دراسات اقتصاديةدراسات سياسية

التنمية الإنسانية: مقاربة معرفية

تشكل التنمية احد المداخل الأكثر شمولية في الاقتصاد و السياسة. فكثيرا ما كانت تعني بالتقدم الكيفي للدول و المجتمعات في ظل التصور الإيديولوجي للثنائية القطبية الذي اثر على البناءات المعرفية والنظرية حول المفاهيم و المواضيع و المجالات الإنسانية و المجتمعية …. ولكن مع هذه الاختلافات، تمحور مفهوم التنمية قبل 1990 في الاستجابة للحاجات الأساسية للدول و المجتمع .

تشكل التنمية احد المداخل الأكثر شمولية في الاقتصاد و السياسة. فكثيرا ما كانت تعني بالتقدم الكيفي للدول و المجتمعات في ظل التصور الإيديولوجي للثنائية القطبية الذي اثر على البناءات المعرفية والنظرية حول المفاهيم و المواضيع و المجالات الإنسانية و المجتمعية …. ولكن مع هذه الاختلافات، تمحور مفهوم التنمية قبل 1990 في الاستجابة للحاجات الأساسية للدول و المجتمع .

ولكن بعد انكسار الكتلة الاشتراكية و معها المنطق الاقتصادي و الاجتماعي الذي دافعت عنه، ظهرت عدد من التصورات باسم العولمة و خاصة القيمية التي أعادت تشكيل منطق التنمية حسب منظور حقوق الإنسان .

.حقوق الإنسان و التنمية:

تشكل فلسفة حقوق الإنسان المدخل المعياري الذي كثر استخدامه بعد سنة 1989 (وبالخصوص بعد تبني 172 دولة لأرضية فيينا سنة 1993 ) سواء ما تعلق بالنظر في حيثيات القانون الدولي بإفراغ مفهوم السيادة من محتواها الوستفالي أو التطلع “لانسنة ” القانون الدولي بشكل يسمح ببروز إمكانية للتدخل الإنساني وبل حتى الديمقراطي .

العلاقة بين التنمية و حقوق الإنسان هي ذات طبيعة تبادلية أي أن كل حركية تخدم الأخرى. فالتنمية بإمكانها خلق الثروة الكفيلة بضمان الحاجات الأساسية المرتبطة بالحياة و تحقيق الكرامة. أما حقوق الإنسان فهي قائمة على فرضية انه كلما كان تمكين فعلي اكبر كلما انتعشت الحياة الاقتصادية بشكل ينمي حركية التنمية ذاتها … و هذا ما جعل المفكر الهندي Amartiya Sen الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد (سنة 1998) يعرف التنمية كحرية . Development as Freedom و هذا هو أصل التصور الذي قدمه إعلان و برنامج عمل فيينا التي عرفت الحق في التنمية كحق أساسي في النسق الحقوقي العالمي …أي أن التنمية هي ذات طبيعة معيارية مؤسسة في حقوق الإنسان .

• التنمية الإنسانية : مقاربة مفاهيمية

ل قد طور هذا المفهوم (حسب مقاربة حقوق الإنسان ) من طرف برنامج الأمم المتحدة للتنمية في تقريره الأول (1990) بتقديمه لتصور للتنمية مستمد أصلا من حقوق الإنسان و حاجاته و ذلك بترشيح آفاق الفرص (حسب منطق العدالة التوزيعية) لتمكين الإنسان من تحقيق ذاته عن طريق توسيع القدرات الإنسانية ليحيا الناس لمدة طويلة خالية من الأمراض، و أن يكتسبوا المعرفة في غياب الجهل و الأمية (التقليدية و الرقمية )، و أن يعيشوا في كرامة مجتمعية و مادية و كذلك توسيع أفاق تحقيق ذاتهم السياسية و الاقتصادية بتوفير حرية المبادرة الاقتصادية و السياسية و حرية التعبير و التفكير من اجل مزيد من الفرص للإبداع و الاختراع …في ظل غياب أي حدود تمييزية بية بين الأفراد.

و بناءا على ذلك طور برنامج الأمم المتحدة للتنمية عددا من مؤشرات قياس أساسية و هي:
1- احتمالات طول العمر و ذلك حسب 4 مداخل تقيمية:
ا- احتمال مدة الحياة عند الولادة
ب- نسبة احتمالات العيش بين الرجل و المرأة عند الولادة
ج- النسبة المئوية للأشخاص الذين يحتمل إن يعيشوا اقل من 40 سنة
د- النسبة المئوية من الأشخاص الذين لا يحتمل أن يعيشوا حتى سن 60سنة

2- المعرفة و التي تقوم على 04 مدا خيل أساسية:
أ- مستوى البالغين الذين يعرفون القراءة و الكتابة
ب- النسبة المقارنة بين الرجال و النساء في عدم الأمية
ج- نسبة الأمية
د- نسبة الأمية الوظيفية (بين النساء ) .

3- كرامة العيش و التي تقاس باستخدام 03 متغيرات
أ-مستوى الدخل الفردي لكل فرد بالدولار الأمريكي
ب- مستوى الدخل المشترك بين الزوجين
ج- مستوى الفقر / الاحتياج و الذي يعني
-نسبة الذين ليس لهم ماء صالح أو رعاية صحية
-نسبة سوء التغذية عند الأطفال (اقل من 05 سنوات )
-نسبة الذين يعيشون في بطالة مزمنة و أقل من الحد الأدنى للفقر لمدة طويلة 12شهر.

