ السيادة بتحوله من مبدأ سياسي قائم على فكرة الإرادة العامة باعتبار الأمة مصدراً للسلطات يستخدم لإضفاء الشرعية على أية حركة سياسية، إلى مبدأ قانوني يتبع ظهور دولة القانون التي مردها إلى فكرتين تبناهما الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، الأولى المحافظة على الحقوق الطبيعية التي لا تتقادم، والثانية أن هذه الحماية لا تتحقق إلا بالقانون.

ويتغير مضمون مبدأ السيادة تبعاً لتغير العلاقات الدولية التي تتغير وفقاً لتزايد الحاجات المشتركة وتغيرها، وهذا ما عكسه اتجاه تطور التنظيم الدولي من الفوضى إلى التقنين الدولي لمختلف المجالات، خلافاً لمفهوم السيادة الذي يتحرك في اتجاه عكسي [23].

والسيادة بصفتها مفهوماً قانونياً لا يمكن أن تعكس الواقع بطريقة دقيقة تماماً لأنها في أحد معانيها مطلقة في حين أن الوقائع نسبية، لذلك أدت العلاقة بين المفاهيم القانونية والعلاقات الاجتماعية المؤثرة، واستقلالها النسبى إلى انفصال المفاهيم القانونية عن الوقائع كي تصبح مستقلة عنها تماماً، ولذلك تعتبر السيادة مفهوما شكلياً صرفاً، حيث الحق في التشريع وصك النقود وتحقيق العدالة وغيرها من مضامين السيادة، وهي تاريخية مشروطة ولا يمكن أن تكون ثابتة، كما أنه يستحيل وضع قائمة بالاختصاصات التي ينبغي أن تقوم بها دولة ذات سيادة، فهذه الاختصاصات متغيرة عبر التاريخ [24].

وقد استخدم مبدأ السيادة كأداة لتحقيق استقرار نظام الدولة الوطنية، فبعد معاهدة وستفاليا أصبح لكل دولة الحق في التمتع بسيادتها الإقليمية وتحقيق مصالحها دون أن تدمر كل منها الأخرى أو تتعدى على النظام الدولي الذي تمركز في القارة الأوروبية، مسلماً بفكرة الدولة المستقلة ذات السيادة باعتبارها الوحدة الرئيسية في النظام، وإن الدول متساوية أمام القانون وتتولى الحفاظ على النظام المدني داخل أراضيها، وتعمل على إقامة علاقات جيدة مع الدول الأخرى.

إلا أن الممارسات الواقعية بين الدول أظهرت عدم المساواة بينها، فنشأت ثلاثة نظم ساعدت على الاستقرار في نظام لا مركزى من العلاقات الدولية وزعت فيه الموارد توزيعاً غير عادل، وهو توازن القوى لمنع ظهور دولة مسيطرة واحتوائها، ووضع المعايير لقواعد السلوك الدولي ولحل الخلافات، ثم قيام الدول العظمى بمسؤوليتها في حفظ النظام الدولي من خلال مؤسسات متفق عليها، فكان إنشاء عصبة الأمم ثم هيئة الأمم المتحدة، وكان للأخيرة دور مهم في ظهور الدولة المستقلة حديثاً جراء تفكك الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية، هذه الدول هي الأكثر حساسية لتدهور مفهوم السيادة، والأكثر تخوفاً من تدخل المجتمع الدولي كذريعة لبسط نفوذ الدول العظمى من جديد[25].

وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهر الفرد كوحدة قانونية تمتع بحقوق عامة وخاصة، وهو ما شكل تحدياً لمبدأ سيادة الدولة التقليدي، فبعد أن أصبح الفرد يحظى باهتمام القانون الدولي من خلال ظهور قانون الإنسان ومبدأ المسؤولية الدولية عن الجرائم العالمية الموجهة إلى سلامة وأمن البشرية، لم يعد بوسع صانع القرار انتهاك حقوق الإنسان تحت مظلة مبدأ السيادة الوطنية، لانهيار حجته بأنه يمثل الدولة أو يطيع أوامرها العليا، حيث أصبحت حقوق الإنسان مسألة تهم الجماعة الدولية والقانون الدولي، ولم تعد تتعلق بالمجتمعات القومية وتخضع للقانون الداخلي[26].

وحتى الأشخاص الأجانب في دولة ما أو الذين لا ينتمون إليها يجب ألا يجردوا منها، وقد حظي مبدأ حماية حقوق الإنسان بالاعتراف كقاعدة قانونية بموجب ثلاثة مصادر في القانون الدولي، هي: الاتفاقيات الدولية، والعرف الدولي، ومبادئ العدالة [27].

وإذا كان مبدأ السيادة يفترض أن الروابط بين الدولة ورعاياها، لا تدخل ضمن نطاق العلاقات الدولية، فإن التسليم بوجود حقوق دولية للإنسان يعني بداهة أن مجالاً من المجالات السياسية للاختصاص المطلق للدولة أصبح محلاً لتدخل القانون الدولي، ومثل هذا الأمر لا يمكن تقبله بسهولة لأن من أساسيات القانون الدولي التسليم بسيادة الدولة، وهو ما يعني أن مبدأ السيادة مازال يعوق اضطلاع المنظمات الدولية بإعداد نظام أكثر فعالية للدفاع عن حقوق الإنسان [28].

وفي هذا المجال اعتبر “بطرس غالي” الأمين العام للأمم المتحدة “سابقاً” أن الانتقال من حقبة دولية إلى أخرى، إنما يتمثل في احتلال مجموعة جديدة من الدول الأعضاء مقاعدها في الجمعية العامة، ودخول هذه الدول يعيد تأكيد مفهوم الدولة باعتبارها الكيان الأساسي في العلاقات الدولية، ووسيلة الشعوب لتحقيق وحدتها وإسماع صوتها في المجتمع الدولي. وإذا كان احترام سيادة الدولة ووحدة أراضيها لا يزال محورياً، فإن هذا المبدأ السائد لم يعد قائماً، وأنه لم يكن مطلقاً بالدرجة المتصورة له.

الأمر الذي يتطلب إعادة التفكير في مسألة السيادة لا من أجل إضعاف جوهرها الذي له أهمية حاسمة في الأمن والتعاون الدوليين، وإنما بقصد الإقرار أنها يمكن أن تتخذ أكثر من شكل وتؤدي أكثر من وظيفة، وهذه الرؤيا يمكن أن تساعد علي حل المشاكل سواء داخل الدول أو فيما بينها، وحقوق الفرد وحقوق الشعوب تستند إلى أبعد من السيادة العالمية التي تملكها البشرية قاطبة، والتي تعطى جميع الشعوب حقاً مشروعاً لشغل نفسها بالقضايا التي تمس العالم في مجموعه، وهذا المعنى يجد انعكاساً متزايداً له في التوسع التدريجي للقانون الدولي، وخاصة مع الاعتراف بأن الدول وحكوماتها لا تستطيع بمفردها مواجهة أو حل المشاكل القائمة اليوم [29].

ورغم أن مبدأ السيادة من المبادئ الأساسية في تكوين الدول، ومازال يشكل حجر الزاوية في بنية القانون الدولي، فإن التغيرات والتحولات الدولية أدت إلى تغير مفهومه التقليدي، وأبرزت التفرقة بين المفهوم القانوني للسيادة، الذي يقوم على المساواة القانونية بين الدول وحقها في الاستقلال وإدارة شؤونها بحرية في المجالين الداخلي والدولي، والمفهوم السياسي، الذي يقوم على الممارسة الفعلية لمظاهر السيادة بناءً على ما تحوز عليه الدولة من إمكانيات يوفرها التقدم العلمي والتكنولوجي، مما يعني أن هناك دولاً كاملة السيادة وأخرى ناقصة السيادة [30].

ومن هنا تراجع مفهوم السيادة من صيغته المطلقة إلى صيغ نسبية، بحيث يصبح وسيلة وليس غاية، ويعمل على تحقيق الخير العام الداخلي والدولي، ولم تعد السيادة مبرراً لانتهاك حقوق الإنسان الأساسية، لاسيما أن الدولة ملتزمة في ممارستها لمظاهر سيادتها بالقانون الدولي وما يتضمنه من التزامات تفرض عليها احترام حقوق الإنسان [31].

المطلب الثاني: مشروعية التدخل بدعوى صالح الإنسانية

تعد نظرية التدخل لصالح الإنسانية، من السمات البارزة في العلاقات غير المتكافئة، التي سادت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الدول الأوروبية من جهة، وبين الشعوب الأخرى لدول العالم من جهة أخرى، وكانت الدول الغربية تتذرع بهذه النظرية للانحياز في حقيقة الأمر إلى أحد أطراف النزاع الداخلي.

فقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية نظرية التدخل لصالح الإنسانية أكثر من ستين مرة، وذلك بين عام 1812 وعام 1932، من أجل حماية حياة وممتلكات مواطنين أمريكيين في الصين وأمريكا اللاتينية، وفي بعض الاستخدامات الأمريكية لنظرية التدخل لصالح الإنسانية، كانت الولايات المتحدة تهدف إلى حماية التجارة الأمريكية [32]، كما أدت الاستخدامات الأمريكية لنظرية التدخل لصالح الإنسانية إلى احتلال مطول [33]. كما أدي في بعض الحالات إلى بسط الحماية على الدول الضعيفة [34].

وبعد الحرب العالمية الثانية تلاشت هذه الصورة في إطار العلاقات بين الدول الغربية ودول العالم الأخرى، فمثلاً لم يؤدِ تذرع الولايات المتحدة بهذه النظرية في عام 1948، لإجلاء الرعايا الأمريكيين في قبرص إلى احتلال الصين وقبرص، إلا أن هذه الصورة تركت بصماتها على عدد من الاستخدامات الحديثة لنظرية التدخل لصالح الإنسانية [35].

وقد وضع الفقه الغربي ثلاثة شروط لصحة التدخل لصالح الإنسانية، هي: أن تحصل الدولة التي تتذرع بهذه النظرية على موافقة الدولة التي تتم فيها العمليات العسكرية، وألا تتجاوز العمليات العسكرية الهدف الإنساني، وأن يكون التدخل ضرورياً.

إلا أن الحالات التي استخدمت فيها نظرية التدخل لصالح الإنسانية لم تحترم هذه الشروط الثلاثة، فعمليات التدخل لصالح الإنسانية اعتمدت على موافقة من أجهزة مشكوك في مشروعيتها، في الدولة التي تمت فيها العمليات العسكرية، التي تندرج ضمن نظرية التدخل لصالح الإنسانية، أو بغياب كل مواقفه في الدولة التي تمت فيها هذه العمليات، كما أن شرط الضرورة الذي يتحكم في مشروعية هذه النظرية لم يتوافر إطلاقاً، كما أن الاستخدامات الحديثة لهذه النظرية، تظهر استخدامات سياسية واضحة تتجاوز معيار الأهداف الإنسانية.

فقد شهدت بعض التطبيقات العملية للتدخل لصالح الإنسانية أن موافقة سلطات الدولة التي تمت فيها عملية التدخل لصالح الإنسانية، كانت موافقة شكلية [36].

كما شهدت عدة استخدامات لنظرية التدخل لصالح الإنسانية غياب موافقة الدولة التي حدث فيها التدخل [37]. كما تظهر الحالات التي استخدمت فيها الدول نظرية التدخل لصالح الإنسانية، على أن هذا المبرر لا يهدف إلى حماية رعايا الدولة المتدخلة في الخارج [38].

وإن كان هذا لا ينفي وجود استثناءات توافر فيه شرط الضرورة لقيام دولة ما بإجراء عسكريي لحماية رعاياها في الخارج.

ووهنا تجدر أهمية الإشارة إلى قيام عدد من الدول بالتذرع بهذه النظرية لوقف انتهاكات حقوق الإنسان في الدول المجاورة، وهذه الانتهاكات لا تمس رعايا الدول التي تدخلت بأي ضرر وإنما بمواطني الدولة التي تم التدخل فيها، كما في حالة تدخل فيتنام في كمبوديا. وتدخل تنزانيا في أوغندا.

و التدخل لصالح الإنسانية يثير العديد من الإشكاليات من أهمها:

1ـ إن الدولة، حسب قواعد القانون الدولي، تملك الحق في حماية مواطنيها في الخارج ضمن إطار القاعدة الإجرائية “الحماية الدبلوماسية”، وهذا الحق يقوم على رابطة الجنسية وبدون هذه الرابطة لا يمكن لدولة أن تتدخل في دولة أخرى لحماية أشخاص لا يحملون جنسيتها.

وفي كل حالة قيام دولة بالتدخل لصالح الإنسانية، فإنها بذلك تقيم ظروف التدخل من تلقاء نفسها، وهذا يعني حتماً أن مصالحها قد أملت عليها التدخل، فمثلاً عندما تدخلت بلجيكا في الكونغو عام 1964 أوضحت عدة دول وعلى رأسها غانا والجزائر ومالي، بأن هدف بلجيكا من التدخل هو فصل إقليم كاتنجا عن الكونغوـ كينشاسا، وكذلك الحال عندما تدخلت الولايات المتحدة في جرينادا 1904، وعندما تدخلت فرنسا في زائير 1978.

وهنا يعتقد البعض أنه في حالة قيام دولة بالتذرع بنظرية التدخل لصالح الإنسانية في دولة مجاورة، وكان لهذه الدولة مطالب أو أطماع إقليمية في الدولة المجاورة، فإنه يمكن توجيه الاتهام إلى الدولة المتدخلة بأنها تسعى لتحقيق حلمها. كما في حالة التدخل التركى في قبرص، فقد اتهم مندوب قبرص في هيئة الأمم المتحدة تركيا عام 1964 بأنها تسعى إلى تقسيم قبرص، وهذا الاتهام تحقق بعد التدخل العسكرى في قبرص في يوليو 1974، وما صاحب هذا التدخل من إعلان قيام دولة قبرصية تركية فيدرالية في أبريل 1975، تحولت إلى دولة مستقلة في 15 نوفمبر 1983[39].

3ـ أن القانون الدولي المعاصر لا يحتوي على قواعد تؤيد اللجوء إلى القوة لحماية المواطنين في الخارج: فقد سجل القانون الدولي تطوراً نحو التحريم التدريجي لاستخدام القوة في المجتمع الدولي بدءاً باتفاقية لاهاي لعام 1970، حول تحديد استخدام القوة لاسترجاع الديون، ومروراً بمعاهدة “براين ـ كيلوج” التي وقعت في عام 1928، وانتهاءً بميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي أوضح بأنه لا يمكن اعتبار الحرب كوسيلة للسياسة الوطنية، وحرم التهديد أو اللجوء إلى استخدام القوة ضد التكامل الإقليمي والاستقلال السياسي.

