دراسات سياسية

التفكير السياســــي

التفكير السياسي يختلف كل الاختلاف عن التفكير التشريعي وان كان من نوعه.‎لان التفكير التشريعي هو لمعالجة مشاكل الناس , والتفكير السياسي هو لرعاية شؤون الناس . الا ان هناك فرقا بين التفكيرين . وكذلك هو يناقض التفكير الادبي كل المناقضة , لان التفكير الادبي انما يعني باللذة والنشوة بالالفاظ والتراكيب . ويطرب للمعاني وهي في قوالب الالفاظ تساق بالاسلوب الادبي . اما بالنسبة للتفكير الفكرى فان فيه تفصيلا , فاذا كان التفكير السياسي تفكيرا بنصوص العلوم السياسية والابحاث السياسية , فان التفكير السياسي والتفكير الفكرى , يكادان يكونا نوعا واحدا . فهما متماثلان ومتشابهان الى حد كبير , الا ان التفكير الفكرى يشترط فيه ان تكون المعلومات السابقة في مستوى الفكر الذى يبحث , حتى وان كانت ليست من نوعه ولكن متعلقة به , اما التفكير السياسي فانه وان احتاج الى معلومات سابقة في مستوى الفكر , ولكنه يحتاج الى معلومات سابقة في نفس الموضوع ولا يكفي ان تكون متعلقة به او مشابهة له او مما تصلح لتفسير التفكير , لذلك فان التفكير بالنصوص السياسية هو من نوع التفكير بالنصوص الفكرية.

اما اذا كان التفكير السياسي , تفكير بالاخبار والوقائع , وربطا للحوادث فانه يخالف جميع انواع التفكير . ولا تنطبق عليه ولا قاعدة من قواعده , بل لا تكاد تربطه قاعدة , ولذلك هو اعلى انواع التفكير , واصعب انواع التفكير .اما كونه اعلى انواع التفكير فلانه هو التفكير بالاشياء والحوادث , والتفكير بكل نوع من انواع التفكير , ولذلك هو اعلاها جميعا , صحيح ان القاعدة الفكرية التي تبني عليها الافكار وتنبثق عنها المعالجات هي اعلى انواع التفكير , ولكن هذه القاعدة هي نفسها فكر سياسي , وفكرة سياسية , واذا لم تكن فكرة سياسية وتفكيرا سياسيا , لا تكون قاعدة صحيحة , ولا تصلح لان تكون قاعدة . ولذلك فانا حين نقول ان التفكير السياسي هو اعلى انواع التفكير , فان ذلك يشمل القاعدة الفكرية , اى التي تصلح لان تكون قاعدة فكرية . واما كونه اصعب انواع التفكير , فانه لعدم وجود قاعدة له يبني عليها ويقاس عليها , ولذلك فانه يحير المفكر , ويجعله في اول الامر معرضا للخطأ الكثير , وفريسه للاوهام والاخطاء . وما لم يمر بالتجربة السياسية , وبدوام اليقظة والتتبع لجميع الحوادث اليومية , فانه من الصعب عليه ان يتمكن من التفكير السياسي , ولذلك فان التفكير السياسي بالاخبار والوقائع يتميز عن جميع انواع التفكير , ويمتاز عليها امتيازا ظاهرا .