فبالنظر للتركيبة المضامنية لهذه المؤشرات، يمكن القول بأن هذه المقاربة هي قائمة على أساس حاجات الإنسان ، و انطلاقا من الفلسفة الحقوقية المرتبطة بذاته بالاستثمار في تحسين الظروف المادية و البنيوية و الهيكلية و الإجرائية و القانونية و الدستورية من اجل تمكين الإنسان – المواطن من فرص أفضل في العمل و في السكن و في الإعلام و في التعليم و في الرعاية الصحة و الحصول على الغذاء الكافي و الماء النظيف من اجل الحفاظ على كينونتهم كبشر و تحقيق ذاتهم المواطنية و كرامتهم الإنسانية… و هذا ما يجعل التنمية الإنسانية قائمة و متمحورة حول مركزية الإنسان.

و لتحقيق نجاعة و فعالية في فلسفة التنمية الإنسانية يجب توفير عدد من الشروط و منها:

1- بناء منطق تلازمي بين حقوق الإنسان ( المصدر المعياري ) و القانون (الآليات الضامنة ) من اجل تحديد كيفية تمكين الإنسان – المواطن من حقوقه العالمية المتكاملة و الإنسانية
2- إنشاء فلسفة حكم قائمة على تمكين فعلي للمشاركة السياسية الديمقراطية التي تفرض قواعد و ضوابط للحكم الصالح و اللاغي للفساد و تبديد الأموال العمومية .
3- بناء منطق قائم على الجمع بين الظروف التمكين الحر للإنسان – المواطن مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الحفاظ على حقوق الأجيال اللاحقة في العيش و في الموارد الغير متجددة (مفهوم جيلنة التنمية )
4- ضرورة تطوير رشاده بيئية مانعة للتلويث و لتسميم الماء و الأرض و الهواء…
5- ضرورة الحفاظ على الماء الذي سوف يعود في اقل من 20سنة “مادة نادرة ” قد تقع حولها النزاعات و الحروب .

فبالنظر لما سبق، يمكن القول أن التنمية الإنسانية بالمنظور الذي قدمه برنامج الأمم المتحدة للتنمية PNUDهو بالأساس معياري و هادف لتحقيق اكبر قدر من الحاجات الإنسانية في اقل وقت و اقل تكلفة مع مراعاة منطق عبر جيلني Inter-generational perspective بشكل يحقق تنمية إنسانية مستدامة و ضامنة لأمن الإنسان.

• حقوق الإنسان، التنمية الإنسانية و الأمن الإنسان:

ربط التقرير الثاني حول التنمية الإنسانية لسنة 1994 بين ثلاثيتين و هي حقوق الإنسان و الديمقراطية و التنمية الإنسانية. الديمقراطية هي الحركية الضامنة لتمكين مضمون دستوري وقانوني وسياسي ووظيفي لحقوق الإنسان من جهة و حقوق الإنسان و التنمية الإنسانية و الأمن الإنساني “مع التنمية الإنسانية كمحرك فعلي للنشاطات و السلوكات الإنسانية و المجتمعية و الدولتية بشكل يضمن اكبر انتفاع من الحقوق و من الحاجات لأكبر عدد ممكن من البشر .

كما يعد الأمن الإنساني الحراك الأخير في هذه الحلقة التفاعلية (حقوق الإنسان/ تنمية إنسانية/ امن أنساني ) الهادفة لأمن الإنسان من الخوف (القهر، التغيرات الطارئة أو الاستثنائية التي قد تأثر سلبا في إمكانية تحقيق كينونته و بقائه ) أو الحاجة (غياب الشروط المعرقلة لانتفاع الإنسان من حقوقه الحياتية و المحققة للكرامة ) .

وانطلاقا من ذلك يقوم الأمن الإنساني على 07 إبعاد غير ترتيبية و متكاملة و هي:
1- الأمن السياسي أي غياب التعسف أو التجاوز أو القهر أو الفساد السياسي بالنظر لتمكين الإنسان من حقوقه المدنية و السياسية في ظل نظام ديمقراطي مشاركاتي
2- الأمن البيئي أو وجود سياسات تمنع التلاعب بحصانة البيئة و بقائها كمجال صالح للحياة للجيل الحاضر أو الأجيال المستقبلية
3- الأمن الصحي و الذي يعني وجود بيئة صالحة للحياة و بها آليات للوقاية من الأمراض و الأوبئة مع توفير شروط الرعاية الصحية
4- الأمن الغذائي أي وجود إمكانية حصول الإنسان على الغذاء الكافي و النوعي و باستمرار لمنع بروز سوء التغذية أو المجاعة
5- الأمن الثقافي أي تمكين الإنسان من هويته الدينية و اللغوية و الثقافية
6- الأمن الفردي أي تحقيق الإنسان لخصوصيته الذاتية
7- الأمن المجتمعي أي احتفاظ المجتمع بتجانسه مع منع كل إشكال التمييز .

مما سبق يظهر أن التنمية الإنسانية هي مقاربة معيارية هادفة لتحقيق إنسانية الإنسان بتمكينه من الانتفاع من حقوقه و إشباع حاجاته في عالم تتسع فيه الهوة المادية بين شمال يزداد غنا و جنوب تزداد فيه الأوبئة و الفقر و احتمالات فشل الدول …. فحتى امن الإنسان يبقى في هذه الدول (إفريقيا خصوصا ) حلما في ظل العيش في كوابيس الكوارث الطبيعية و الاقتصادية و السياسية …. و خاصة الإنسانية.

(*): محند برقوق أستاذ محاضر في العلوم السياسية (جامعة الجزائر) و المعهد الديبلوماسي و العلاقات الدولية (وزارة الخارجية) مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والأمنية -الجزائر-

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى