التكنولوجيا والصراعات غير المقصودة في العلاقات الدولية

وليد عبد الحي

إذا كان هناك في التاريخ صراعات ” عن سابق اصرار وترصد ” ، فثمة مستوى آخر من الصراعات الدولية ” غير المقصودة” صنعتها التكنولوجيا وتحتاج لجهد أكبر لإدراك ملابساتها وكيفية إدارتها في نطاق علاقات دولية ” غير صفرية”، ويكفي النظر في الشواهد التالية:
1- السلاح: كانت الأداة الاولى لدفاع الناس عن أنفسهم هي الايدي، وبالتالي كانت دائرة التهديد هي المسافة الفاصلة بين المتخاصمين وهي مسافة الذراع، أي انك لا تستطيع ايقاع الضرر إلا بمن يبعد عنك ذراعا، وبعد اكتشاف الحجر المسنون بخاصة لصيد الحيوانات ، اصبح يمكن ان تستخدمه لحيز أوسع من مسافة الذراع، ثم جاء السيف فاصبحت المسافة هي الذراع + طول السيف، فتزايد عدد من تستطيع تهديدهم، ثم انتقلنا الى السهام ، فزادت مساحة دائرة المهددين، ثم البندقية فالمدفع فالصواريخ الى ان وصلنا للصواريخ عابرة القارات التي تمكنك من ضرب أي مكان على سطح الكرة الأرضية..وبهذا اصبح عدد المهددين بسلاحك أكبر ودائرة تهديدك أوسع ، ورغم ان بعض المهددين تضع عينك عليهم، غير ان بعض المهددين ” ليسوا ضمن دائرة خصومك” لكنهم مهددون، فالاسلحة الجرثومية والكيماوية والنووية إذا استخدمت فهي لا تلتزم بحدود الجغرافيا السياسية، فانت مهدد بوبالها رغم انك قد تكون صديقا لمن أطلقها..أو ” بنيرانه الصديقة”…وعليه اصبح الجميع في مدى الرماية ومهدد بالاصابة، مقصود او غير مقصود.
2- التطور المؤذي للآخرين لكنه غير مقصود: فلو افترضنا ان الأردن مثلا فتح مصنعا لانتاج السيارات ونجح في ذلك، فهذا يعني ان عدد السيارات التي كنا نستوردها من اليابان ستتناقص، وهو امر يؤذي الاقتصاد الياباني رغم انك لم تفكر بايذاء اليابان، وإذا زرعت القمح لتكتفي ذاتيا فانك ستضر الولايات المتحدة وكندا، واذا اكتشفت مصدر طاقة غير البترول فانت تضر الدول المنتجة رغم انك لم تفكر بالاضرار بهم، وعندما ترفع سعر البترول فانت تضر احيانا باصدقائك واعدائك رغم انك لم تخطط لإيذاء هؤلاء الاصدقاء..لكنك آذيتهم..
3- العدو الشبح: عندما تكون لدولة احتياطيات نقدية بالدولار مثلا، ثم ينخفض سعر الدولار ، فان قيمة هذه الاحتياطيات تنخفض، ولكن لو سألنا من هو السبب في الانخفاض ” لنعاقبه او نرد له الضربة”، فانك ستجد عشرين او ثلاثين جهة تسببت في ذلك، منها دول وشركات واسواق ومضاربات وأفراد وسياسات سياسية وسياسات اقتصادية …ويكفي ان نتوقف عند موضوع البيئة، فكثير من الدول تنفق على تنقية البيئة اكثر مما تنفقه على الدفاع، ولكن لو سالنا من ” لوث ” البيئة لننتقم منه؟ سيأتيك اجوبة لا حصر لها، لكنك في النهاية لا تعرف من هو بالضبط؟ هل هي الدول الصناعية بسبب تلويث الهواء والتربة؟ هل هو العالم الثالث بسبب الزيادة السكانية وافتقاد السياسات البيئية؟ ثم من الأكثر ذنبا؟ كيف نعاقبة؟ من سيعاقبه؟…لا جواب محدد.
إن كل ما سبق يجعل من مفهوم ” التدخل في شئون الآخرين” لا معنى له، ولم يعد مفهوم السيادة التي ” قدستها ” مدرسة جان بودان وانصار الدولة القومية ذات دلالة واضحة، واصبح التدخل مقصور فقط على ” استخدام الأدوات العسكرية فعليا ومباشرة لتغيير النظم او السياسات”، وان تراجع مكانة الدولة لصالح ” ما فوق الدولة” وما دون الدولة، وتنامي القطاع الخاص على حساب القطاع العام، وتنامي المجتمع المدني العابر للحدود والشركات عابرة الحدود والاسلحة ذات التهديد العابر للحدود ووسائل الاعلام المختلفة التي لا تلتزم بالحدود وحركة رؤوس الاموال العابرة للحدود خارج نطاق الضبط الحكومي بل وتجنيد المواطن لصالح تنظيم خارجي وتنامي الآيديولوجيات عابرة الحدود…كل ذلك جعل مفهوم التدخل الخارجي اقرب للطرفة وجعل تحديد العدو والصديق أكثر تعقيدا، وجعل بناء الاستراتيجيات طويلة الامد أمرا عسيرا….لكن كل ما سبق يُنبئ بأن ثمة راع ٍ غيرُ مرئيٍ يَهشُ بعصاه على الجميع للدخول الي ” صْيرَةِ العولمة “…ربما.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button