ومن أجل تجاوز هذا التحريم، اعتمدت الدول التي تذرعت بنظرية التدخل لصالح الإنسانية على نوعين من المبررات، فمن جهة أوضحت هذه الدول بأن التدخل لصالح الإنسانية هو جانب من جوانب الدفاع عن النفس، ومن جهة أخرى زعمت هذه الدول بأن التدخل لصالح الإنسانية يهدف إلى قواعد القانون الدولي.

4ـ أن التدخل لصالح الإنسانية هو جانب من جوانب الدفاع عن النفس: فقد اعتمدت الدول التي تذرعت بنظرية التدخل لصالح الإنسانية، على قراءة قابلة للنظر لنص المادة 51 من ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وهذه القراءة تتضمن حقيقة مفادها أن المادة 51 المذكورة لا تبيح فقط اللجوء إلى القوة في حالة عدوان مسلح، وإنما حافظت أيضاً على قاعدة عرفية كانت موجودة قبل تبني ميثاق سان فرانسيسكو وهذه القاعدة العرفية تسمح لدولة من الدول بالتذرع بنظرية الدفاع عن النفس لحماية مواطنيها في الخارج [40].

إلا أن البعض يرفض هذه الأطروحات، لعدة اعتبارات:

أ ـ فيما يتعلق باعتماد هذا الاتجاه الفقهي على الأعمال التحضيرية، يجب قراءة تقرير مقرر اللجنة الفرعية المنبثقة عن اللجنة الأولى، ضمن الإطار العام لمعاهدة سان فرانسيسكو، فربط هذا التقرير بالإطار العام ينتهي إلى أن تحريم القوة يعتبر تحريماً مطلقاً “الفقرة الربعة من المادة الثانية من الميثاق”، كما تم التوصل إلى اتفاق بأن أي استخدام للقوة ضمن نظرية الدفاع عن النفس لا يمكن أن يحدث بدون مجلس الأمن.

ب ـ إن اعتماد هذه المدرسة علي قضية “كارولين”، وعلى قضية إغراق السفن البريطانية لقطع الأسطول الفرنسي التابع لحكومة “فيشي”، خلال الحرب العالمية الثانية، من أجل استخراج قاعدة عرفية؛ تكرس نظرية الدفاع عن النفس الاحتياطى، قبل تبني ميثاق هيئة الأمم المتحدة، ومن المعروف أن أهم شروط تكوين العرف الدولي هو تكرار السوابق المتجانسة، وسابقة أو سابقتين لا يمكن أن تؤدى إلى تأسيس عرف دولي، إذ أوضحت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر في 31 كانون الأول 1951 في قضية المصائد النرويجية، بأن قيام النرويج بإنشاء بحر إقليمي طوله 10 أميال بحرية لا يشكل قاعدة عرفية.

ومما يؤكد عدم استقبال القانون الدولي لنظرية الدفاع عن النفي الاحتياطي، هو قيام وزارة الخارجية الأمريكية بحذف عبارة الدفاع عن النفس الاحتياطي، التي وردت في خطاب الرئيس “كيندي” حينما فرض عقوبات اقتصادية على كوبا في تشرين الأول 1962، خلال أزمة الصواريخ الأمريكية ـ السوفيتية.

ج ـ إن فكرة ربط تطبيق الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، بفعالية إجراءات القسر الجماعي الواردة في الميثاق، لا يمكن أن تجد دعماً كافياً لا في نصوص الميثاق ولا روحه، إذ إن الفقرة الرابعة من المادة الثانية لا تقوم بهذا الربط، كما أن الدول التي وقعت على ميثاق سان فرانسيسكو، والتي كانت تتذكر بمرارة تجارب الحرب العالمية الثانية، أرادت تحريم كل استخدام فردي للقوة من قبل دولة ما “باسم أفكارها الخاصة بالعدالة، أو احتياجاتها الأمنية الذاتية”، ولأن محكمة العدل قد أوضحت في قضية مضيق “كورفو” في نيسان 1948، بأنه يعمل بقاعدة تحريم اللجوء إلى القوة مهما كانت النواقص الحالية لهيئة الأمم المتحدة”[41].

د ـ إن القول بأن الفقرة الرابعة، من المادة الثانية من ميثاق هيئة الأمم المتحدة تبيح استخدام القوة، إذا لم يؤدِ هذا الاستخدام إلى انتهاك مبدأ التكامل الإقليمي والاستقلال السياسي، هو قول مثير للجدل ويعاني من العديد من أوجه القصور [42].

5ـ القول بإن التدخل لصالح الإنسانية يهدف إلى توفير احترام القانون الدولي: فقد استخدمت تنزانيا وفيتنام هذا المبرر للتدخل في أوغندا وكمبوديا، كما استندت بلجيكا على هذا المبرر للتدخل في الكونغو كينشاسا، فقد أوضحت بأن القوات المتمردة في الكونغو قامت بانتهاكات واسعة النطاق، لاتفاقية جنيف الرابعة والتي تهدف إلى حماية المدنيين، ومن المعروف أنه بموجب المادة الثالثة من الاتفاقية المذكورة، فإن أحكامها تطبق في نزاع مسلح، غير دولي، ينشب في أراضي دولة طرفاً في هذه المعاهدة.

إلا أن هذا الرأي ترد عليه ملاحظتان أساسيتان:

الأولي: أنه يخالف القواعد التقليدية للمسئولية الدولية، فمسألة الحق القانوني المتضرر، هي قضية ثنائية بين الدولة المقصرة والدولة الضحية، ويمكن دعم هذه القاعدة بحكم محكمة العدل الدولية الصادرة في عام 1966، في قضية جنوب غرب أفريقيا [43].

ويمكن لنظرية حديثة في القانون الدولي أن تعطي مبرراً للدول التي تعتمد على انتهاكات حقوق الإنسان، في الدول الأخرى لاتخاذ عدد من الإجراءات المعنية ضد الدولة التي تنتهك هذه الحقوق، وهذه النظرية هي نظرية الإجراءات المعاكسة، التي وردت في المادة 30 من مشروع المعاهدة التي تقوم لجنة القانون الدولي بإعدادها، حول المسئولية الدولية، ومضمون هذه النظرية هو إضفاء المشروعية على رد فعل تقوم به دولة، نتيجة انتهاك دولة أخرى لقاعدة من قواعد القانون الدولي.

ولقد أعطت المادة 30 مبرراً للإجراءات المعاكسة، التي تقوم بها عدد من الدول الغربية، مثل قيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية في كانون الأول 1981، ضد بولندا بعد فرض الأحكام العرفية فيها، أو العقوبات الاقتصادية التي اتخذتها الدول الأوروبية ضد الأرجنتين في نيسان 1982، بعد احتلالها لجزر الفوكلند.

إلا أن استخدام نظرية الإجراءات المعاكسة لتبرير العمليات العسكرية، تحت غطاء نظرية التدخل لصالح الإنسانية، هو نوع من المثالية القانونية التي لا يمكن أن يكون لها حيز في القانون الدولي، فهذه النظرية تقتصر على إجراءات سلمية، مثل العقوبات الاقتصادية، أو إنهاء العمل بمعاهدة، ولا تشتمل على أعمال القسر العسكري [44].

وإذا كان الدفاع عن القواعد الأساسية للقانون الدولي، من المؤشرات التي تدل على تقدم هذا القانون، إلا أن هناك احتمالا يحتوي على مجازفة وخيمة العواقب تتلخص بقيام الدول بتقليد نفسها لحق الدفاع عن القواعد الأساسية للقانون الدولي، وهذا أمر غامض ولا يمكن فصله عن الإطار الاستراتيجي والدبلوماسي القائم بين هذه الدول والدول التي تتخذ ضدها إجراءات معاكسة، كما أن الإجراءات التي اتخذتها دول لم تتعرض إلى ضرر مباشر، ليست إلا ممارسات قامت بها الدول الغربية، فما هي إلا سوابق لعرف إقليمي.

الثانية: إن التدخل العسكري لصالح الإنسانية، لا يتطابق مع المعاهدات الدولية، لحماية حقوق الإنسان التي تنبذ فكرة استخدام القوة لاحترام حقوق الإنسان، فمعاهدة تحريم جرائم الإبادة الجماعية التي اعتبرت الإبادة الجماعية جريمة دولية، لم تشر إلى استخدام القوة ضد دولة عضو انتهكت المعاهدة، كما أن المعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لم يكرس قاعدة اللجوء إلى القوة لاحترام حقوق الإنسان الواردة فيه، وإنما اقتصر فقط على وضع نظام للتقارير تقوم الدول الأعضاء بإعدادها تتعلق بالخطوات التي قامت باتخاذها لتنفيذ العهد، والتقدم الذي تم لاحترام الحقوق الواردة فيه، وترسل هذه التقارير إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي لهيئة الأمم المتحدة[45].

المطلب الثالث: مشروعية التدخل لمساندة ثورة في إقليم دولة أخرى

من القضايا الأخرى التي يثيرها التدخل الدولي في إطار العلاقات الثنائية، مشروعية التدخل لمساندة ثوار في إقليم دولة أخري، فقد انقسم الفقه الدولي في هذا الشأن إلى فرعين، اتجه الأول إلى جواز الخروج على مبدأ عدم التدخل، لصالح الثوار في دولة أخرى، ولكن بشروط معينه. وذهب الثاني إلى عدم مشروعية الخروج على مبدأ عدم التدخل على الإطلاق:

الاتجاه الأول: عدم جواز التدخل لصالح الثوار:

يؤسس هذا الفريق المعارض لمبدأ التدخل لصالح الثوار رأيه على أن القانون الدولي التقليدي ينظر إلى الثورات أو الحروب الأهلية من حيث المبدأ، على أنها مسألة داخلية بعيدة عن إطار القانون الدولي، لأن الاختلاف بين الثورة والعصيان والتمرد والحرب الأهلية، اختلاف في الشكل والدرجة لكنها جميعاً تتفق في غاية واحدة، وهي إحداث تغيير في المؤسسات أو السياسات لحكومة قائمة، ولذلك فإن القانون الدولي يحظر كل تدخل يهدف إلى إثارة الحروب الأهلية أو التشجيع عليها في دولة أخرى.

وترتيباً على ذلك، يعتبر التدخل لصالح الثوار أو ضدهم عملاً غير مشروع، لأنه يتعارض مع حق الشعوب في اختيار نظام الحكم فيها، الذي تقبله وترتضيه، وإن الأولى بالدول الأجنبية أن تقف من الثورة أو الحرب الأهلية موقف الحياد، حتى ينتهي النضال وينجلي الموقف [46].

كما ينتقد هذا الفريق الاتجاه، الذي يسمح بمساعدة الثوار، وذلك لما تلاقيه تلك المساعدة من معارضة ورفض دولي، الأمر الذي أكدته الممارسات الدولية، كما ورد بمذكرة الخارجية الفرنسية عام 1935، من ضرورة الالتزام بالامتناع المفروض على الدول في الحروب الأهلية، التي تتمثل في حظر الدعاية المدمرة ضد حكومة أجنبية، وحظر الاعتراف بالصفة الرسمية لممثلي الثوار، وكذلك حظر إمدادهم بمعونة أو تدريب، لأن ذلك يشكل اعتداءاً على سيادة الدولة، وخروجاً على مبدأ عدم التدخل [47].

ويؤيد أصحاب هذا الرأي موقفهم، بما قننته المعاهدات الدولية في هذا الشأن، ومن ذلك إدانة مؤتمر باريس عام 1869، لكل أشكال المحاباة تجاه الفرق الثورية، وإعداد أو تأييد ثورة ضد حكومة أجنبية. وكذلك ما اتجهت إليه منظمة الأمم المتحدة، عندما اعتبرت أن المساعدة المقدمة من كل من ألبانيا وبلغاريا ويوغوسلافيا للثوار في اليونان بين (1946ـ1949) وبين (1959ـ1962) لا تتفق وقواعد الميثاق.

وقد تأكد موقف الأمم المتحدة في هذا الشأن، عندما رفضت الجمعية العامة للأمم المتحدة، الاستناد لفكرة حرب التحرير الوطنية، لإعطاء الحق لحركة المقاومة الأفغانية ضد الوجود السوفيتى في التمايز، وإخراج النزاع من الشأن الداخلي لأفغانستان.

ويذهب أغلب الفقهاء العرب، إلى مناصرة هذا الاتجاه الرافض لمبدأ التدخل، تحت ذريعة مساعدة الثوار في دولة أخرى، مؤكداً على: “أن قيام ثورة في دولة ما، يعد من الأمور الداخلية، فإذا نجحت وفرضت سيطرتها بذاتها وبدون عون خارجي، أصبحت حكومة هذه الدولة، وللدول الأخرى أن تتعامل معها بعد الاعتراف بها. أما إذا فشلت، استمر نظام الحكم الذي كان قائماً وهو الحكومة الشرعية للدولة [48].

الاتجاه الثانى: جواز التدخل لصالح الثوار:

اختلف أصحاب هذا الاتجاه فيما بينهم حول سند كل منهم في تبرير مساندة الثوار، فذهب فريق، إلى مشروعية مساندة الطرف الثائر، ولكن بشرط أن تكون له منظمة عسكرية ومدنية كافية، تبدأ ممارسة اختصاصات الحكم على الإقليم والسكان، في ظل انحسار فاعلية الحكومة.

وذهب آخر إلى التمييز بين “الحرب الأهلية” التي تهدف إلى الإطاحة بالسلطة الحاكمة، وتلك التي يحاول جزء من السكان إعمال حق تقرير المصير، ففي الحالة الأولى يتسم النزاع بالصبغة الداخلية ويستبعد كل تدخل، بما فيه التدخل لصالح الحكومة القائمة. بينما في الحالة الثانية، فيتسم النزاع بالصيغة الدولية، حينئذ تحظر كل مساعدة للحكومة، على حين يحق لكل دولة بموجب القانون الوصفي الساري بمساعدة الثوار، وذلك بإعمال تفسيرها الخاص لوقائع الحالة.

ويرى فريق ثالث أن القاعدة في هذا الشأن، هي إعمال مبدأ عدم التدخل، غير أن الاستثناء قد تحتمه مسألة تطور أمور تلك الثورة وأعمالها، التي قد تضر بسلامة وأمن دولة أخرى، حينئذ يجوز لتلك الأخيرة التدخل، إذا ما نشأ عن تلك الأحداث أضرار بحقوقها وسلامتها [49].

وإلى ذلك ذهب “جنينة”، مؤكداً على: “أن قيام ثورة داخل دولة، لا يبيح لدولة أخرى التدخل في شؤونها، مادام أن ما للدولة من حق البقاء والصيانة، لا يهدده قيام الثورة الداخلية في الدولة الأخرى”[50].

ومن ذلك يتضح، أن الفريقين اتفقا على أن القاعدة هي إعمال مبدأ عدم التدخل، وعلى حين رفض الفريق الأول اعتبار مساندة الثوار استثناءاً على هذه القاعدة، فإن الفريق الثانى قد وضع شروطاً معينة حتى يمكن اعتبار مساندة الثوار بمثابة استثناء على مبدأ عدم التدخل.

ولقد انتهى مجمع القانون الدولي، في دورته التي عقدت بواشنطن عام 1973، إلى امتناع الدول عن التدخل لصالح أى طرف من أطراف الحرب الأهلية أو مساعدته، باستثناء المساعدات ذات الطابع الإنساني، وذلك بعد أن عرف المجمع الحروب الأهلية بأنها النزاعات المسلحة التي تقع على إقليم إحدى الدول ما بين حكومة هذه الدولة وواحدة أو أكثر من حركات العصيان المسلح، التي تهدف إلى قلب نظام الحكم، أو تغييره أو الانفصال عن الدولة أو تحقيق الحكم الذاتي على جزء منها، أو قيام حالة حرب بين طائفتين أو أكثر من طوائف الدولة، بغية الوصول إلى السلطة في ظل غياب سيطرة الحكومة على مقاليد الأمور.

ولكن المساعدات تكون واجبة على الدول لحركات التحرير الوطنية، التي تقاوم الاستعمار والاحتلال، وذلك طبقاً للبروتوكول الأول عام 1977، الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1949، باعتبار أن حروب التحرير تعتبر ضمن النزاعات المسلحة الدولية [51].

وبالتطبيق علي حالة العراق والكويت عام 1990، والتي ادعي فيها العراق مشروعية تدخله في الكويت، لمناصرة الثورة التي قامت فيها، وطلب قادتها مساعدته، فإنه على ضوء نصوص مواثيق وإعلانات المنظمات الدولية، يتضح فساد وبطلان الادعاء العراقي في تبرير واقعة الغزو، خاصة وأن أشد الآراء تأييداً لحق التدخل لمساعدة الثور قد وضع قيوداً وشروطاً، لم يتوفر أياً منها في حالة ثورة الكويت التي يدعيها العراق، فلم تكن هناك ثمة اضطرابات داخل الكويت، أو حرب أهلية بين حكومة الكويت وأي جماعة ثورية، كذلك لم يكن الأمر داخل دولة الكويت يشكل نوعاً من نضال شعبها ضد حكومة تلك الدولة.

بل إن افتراض قيام تلك الثورة لم يشكل أي مخاطر أو اضطرابات تمس أمن وسيادة واستقلال العراق حتى يستطيع التدخل في الشأن الكويتى، الأمر الذي يعد معه فعل الغزو العراقي للكويت عملاً من أعمال العدوان.

وإذا كان من الثابت أن القانون الدولي العام يتضمن مجموعة من المبادئ، التي من شأن تطبيقها واحترامها أن تسود العلاقات السلمية والودية بين الأمم والشعوب، يأتي على رأسها مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية والخارجية للدولة، فإن مبدأ “حسن الجوار” يشكل مع مبدأ عدم التدخل وجهين لعملة واحدة، يستحيل الفصل بينها من الناحية القانونية البحتة.

وحسن الجوار ينطوي بالضرورة على عدم تدخل في شؤون الدول المجاورة، وعدم التدخل يفترض حسب المجرى العادي للأمور أن الدول المتجاورة تحترم بعضها البعض، بالشكل الذي يجعل العلاقات بينهما تسير في اتجاه النمو والتعاون على حل المشكلات ذات الاهتمام المشترك [52].

وعلى ذلك، لا يكون العراق قد انتهك مبدأ عدم التدخل حسب، بل ـ وفي نفس الوقت ـ قد عصف بمبدأ حسن الجوار، الذي يشكل أحد أعمدة التنظيم الدولي المعاصر، والتي يجب احترامها من قبل أعضاء المجتمع الدولي [53].

خاتمة الدراسة:

لقد أصبح مبدأ عدم التدخل عنصراً قانونياً هاماً في ميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 1945، وفي العديد من القرارات الصادرة عنها في هذا الشأن، فقد أقرت المادة (2/1) من الميثاق صراحة بمبدأ المساواة القانونية بين الدول الأعضاء بقولها “تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها”.

كما أن المادة (2/4) التي تنص على أن “يمنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة”، فسرت بأن على الدولة ألا تحدث تعديلاً على الاستقلال السياسي والوحدة الإقليمية للدول الأخرى.

كذلك فإن المادة (2/7) التي تنص على “ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذا لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع”، ويلاحظ على هذا المبدأ أنه قد قصد أن يكون عاماً يسري على جميع وجوه نشاط الأمم المتحدة وسائر فروعها، وبذلك يقيد من تدخل الهيئة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للدول الأعضاء حتى لا تصبح هذه الهيئة دولة عالمية أو كياناً يعمل لصالح مجموعة من الأعضاء.

كما أخذت لجنة القانون الدولي للأمم المتحدة في مشروعها الخاص بحقوق وواجبات الدول عام 1947 بهذا الرأي عندما نصت المادة (3) على أنه: “يجب الامتناع عن أي تدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لدولة أخرى”.

وقد حاولت الدول الضعيفة استغلال هذا المبدأ لتحوله إلى قاعدة قانونية دولية مطلقة، من خلال إصدار الجمعية العامة عدداً من الإعلانات منها: إعلان عدم جواز التدخل في الشؤون للدول وحماية استقلالها وسيادتها رقم (2131) لعام 1965.

كما أصدرت الجمعية العامة إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة رقم (2625) لعام 1970 الذي تضمن مبدأً خاصاً بواجب عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صميم الولاية القومية للدولة.

وأصدرت الجمعية العامة إعلان عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية بجميع أنواعه رقم (36/103) لعام 1981، وقد تضمن هذا الإعلان مبدأ عدم التدخل، فحدد حقوق الدول في السيادة والاستقلال وحرية اختيار نظامها السياسى والاجتماعي، بالإضافة إلى حقها في تملك المعلومات بحرية، ثم حدد واجبات الدول في الامتناع عن جميع أشكال التدخل التي تهدد حقوقها.

ومن حيث القضايا والإشكاليات التي يثيرها مبدأ التدخل الدولي: انتهي الباحث إلي أن أهم هذه القضايا تتمثل في طبيعة العلاقة بين التدخل والسيادة، فرغم أن مبدأ السيادة من المبادئ الأساسية في تكوين الدول، ومازال يشكل حجر الزاوية في بنية القانون الدولي، فإن التغيرات والتحولات الدولية أدت إلى تغير مفهومه التقليدي، وأبرزت التفرقة بين المفهوم القانوني القائم على المساواة القانونية بين الدول وحقها في الاستقلال وإدارة شؤونها بحرية في المجالين الداخلي والدولي، والمفهوم السياسي القائم على الممارسة الفعلية لمظاهر السيادة بناءً على ما تحوز عليه الدولة من إمكانيات يوفرها التقدم العلمي والتكنولوجي، مما يعني أن هناك دولاً كاملة السيادة وأخرى ناقصة السيادة، كما غيرت مفهوم السيادة المطلقة وجعلته نسبياً.

كما أنه أمام التطورات الدولية، تراجع مفهوم السيادة من صيغته المطلقة إلى صيغ نسبية، بحيث يصبح وسيلة وليس غاية، ويعمل على تحقيق الخير العام الداخلي والدولي باعتبار الإنسان الهدف الأسمى له، ولم تعد السيادة مبرراً لانتهاك حقوق الإنسان الأساسية، لاسيما أن الدولة ملتزمة في ممارستها لمظاهر سيادتها بالقانون الدولي وما يتضمنه من التزامات تفرض عليها احترام حقوق الإنسان [54].


الهامش

[1] د. محمد طلعت الغنيمي، مرجع سابق، ص 256.

[2][2] د. محمد مصطفى يونس، قانون التنظيم الدولي: الجزء الأول ـ الهيكل التنظيمي للمنظمات الدولية، القاهرة، دار النهضة العربية، 1986، ص 46 ـ 48.

[3] د. علي إبراهيم، مرجع سابق، ص 436.

[4] د. بطرس غالي، التدخل العسكري الأمريكي والحرب الباردة، السياسة الدولية، مركز الأرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، عدد7، يناير 1967، ص 8 ـ 9.

[5] د. ممدوح شوقي مصطفى، مرجع سابق، ص 326 ـ 328.

[6] د. بطرس غالي، التدخل العسكري الأمريكي والحرب الباردة، مرجع سبق ذكره، ص 8 ـ 9.

[7] أنظر اتفاقيات الجامعة العربية، مؤلف صادر عن الجامعة العربية.

[8] د. بطرس غالي، التدخل العسكري الأمريكي والحرب الباردة، مرجع سبق ذكره، ص 8 ـ 9.

[9] د. بطرس غالي، مرجع سبق ذكره، ص 8 ـ 9.

[10] د. محمد مصطفى يونس، مرجع سابق، ص 204.

[11] د. حسن أبو طالب، حرب كوسوفو وحدود التغير في النظام الدولي، السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، عدد 137، يوليو 1999، ص 95.

[12] مالك عوني، حلف الأطلنطي وأزمة كوسوفو: حدود القوة وحدود الشرعية، مرجع سابق، ص 114.

[13] محمد فايز فرحات، الأمم المتحدة وأزمة كوسوفو، مرجع سابق، ص 124.

[14] د. عماد جاد، حلف الأطلنطي والحرب في البلقان، مرجع سابق، ص 102 ـ 103.

[15] مسعد عبد الرحمن، تدخل الأمم المتحدة في النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي، رسالة دكتوراه في القانون الدولي العام، جامعة القاهرة، كلية الحقوق، 2001، ص 108، ص118.

[16] د. إبراهيم العناني، القانون الدولي العالم، 1990، ص 181.

[17] بطرس غالي ومحمود خيري عيسى، المدخل إلى عالم السياسة، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1989، ص 171.

[18] دافيد فورسايت، حقوق الإنسان والسياسة الدولية، ترجمة محمد مصطفى غنيم، القاهرة، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، 1993، ص 17.

[19] مارسيل ميرل، سوسيولوجيا العلاقات الدولية، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1986، ص64ـ65.

[20] حسنين توفيق إبراهيم، “العولمة: الأبعاد والانعكاسات السياسية، رؤية أولية من منظور علم السياسة”، عالم الفكر، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، المجلد 28، العدد 2، أكتوبر ـ ديسمبر 1999، ص 194.

[21] عدنان نعمة، السيادة في ضوء التنظيم الدولي المعاصر، بيروت، د.ن، 1978، ص 10 ـ 12.

[22] أحمد صدقي الدجاني، الدولة التعددية وحق تقرير المصير في عصرنا، أعمال ندوة، رؤساء الدول أمام حق تقرير المصير وواجب الحفاظ على الوحدة الترابية والوطنية، تحرير عبد الهادي بوطالب، فاس، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، أبريل 1994، ص 74 ـ 75.

[23] عدنان نعمة، مرجع سابق ذكره، ص 9 ـ 10، 27 ـ 31.

[24] عبد الهادي عباس، سيادة الدولة، مجلة المعرفة، دمشق، وزارة الثقافة، السنة 36، العدد 402، آذار 1997، ص 57 ـ 58.

[25] جين لويتر وميشيل باستاندونوا، التدخل الدولي وسيادة الدولة ومستقبل المجتمع الدولي، ترجمة محمد جلال عباس، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، اليونسكو، العدد 138، نوفمبر 1993، ص80ـ81.

[26] هذا ما أكده القاضي الياباني “تانكا” في قضية جنوب غرب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية معلقاً على أهمية حقوق الإنسان بقوله: “يستمد مبدأ حماية حقوق الإنسان من فكرة أن الإنسان هو شخص، ومن علاقته مع المجتمع التي لا يمكن فصلها عن الطبيعة الإنسانية، وأن وجود حقوق الإنسان لا يعتمد على إدارة الدولة لا من خلال تشريعاتها الداخلية ولا من خلال معاهداتها الدولية، فليس بمقدور الدول خلق حقوق الإنسان وإنما يمكن لها التأكيد على وجودها وحمايتها، ولذلك فإن دور الدولة ليس أكثر من دور إيضاحي، حيث وجدت حقوقه مع وجوده وقبل وجود الدولة.

[27] محمد فضة، الدولة القومية وحقوق الإنسان، البحث العلمي، الرباط، المعهد الجامعي للبحث العلمي بجامعة محمد الخامس، العدد 33، نوفمبر، 1982، ص 214 ـ 215.

[28] مصطفى سلامة حسين، محاضرات في العلاقات الدولية، القاهرة، دار الإشعاع للطباعة، 1986، ص 39 ـ 40.

[29] د. بطرس غالي، نحو دور أقوى للأمم لمتحدة، السياسة الدولية، القاهرة، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، العدد 111، يناير، 1993، ص 11.

[30] ممدوح شوقي، الأمن والعلاقات الدولية، السياسة الدولية، القاهرة، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، العدد 127، يناير، 1997، ص 46.

[31] د. سعدى كريم سليمان، د. حسن الجديد، التدخل الإنسانى وإشكالية السيادة، مجلة دراسات، طرابلس، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، العدد الثالث والعشرون، الشتاء 2005، ص 54 ـ 61.

[32] مثل التدخل الأمريكي في هندوراس في عام 1910ـ1911.

[33] مثل احتلال الولايات المتحدة لكوبا في عام 1898م.

[34] مثلاً قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالإشراف بشكل مباشر على إدارة الجمارك في جمهورية الدومنيكان في عام 1907، وفي هايتي في عام 1915.

[35] كما في حالة التدخل الفرنسي في جمهورية أفريقيا الوسطى في عام 1979، حيث أدى هذا التدخل إلى احتلال فرنسي لأفريقيا الوسطى تجسد بتعيين فرنسا لرئيس جديد للجمهورية “داكو”، الذي حل محل الإمبراطور بوكاسا، كما قامت القوات الفرنسية بعد التدخل العسكرى بالتدقيق في الهوايات، وقامت بحراسة القصر الجمهوري في بانجي، وفرضت حظر التجول، كما مارست السفارة الفرنسية في بانجي نوعا من المراقبة على المؤتمرات الصحفية، التي عقدها رئيس أفريقيا الوسطى الجديد.

[36] من الأمثلة علي ذلك:

ـ تدخل فرنسا في أفريقيا الوسطي: فقد بدأت القوات الفرنسية بالتدخل في جمهورية أفريقيا الوسطى في الساعة الحادية عشر والربع من ليلة 20 أيلول 1979 قبل الإعلان الرسمى عن الانقلاب الذي قام به داكو، كما سيطر المظليون الفرنسيون على النقاط الاستراتيجية في بانجى قبل إعلان داكو عن توليه السلطة.

ـ حالة التدخل الأمريكى في جزر جرينادا في تشرين الأول 1983، فقد تدخلت الولايات المتحدة بناءً على رسالة أرسلها الحاكم العام لجزر جرينادا، “بول ساكون”، في 24 تشرين الأول 1983 إلى الرئيس “ريجان”، ومن المعروف أن وظيفة الحاكم العام لجزر جرينادا قد أصبحت وظيفة رمزية ثانوية هامشية بعد الثورة التي قامت في هذه الجزر في عام 1979.

ـ التدخل الأمريكي في لبنان في عام 1958 كان بناءً على طلب من حكومة “كميل شمعون” الذي كان معزولاً.

ـ تدخل بلجيكا في الكونغو عام 1964، والذي تم بناءً على طلب من “تشومبي” الذي أسس حكومة محلية صورية، ولقد أشار مندوب بلجيكا في مجلس الأمن إلى أن القوات البلجيكية تدخلت بناءً على طلب من الحكومة المؤقتة التي أنشأها توشمبي، ولكن حكومة تشومبي قد انفصلت عن الكونغوا كينشاسا، والقانون الدولي لا ينظر بعين العطف إلى الانفصال، فقد أوضحت التوصية رقم 2625، انجيل العلاقات الودية بين الدول والصادرة عن الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في تشرين الأول 1970، بأن حق الشعوب في تقرير مصيرها يجب أن لا يفهم على أنه يسمح أو يشجع أى تصرف يهدد كلياً أو جزئياً مبدأ التكامل الإقليمى.

والمعروف أن الإدارة المحلية، والولايات المكونة لاتحاد فيدرالي، لا تملك الشخصية القانونية الدولية، صحيح قد تكون للولايات الفيدرالية والإدارات المحلية نوع من السلطة، إلا أن هذه الكيانات ليس لديها اتصال مباشر مع القانون الدولي، ويتم هذا الاتصال عن طريق السلطة المركزية، وقد عبرت عن هذه الفكرة محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري، الصادر في قضية اصطلاح بعض الضرر الذي لحق بهيئة الأمم المتحدة في الشرق الأوسط، ويترتب على غياب الشخصية القانونية الدولية للإدارات المحلية أو الولايات المكونة للاتحاد الفيدرالي، هو أن طلب حكومة محلية للمساعدة من دولة أخرى لا يولد أي آثار قانونية.

[37] من الأمثلة على ذلك:

ـ العملية العسكرية الأمريكية الفاشلة التي قامت بها في صحراء لوط في أيار 1980، ومن المعروف أن الطلبة الإيرانيين، بدافع من السلطات الدينية الحاكمة في طهران، قاموا في تشرين الثاني 1979 باحتجاز عدد من الدبلوماسيين الأمريكيين، ومن أجل إجبار السلطات الإيرانية على إطلاق سراح الرهائن قامت الولايات المتحدة باتخاذ عدد من العقوبات الاقتصادية ضد إيران ابتداءً من 12 تشرين الثاني 1979، وقررت في 7 نيسان 1980 قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران.

وهذه الإجراءات لم تنجح في إقناع إيران بإطلاق سراح الدبلوماسيين، مما دفع الولايات المتحدة إلى تنظيم عملية عسكرية فاشلة في إيران، في وقت كانت فيه محكمة العدل الدولية تقوم بإصدار حكمها، وقد رأت محكمة العدل الدولية، أنه من المناسب أن تعلق على التدخل الأمريكي الفاشل بالرغم من أن إيران، بسبب ممارستها لسياسة الكرسي الفارغ، لم تطلب منها أن تبت في القضية، وأوضحت بأن العملية، التي تمت مداولة المحكمة حول القضية، هو تصرف يلحق الضرر بالمؤسسة الدولية.

ـ تدخل الهند العسكرى في باكستان الشرقية عام 1971، فبعد انتصار حزب “عوامي” في الانتخابات العامة في كانون الأول 1970 في باكستان الشرقية نمت حركة انفصالية في هذا الإقليم تطالب بالانفصال عن باكستان ـ الأم ـ ورد الجيش الباكستاني وانتهاكات حقوق الإنسان، وانعكاسات الأحداث على الهند “98 مليون لاجئ بنغالي فروا إلى الهند” للتدخل في باكستان الشرقية، وقد أوضح مندوب الهند لدى هيئة الأمم المتحدة هذا المبرر، حيث قال: “لقد تدخلت الهند لإنقاذ شعب البنغال الشرقي من الإبادة الجماعية”.

[38] فمثلاً عندما تدخلت الولايات المتحدة في لبنان عام 1958 لم يكن هناك خطر يواجه الرعايا الأمريكيين، ولم تظهر الفصائل اللبنانية المعارضة للسيد “كميل شمعون” أي تهديد للرعايا الأمريكيين، وحين طلب الرئيس “شمعون” من الولايات المتحدة التدخل، لم يشر بتاتاً إلى عدم مقدرته على حماية الرعايا الأمريكيين، في لبنان.

أما الولايات المتحدة فقد استندت في بداية الأمر عند تدخلها في لبنان في 20 أيار 1958، على حماية المواطنين الأمريكيين في لبنان، ثم تخلت عن هذا المبرر وأوضحت: “بأن التدخل الأمريكي يهدف فقط إلى مساعدة الحكومة اللبنانية ـ بناءً على طلبها ـ على تهدئة الوضع الذي تردى بسبب التهديدات الخارجية”. وتناست الولايات المتحدة تماماً مبرر حماية المواطنين الأمريكيين، خلال أعمال الدورة الاستثنائية للجمعية العمومية التي افتتحت في 8 آب 1958.

كما لم يتعرض الرعايا الأمريكيين في جرينادا لأي خطر، قبل تدخل الولايات المتحدة في الجزيرة، رغم أن الأطروحات الأمريكية كانت تركز على أن الرعايا الأمريكيين يواجهون خطر أخذهم كرهائن إلا أن المجلس العسكري الثوري، الذي استلم مقاليد الحكم بعد الإطاحة بالسيد “شوب”، قد أعرب على رغبته في حماية الطلبة الأمريكيين وتحسين علاقة جرينادا بالولايات المتحدة.

[39] غسان الجندي، نظرية التدخل لصالح الإنسانية في القانون الدولي العام، المجلة المصرية للقانون الدولي، الجمعية المصرية للقانون الدولي، عدد 34، 1987، ص 162 ـ 167.

[40] تعتبر هذه الفكرة من أفكار الفقيه البريطاني “Waldock”، وتعتمد على القرائن القانونية التالية:

1ـ أنه خلال الأعمال التحضيرية لمؤتمر سان فرانسيسكو لم يحتو أو لمشروع لصياغة ميثاق هيئة الأمم المتحدة على المادة 51، وقد تم إدراج هذه المادة فيما بعد لتوضيح موقف هيئة الأمم من معاهدات التحالف المشترك وحسب الفقيه “Waldock” لم تهدف المادة 51 إلى تنظيم حق الدفاع عن النفس بشكل نهائي، ويستند هذا الاتجاه على تقرير مقرر لجنة فرعية تابعة للجنة الأولى، حيث أشار هذا التقرير، بأن استخدام السلاح للدفاع عن النفس هو أمر مقبول، وبدون أي تحديد.

2ـ الاعتماد على قضية “كارولين” بين بريطانيا وبين الولايات المتحدة الأمريكية، ووقائع هذه القضية هي كالتالي: قامت سفينة أمريكية بنقل السلاح إلى متمردين كنديين، وردت القوات البريطانية على ذلك بإغراق السفينة، وطلبت الولايات المتحدة من بريطانيا تقديم تعويض نتيجة إغراقها لهذه السفينة، إلا أن بريطانيا رفضت التعويض متذرعة بنظرية الدفاع عن النفس، وبعد التحاور اتفقت الدولتان على مبادئ الدفاع عن النفس، وهذه المبادئ هي الضرورة وانعدام أي خيار آخر، ويستند هذا الاتجاه الغربي إلى قضية “كارولين”، لإعطاء الدول حق حماية مواطنيها في الخارج، فقد أوضح البروفسور “Rolin”: “بأن الدفاع عن النفس لا يقتصر على رد العدوان ضد أراضى دولة، وإنما يشمل حماية رعاياها في دولة أجنبية إذا تعرضوا للخطر، وفي حالة شلل السلطات المحلية في الدولة الأجنبية”.

3ـ تفسير الفقرة الرابعة من المادة الثانية من الميثاق، تفسيراً مفاده، أن التحريم باستخدام القوة الوارد في هذه المادة يختفي، في حالة شلل الباب السابع من ميثاق هيئة الأمم المتحدة، المتعلق بإجراءات القسر الجماعي.

4ـ أن استخدام القوة ضمن نظرية التدخل لصالح الإنسانية لا يؤدي إلى انتهاك مبدأ التكامل الإقليمي والاستقلال السياسي الوارد في الفقرة الرابعة من المادة الثانية من الميثاق، وحسب الاتجاه الفقهي، والذي دافع عنه الفقيه الأسترالي “Stone”، فإن الفقرة الرابعة من المادة الثانية من الميثاق، لا تحرم اللجوء إلى القوة إذا لم يؤدي استخدام القوة إلى انتهاك التكامل الإقليمي والاستقلال السياسي لدولة ما.

[41] غسان الجندى، مرجع سبق ذكره، ص 167 ـ 172.

[42] ينبع هذا القصور من عدة اعتبارات:

أ ـ أظهرت الأعمال التحضيرية لمؤتمر سان فرانسيسكو أن عبارة التكامل الإقليمي والاستقلال السياسي، الواردة في الفقرة الرابعة من المادة الثانية، قد تم إدراجها بناءً على إلحاح الدول الضعيفة في الحصول على ضمانات واضحة، لحماية حرمة أراضيها واستقلالها السياسي، وبشكل يؤدي إلى القضاء على منفذ للعمليات العسكرية، التي يزعم أنها لا تؤدي إلى انتهاك التكامل الإقليمي أو الاستقلال السياسي، إذن يستخلص من نية واضعي ميثاق هيئة الأمم المتحدة، رغبتهم في إغلاق الباب على كل تدخل عسكري منفرد.

ب ـ من الصعب توفيق هذا الاتجاه الفقهي، مع توصيات الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، التي تحرم التدخل في الشئون الداخلية، فقد أوضحت التوصية رقم 2131 حول عدم مشروعية دولة أن تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر، مهما كان السبب في الشئون الداخلية أو الخارجية للدول الأخرى بالنتيجة، فإن التدخل العسكرى وكل أنواع التدخل الأخرى والتهديدات التي تمارس ضد شخصية الدولة، أو عناصرها السياسية والاقتصادية والثقافية، هي تصرفات مدانة”.

وتم التأكيد على تحريم التدخل في الشئون الداخلية في التوصية رقم 2625، التي تشكل انجيل العلاقات الودية بين الدول، ولقد أحست الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة بالحاجة إلى وضع تصريح عالمي يحرم التدخل في الشئون الداخلية، وبذلت منذ عام 1976، جهوداً مكثفة لوضع تصريح حول تحريم التدخل في الشئون الداخلية، وأدت هذه الجهود إلى تبني التوصية رقم 36/103 من قبل الجمعية العمومية في 14 كانون الأول 1981، وفي أحدى فقرات التصريح المهمة، هناك إشارة تعتبر كل استغلال وتشويه تقوم به دولة لوقائع متعلقة بحقوق الإنسان في دولة أخرى، بغية ممارسة ضغوط على هذه الدولة أو إرباكها، تدخلاً في شئونها الداخلية.

[43] حيث رفضت محكمة العدل الدولية شكوى تقدمت بها ليبيريا وإثيوبيا ضد اتحاد جنوب أفريقيا، بسبب عدم احترام هذه الدولة لاتفاقية الوصايا، وقد أوضحت محكمة العدل الدولية، بأن الدولتين لا تملكان مصلحة مباشرة في توفير احترام أفريقيا الجنوبية لاتفاقية الوصايا، وإن احترام هذه الاتفاقية مسألة ثنائية، بين جنوب أفريقيا وهيئة الأمم. وبالقياس على هذه القاعدة يمكن القول بإن الدولة التي لم تتعرض إلى ضرر، نتيجة المعاناة السيئة التي يعاني منها مواطنو دولة أخرى، لا يمكن لها أن تتذرع بنظرية التدخل لصالح الإنسانية.

[44] يعتمد هذا التحليل على ما أوضحته لجنة التحكيم في حكمها الصادر في 9 كانون الأول 1978، في قضية الإخلال بالالتزام في النقل الجوى بين فرنسا والولايات المتحدة، بأن الإجراءات المعاكسة يجب أن تفهم دون اللحاق الضرر بالقواعد العامة للقانون الدولي المتعلقة بالقسر العسكري.

[45] غسان الجندي، مرجع سبق ذكره، ص 167 ـ 179.

[46] د. على صادق أبو هيف، القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص 224.

[47] د. محمد مصطفى يونس، مرجع سابق، ص 41.

[48] د. عبد العزيز سرحان، الغزو العراقى للكويت، مرجع سابق، ص 16، وما بعدها.. كما ذهب الدكتور “على صادق أو هيف”، إلى اعتبار: “إن التدخل إلى جانب أى من الفريقين عمل غير مشروع؛ لأنه يتعارض مع حق الشعوب في اختيار نظام الحكم الذي ترتضيه”.  أنظر: د. على صادق أبو هيف القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص 210.

[49] د. محمد مصطفى يونس، مرجع سابق، ص 45 ـ 46.

[50]( د. محمد سامي جنينة، القانون الدولي العام، ط3، 1938، ص 199.

[51] د. عبد العزيز سرحان، نظرية الدولة في القانون الدولي والإسلام، مرجع سابق، ص 152.

[52] د. على إبراهيم، المفاوضات العراقية الإيرانية ومستقبل السلام في الخليج، مجلة السياسة الدولية، القاهرة، عدد 299، يناير 1990، ص 52.

[53] عمرو رضا بيومي، نزاع أسلحة الدمار الشامل للعراق ـ دراسة للآثار القانونية والسياسية والاستراتيجية لحرب الخليج الثانية، رسالة دكتوراه في القانون، القاهرة، جامعة عين شمس، كلية الحقوق، 2000، ص 37 ـ 40.

[54] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button