فالتفكير بالنصوص السياسية , وان كان يشمل التفكير بنصوص العلوم السياسية ونصوص الابحاث السياسية , ولكن التفكير السياسي الحق , هو التفكير بنصوص الاخبار والوقائع , ولذلك كانت صياغة الاخبار هي التي تعتبر نصوصا سياسية حقة . واذا كان المرء يريد التفكير السياسي , فان عليه التفكير بنصوص الاخبار , ولا سيما صياغتها وكيفية فهم هذه الصياغة . لان هذا هو الذى يعتبر تفكيرا سياسيا , وليس التفكير بالعلوم السياسية والابحاث السياسية . لان التفكير بالعلوم السياسية والابحاث السياسية يعطي معلومات , تماما كالتفكير بالنصوص الفكرية , ويعطي فكرا عميقا او مستنيرا , ولكنه لا يجعل المفكر سياسيا , وانما يجعله عالما بالسياسة , اى عالما بالابحاث السياسية والعلوم السياسية , ومثل هذا يصلح لان يكون معلما ولا يصلح ان يكون سياسيا . لان السياسي هو الذى يفهم الاخبار والوقائع , ومدلولاتها , ويصل الى المعرفة التي تمكنه من العمل سواء اكان له المام بالعلوم والابحاث السياسية , او لم يكن له المام , وان كانت العلوم السياسية والابحاث السياسية تساعد على فهم الاخبار والوقائع , ولكن مساعدتها هذه انما تقف عند حد المساعدة في جلب نوع المعلومات عند الربط , ولا تساعد في غير ذلك , ولهذا فانه ليس شرطا في التفكير السياسي . الا انه مع الاسف الشديد فانه منذ ان وجدت فكرة فصل الدين عن الدولة , وتغلب على اصحابها موضوع الحل الوسط انفرد الغرب , نعني اوروبا وامريكا باصدار المؤلفات والكتب في العلوم السياسية والابحاث السياسية , على اساس فكرته عن الحياة , وعلى اساس الحل الوسط , وعلى اساس الشكليات التي تعطي الفكر الوسط , الذى وجد للتوفيق والمصالحة , وحين جاءت الفكرة الشيوعية واعتنقتها روسيا الدولة الشيوعية , فانه كان يؤمل ان تخرج ابحاث سياسية على اساس فكر ثابت لا على اساس الحل الوسط . ولكن مع الاسف , فان روسيا ظلت ملحقة بالغرب , ولذلك فان العلوم السياسية , والابحاث السياسية ظلت سائرة في نفس الطريق , مع اختلاف في الشكل لا في المضمون , ولذلك فانه يمكننا ان نقول ان الابحاث السياسية والعلوم السياسية, التي خرجت حتى الان هي ابحاث سياسية لا يطمئن العقل الى صحتها , وعلوم سياسية اشبه بما يمسى علم النفس مبنية على الحدس والتخمين فوق كون اساسها هو الحل الوسط , لذلك فانه حين يجرى التفكير في نصوص هذه العلوم والابحاث , لا بد ان يكون المرء في حالة يقظة على الافكار . وفي حالة حذر من الانزلاق مع اخطائها , لانها تتضمن افكارا مخالفة للواقع , وابحاثا هي غاية الخطأ . وانا مع كوننا نفضل ان تعامل معاملة التشريع الغربي فلا تقرأ ولا تدرس , لان فيها ما هو متعلق بالتشريع وليس بالسياسة , مثل انظمة الحكم , ولكن نظرا لانها من نوع الابحاث الفكرية , وفيها ابحاث سياسية , فانه من هذه الجهة لابأس من قراءتها ودراستها ولكن مع اليقظة والحذر .

ولنأخذ بعض الافكار كنموذج لما تتضمنه الابحاث السياسية لدى الغرب , فالقيادة في الغرب جماعية تتمثل في مجلس الوزراء , واخذها الشرق فجعل لها شكلا اخر وقال بالقيادة الجماعية . وهذا مخالف للواقع , وبني على الحل الوسط . لان الملو ك المستبدين في اوروبا كانوا افرادا , وضج الناس من استبداد الملوك , واعتبروا سبب ذلك هو فردية القيادة , فقالوا ان القيادة للشعب لا للفرد , وجعلوها في مجلس الوزراء . وهذا حل وسط , لان مجلس الوزراء ليس الشعب , ولا منتخبا من الشعب , ولان رئيس الوزراء هو الذى يتولى قيادة الوزراء , وبذلك كانت القيادة ليست للشعب , ولا للفرد , بل لرئيس الوزراء ومجلس الوزراء , فكان هذا النظام حلا وسطا بين ان تكون القيادة للفرد , وبين ان تكون للشعب فهو ليس حلا لموضوع القيادة , بل هو مراضاه للفريقين . وفوق ذلك فان واقع السير ان القيادة ظلت فردية في جميع انواع الانظمة الديمقراطية . فهي في الواقع اما ان يتولاها رئيس الدولة كرئيس الجمهورية مثلا , او يباشرها رئيس الوزراء نفسه . فواقع القيادة انها فردية ليس غير , ولا يمكن ان تكون جماعية ولا بحال من الاحوال . وحتى لو جعلت جماعية , او سميت جماعية , فان سير الحكم نفسه يحول القيادة الى قيادة فردية لانه لا يمكن ان تكون الا فردية.

وعند الغرب جعلت السيادة للشعب , فالشعب هو الذى يشرع , والشعب هوالذى يحكم , والشعب هو الذى يملك الارادة ويملك التنفيذ . وهذا مخالف للواقع , ومبني على الحل الوسط . لان الملوك المستبدين كانت لهم الادارة , وكان لهم التقرير . فكانوا هم الذين يشرعون , وهم الذين يحكمون . وضج الناس من استبداد هؤلاء الملوك . واعتبروا سبب ذلك كونهم يملكون الارادة , ويملكون التقرير , فيملكون التشريع ويملكون الحكم . فقالوا ان السيادة للشعب , فهو الذى يشرع , وهو الذى يحكم . فجعلوا التشريع لمجلس منتخب من الشعب , وجعلوا التنفيذ لمجلس الوزراء , ورئيس الوزراء , او لرئيس الدولة , وهذا حل وسط . لان مجلس النواب وان كان منتخبا من الشعب , ولكنه لا يشرع , وانما الذى يشرع هو الحاكم . ومجلس الوزراء او رئيس الجمهورية هو الذى يحكم . وهو وان كان منتخبا من الشعب او وافق عليه ممثلو الشعب . فانه ليس في ذلك ان الشعب يحكم , وانما فيه فقط ان الشعب يختار الحاكم . فكان هذا حلا وسطا . وفوق ذلك فانهم يصرحون بان السيادة للقانون , ويعتبرون الحكم الصالح هو الذى فيه السيادة للقانون . فكان هذا النظام حلا وسطا , ومغالطة للنفس . وفوق ذلك فان واقع الحكم هو غير هذا . فواقع الحكم الصالح هو ان يختار الشعب حاكمه , وان تكون السيادة للقانون . فلا سيادة للشعب مطلقا , ولا حكم للشعب ولا بحال من الاحوال وعند الغرب ان الحكم شيء , وان الامور العاطفية والدينية شيء اخر . فعندهم ان سلطة الكنيسة غير سلطة الدولة , وان الاعمال العاطفية , من فعل الخيرات والعطف على الفقراء , ومواساة الجرحى , وما شاكل ذلك , لا شأن للدولة فيها . وهذا مبني على فكرة فصل الدين عن الدولة , وعلى الحل الوسط , ومخالف للواقع . لان الملوك المستبدين كانوا يتحكمون في الكنيسة , وكانوا لا يقومون بمواساة الناس من جرحى ومرضى وفقراء ونحوهم . لذلك ضج الناس . فكان الحل الوسط في فصل الكنيسة عن الدولة , وفي فصل الاعمال العاطفية عن الدولة . فنشأت عندهم سلطة للكنيسة غير سلطة الدولة , ونشأت عندهم الجمعيات الخيرية , وجعيات الصليب الاحمر وما شاكل ذلك . ولكن لما كان واقع الحكم هورعاية شؤون الناس كل الناس , والدين من الشؤون , والاعمال العاطفية من الشؤون , ولذلك كانت الدولة تشرف على الكنائس ,‎ولكن باسلوب غير ظاهر, وتشرف على الجمعيات الخيرية وجمعيات الصليب الاحمر ولكن باساليب خفية , ولذلك كانت هذه النظرية مخالفة للواقع حقيقة , وان كان ظاهرا وجود الفصل بين الحكم وغيره .

هذه ثلاث افكار كنموذج لخطأ الافكار السياسية التي تضمنتها الابحاث السياسية لدى الغرب , واذا قيل هذا في الافكار السياسية المتعلقة بالانظمة فانه يقال كذلك في الابحاث السياسية المتعلقة بالاشياء والوقائع , وهذه وان كان فيها بعض الحقائق التي لا يملك العقل مغالطة فيها , فانها مملوءة بما يخالف الحقيقة , ومملوءة بالمغالطات . فمثلا حين يتحدثون عن السياسة الانجليزية من انها مبنية على ثلاثة امور : هي علاقة انجلترا بامريكا , وعلاقة انجلترا باوروبا , وعلاقة انجلترا بالدول التي كانت مستعمرات لها واستقلت , او ما يسمى بالكومنولث , فان حديثهم هذا صحيح , لانه وصف لواقع لا يمكن ان تقع المغالطة فيه , ولكنهم حين يتحدثون عن السياسة الانجليزية من حيث سلوكها في المحالفات , وموقفها من الاصدقاء او الاعداء ونظرتها للشعوب والامم , فانهم فوق ما يكون في حديثهم من مغالطات وتضليل , فانه يكون كذلك مخالفا للواقع وجناية على الاحداث والوقائع , وقل مثل ذلك في حديثهم عن اية دولة من الدول , سواء اكانت دولة غربية , او دولة غير غربية , وسواء اكان حديثا تاريخيا لامور مضت , او كان حديثا عن وقائع جارية , وحوادث تقع امام الاعين . فان لهم من المهارة في التضليل وتزييف الحقائق , ما يخفي حتى على بعض المبصرين . ولذلك كان التفكير بالعلوم السياسية والابحاث السياسية , ايا كانت , لا يصح ان يكون الا مع اليقظة والحذر .

اما التفكير السياسي بالوقائع والحوادث الجارية , فهو التفكير الذى يصح ان يكون تفكيرا سياسيا بما تعنية هذه الكلمة , وهو الذى يجعل المفكر سياسيا . وهذا التفكير يحتاج الى خمسة امور رئيسية مجتمعة :
فاولا : يحتاج الى تتبع جميع الوقائع والحوادث التي تقع في العالم , اى يحتاج الى تتبع جميع الاخبار , ونظرا لاختلاف الاخبار من حيث الاهمية وعدم الاهمية , ومن حيث الصدفة والقصد في الواقعه والحادثه او في سوق الخبر عنها , ومن حيث الاقتضاب والاسهاب . فانه مع المران ومع الزمن يصبح تتبع الاخبار , لا لجميع الاخبار بل لما هو لا بد من معرفته في حلقات المعرفة .

ثانيا : يحتاج الى معلومات , ولو اولية ولو مقتضبة , عن ماهية الوقائع والحوادث , اى عن مدلولات الاخبار , سواء اكانت معلومات جغرافية , او معلومات تاريخية , او معلومات فكرية , او معلومات سياسية , او ما شاكل ذلك مما يستطيع معه الوقوف على واقع الواقعه او الحادثة , اى على حقيقة مدلولات الاخبار .

ثالثا : عدم تجريد الوقائع من ظروفها , وعدم تعميمها . فالتجريد والتعميم والقياس الشمولي , هي افة فهم الوقائع والحوادث , اى افة معرفة الاخبار . فلا بد من ان تؤخذ الواقعه والحادثة مع ظروفها اخذا واحدا بحيث لا يفصل بين الحادثة وبين ظروفها ولا بحال من الاحوال , الى جانب حصر هذه الحادثة بما حصلت فيه , فلا تعمم على كل حادثه مثلها ولا يقاس عليها قياسا شموليا بل تؤخذ حادثه فردية ويصدر الحكم عليها بوصفها حادثة فردية , اى لهذه الحادثة ليس غير .

رابعا : تمييز الحادثة والواقعه , اى تمييز الخبر من طريق تمحيصة تمحيصا تاما . فيعرف مصدرالخبر وموقع وقوع الواقعه والحادثه , وزمانها , والوضع الذى حصلت فيه , والقصد من وجودها , او من سوق الخبر عنها , ومدى ايجاز الخبر والاسهاب فيه , وصدقة ام كذبة , الى غير ذلك مما يتناوله التمحيص . لان هذا التمحيص هو الذى يوجد التمييز , وبقدر ما يكون شاملا وعميقا بقدر ما يوجد تمييز له . وبدون التمييز لا يمكن ان يأخذ هذه الحادثة او الواقعه , لانه يصبح فريسة للتضليل او الخطأ . ولذلك فان التمييز عامل هام في اخذ الخبر , بل مجرد سماعة .

خامسا : ربط الخبر بالمعلومات , ولا سيما ربطه بغيره من الاخبار . وهذا الربط هو الذى يؤدى الى الحكم الاقرب للصواب على الخبر . فالخبر اذا كان متعلقا بالسياسة الدولية . وربط بالسياسة المحلية , او كان متعلقا بالسياسة المحلية , وربط بالسياسة الدولية , او كان خبرا اقتصاديا وربط بالاقتصاد . مع انه من الامور السياسية ولو كان اقتصاديا . او كان خبرا يتعلق بالمانيا وربط بالسياسة الالمانية مع انه من الامور المتعلقة بامريكا . فالخبر اذا ربط بغير ما يجب ان يربط به فان الخطأ يقع حتما , اذا لم يقع التضليل , والخداع , لذلك فان ربط الخبر بما يتعلق به امر بالغ الاهمية . وان يكون هذا الربط على وجهه الصحيح . اى بأن يكون ربطا للفهم والادراك , لا ربطا لمجرد المعرفة . اى ربطا للعمل لا للعلم .

هذه الامور الخمسة لابد من تحقيقعا جميعها حتى يتأتى التفكير بالنصوص السياسية , اى حتى يتأتى التفكير السياسي . ولا يقال ان هذه الامور كثيرة وصعبه , ومن العسير تحقيقها , لا يقال ذلك , لان وجود هذه الامور ليس بالامر الصعب . لان المقصود بها هو مجرد الالمام وليس المعرفة الواسعة. وهي تأتي مع الزمن وليس دفعة واحدة , وتاتي عن طريق التتبع وليس عن طريق الدراسة والبحث العلمي , صحيح ان الدراسة والبحث العلمي , تكون اكثر مساعدة على القدرة , ولكنها لا تلزم في التفكير السياسي , ولا تلزم للسياسي , فهي كمالية وثانوية .
والمهم في كل ذلك هو التتبع , ومتى حصل التتبع وجدت الاربعة الباقية طبيعيا . فالاصل في التفكير السياسي هو التتبع ومتى وجد التتبع وجد التفكيرالسياسي طبيعيا .

وعلى ذلك , فان التفكير السياسي على صعوبته وعلوه فانه في مقدور كل انسان , مهما كان تفكيره , ومهما كان علمه , فالعادى والنابغة والعبقرى , كل منهم في مقدوره ان يفكر تفكيرا سياسيا , وفي مقدوره ان يكون سياسيا , لانه لا يتطلب درجة معينه من العقل , ولا درجة معينه من المعرفة , بل يتطلب تتبع الوقائع والحوادث الجارية , اى تتبع الاخبار , ومتى وجد هذا التتبع وجد التفكير السياسي . الا ان التتبع لا يصح ان يكون منقطعا , بل يجب ان يكون متصلا , لان الحوادث والوقائع الجارية , تشكل حلقة مترابطة الاطراف , فاذا فقدت حلقة منها انقطعت السلسلة , اى انفكت الحلقة . ويصبح في غير مقدور الشخص ان يربط الاخبار وان يفهمها . ولذلك كان بقاء الحلقة حلقة امرا ضروريا في التفكير السياسي , اى ان التتبع المتصل شرط اساسي في التفكير السياسي .

والتفكير السياسي ليس خاصا بالافراد . بل هو كما يكون في الافراد يكون في الجماعات , اى يكون في الشعوب والامم , فهو ليسص كالتفكير الادبي , ولا كالتفكير التشريعي , انما يتحقق بالافراد فحسب ولا يتأتي ان يكون في الجماعات فهو فردى . بل التفكير السياسي تفكير فردى وتفكير جماعي . وكما يكون في الافراد يكون في الجماعات , فيكون في الشعوب والامم , كما يكون في الافراد من حكام وسياسيين , بل انه لا يكفي ان يكون في الافراد , بل يجب ان يكون في الشعوب والامم , وبدون وجوده في الشعوب والامم لا يوجد الحكم الصالح , ولا يتأتى وجود النهضة , ولا تصلح الشعوب والامم لحمل الرسالات , ومن هنا كان لابد ان يوجد التفكير السياسي في الشعب والامة . ذلك ان الحكم انما هو للشعب او الامة . وكامن في الشعب والامة . ولا تستطيع قوة ان تأخذه الا اذا اعطاه الشعب والامة , واذا حصل اغتصابه منها , فانه انما يغتصب لفترة , فاما ان تعطيه فيستمر , او تصر على استرجاعه , فيطاح بالحكم , وما دام الحكم هو للشعب والامة , او كامن فيها , فانه لابد لهذا الشعب وهذه الامة من ان يكون لدية او لديها التفكير السياسي , ولذلك فان التفكير السياسي هو ضرورى للامة قبل الحكام , وضرورى لاستقامة الحكم اكثر من ضرورته لايجاد الحكم . ومن هنا كان لابد ان تثقف الامة او الشعب ثقافة سياسية , وان يكون لديها التفكير السياسي . اى لابد ان تزودالامة بالمعلومات السياسية والاخبار السياسية . وان ينمي لديها سماع الاخبار السياسية , ولكن بشكل طبيعي لا بشكل مصطنع , وباعطائها الصحيح من الثقافة السياسية , والصادق من الاخبار وحتى لا تقع فريسة للتضليل , ومن هنا كانت السياسية والتفكير السياسي , هي التي توجد في الشعب او الامة الحياة , اى كانت السياسة هي التي تحيا بها الامة , وبدون ذلك تكون جثة هامدة , لا حركة فيها ولا نمو .

الاان الخطأ في فهم السياسية , والضلال الذى يحصل من فهم السياسة انما يأتي من التفكير بالنصوص السياسية على غرار التفكير بالنصوص الاخرى من ادبية وفكرية وتشريعية . فيفكر بالالفاظ والتراكيب مثلا وتفهم هذه الالفاظ والتراكيب كما هي , او يفكر بالمعاني التي تحويها هذه الالفاظ والتراكيب فتفهم هذه المعاني كما هي , او يفكر في دلالات هذه الالفاظ والتراكيب فتفهم هذه الدلالات , وهنا يقع الخطأ او الضلال .‎لان التفكير بالنصوص السياسية يختلف كل الاختلاف عن التفكير بأى نص اخر . لان الخطأ والخطر في التفكير السياسي انما يأتي من عدم التمييز بين النصوص السياسية ,وبين غيرها من النصوص . فالنصوص السياسية , قد تكون معانيها موجودة في النصوص , وقد تكون موجودة في غير النصوص , وقد تكون موجودة في صياغة الالفاظ والتراكيب كالمعاهدات مثلا , والتصريحات المسؤولة , وقد يكون في المعاني لا بالصياغة وقد يكون بالدلالات لا بالمعاني ولا بالالفاظ , وقد يكون ما وراء هذه المعاني والالفاظ والدلالات , بل قد يكون مخالفا لها او مغايرا للنصوص مغايرة كلية . فاذا لم يدرك ما يعنيه النص السياسي مما هو متضمن للنص , او خارجا عنه فأنه لا يدرك النص ولا بحال من الاحوال فيقع الخطأ او الضلال في التفكير بالنص السياسي.

ثم انه من اخطر الامور على التفكير السياسي , تجريده وتعميمه ودخول القياس الشمولي فيه . فان النص السياسي لا يفصل عن ظروفه ولا بحال من الاحوال فهي جزء منه , ولا يصح ان يعمم ولا بوجه , ولا يدخله القياس الشمولي , حتى ولا القياس , فانه علاوة على ان الظروف جزء من النص , فانه نص في حادثه معينه , فيؤخذ لتلك الحادثة ليس غير , فلا يعمم على غيرها , ولا يقاس عليها , لا قياسا شموليا ولا قياسا حقيقيا , بل يجب ان يؤخذ لتلك الحادثة وحدها , لذلك كان التجريد والتعميم والقياس مطلقا شموليا كان او حقيقا , تشكل خطر الخطأ وخطر الضلال على التفكير السياسي فقد يعطي مسؤول تصريحا فيفهم منه شيء , ثم يعطي نفس التصريح او تصريحا اخر فيفهم منه شيء قد يكون مخالفا له بل قد يكون مناقضا له , ويعطي مسؤول تصريحا من امر حقيقي , اى تصريحا صادقا , فيفهم منه انه تصريح كاذب يراد منه التضليل , وقد يعطي تصريحا كاذبا, فيفهم منه انه تصريح صادق , وان المقصود منه هو ما عناه, والكذب فيه هو انه اعطي للاخفاء بالكذب . وقد يقام بعمل حسب التصريح وقد يقام بعمل على خلاف التصريح , وهكذا . فالظروف والملابسات هي التي تلقي الضوء على التصريح فتكشف ما يراد منه , وليس نفس النص السياسي , ولذلك فان التفكير السياسي لا يتأتي ان يكون قريبا من الصواب الا على هذا الوجه , اى الا اذا جعلت الضروف جزءا لا يتجزأ من النص او العمل. والا اذا اخذت كل حادثة بمفردها , وابعد عنها التعميم والقياس .

ولقد عانت الامة الاسلامية من سوء التفكير السياسي الكثير من المصائب والويلات . فالدولة العثمانية مثلا , حين كانت اوروبا تحاربها في القرن التاسع عشر , انما كانت تحاربها في الاعمال السياسية اكثر منها في الاعمال العسكرية , وانه وان وقعت اعمال عسكرية ولكنها كانت مساعدة للاعمال السياسية . فمثلا ما كانوا يسمونه بمشكلة البلقان , وهي مشكلة خلقتها الدول الغربية بالتصريحات , فأعلنوا ان دول البلقان يجب ان تحرر من العثمانيين , اى من المسلمين , ولكن لم يكونوا يعنون انهم سيحاربون الدولة العثمانية , وانما كانوا يعتمدون على ايجاد القلاقل والاضطرابات في البلقان , فجاءوا بفكرة القومية والتحرر , فأخذها البلقانيون , واخذوا يقومون بالثورات , فكانت الدولة العثمانية تقوم بعمليات عسكرية ضد هذه الثورات مراعية وضع الدول الاخرى , وتحاول استرضاء الدول الاخرى مع ان هذه الدول الاخرى هي التي كانت تسند الثورات , وهي التي كانت توهم العثمانيين , وهي التي كانت تجعلهم يشتغلون ضد الثورات , من اجل ان يكون عملهم انهاكا لقواهم , للقضاء على الثورات , وهكذا كان من نتيجة خطأ الدولة العثمانية . وضلالها في التفكير السياسي ان خسرت البلقان , ثم لاحقتها فكرة القومية في عقر دارها , حتى قضت عليها القضاء المبرم .

وهذا بخلاف روسيا او الاتحاد السوفياتي فانها قد وقعت في نفس المشكلة في اوروبا الشرقية في الخمسينات , فان امريكا نادت بتحرير اوروبا الشرقية من الشيوعية , واخذت تنادى بالتحرير واخذت تسند هذه الدول والشعوب سرا وعلنا . ولكن روسيا لم تقف موقف العثمانيين , وعرفت ان فكرة التحرير هذه هي حرب ضد روسيا او الاتحاد السوفياتي ولذلك لم تهادن امريكا , وانما اتخذتها العدو الاول , ولما قامت ثورة بولونيا سحقتها ولم تجعل لها اى منفذ للنجاح , ولما ثارت بلغاريا سحقتها دون اية رحمة , وشددت قبضتها الحديدية على اوروبا الشرقية , واستعدت لحرب امريكا اذا هي تحركت لاسناد اوروبا الشرقية سرا وعلنا , مما ادى الى اخفاق امريكا اخفاقا ذريعا حتى اضطرت امريكا بعد اخفاقها , وادراكها موقف روسيا السياسي وفهمها السياسي , ان تتنازل عن فكرة محاربة الشيوعية واضعاف روسيا , الى عقد اتفاقيات مع روسيا , والتعايش معها , كل ذلك ليس ناتجا عن قوة روسيا , وانما ناتج عن التفكير السياسي الصحيح لدى الاتحاد السوفياتي .

ومثلا حين رأت امريكا ان اسرائيل التي اقامتها دولة , تكاد تفلت من يدها , وتكاد انجلترا تسترجع هذه البلاد بتحويل ما يسمى بدولة اسرائيل الى كيان اخر يسمى فلسطين . حين رأت امريكا ذلك في اواخر الستينات , اطلقت على مشكلة فلسطين اسم مشكلة الشرق الاوسط , وصارت تقوم بالاعمال السياسية , التي تمكنها من ان تتولى المشكلة وحدها . وصارت تتخذ كلمة السلام , وفكرة حل المشكلة وسيلة لتعقيد المشكلة , وهكذا استمرت في التضليل السياسي , حتى ارتمى كل من العرب واليهود في احضانها , وصارت تتبع اسلوب المغالطة , واسلوب التضليل حتى انهكت قوى كل من العرب واليهود فاتجهت , لا الى حل المشكلة , بل الى نقل المنطقة من حالة اضطراب , وتسمية حالة حرب , الى حالة هدوء نسبي وتسمية حالة سلام , وذلك لكي تتمكن على مهل وبهدوء من تركيز المنطقة على الوضع الذى رسمته لها , حتى تطرد الانجليز نهائيا من المنطقة , وتنفرد وحدها في السيطرة وبسط النفود على المنطقة كلها , عن طريق تقوية ما يسمى بدولة اسرائيل , وبذلك كان ما يمسى بمشكلة الشرق الاوسط مثل مشكلة البلقان سواء بسواء , وكما وقع العثمانيون واهل دول اوروبا الجنوبية , في الشرك من جراء التضليل السياسي , وقع العرب واليهود في الشرك نفسه , واذا لم يوجد التفكير السياسي لدى المسلمين اليوم لادراك مشكلة الشرق الاوسط , كما ادركت روسيا مشكلة اوروبا الشرقية , فان مصير الشرق الاوسط سيكون مثل مصير البلقان سواء بسواء .

فسوء التفكير السياسي هو الذى يدمر الشعوب والامم , وهو الذى يهدم الدول او يضعفها , وهو الذى يحول بين الشعوب المستضعفة وبين الانعتاق من ربقة الاستعمار , وهو الذى يحول بين الامم المنحطة وبين النهوض , ولذلك فان التفكير في النصوص السياسية , امر بالغ الاهمية , ونتائجة فظيعة او عظيمة , واخطار الخطأ او الضلال فيه , اخطار مدمره , ومن هنا كان لا بد من العناية الفائقة , بالتفكير السياسي , عناية تفوق العناية بأى تفكير . ذلك انه ضرورى للشعوب ضرورة الحياة .
الا ان التفكير السياسي , وان كان اصعب انواع التفكير واعلاها , فانه لا يكفي فيه ان يكون تفكير افراد فقط , فان الافراد لا قيمة لهم مهما كثر عددهم , ومهما كان تفكيرهم سليما او عبقريا , فان التضليل في التفكير السياسي اذا تمكن من الشعب او الامة , لا تنفع تجاهه ,عبقريات الافراد , ولا قيمة للعبقريين في التفكير السياسي , مهما كان عددهم , ومهما كانت عبقرية تفكيرهم , فان الضلال اذا تمكن من الشعب او الامة جرف تياره كل شيء , ووقعت الامة او الشعب فريسة سهلة لهذا التضليل , وكانت هي ومعها العبقريون لقمة سائغة يلتهمها الاعداء , وما نجاح مصطفى كمال في هدم الدوله الاسلامية وازالة الخلافة في اوائل القرن العشرين الميلادى ونجاح جمال عبدالناصر في الخمسينات والستينات من هذا القرن , في الحيلولة دون تحرر العرب وقد كانوا عقب الحرب العالمية الثانية متحفزين للتحرير , الا امثلة حية , على ان سوء التفكير السياسي اذا اجتاح الشعوب والامم , فانه لا تنفع تجاهه عبقرية العبقريين , ما داموا افرادا ولو بلغ عددهم الالاف , لذلك فان سوء التفكير السياسي لا يشكل خطر على الافراد , وانما يشكل خطرا على الشعوب والامم , ومن هنا لابد من العناية بالتفكير السياسي لدى الشعوب والامم , عناية تفوق كل شيء . صحيح ان التفكير السياسي , اذا وجد عند الافراد وسار لديهم في الطريق المستقيم يمكن بهم ان يوجد التفكير السياسي الذى يقف في وجه الاعداء , ويكشف تضليلهم , ولكن هذا انما يتأتى اذا انتقل تفكير هؤلاء الافراد الى الشعب او الامة , واذا اصبح عند الامة كما هو عند الافراد , واذا انتقل الى ان يكون تفكير الامة لا تفكير الافراد , فيصبح هؤلاء الافراد جزءا من الامة لا افرادا , وتكون الامة كلها امة مفكرة وليس افرادا منها , واذا لم يتحول التفكير الفردى الى تفكير جماعي , ولم يصبح تفكير الافراد تفكير امة لا تفكير افراد , فانه لا قيمة لهذا التفكير , ولا قيمة لهؤلاءالافراد , فتفكير الافراد السياسي لا يقوى على الوقوف في وجه الاعداء , وفي وجه تضليلهم مهما كثر عددهم , وسمت عبقرياتهم , وانما الذى يقف في وجههم هو تفكير الشعوب والامم , اى هو التفكير السياسي الذى يكون عند الشعوب والامم .
صحيح ان الافراد العباقرة , هم اناس عاديون , مثلهم مثل باقي الناس , لا يتميزون بانسانيتهم عن اى انسان عادى , والناس ينظرون الى هؤلاء الافراد نظرة عادية , فان عبقريتهم لا تشاهد ولا تلمس , ولا يحس بها , ولذلك فانهم حين تتحرك عبقريتهم وينتجون , لا يرى فيهم في اول الامر اية ميزة , ولا يدرك في انتاجهم اى تفوق ولا اي عبقرية , فهم ان كانوا مثقفين فان مثلهم كثيرين مثقفون , وان كانوا اذكياء فان مثلهم الكثير من الاذكياء , فاذا لفت النظر الى افكارهم , فانما يلفت النظر من قبل افراد اخرين , يقبلون على انتاجهم , ليكونوا مثلهم , او ليساعدهم هذا التفكير على الارتفاع في مجتمعهم وفي وسطهم , او لاتخاذه وسيلة لتحقيق مارب شخصية او غايات انانية , واذا ظل كذلك ولم ينتقل الى الجماعات , فانه يبقى فرديا مهما كثر الافراد المفكرون هذا التفكير , ولو كان تفكيرا فريدا يقبله كل من ذاقه او عرفه , ولذلك فحتى ينفع هذا التفكير السياسي , ويصبح قادرا على الوقوف في وجه الاعداء , لابد ان يتحول الى تفكير جماعي ويخرج من قوقعه الفردية , ومن شرنقة العزلة , فاذا تحول الى تفكير جماعي ‎وانتقل الى الشعب او الامة , فقد وجدت القوة التي تنبت شجرة النهضة .

هذا هو التفكير السياسي الذى ينفع وهو التفكير الجماعي لا التفكير الفردى , اى هو تفكير الشعب والامة , وليس تفكير الافراد حتى لو كانوا من العبقريين , لذلك يجب تثقيف الامة التثقيف السياسي , ويجب تمرين الامة وتعليمها على التفكير السياسي , حتى يكون التفكير السياسي , هو تفكير الامة وليس تفكير الافراد .
هذا هو التفكير السياسي فهو تفكير بالعلوم السياسية والابحاث السياسية , تفكير بالحوادث السياسية الوقائع السياسية والتفكير الاول لا قيمة له , ولا يزيد عن مجرد المعرفة للافكار, اما التفكير السياسي فانه هوالذى ينفع ويفيد , وهو الذى يكون له اثر باهر وتأثير عظيم , ولذلك فانه ان جاز التفكير السياسي في العلوم السياسية والابحاث السياسية , وكانت منه فوائد للافراد من العلماء في السياسة , فان التفكير في الوقائع والحوادث , هو واجب على الكفاية للامة , يجب ان يعمل لايجاده بالامة , لا سميا على الذين لديهم مثل هذا التفكي . سواء اكانوا من المتعلمين او غير المتعلمين .

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى