نظرية العلاقات الدولية

التوجه الترکي للهيمنة الإقليمية والنهوض الدولي

تسعى هذه الدراسة إلى تقديم رؤية تحليلية تقييمية للدور الترکي في المنطقة، باعتبار ترکيا نموذجا للقوة الناهضة المتوسطة التي تسعى للحصول على مکانة دولية کبرى في ظل أحداث دولية متغيرة، وتنطلق الدراسة من افتراض رئيسي مفاده أن الأوضاع الداخلية والأحداث الإقليمية والدولية قد أظهرت عجز التجربة الترکية عن تحقيق أهدافها وطموحاتها في ظل بيئة إقليمية تموج بالتحديات. في هذا السياق حاولت الدراسة البحث في آليات التوجه الترکي للهيمنة الإقليمية والصعود الدولي وأدواته واستراتيجياته من خلال وضع منظومة بنيوية أطلقت عليها “منظومة النهوض والعودة الترکية” والتي شکلت حجر الأساس في السياسة الترکية تجاه المنطقة وفسرت کثير من التحرکات الترکية تجاه دولها في الآونة الأخيرة. وقد حاولت الدراسة الإجابة على التساؤل البحثي الرئيسي: ما أهم أبعاد المنظومة الترکية للنهوض والعودة وإلى أي مدى استطاعت ترکيا أن تحقق أهدافها من هذه المنظومة؟، وقد أکدت الدراسة في نتائجها أن التجربة الترکية رغم ما حققته من نجاحات إلا أن ما واجهته من صعوبات وتحديات أظهر تجسيدها لإخفاقات القوة الصاعدة في محيطها الإقليمي في ظل فجوة حقيقية بين طموحاتها الإقليمية المتصاعدة وقوتها الذاتية المحدودة.

المؤلف
داليا عرفات 
کلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، القاهرة
مجلة السياسة والاقتصاد، المقالة 10، المجلد 16، العدد 15، يوليو 2022، الصفحة 288-344

مقدمة:

طالما عُدت ترکيا من أهم القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وظلت مکانتها ثابتة لعقود طويلة وتأرجحت علاقاتها بدول هذه المنطقة ما بين التقارب تارة والتباعد تارة أخرى، إلى أن دخلت ترکيا منعطفا تاريخيا جديدا بوصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحکم في عام 2002 ليعلن بوضوح إعادة تعريف مکانتها على الساحتين الإقليمية والدولية وينتهج رؤية جديدة للدولة تقوم على تحويلها لدولة مرکزية بعمق استراتيجي جديد يتيح لها هيمنة إقليمية وصعود دولي ناجح.

في هذا السياق بدا الحديث عن التوجه الترکي للهيمنة الإقليمية والصعود الدولي من أقرب المداخل المفسرة للسلوک الترکي في المنطقة وخاصة بعد أحداث الربيع العربي التي تزامنت مع تحولات في السياسات الترکية تجاه بعض دولها جعلت من الأهمية بمکان الربط بين التوجه الترکي للصعود والهيمنة وبين الدور الإقليمي الذي تسعى للقيام به.

من هذا المنطلق تأتي هذه الدراسة للبحث في آليات التوجه الترکي للهيمنة الإقليمية والصعود الدولي وأدواته واستراتيجياته وذلک من خلال وضع منظومة بنيوية لهذا التوجه أطلقت عليها الدراسة “منظومة النهوض والعودة الترکية” والتي شکلت حجر الأساس في السياسة الترکية تجاه المنطقة برمتها وفسرت کثير من التحرکات الترکية تجاه دولها في الآونة الأخيرة، مع محاولة تقييم أداء هذه المنظومة ومدى نجاحها في تحقيق الأهداف الاستراتيجية الترکية.

وقد حاولت الدراسة الإجابة على التساؤل البحثي الرئيسي: ما أهم أبعاد المنظومة الترکية للنهوض والعودة وإلى أي مدى استطاعت ترکيا أن تحقق أهدافها من هذه المنظومة؟، کما سعت للإجابة على بعض الأسئلة الفرعية من قبيل: ما الأساس الفکري الذي بنت عليه ترکيا منظومتها؟، وما أهم الأدوات التي استخدمتها لوضعها موضع التطبيق؟، وهل هناک عوامل محفزة ساعدت ترکيا في تنفيذها؟، وهل استمرت هذه المنظومة بنفس استراتيجياتها وأدواتها أم تغيرت بتغير الأحداث؟، وما أهم مؤشرات إخفاق هذه المنظومة، وأبرز التحديات التي واجهتها؟.

وللإجابة على هذه الأسئلة انقسمت الدراسة إلى محورين أحدهما تحليلي والآخر تقييمي وذلک على النحو التالي:

المحور الأول: المنظومة البنيوية للتوجه الترکي للهيمنة الإقليمية والصعود الدولي (منظومة النهوض والعودة الترکية):

تشتمل هذه المنظومة على ثلاث رکائز رئيسية بمستويات ثلاث: الأولى تتعلق بالمستوى الفکري حيث الرؤى والتصورات والأفکار عن الدور الترکي، أما الثانية فتتعرض لمستوى الحرکة، حيث الآليات والسياسات وأدوات التنفيذ، أما الثالثة والأخيرة فتتعامل مع المستوى التحفيزي حيث البيئة التدعيمية والعوامل الدافعة، وفيما يلي عرض لها بقدر من التفصيل:

أولا: المستوى الفکري: البنية الفکرية المتماسکة للدور الترکي في المنطقة:

لا شک أن وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحکم في ترکيا عام 2002 مثل مرحلة جديدة في التاريخ الترکي حيث استطاع أن يقدم رؤية مختلفة لمکانة ترکيا ليس فقط على المستوى الاقليمي ولکن العالمي أيضا) (، وتحولت ترکيا في فکره من مجرد جسر أو حاجز أو همزة وصل بين الشرق والغرب إلى دولة مرکزية کبرى تتمتع بإمکانيات تتيح لها إنتاج سياسات دولية مستقلة. وغني عن البيان أن تحول تصورات الدولة على هذا النحو المحوري يتطلب بنية فکرية جديدة تؤسس لاستراتيجيات فاعلة وسياسات نشطة، وتتمثل أهم عناصرها في:

(1) التصور الشمولي الناهض للدور الترکي: ترکيا کنموذج للقوى الناهضة المتوسطة ” Middle Rising Power”:

في عام 2001 صاغ جيم أونيل الخبير الاقتصادي مفهوم “البلدان الناهضة”، حيث رأى أن هناک مجموعة من البلدان متوسطة القوى يُتوقع لها أن تحتل مکانة کبرى في الاقتصاد العالمي خلال سنوات قليلة، ورغم أن هذا المفهوم قد ولد في عالم الاقتصاد إلا أنه سرعان ما انتقل إلى المحيط السياسي وتحديدا مجالي العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية، فمع انتهاء الحرب الباردة برز جيل جديد من القوى عمل على إثبات ذاته وحاول جاهدا أن يجد موضع قدم في النظام الوليد، وأطلق على هذه القوى “القوى الناهضة المتوسطة”، ووصفها البعض بأنها “دول تطمح لأن تکون قوى عظمى” Would be Great Powers ( )، ووصفها البعض الآخر بأنها “دول وسيطة” Intermediate States بين القوى الصغرى والقوى العظمى( )، وبغض الطرف عن إشکاليات هذا المفهوم وتداخله مع مفاهيم أخرى شبيهة کالقوة المتوسطة التقليدية وغيرها إلا أنه يختلف عنها في توقيت وکيفية وصول هذه القوى إلى وضع الدول المتوسطة؛ ففي حين نجد دولا مثل کندا وفرنسا على سبيل المثال وصلت إلى مرکز القوى المتوسطة من جراء إعادة تشکيل النظام العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فإن القوى المتوسطة الناهضة هي نتاج للتحولات التي صاحبت نهاية الحرب الباردة وانهيار نظام الثنائية القطبية، أضف إلى ذلک أن هذه القوى غالبا ما تأتي من خارج المحيط الغربي وتحديدا من دول الجنوب -بعکس القوى التقليدية التي تنتمي للعالم الغربي أو دول الشمال –، وهو الأمر الذي ينعکس على رؤية وتصورات هذه القوى للعالم والتي غالبا ما تکون مختلفة عن تلک التي تحملها القوى التقليدية المنتمية لعالم الغرب أو بلاد الشمال. کما يميز البعض بينهما بمعيار السعي لعضوية مؤسسات القوى الرئيسية خاصة مجلس الأمن الدولي؛ ففي حين تضم الدول المتوسطة التقليدية مجموعة من الدول التي تمتلک قدرات معتبرة، إلا أنها تقبل الوضع القائم ولا تبحث عن المشارکة المباشرة في تشکيل النظام الدولي، بعکس الدول الصاعدة التي تبحث لها عن مکانة في النظام الدولي( ).

هذا ويتداخل هذا المفهوم أيضا مع مفهوم القوى الإقليمية، ورغم أن معظم الدراسات ميزت بين هاذين المفهومين باعتبار أن القوى الصاعدة غالبا ما تتجاوز منطقتها الإقليمية وتتمتع بحضور وتأثير عبر-إقليمي، إلا أن ذلک لم يمنع من إثارة الجدل بين الباحثين حول ما إذا کانت القوة الصاعدة ينبغي أولا أن تکون قوة إقليمية؛ ففي حين رأى البعض أن الفضاء الإقليمي بات عنصرا يتمتع بأهمية بالغة في السياسة الدولية وفي مقاربات تحول القوة، وبالتالي ليس ممکنا أن تتحول دولة إلى فاعل في النظام الدولي دون أن تلعب دورا في منطقتها الإقليمية، رأى البعض الآخر أن هذا ليس شرطا ضروريا فبعض القوى الصاعدة اليوم ليست قوى إقليمية کالهند مثلا، فقد لا تعمد القوة الصاعدة إلى التحول إلى قوة إقليمية خاصة عندما تتنافس عليها مع القوة المهيمنة أو قوى صاعدة أخرى( ).

وتشير غالبية الدراسات المتخصصة إلى عدم وجود تعريف مشترک لماهية “القوة الصاعدة أو الناهضة”، حيث رأى البعض أنها تعبر عن الدولة التي تجد نفسها في مسار تحول من مکانة دولية إلى أخرى أعلى؛ من القوة الصغرى إلى المتوسطة، أو من المتوسطة إلى الکبرى، أو من الکبرى إلى العالمية( )، ويرکز البعض الآخر على أن القوة الصاعدة عادة ما تکون قوة متوسطة تمتلک القدرة والرغبة في مواصلة طريقها نحو مکانة القوة الکبرى… وبعبارة أخرى القوى الصاعدة هي أکثر من “الدول الوسيطة” أو “القوى الإقليمية”، فلديها الرغبة الکامنة في إعادة تشکيل النظام الدولي في المستقبل، وهي تلمح إلى رغبتها في فعل ذلک بطرق مختلفة( )، أما کریستوفر ألدن فيعتبر أن القوى الصاعدة هي “الدول التي تمتلک مزيجا من الشجاعة الاقتصادية والفطنة الدبلوماسية والقوة العسکرية، مُسخرة من أجل التحول من مکانة الدولة النامية نحو تحدي سيطرة القوى التقليدية الغربية”( ).

وتزخر أدبيات علم السياسة والعلاقات الدولية بتصورات مختلفة لما يمکن أن تتضمنه فکرة النهوض؛ فالرأي التقليدي يطابق ببن الصعود والزيادة –بالمعنى النسبي أو المطلق- في قدرات الدولة، إلا أنه توجد مقاربات أخرى أکثر تطورا کالمقاربة التاريخية التي تعتبر الدولة في حالة صعود إذا کانت أقوى مما کانت عليه في الماضي، ومقاربة الوضوح والتي تنظر للدولة باعتبارها ناهضة إذا کانت تبدو أکثر انخراطا واندماجا في العالم مما کانت عليه في السابق، وهناک مقاربة النفوذ والتي تشير إلى أن التصاعد صفة لازمة لقوة التأثير على الآخرين، ولا ننسى في هذا الإطار مقاربة تهديد القوة المهيمنة، والتي تعتبر أن دولة ما في حالة صعود إذا کانت تشکل تهديدا متزايدا لتفوق ومکانة القوة المهيمنة في النظام الدولي القائم؛ وأخيرا مقاربة التوقعات المستقبلية والتي تعني أن الدولة تصعد إذا کانت الدول الأخرى ترى أنها تؤدي، أو ستؤدي مستقبلا، دورا أوسع في العالم أکثر مما کانت تفعل في السابق( ).

أما عن خصائص هذه القوى فيمکن إجمالها في: (1) الثقل الاقتصادي المتزايد والسعي للاندماج في الاقتصاد العالمي( )، والذي يجب أن يکون ناجما عن تجربة تنموية ناجحة وأن تثبت هذه القوى الصاعدة جدارتها في خوض غمار التنمية والتعامل مع تحدياتها، سواء اتبعت نموذج الليبرالية الاقتصادية، أو ابتکرت نموذجا تنمويا خاصا بها( ). (2) انتزاع الاعتراف بالمکانة من قبل غيرها من الدول، خاصة القوة المهيمنة والقوى الکبرى الأخرى في النظام القائم، فضلا عن الاعتراف بها کقائد إقليمي ذو ثقل في النظام الاقليمي( ). (3) استخدام القوى الناعمة من أجل الحصول على الاعتراف بها بصفتها قوة صاعدة، وتختلف رکيزة کل دولة فبعضها تعتمد على تاريخها الديمقراطي، وأخرى على تاريخها الحضاري، وثالثة على تجربتها التنموية الناجحة، ورابعة احترامها لحقوق الإنسان، وهکذا، وقد تجمع بعض الدول ببن أکثر من مصدر في الوقت ذاته( ). (4) الاستقرار السياسي والمؤسساتي النسبي، والذي يعني وجود قدر کاف من الاستقرار الداخلي داخل الدولة يساعدها على رسم ملامح دورها الخارجي وتعزيزه. (5) السعي لعضوية المؤسسات الدولية الکبرى، أو ما يطلق عليها مؤسسات القوة الرئيسية، ويأتي في مقدمتها مجلس الأمن الدولي، أو نادي القوى النووية( ). (6) معارضة الهيمنة الانفرادية “الأمريکية” وعدم الانبثاق من النسق التقليدي للنظام الدولي القائم على الغرب، وذلک لأن هذه الهيمنة تمنعها من الظهور أو البروز کقوة محتملة. وعادة ما لا تندمج هذه القوى الصاعدة بشکل کامل في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية ولا تنتمي تقليديا للغرب أو دول الشمال إلا أنها في نفس الوقت تمتلک عدة استراتيجيات-هجومية، احتوائية، تعاونية- تمکنها من مواصلة صعودها والتعامل الأمثل مع القوة المهيمنة( ).

وفي ذات السياق حددت جنى جبور في کتابها عن دبلوماسية القوى الناهضة أهم السمات التي تميز هذه القوى وأولها السعي نحو الحصول على المکانة والاعتراف بها کقوة على نطاق اقليمي، وإيجاد دور لها على المستوى العالمي، والمطالبة المستمرة بعلاقات متکافئة مع الدول العظمى، فضلا عن الاستفادة من تشتت القوة والسلطة وحالة الغموض التي تسود النظام الدولي في أعقاب الأحداث والتغيرات الکبرى، والترکيز على الأنشطة الدبلوماسية لتحقيق تطلعاتها، ناهيک عن تصدير صورة إيجابية عن الذات غالبا ما تکون أکبر مما هي قادرة عليه في الواقع( ).

ويدفعنا الحديث النظري عن مفهوم القوة الناهضة أو ما يعرف لدى البعض الآخر بالقوة الصاعدة إلى محاولة تفسير السلوک الترکي من خلاله حيث وضعت ترکيا هدفا رئيسيا نصب أعينها وهو التحول من “قوة متوسطة إقليمية تقليدية” إلى “قوة متوسطة عبر إقليمية ناهضة”، ولتحقيق هذا الهدف طورت ترکيا تصورات طموحة لدورها على المستويين الاقليمي والدولي، وبدت کدولة ترغب بشدة في التمکين وتأکيد الذات على الساحة الدولية، وبدأت بالفعل في اتخاذ اجراءات تحقق لها ما أرادت. فعلى المستوى الاقتصادي استطاعت أن تحتل المرتبة السابعة عشر في ترتيب الاقتصاديات العالمية، وعلى المستوى الجيوسياسي راحت ترکيا تثبت نفسها أکثر فأکثر کقوة ناهضة تتحدى الوضع القائم في النظام الدولي وتطمح أن تقود دبلوماسية استباقية نشطة، وقد مرت عملية النهوض الترکي بثلاث مراحل: الأولى بدأت في ثمانينيات القرن الماضي واتخذت منحى اقتصاديا بالأساس حيث تم الإعلان عن اتخاذ تدابير لتحرير الاقتصاد وإطلاق استراتيجية تصنيع من خلال تعزيز التصدير مما أتاح الفرصة للبلاد بدء التحول إلى قوة اقتصادية، أما المرحلة الثانية فبدأت مع نهاية الحرب الباردة ورکزت على الصعيد السياسي حيث استفادت من انهيار القطبية الثنائية التي کانت تحد من حرية حرکة الدول الصغرى والمتوسطة لتدخل عالما جديدا أکثر مرونة ورحابة مما أتاح لها فرصة تطوير سياسة خارجية أکثر استقلالية ونشاطا، وتنويع علاقاتها الدبلوماسية لتصبح أکثر انخراطا في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، أما المرحلة الثالثة والأخيرة فبدأت مع بدايات العقد الأول من القرن الحالي والذي شهد تغير القيادة السياسية التي صاغت استراتيجية شاملة للقوة جمعت فيها بين کافة الأساليب السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية والعسکرية التي تمکنها من لعب دور اقليمي وعالمي( ).

(2) التوجه شرقا “إعادة ضبط البوصلة نحو الشرق”: ترکيا کنموذج للقوى العائدة “Returning Power”:

تطلق عبارة “القوة العائدة” عادة على الدول التي کانت تمثل سابقا قوى کبرى أو رئيسية في النظام الدولي أي اختبرت تجربة الصعود حتى وصلت إلى قمتها ثم بدأت في اتجاه الهبوط نتيجة تغير في موازين القوة الداخلية أو الخارجية لتفقد مکانتها ونفوذها العالمي، لتبدأ رحلة العودة لاستعادة هذه المکانة مرة أخرى. وينطبق هذا النموذج بشکل نسبي على ترکيا التي اعتبرت نفسها خليفة للإمبراطورية العثمانية التي تمتعت بالقوة والنفوذ لعقود طويلة لکنها سرعان ما انهارت مخلفة عدد غير قليل من الدول يأتي في مقدمتها ترکيا التي تطرح نفسها کقوى وريثة لها( )، وإذا کانت ترکيا تسعى لتصدير صورة الدولة الصاعدة لدى الغرب کونها تمتلک مؤشرات التحول من دولة متوسطة تقليدية إلى أخرى ناهضة، فإنها تعتبر نفسها ليس فقط دولة عائدة لمکانتها السابقة وإنما عائدة أيضا لمحيطها الإقليمي والمتمثل في الشرق. وهنا يثور التساؤل عن أسباب عودة ترکيا إلى الشرق بعد أن تغيبت لفترة غير قليلة عنه. وقد حاول الکثيرون تفسير التوجه الترکي وتوصلوا إلى أربعة أسباب رئيسية:

أ‌- الشرق هو ميدان تنفيذ المشروع الاسلامي العالمي:

 إن انخراط ترکيا في المنطقة هو انعکاس لسياسة ترمي لتنفيذ مشروع إسلامي کلي؛ فحزب العدالة والتنمية الحاکم ينبثق من تيار الإسلام السياسي وينمي شعورا دينيا أمميا يقوم على فکرة الجماعة الإسلامية المتضامنة، ومن الطبيعي أن يقود هذا الفکر إلى التعاطف تلقائيا مع البلدان التي کانت تتشکل منها الأمة الإسلامية، ورغم وجاهة هذا الرأي إلا أنه تعرض لانتقادات عدة استنادا إلى أن السياسة الخارجية تقوم أولا وقبل أي شيء على مصالح مادية، وأن نزعة الدين التي تغلف سياسات بعض الدول ما هي إلا غطاء لتحقيق أهداف على أرض الواقع، وقد يکون للترکيز على الدين في الخطاب السياسي الترکي وظيفة أداتية بحيث يساعد في شرعنة عودة ترکيا إلى المنطقة بعد عقود من القطيعة، والدليل على ذلک أن الدبلوماسية الترکية في ظل حکم حزب العدالة والتنمية لا تتحرک في المناطق الإسلامية فحسب، وإنما في جميع الاتجاهات. وبالرغم من ذلک يظل هذا الرأي له دلائله واسناداته، ويظل المشروع الإسلامي العالمي هو أحد الأهداف الاستراتيجية الکبرى لترکيا) (.

ب‌- الشرق هو المجال الحيوي لاختبار العثمانية الجديدة:

إن انخراط ترکيا في المنطقة هو انعکاس لرغبة دفينة في إعادة إحياء الامبراطورية العثمانية على المستوى الرمزي، فتحليل السلوک الترکي يظهر نزعة إمبراطورية تعکس صعوبة الخروج من الذهنية المرتبطة بها؛ فترکيا لاتزال تنظر للعالم العربي الإسلامي کمنطقة کانت في عهدتها واُنتزعت منها بالقوة، وهي اليوم تتمتع بحق الرعاية عليها، ويطلق البعض على هذا الطموح الامبراطوري “العثمانية الجديدة”( ). وقد ثار جدلا کبيرا حول هذا المفهوم ومدى صحة تفسير السياسة الترکية من خلاله، ويتجلى ذلک بشکل واضح في تعريفات الباحثين المتعددة بل والمتناقضة لهذا المفهوم إذ يذهب البعض للتأکيد على نزعة التوسع المادي في أراضي دول الجوار کأحد العناصر الأساسية لتعريف العثمانية الجديدة، بينما تربطها تحليلات أخرى بالإسلام السياسي والهوية الإسلامية في حين يشير آخرون إليها باعتبارها نظرة إيجابية تجاه الماضي العثماني وخبراته تهدف إلى تعزيز العلاقات مع أقاليم الامبراطورية العثمانية السابقة دون تطلعات إقليمية( )، وربما يقع جانبا کبيرا من هذا الجدل في الدائرة الخاصة بمدى تأثيره ومکوناته، إلا أن فکرة تأثير هذا المفهوم بات أمرا واقعا في السياسة الترکية، بحيث امتلأت تصريحات القادة في ترکيا بمصطلحات تشير للحنين إلى الماضي وتأثيره على السياسة الترکية الآنية( ).

ج- الشرق هو الطريق الممهد نحو الغرب:

في کتاب العمق الاستراتيجي لداوود أوغلو تحدث عن عبارة توضح الرؤية الفکرية التي تنطلق منها ترکيا وهي “استعارة الرمي بالقوس” حيث أکد أن سياسة ترکيا الإقليمية لابد أن تُفهم من خلال الرمي بالقوس فبقدر ما تشد ترکيا الوتر في الشرق الأوسط يصل سهمها أبعد على الساحة الدولية( ). وهذا يعني أن الشرق في الرؤية الترکية هو وسيلة للوصول إلى عالم أکثر رحابة مجسدا في الغرب؛ فکلما زادت قوة ترکيا على المستوى الإقليمي کلما نجحت في امتلاک نقاط قوة تساعدها على التوجه غربا، وربما طمحت ترکيا إلى تحويل التوجه شرقا إلى ورقة ضغط وجذب في ذات الوقت لدول الاتحاد الأوروبي التي تسعى جاهدة للانضمام إليه رغم الصعوبات التي تواجهها) (.

د- الشرق هو بوابة التحول للقوة الناهضة المنشودة:

يرى البعض أن انخراط ترکيا في الشرق الأوسط لا يرتبط فقط بفکرة العثمانية الجديدة أو بالتوجه الإسلامي وإنما بمتغير جديد ارتسم في العقد الأول من القرن الحالي وهو النهوض الترکي، الذي بدأت ملامحه في التبلور من خلال السياسة الترکية التي سعت جاهدة لرفع مکانة الدولة وإثبات وجودها على الساحة الدولية، مع الإدراک الکامل بأنها لن يتأتى لها ذلک إلا بعودتها القوية لمحيطها الإقليمي بحيث تصبح قطب جاذب فيه، وهذا يعني أن عودة ترکيا إلى الشرق يمکن أن تُفسر من خلال ديناميات ظاهرة الصعود، بحيث تحول إلى ميدان لإثبات قدرة ترکيا على التموضع الدولي، وعلى الانخراط الفعال في الشأن العالمي) (. وهنا تظهر الاستراتيجية الترکية جلية وهي بناء منطقة نفوذ إقليمية لاستخدامها کنقطة انطلاق نحو الوصول لمرتبة الدولة المرکزية العالمية. وإذا کانت الفضاءات المحيطة بترکيا ذات أهمية کبرى فإن الشرق الأوسط يتمتع بأهمية أکبر حيث يعتبره داوود أوغلو العمود الفقري الذي يجب أن تستند إليه النهوض الترکي) (، وهو الحديقة الخلفية لترکيا، وهو مفتاح التوازنات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، کما أنه المنطقة المفضلة للتمدد. وبالتالي إذا لم تنجح ترکيا في أن تکون مرکز استقطاب إقليمي في الشرق الأوسط فسوف تنقطع إن آجلا أو عاجلا ليس فقط عن الفضاء الآسيوي والمتوسطي وإنما العالمي أيضا، ومن هنا ترتسم نظرة أداتية ونفعية للشرق الأوسط ونقطة انطلاق ضرورية لبلوغ وضعية القوة الإقليمية ومن ثم القوة العالمية( ).

ثانيا: المستوى الحرکي: الأدوات والسياسات الاستراتيجية والتکتيکية:

ويشمل الأدوات والسياسات التي اتبعتها ترکيا لوضع التصورات والرؤى الفکرية موضع التطبيق، ويأتي في مقدمتها:

(1) الأدوات الاستراتيجية: ثلاثية الدبلوماسية الناهضة:

ويطلق عليها ثلاثية الدبلوماسية الناهضة لأنها تشتمل على ثلاث أدوات استراتيجية کبرى اتبعتها ترکيا في سياساتها الخارجية، وهذه الأدوات جسدت مفاهيم مستحدثة اعتبرها البعض مبتکرة في عالم السياسة تحدث عنها داوود أوغلو في کتابه “العمق الاستراتيجي” الذي عبر فيه عن رؤيته الخاصة لمکانة ترکيا وسياستها الخارجية) (، ورغم أن أوغلو ينتمي إلى التيار الأکاديمي والفکري قبل أن يکون رجل دولة إلا أن هذا الکتاب اعتبر بمثابة خارطة طريق للسياسة الخارجية الترکية في عهده. وتتمثل هذه الثلاثية في:

(أ‌) تفعيل العمل بنظرية العمق الاستراتيجي Strategic Depth Doctrine: التي تحدث عنها أوغلو حينما دعا إلى إعادة هندسة السياسة الخارجية الترکية، بهدف تحويلها إلى دولة مرکزية وقوة عالمية( )، وشبه الساحة الدولية برقعة الشطرنج التي تحتوي على مجموعة من اللاعبين وشدد على ضرورة أن تکون الدولة واحدا من اللاعبين المؤثرين لا بيادقة مهمشين، وأکد في هذا السياق أن موقع الدولة على رقعة الشطرنج الدولية يعتمد –إضافة إلى التصور الذاتي لنخبتها- على عمقها الاستراتيجي أي على قدرتها على الإشعاع خارج حدودها. وهذا لن يحدث إلا بتحقيق التوازن بين الحرية والأمن کخطوة أولى لرسم ملامح دور خارجي؛ فالدولة لابد أن تسعى لتحقيق الحرية لمواطنيها، وفي نفس الوقت تحقق الأمن على المستوى الأکبر للمجتمع والوطن، بشرط ألا يطغى مسعى تحقيق الأمن على هدف الحرية، والعکس صحيح.

کما لن يتأتى أيضا إلا من خلال الجمع بين عنصرين لا يمکن التغاضي عن أي منهما، وهما: الرؤية الايجابية للذات مدعومة بالثقة العالية بالنفس، والإرادة السياسية القوية؛ فعلى الدولة أن تنظر إلى نفسها على أنها قادرة وقوية، وأن تبادر إلى التحرک والفعل حتى لو انطوى ذلک على مخاطر ومجازفة، کما على قادة الدولة أن يتحملوا مسئولياتهم ويمتلکوا الشجاعة التي تمکنهم من التصرف بشکل مستقل.

وبتحليل نظرية العمق الاستراتيجي من وجهة نظر داوود أوغلو سنجد أن لها شقين، الأول هو العمق التاريخي والهوياتي الذي يحتم عليها لعب دور إقليمي وعالمي، وخاصة في ظل تاريخها المليء بالانتصارات والأمجاد کإرث عثماني، وهويتها المرکبة التي توفر لها مجالا للحرکة في مناطق عدة، ومساحات للنفوذ في محيطها المباشر، أما الشق الثاني فهو العمق الجغرافي الذي يرتکز على موقعها کنقطة التقاء لمناطق عدة وتواجدها في قلب فضاءات جيوسياسية رئيسية، إذ تتمتع بموقع فريد عند تقاطع قارتي أوروبا وآسيا ناهيک عن قربها في الوقت ذاته من أوروبا الشرقية ومن الشرقين الأدنى والأوسط ومن أفريقيا، وهو الأمر الذي يفتح المجال أمامها واسعا کي تنطلق نحو آفاق جديدة وتؤدي دورا مؤثرا في النظام الدولي( ).

وبناء عليه تمثل هذه النظرية أداة استراتيجية وإطارا فکريا في ذات الوقت تمکن ترکيا من زيادة دورها وتعزيز مکانتها في النظام الدولي لا کجسر بين الغرب والشرق وإنما کفاعل رئيسي يتمتع بالفاعلية والاستقلال، وقد اعتمدت النخبة الحاکمة هذا التوجه في الوثيقة التي حملت عنوان “الهدف 2023” ونشرت رسميا على موقع حزب العدالة والتنمية الذي أکد أنه أعاد تفسير تاريخ وجغرافية ترکيا من خلال منظور العمق الاستراتيجي.

(ب‌) خلق بيئة إقليمية آمنة: من خلال حل المشکلات العالقة بين ترکيا وجيرانها، أو ما يسمى بـ “تصفير المشکلات” zero problem policy””، من ثم اخراج ترکيا من صورة البلد المحاط بالمشکلات، والدخول في صورة البلد ذي العلاقات الجيدة مع الجميع، وهذا إن تحقق، يمنح السياسة الخارجية قدرة استثنائية على التواجد والمناورة الفعالة. فضلا عن التأثير المتزايد في الفضاءات المجاورة من خلال سياسة “الدوائر المتحدة المرکز”، والتي تعني ضرورة ترکيز ترکيا على المجموعات الأقرب جغرافيا قبل البلدان البعيدة، بحيث تنشط في ثلاث مجموعات جغرافية من الأقرب إلى الأبعد: المحيط البري القريب المکون من البلقان والشرق الأوسط والقوقاز، والحوض البحري القريب المکون من البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي وبحر قزوين، وکذلک أنهار النيل ودجلة والفرات، والمحيط القاري القريب الواقع عند ملتقى أوروبا وأفريقيا الشمالية ووسط آسيا وشرقها( ). وتهدف هذه السياسة إلى تحقيق ثلاث غايات کبرى: الأولى أنها تسمح لترکيا بتحقيق الاستقرار في البيئة الاقليمية حتى تتمکن من تحقيق الوزن المناسب لها عالميا، أما الغاية الثانية فهي تقديم نفسها کمرکز جذب إقليمي سعيا للتحول إلى نموذج الدولة المرکزية بعد أن ترتبط بها الدول المحيطة کدول أطراف، أما الهدف الثالث والأخير فهو تکوين کتلة دبلوماسية تتکون من بلدان الجنوب أو بلدان العالم الثالث تحت إشرافها ليزيد وزنها من حيث التمثيل ويعطيها مميزات لا تتمتع بها قوى الشمال( ).

(ت‌) توسيع المجال الحيوي الترکي “التوسع الوظيفي”: ترتبط فکرة المجال الحيوي في السياسة الدولية بظاهرة التوسع، باعتبار أن الدولة مثل الکائن الحي الذي ينمو ويکبر على حسب احتياجاته وهذا الارتباط بين القوة والنمو من جهة وبين التوسع من جهة أخرى يعطي المجال الأکبر لمبدأ التوسع الإقليمي کمقدمة ضرورية لبقاء الکيان السياسي واستمراره بل وصعوده أيضا( )، وقد طرأت تغيرات فکرية وواقعية على مفهوم التوسع في حد ذاته فلم يعد يقتصر على التوسع الجغرافي فحسب ولم تعد أداته الوحيدة هي القوة بل بات توسعا وظيفيا وباستخدام أساليب أخرى کالنفوذ والتأثير. وقد ساعدت العولمة وما حملته في طياتها من ثورات فکرية على تکريس هذا التحول، فقبل العولمة، کانت القوى الکبرى تصل إلى مکانتها عن طريق التوسع الجغرافي وضم أراضي جديدة سواء بالغزو الصريح (الامبراطورية العثمانية والقيصرية) أو بضم أقاليم جديدة عن طريق المصاهرة (الامبراطورية النمساوية المجرية)، أو لاحقا في إطار الظاهرة الاستعمارية (فرنسا، بريطانيا)( )، وقد أدرکت ترکيا هذا التحول باکرا وتأکدت أن دخول دائرة الکبار لم يعد ممکنا عن طريق التوسع الجغرافي التقليدي بل أصبح يتم عن طريق “التوسع الوظيفي”، وهو أمر أکثر صعوبة وتعقيدا، فالعولمة وإن ضيقت المسافات الجغرافية، إلا أنها وسٌعت المسافات الوظيفية؛ حيث کشفت قدرات الدول حينما تقاربت وبدأت تقارن بينها، وأظهرت أن بعضا منها يستطيع أن يؤدي وظائفه وينافس أفضل من البعض الآخر، ومن هنا، فإن قدرتها على الصعود ونجاحها في ذلک لا يتحدد بقدر ما تسيطر عليه من مساحات جغرافية، وإنما بقدر ما تتمتع به من طاقات وظيفية، وسياسات مرنة تمکنها من تجميع مختلف أشکال القوة، والتنسيق فيما بينها لزيادة رصيدها من “القوة الوطنية الشاملة”، بدل الاعتماد التقليدي على بُعد أو بُعدين فقط ( اقتصادي أو عسکري)( ).

(2) الأدوات الدبلوماسية والناعمة: توسيع مساحة التواجد الترکي وتفعيل الدبلوماسية الذکية:

تستخدم ترکيا کقوى متوسطة ناهضة دبلوماسية مبتکرة تتميز بحرکة إقليمية ناشطة، وتتمتع بقدرة کبيرة على التوسط بحکم تموضعها بين الشمال والجنوب، کما تتميز بقدر کبير من المرونة تمکنها من نسج علاقات مع جهات فاعلة متخاصمة في النظام الدولي. وتسعى من خلالها لدفع الأطراف الأخرى في النظام الدولي للاعتراف بمکانتها وقوتها وإکسابها موقعا متقدما فيه، وتنبع أهمية الاعتراف من الناحية الواقعية من صعوبة اکتساب أي دولة لمکانة عظمى بدون اعتراف الدول الأخرى بهذه المکانة، وهنا يصبح للاعتراف دورا کبيرا يتجاوز دوره القانوني ليصبح عنصرا أساسيا وشرطا لا غنى عنه لتحقيق المنزلة والمکانة التي تسعى لتحقيقها الدولة، وهذه المنزلة تؤدي دورا نفعيا ووظيفيا وتوفر امتيازات لمن يحصل عليها، حيث تُؤّمِن للدولة شرعية تمارس من خلالها دور القيادة في مختلف مناحي الحياة الدولية، وتدفع الدول الأخرى للبحث لديها عن العون والمساعدة، ومن ناحية أخرى تحفزها هذه المکانة على بلورة سياسة على نطاق عالمي، متخطية بذلک حدودها الخاصة ومحيطها الإقليمي الأقرب، أضف إلى ذلک أن الحصول على مکانة يضمن لها استقرارا داخليا من خلال دغدغة مشاعر الاعتزاز والفخر لدى السکان المحليين الأمر الذي يدفع هؤلاء إلى تجديد ثقتهم بالنخبة السياسية الحاکمة( ).

وقد اتبعت ترکيا نوعا من الدبلوماسية، هدفت من خلالها لتوسيع مساحة التواجد الترکي کما وکيفا، يمکن أن نطلق عليها “الدبلوماسية الذکية” لما تتميز به من سمات يأتي في مقدمتها: (أ) الشمول والتعدد “الدبلوماسية الشاملة والمتعددة”: من خلال اتباع سياسة خارجية متعددة الأبعاد-مرتبطة بموقع ترکيا بين القوى والمناطق الحيوية في العالم-، والمشارکة الفاعلة في مجمل قضايا الإقليم التي تنتمي اليها ترکيا) (، (ب) التناغم “الدبلوماسية التناغمية- الايقاعية”: تطوير أسلوب دبلوماسي جديد في السياسة الخارجية، يعتمد موقف متحرک واستباقي يتيح لها أن تکون مؤثرة في فضاءات عدة، ويستدعي ذلک تخليها عن الثبات في المواقف التي طالما تميزت به إبان الحرب الباردة وذلک من أجل تبني موقف ديناميکي ونشط ومتفاعل ومتناغم يتماشى مع التوجهات الترکية الجديدة، (ج) المرونة والفاعلية “الدبلوماسية المرنة”: حيث الانتقال من السياسة الجامدة والسکون، الى الحرکة الدائمة والتواصل مع کل بلدان العالم المهمة لترکيا، (د) التوزيع “الدبلوماسية الموزعة” والتي تعني توزيع الجهود الترکية بين الأطراف الدولية مع التموضع المتعدد الاتجاهات.

وتتمثل أهم أنواع الدبلوماسية التي تنتهجها ترکيا في أربع أنواع:

• الدبلوماسية العامة والإنسانية:

أولت ترکيا اهتماما واسعا بالدبلوماسية الإنسانية التي ترکز على الإنسان کمحور رئيسي للکون، فبرزت کدولة مانحة ومساهمة في المساعدات الإنمائية الرسمية في الآونة الأخيرة) (، واحتلت المرتبة الرابعة في قائمة أکبر المتبرعين بالمساعدات الإنسانية عام 2013، بعد الولايات المتحدة والمملکة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقد تضاعفت المساعدات التي تمنحها ترکيا أربع مرات بين عامي 2003، و2013 واتخذت طابعا مؤسساتيا خاصة بعد أن تأسست الوکالة الترکية للتعاون والتنسيق “تيکا” وافتتحت مکاتب تمثيلية لها في عدد من دول الشرق الأوسط. وعن طريق انخراط ترکيا في هذه المساعدات حاولت أن تثبت أنها تتمتع بنوع من السلطة الأخلاقية وأن سياستها الخارجية لها منحى إنساني وأنها تستحق دور أکبر في محيطها الإقليمي وخاصة بعد أن تحسنت صورتها في البلدان المستفيدة من المساعدات( ).

وتنقسم المساعدات الإنمائية الرسمية إلى فئتين الأولى هي المساعدات الإنسانية مثل مشروعات البنية التحتية وغيرها. ولهذه المساعدات تأثير کبير على الدول والشعوب المستقبلة لها، لسبيين حددتهما جنى جبور في: الأول أن هذه المساعدات تأتي في سياق التعاون بين بلدان الجنوب، وعادة ما تحدث بطريقة شخصية أي يعلنها القادرة الأتراک بصورة مباشرة عند زيارة الدولة المعنية، وهو الأمر الذي يعطي انطباع لدى السکان المحليين بأن ترکيا دولة قريبة منهم وتشعر باحتياجاتهم، أما السبب الثاني فهو أنها تقدم مساعدتها بصورة إنسانية بعيدة عن الصورة الغربية للمساعدات التي تقوم على الفوقية والإذلال والنظرة المتعالية من المانح وعادة ما تکون مصحوبة بشروط مجحفة في نظر الدولة، وذلک بعکس ترکيا التي تؤکد هويتها کدولة نامية فلا تعطي دروسا ولا مواعظ لدول الجنوب ولا تقدم شروطا للمنحة وتعتبرها واجبا أخلاقيا لوجه الرب، مما يجعلها مرحب بها في هذه الدول.

أما الفئة الثانية من المساعدات فهي تخدم فکرة إحياء الامبراطورية الرمزية، حيث تدور حول إعادة تأهيل الآثار الإسلامية في العالم العربي، حيث قامت بترميم عدد کبير من الآثار في کل من ليبيا ومصر ولبنان وفلسطين وغيرها من الدول، وقد حققت ترکيا من ذلک هدفين: الأول سلطت الضوء على التاريخ المشترک مع الدول العربية، مما يعطيها الحق في التموضع الإقليمي، والثاني هو إثبات المجد الحضاري وعظمة الماضي الذي يؤهلها للحصول على مکانة أکبر( ).

وبجانب الدبلوماسية الإنسانية اهتمت ترکيا أيضا بما يعرف بالدبلوماسية العامة أو الشعبية التي تهدف للتأثير في الرأي العام في الدول الأخرى وتعتمد على الانخراط في تواصل استراتيجي مع جمهور الدولة الأجنبية من أجل تقديم معلومات أو إيصال رسائل أو نشر أفکار، أو رسم صورة براقة للدولة وإضفاء شرعية على سياساتها( )، وقد تنبهت ترکيا لما للدبلوماسية العامة من أهمية کبرى فقامت بإنشاء مکتب للدبلوماسية العامة ملحقا بدوائر رئيس الوزراء، کما تم تأسيس قسم الدبلوماسية العامة الملحق بوزارة الخارجية، وهدفت من هذه المأسسة خلق أداة للتواصل السياسي ونشر صورة إيجابية عن ترکيا. وبذلت في سبيل تحقيق ذلک جهدا ملحوظا مع دول محيطها الإقليمي؛ حيث حرصت على التواصل المباشر والحضور الفاعل للسفراء والدبلوماسيين في البلدان العربية، کما استخدمت وکالة الأناضول کمنبر إعلامي يقدم معلومات بأکثر من لغة وافتتحت لها مکاتب في معظم البلدان العربية( ).

• دبلوماسية الإغراء والتغلغل الناعم: الجاذبية السياسية وتصدير صورة ترکيا “النموذج”:

انتبهت ترکيا مبکرا إلى أهمية الدور الذي تلعبه القوة الناعمة-بجانب الصلبة- في تحقيق سياساتها( )، ووضعت مجموعة من الآليات والأدوات التي تمکنها من تحقيق أهدافها بعيدة المدى والتي لا تخرج عن ثلاث: (1) الولوج إلى عمق المجتمعات المجاورة لإضفاء المشروعية الشعبية على سياساتها والحصول على الاعتراف الشعبي بالدور الترکي الاقليمي، وتخطي القنوات السياسية والقانونية للاعتراف الرسمي بالمکانة المنشودة، (2) رسم صورة ترکيا “النموذج” التي تستحق المکانة المتميزة في محيطها الإقليمي( )، (3) تحقيق نوع من الجاذبية السياسية العالمية تجعل سمعتها الدولية شفيعا لها في نادي الکبار.

ولتحقيق هذه الأهداف وضعت ترکيا جملة من الأدوات مثل: (أ) الأدوات الثقافية والجذب السمعي والبصري، حيث عمدت ترکيا إلى تصدير المسلسلات الترکية للمنطقة المحيطة وتحديدا إلى العالم العربي الذي تلقى هذه المواد التليفزيونية بترحيب کبير، ولم تخرج هذه المسلسلات عن ثلاث مضامين السياسة والتاريخ والرومانسية، وهي عناصر جاذبة للمجتمعات العربية، في ظل إظهار هذه المسلسلات لقيم المحافظة والتطور واحترام التقاليد الدينية الإسلامية. ومن خلال هذه المسلسلات رسمت ترکيا صورة ايجابية لها باعتبارها دولة حديثة وديمقراطية تتمتع بمناظر جذابة ونمط حياة عصري وقيم أخلاقية جعلتها في مقدمة الدول التي يرغب العرب في زيارتها للسياحة، ويأتي المسلسل الرومانسي “نور” في مقدمة المسلسلات التي جسدت نموذجا مثاليا للزواج في الذهنية العربية. ثم يأتي دور المسلسلات التاريخية التي کانت بمثابة إعادة لإحياء الروح العثمانية، وتأکيد المکانة التي حظيت بها ترکيا في الماضي کجزء من الامبراطورية العثمانية واستحقاقها لمکانة مماثلة في المستقبل. ويأتي في مقدمة هذه المسلسلات مسلسل “حريم السلطان” الذي حطم أرقام المشاهدة في العالم العربي لما يجسده من فترة تاريخية مشبعة بماض مجيد، وبهوية إسلامية ترکية، وبعظمة حضارة عثمانية سابقة. وفيلم “فتح 1453” الذي يروي قصة فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الثاني، ويروج هذا الفيلم صورة إيجابية للعصر الذهبي العثماني بشکل يلامس مشاعر المسلمين سواء کانوا من الأتراک أو العرب. أما في سياق المسلسلات السياسية فلا تقل تأثيرا عن سابقتيها وليس أدل على ذلک مما أحدثه مسلسل “وادي الذئاب” من تأثير نفسي إذ تعرض لقضية الغزو الأمريکي للعراق وخلق صورة بطل مسلم يدافع عن العراقيين، وهو الشعور الذي يفتقره المسلم العربي الذي يشعر بتدني مکانته وقيمته في العالم الغربي، لتأتي ترکيا کنموذج للدولة المسلمة الأخلاقية التي تدافع عن حقوق الأضعف أمام الأقوى، وترسم صورة لما يريد العربي أن يکونه. وأدى النجاح المسبوق لهذا المسلسل إلى إنتاج فيلم يحمل نفس الفکرة “وادي الذئاب العراق” ليؤکد على وحدة المصير الذي يجمع بين العرب والأتراک في نضالهم ضد أعداء مشترکين مثل الولايات المتحدة. ليأتي بعده فيلم “وادي الذئاب فلسطين” لتتحول ترکيا من المدافع عن العراق إلى المناصر للقضية الفلسطينية وهو الأمر الذي دغدغ مشاعر العرب الذين يرون إخفاقا في حکوماتهم للدفاع عن فلسطين، وکرس صورة إيجابية لترکيا التي نصبت نفسها مناصرا للعدالة ونشر الخير. ولم تکتف ترکيا بما يحدثه إنتاجها الثقافي من تأثير إذ دعمت ذلک بالخطابات السياسية ذات الطابع الأخلاقي لتظهر في صورة المدافِعة عن الحرية والمساواة، فنجد أردوغان يشجب اللامساواة العالمية قائلا “إنه لأمر مأساوي وغير مقبول أن نلحظ وجود مجتمعات تعاني من الجوع والعطش وتعيش تحت خط الفقر وتُحرم من الاحتياجات الأولية التي قد تؤدي بها إلى الموت بينما في الجانب الآخر من العالم هناک نزعة استهلاکية مفرطة تصل حد التبذير”. کما ينتقد أردوغان الهيمنة الثقافية للغرب ويندد بتهميش الثقافات الطرفية ويقدم نفسه في صورة المدافع عن نظام ثقافي أکثر شمولا” لقد بلغت المرکزية الثقافية الأوروبية حدودها القصوى، يجب مراعاة المجتمعات والثقافات الأخرى وإدماجها في النظام العالمي”( ).

ويرکز أردوغان على فکرة العدالة والمساواة قائلا” ينبغي علينا أن نؤسس لنظام سياسي يمثل کل الناس تمثيلا عادلا دون ازدراء أو تحقير أو إقصاء لأحد. إننا نؤمن بضرورة أن يجد کل إنسان في العالم مقعدا له على مائدة العالم دون تمييز بين أسود وأبيض، أو فقير وغني، أو مسيحي ومسلم، أو غربي وشرقي”( ). وهنا تظهر العباءة الأخلاقية التي ترتديها ترکيا حيث تطرح نفسها کقوة فاضلة تقوم على المبادئ الأخلاقية وتکون في خدمة الدفاع عن الکرامة الإنسانية، وتؤکد أنها على استعداد للسهر على البشرية جمعاء وعلى مد يد المساعدة لأي شخص يتألم أو يشعر بالقهر.

(ب‌) الأدوات الإعلامية والجذب الإعلامي والمعلوماتي: من خلال إطلاق قنوات تليفزيونية ناطقة بالعربية مثل قناة “TRT” التي افتتحت عام 2010، واعتبرها القادة الأتراک بمثابة جسر تواصل جديد بين العرب والأتراک، وتعتبر هذه القناة إخبارية تقدم نشرات أخبار وبرامج وثائقية وأخرى سياسية تلقي الضوء على الوضع السياسي الترکي مثل “الألوان السبع، و”جامع ومدينة” وغيرها، ورغم ما کان متوقعا لهذه القناة من تأثير يشابه تأثير المسلسلات الترکية إلا أن ذلک لم يحدث على أرض الواقع إذ واجهت صعوبات کثيرة حدت من دورها وتأثيرها في العالم العربي، ووصمت بالافتقار للاستقلالية والحيادية مما جعل العرب يشعرون أنها أداة بيد السياسة الخارجية الترکية فعزفوا عن متابعتها( ).

(ث‌) الأدوات التعليمية وإعداد نخبة عربية موالية لترکيا: اهتمت ترکيا کثيرا بالتعليم کونه أداة سهلة يمکن أن تؤثر على الشعوب العربية، وإدراکا منها لأهمية التبادل الطلابي وضع حزب العدالة والتنمية عام 2007 برنامج المنح الترکية الذي يهدف لإنشاء روابط وثيقة بين الطلاب الأجانب وترکيا بطريقة تلبي المطامح الإقليمية والعالمية للبلاد. وغني عن البيان أن هذه التبادلات الطلابية تساهم بصورة غير مباشرة في بناء القوة الإقليمية الترکية إذ عادةً ما يعود الطلاب إلى بلادهم وداخلهم نظرة إيجابية عن ترکيا باعتبارها نموذجا يحتذى به وخاصة في ظل انفرادها بالجمع بين الحضارة الغربية والإسلامية وعادة ما يحافظ هؤلاء الطلاب على ارتباطهم بترکيا من خلال شبکات مؤسسية کرابطات الصداقة بين ترکيا وبلدهم الأم.

وبالإضافة للمنح الطلابية تسعى ترکيا للتأثير أيضا من خلال المراکز الثقافية الترکية التي تمتلئ بالأنشطة التعليمية واللغوية التي تهدف إلى جذب جمهور أکبر للحضارة الترکية، وتأتي معاهد يونس أمره الثقافية المنتشرة في دول عربية عديدة کمصر وسوريا والأردن ولبنان في مقدمة هذه المراکز حيث تقدم خدمات ثقافية ولغوية وتعمل على تعزيز تدريس اللغة الترکية وتسهيل التبادلات الثقافية بين ترکيا وجيرانها وهو الأمر الذي يؤکد أن الهدف الأساسي لهذه المراکز ليس ثقافيا فحسب ولکن سياسيا أيضا لتعزيز النهوض الإقليمي الترکي وخدمة طموحاتها الجيوسياسية( ).

إن کل هذه الأدوات تخدم هدفا رئيسا لدى ترکيا وهو التحول إلى نموذج يحتذى به في العالم العربي، ويتمتع بالجاذبية السياسية ويلقى الاحترام الکافي في العالم أجمع، والنموذج هو الذي بحکم خصائصه ومميزاته يمکن أن يکون بمثابة مرجع يتم تقليده أو يعاد إنتاجه، وقد حاولت أن تخلق معادلة صعبة تجمع بين التحضر والعصرية والتاريخ والإسلام والأخلاق والقيم الغربية، ووضعت لهذا النموذج ثلاث دعائم: الأول الجاذبية السياسية والدبلوماسية فهي نموذج للديمقراطية الناجحة التي أدخلت الإسلام في المعادلة السياسية مما جعلها تتمتع بجاذبية خاصة لدى الشعوب العربية التي طالما عانت من القمع والاستبداد والاستعمار، لتمثل تجسيدا حيا لتجربة حدثت في المجال القريب بغض الطرف عن مدى هشاشة تجربتها الديمقراطية( )، أضف إلى ذلک سياستها الخارجية النشطة التي تنحو إلى الجرأة والاستقلال بعيدا عن الوصاية الغربية، الثاني هو الجاذبية الاقتصادية حيث تمتعت ترکيا بازدهار اقتصادي ونجحت في الانتقال من اقتصاد موجه إلى الداخل إلى اقتصاد دينامي موجه للتصدير، أما الثالث فهو الجاذبية الثقافية، حيث مثلت نموذجا لدولة إسلامية حديثة ومتطورة ذات تاريخ ومجد امبراطوري ولديها القدرة على الجمع بين عناصر الثقافة الاسلامية الشرقية ومکونات الثقافة الغربية المتطورة ( ).

وبغض الطرف عن مدى نجاح ترکيا في تصدير نموذجها الخاص، فينبغي الإشارة إلى أن الجذب الذي يمارسه النموذج الترکي لا يکمن في ما يمثله هذا النموذج على أرض الواقع بقدر الرسالة التي ينقلها إلى العالم العربي الذي يتشابه معها في کثير من المقومات الثقافية والسياسية والاقتصادية. إن قوة هذا النموذج تنبع من توسيع فکرة “الممکن” أمام الشعوب العربية حيث يبرهن لها أنها قادرة على التطور والتحديث، وأن التطور والنهضة ليس شرطا أن يولدا من رحم بيئة غربية، کما يلهم هذه الشعوب کون الإسلام والحداثة لا يتعارضان وأنه يمکن لأي بلد مسلم أن يسلک دروب التطور.

خلاصة القول إن النموذج الترکي بمثابة مرآة للعربي عن ذاته، فهي تخاطب جوانب في الروح العربية التي تحمل في أعماقها أحيانا صورة سلبية عن الذات قوامها “عدم القدرة أو الفاعلية” لترسم له صورة قوامها إمکانية تحقيق الحلم بمزيد من الجهد والمثابرة( ).

• الدبلوماسية السلمية-التعددية: التوسط المرن والتفاعل مع الخصوم المتعارضة:

اتساقا مع مبدأ تصفير المشکلات مع الجيران، وتفعيل العمل الاستراتيجي الترکي ارتأت ترکيا ضرورة اتباع دبلوماسية سلمية توسطية، تهدف من خلالها للتوسط بين الأطراف المتعارضة من أجل إيجاد موضع قدم لها في السياسة الدولية، وهذه الدبلوماسية تتنفق مع مبدأ الدبلوماسية الايقاعية متعددة الأطراف التي أشرنا إليها سابقا وخاصة أن التعدد هو وسيلة تتبعها الدول المتوسطة لتحقيق أهدافها بعکس الدول الکبرى التي تتجه للانفرادية في اتخاذ القرارات وفي السلوک الدولي، من هذا المنطلق يمکن تفسير التواجد الترکي في کافة المحافل الدولية متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة والبنک الدولي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا وغيرها من المنظمات التي تتيح لها نفوذ أکبر ومکانة أعظم على الصعيد الدولي.

وتطبيقا لهذا المبدأ سعت ترکيا للانضمام لکثير من الهيئات الدولية، ومنها مجلس الأمن الذي انتخبت فيه لأول مرة منذ عام 1961 عضوا غير دائم ما بين عامي 2009-2010، کما أطلقت مبادرات جديدة في الأمم المتحدة مثل “تحالف الحضارات” وشارکت في فرق قوات حفظ السلام، کما بقيت عضو نشط في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومجموعة العشرين (G20)، ولا تزال تطمح لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي) (. أما على صعيد الجنوب، فقد ترأست منظمة التعاون الإسلامي عام 2005، وحظيت بصفة مراقب في جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي، کما حصلت على مرکز عضو في الحوار في مجموعة شنغهاي عام 2013.

وقد أدى التحرک الترکي النشط إلى زيادة قوتها الاقليمية إذ ظهرت کشخصية قيادية وتحسنت صورتها لدى کثير من الدول واستطاعت الوصول إلى درجة من التوازن في سياستها تجاه الشرق والغرب. وبجانب هذه الدبلوماسية التعددية أو التناغمية، اتخذت ترکيا مسارا آخر لها وهو الدبلوماسية التوسطية، والتي تعني لعب دور فعال في التوسط في النزاعات الاقليمية والدولية ومساعدة الأطراف المتنازعة على التوفيق فيما بينها عن طريق الحوار وصياغة رؤية مشترکة لمستقبلهم والعمل معا لتحقيق هذه الرؤية. وقد عبر عن ذلک داود أوغلو قائلا “إن قدرة ترکيا الفريدة على النفاذ إلى بلدان الشمال والجنوب تجعلها الوسيط المناسب في منطقة جغرافية واسعة”( ). وبهذا المنطق تصبح ترکيا وسيطا فعالا يتميز بالمصداقية والشرعية لدى الأطراف المتنازعة وخاصة أنها تقع في موقع يجعلها قريبة من معظم الصراعات على الساحة الدولية، کما أنها تتميز بقدرة معنوية على التوسط حيث الشعور بالتعاطف مع الآخرين والحکمة الناجمة عن التاريخ. إضافة إلى ذلک تستخدم ترکيا امکانياتها في التواصل مع أطراف کثيرة وبناء علاقات جيدة مع فاعلين متخاصمين في النظام الدولي، وذلک من خلال نظام التحالفات المرکبة، والحفاظ على علاقات متوازنة بين أطراف متناقضة مثلما تقيم علاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل والعالم العربي وإيران. وليس أدل على ذلک من قدرتها على الجمع بين علاقة وثيقة مع إسرائيل في الوقت الذي تنصب نفسها فيه مدافعا عن القضية الفلسطينية( )، حيث تتبع سياسة ذکية إزاء إسرائيل حيث تعمد إلى رفع نبرتها تجاه الدولة العبرية وتنتقد إسرائيل علنا وعبر وسائل الإعلام من أجل التقرب إلى العرب. هذا في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على علاقتها العملية مع إسرائيل( )، وبنفس المنطق تنسج علاقات مع الولايات المتحدة في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على علاقتها بأعدائها مثل إيران. وهو الأمر الذي يؤکد براجماتية السياسة الترکية بعيدا عن الشعارات الدينية والأيديولوجية.

وقد مارست ترکيا دور الوسيط سواء على المستوى الاقليمي أو دون الاقليمي داخل الدولة الواحدة، فنجدها توسطت بين سوريا وإسرائيل حول مرتفعات الجولان بدءا من عام 2005 حتى ألغيت الوساطة في نهاية عام 2008 ( )، ورغم أن جهودها لم تکلل بالنجاح إلا أنها استطاعت أن تتموضع في صورة الوسيط الاقليمي الفعال في وقت لم تستطع القوى الکبرى أن تحرک ساکنا. کما لعبت ترکيا دورا في العراق حينما تدخلت للتوفيق بين الفصائل الشيعية والسنية، وکذلک الأمر في لبنان وفلسطين التي تعد بمثابة الميدان الرئيسي للتوسط الترکي وخاصة بعد إشراک حماس في اللعبة السياسية( ). وبعد أن عززت ترکيا خبرتها في الوساطة الإقليمية وسعت نشاطها لتشارک في ملفات دولية حساسة کالملف النووي الإيراني الذي کان حکرا على القوى العظمى، وتتمکن من إبرام اتفاق ثلاثي بينها وبين إيران والبرازيل في مايو 2010 وهو ما اعتبره البعض بمثابة انقلابا دبلوماسيا لأنه أکد أن القضية النووية الإيرانية يمکن أن تحرز تقدما من خلال التفاوض بدلا من العقوبات. وکان رد الدول العظمى برفض الاتفاق متوقعا إذ لا يسمح الکبار بدخول من هم من خارجهم للعبة السياسية، ورغم هذا الرفض إلا أن ترکيا کسبت معرکة في طريق إثبات ذاتها وزيادة مکانتها الدولية بحيث اعتبرت أن مشارکتها في تحقيق الأمن والسلم الدوليين هو بمثابة نوع من أنواع تقاسم الأعباء الدولية الذي يستدعي تقاسم السلطة والأرباح ويعطيها الحق في المطالبة بموقع أکثر تمايزا في النظام الدولي( ).

• الدبلوماسية الاقتصادية: البوابة الخلفية للانخراط الاقليمي:

 تعتبر الدبلوماسية الاقتصادية ترجمة للبعدين الاقتصادي والتجاري للدبلوماسية التقليدية للدولة، ويقصد بها استخدام الدولة لمقدراتها الاقتصادية في التأثير على الدول الأخرى وتوجيه سلوکها السياسي في الاتجاه الذي يخدم المصلحة القومية لهذه الدولة. وبصفة فعلية، هي استغلال لکل ما تتيحه الدبلوماسية التقليدية من قنوات اتصال وأطر للتعاون مع البلدان الأجنبية خدمة لاقتصاد البلاد، من حيث البحث عن أسواق جديدة للمنتجات الوطنية واستقطاب وجلب رجال الأعمال والمؤسسات الأجنبية للاستثمار في الدولة، وکذلک الترويج للوجهة السياحية بکل أنواعها وتفرعاتها.

وبطبيعة الحال فهذه السياسة تنتهجها ترکيا کجزء من مشروعها الإقليمي، حيث قامت بتکثيف العلاقات الاقتصادية بالشرق الأوسط واعتماد اجراءات جديدة تعزز التکامل بين الاقتصاديات والترابط الحقيقي الترکي العربي، کما قامت بالتصدير المکثف للمنتجات السمعية والبصرية الترکية إلى العالم العربي فضلا عن تنشيط السياحة مدفوعة بطبقة برجوازية جديدة “نمور الأناضول” تدفعها العقلانية الاقتصادية والانتماءات الثقافية للتبادل مع البلدان العربية الإسلامية وهو الأمر الذي تخوف البعض من إمکانية تأثيره على تبادلاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي إلا أن هذا لم يحدث إذ استطاعت الاحتفاظ بعلاقات اقتصادية جيدة مع دول الاتحاد الأوروبي في نفس الوقت الذي غزت فيه أسواق جديدة واعدة في منطقة الشرق الأوسط وقد ساعد ذلک بصورة أو بأخرى على تطوير مناطق داخلها کانت مهملة اقتصاديا في جنوب وجنوب شرق البلاد حيث ساعد التبادل التجاري بينها وبين الدول المتاخمة لحدودها لتحسين الأوضاع في هذه المناطق مثل مدينة غازي بنتاب التي استفادت من التقارب السوري الترکي. ولا ننسى في هذا الإطار الدافع الرئيس لترکيا من هذه المنطقة وهو الحصول على الطاقة وتنويع مصادرها.

(3) الأدوات العسکرية: التواجد العسکري بغطاء قانوني والتدخل العسکري غير المشروع:

لم تکن الأدوات العسکرية ذات ثقل في منظومة النهوض والعودة الترکية في صورتها الأولية، إلا أنها منذ عام 2015 احتلت مکانة أکبر بين أدوات تنفيذ هذه المنظومة؛ إذ أعلنت ترکيا عن حقها في استخدام تلک الأدوات فيما ارتأت أنه يؤثر على أمنها القومي بمعناه الواسع، وبات تدخلها العسکري في محيطها الإقليمي أمرا معتادا في السنوات الأخيرة؛ بحيث قامت بشن عدة عمليات توغُّل عسکرية في سوريا، وأرسلت إمدادات ومقاتلين إلى ليبيا، ونشرت قواتها البحرية في شرق المتوسط لتأکيد مزاعمها بشأن حقوقها في المنطقة رغم شجب الدول الکبرى لمساعها، ووسَّعت عملياتها العسکرية ضد مُسلَّحي حزب العمال الکردستاني شمال العراق، وأرسلت تعزيزات عسکرية إلى آخر معاقل المعارضة السورية في إدلب، وأخيراً، قَدَّمت مساعدات عسکرية وعناصر مرتزقة سوريين لدعم أذربيجان في حربها ضد أرمينيا من أجل استعادة إقليم ناغورني قره باغ. ولدى ترکيا اليوم وجود عسکري مباشر في قطر والصومال وأفغانستان في صورة قواعد عسکرية، وقوات لحفظ السلام في البلقان( ).

 ويُعد الوجود العسکري الترکي في الوقت الحالي هو الأکبر منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وهو الأمر الذي يؤکد أن الأداة العسکرية باتت في مقدمة الأدوات الترکية المستخدمة لتعظيم نفوذها في المنطقة ولا تزال مساعيها لزيادة القواعد العسکرية تتزايد وإرسالها قوات لأکثر من منطقة في وقت واحد يتکرر. وهو أمر يعکس نوع من التحول في العقيدة الاستراتيجية الترکية التي کانت ترى أن القوى الناعمة والأدوات السلمية وإن کانت أبطأ في الوصول إلى الأهداف المرجوة إلا أنها أکثر أمانا، أما الآن فباتت القوة الصلبة والأدوات العسکرية هي الأسرع في تحقيق الأهداف وهي الوقود الحقيقي لتعظيم النفوذ الترکي في المنطقة( ).

وقد ساعد ترکيا على عسکرة تفاعلاتها الدولية الانشغال النسبي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمواجهة تبعات الأزمات الاقتصادية المتلاحقة وصولاً إلى جائحة کورونا الحالية، لتصبح مشارکتهما في الشؤون الدولية أکثر ترکيزاً على القضايا محل اهتمام الرأي العام الداخلي، ومثَّل ذلک فرصة لا تُعوَّض لدول تحتل الصف الثاني في مراتب القوة العالمية، مثل ترکيا، لکي تتقدم وتحصل على مکانة متقدمة في بنية النظام العالمي الراهن، وتکشف مواقف الرئيس أردوغان المتوالية رغبة أکبر في الانخراط بشکل مباشر في النزاعات الإقليمية بهدف اکتساب الأهمية والتأثير، عبر انتهاج سياسة خارجية استباقية تقوم على استخدام القوة العسکرية الوقائية خارج حدود ترکيا، وملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، ضمن خطوات عدة تندرج في ما يراه الرئيس الترکي سعيا مشروعا لبلاده من أجل نيل “المکانة التي تستحقها في النظام العالمي”.

ولا ننسى في هذا الإطار الدور الذي لعبه الانقلاب الفاشل عام 2016 في عسکرة السياسة الخارجية الترکية، والذي مهد الطريق لأردوغان لمزيد من ترکيز السلطة في الداخل الترکي وخاصة مع تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي وإلى شن حملات تطهير ضد قيادات الجيش التي رفضت في السابق الاستجابة لدعواته إلى شن عمليات عسکرية في بلدان مجاورة) (. وقفز الانفاق الدفاعي للبلاد بنسبة 17% منذ بداية العام 2020 ليصل إلى 7 مليارات دولار، أي ما يعادل قُرابة 5% من إجمالي الإنفاق في الموازنة الترکية السنوية. والملاحظ أن الميزانية العسکرية لترکيا زادت بما يقارب 90% على مدار العشر سنوات الأخيرة؛ ما يدل على أن الحملات العسکرية الخارجية أصبحت تمثل أولوية في العقيدة الترکية.

(4) الأدوات التکتيکية: التوسيع المراوغ لحدود الهوية والتأرجح الممنهج بين الشرق والغرب “استراتيجية تعدد البدائل”:

حينما ينظر البعض إلى الخطابات الترکية نحو العالمين العربي والإسلامي سيظن خطأً أن ترکيا قررت استبدال الغرب بالشرق وخاصة بعد محاولاتها شبه الفاشلة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أن واقع الأمر يشير إلى غير ذلک، فترکيا تتبع أحيانا خطابا مراوغا قائما على الإيحاء المزيف بالاستبدال الغربي والإحلال العربي، وهو أمر يجانبه الصواب لأن الغرب في الفکر الترکي هو الهدف الاستراتيجي الدائم أما الشرق فهو الهدف التکتيکي المرحلي. وقد عبر عن ذلک أردوغان قائلا “تمثل عملية الانضمام للاتحاد الأوروبي أولوية قصوي وهدفا استراتيجيا بالنسبة إلى ترکيا…وليس هناک بالنسبة إلينا بديل من عضوية الاتحاد الأوروبي”( ). وانطلاقا من هذه الرؤية سيصل المتابع للشأن الترکي إلى نتيجة مفادها أن ترکيا تتبع استراتيجية تعدد البدائل حيث تصدر خطابا سياسيا ذکيا قائما على الجمع بين الشرق والغرب دون الإحلال بينهما، وتتأرجح عمدا بين کل منهما دون أن يکون لديها أي نية لفقدان طرف على حساب الآخر، ولذلک نجدها توسع حدود هويتها لترتکز إلى بعدين هوية إسلامية شرق أوسطية وهوية غربية، وتُصَدر خطابين مختلفين للشرق والغرب؛ فأمام جمهور عربي وشرق أوسطي ينصب الترکيز على انتماء ترکيا إلى الحضارة الإسلامية، وإلى العلاقة القوية التي تربطها بالحضارة العربية سواء على المستوى التاريخي أو حتى قرابة الدم بين العرب والأتراک، وقد عبر القادة الأتراک عن هذا المعنى حينما أکدوا أن القول بأن الترکي لا يستطيع العيش من دون العربي هو قول غير عاقل لأن الترکي هو العين اليمنى للعربي بل يده اليمنى( ). وقد هدفت ترکيا من تصدير مثل هذه الخطابات إلى الإيحاء بفکرة المصير المشترک مع العالم العربي والإسلامي وهو الأمر الذي سيمنحها الفرصة لتطرح نفسها زعيما شرعيا في المنطقة، وسييسر بناء قوتها الإقليمية المنشودة. ليس هذا فحسب بل إنها وضعت تصورا افتراضيا للشرق الأوسط لا تحده الحدود التقليدية للدول، وربما ذلک ما دفعها إلى توجيه النقد إلى اتفاقية سايکس بيکو التي فرضت على المنطقة لتصنع حدودا بين الدول القومية غير مرغوب بها، ولذلک فهي تؤيد إزالة الحواجز الاقتصادية وتحرير انتقال البضائع والأشخاص، وقد أوضح هذه الفکرة داوود أوغلو قائلا” نحن نحترم سلامة أراضي البلدان المجاورة لکننا نريد شرق أوسط تکون حدوده مفتوحة أمام الجيران. نريد الانتقال الحر للأفکار ورؤوس الأموال والأشخاص”( ).

بعبارة أخرى إن ترکيا تصدر خطابا يعد بالتحرر السياسي والتهدئة والتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط، وتطرح نفسها في صورة القائد الذي سيصل بمرؤوسيه إلى بر الأمان، وترى أنها قادرة على ربط الشرق الأوسط بالديناميات العالمية والمساهمة في تهدئة المنطقة وانفتاحها على العالم، وهي في سبيل ذلک تضطر أحيانا إلى مهاجمة الغرب ووضعه في خانة ال”هم” حتى تتأکد دول الشرق الأوسط أن ترکيا تنتمي إلى عالمها، وهنا تبدأ ترکيا في رسم صورة القائد الأکبر في المنطقة الذي سيساعد دولها على تخطي التوترات والانقسامات الداخلية من خلال تشکيل نوع من الکومنولث الشرق أوسطي حول ترکيا. يعتمد هذا الکومنولث على وعد بتمکين الشرق الأوسط وبتمکين شعوبه الذين طالما شعروا بالوصم والتبعية والنبذ والاستبعاد من العودة إلى طاولة التأثير الدولي .

وبجانب هذا الخطاب الموجه نحو الشرق نجدها توجه خطابا مغايرا نحو الغرب حيث ترکز على انتمائها لحضارة عالمية تتقاطع مع الحضارة الغربية في أوجه عدة تمکنها من المساهمة في السلام العالمي من خلال تجربتها الحضارية الخاصة التي تجمع فيها بين الغرب والشرق وتدفعها لإدارة الحوار بين الثقافات والحضارات، أضف إلى ذلک طرحها لذاتها کنموذج للتحالف الحضاري کونها تجمع بين حضارة إسلامية وقيم علمانية وهو الأمر الذي تراه سببا کافيا للانضمام للاتحاد الأوربي ودافعا لدوله للموافقة على انضمامها، وقد عبر عن ذلک أردوغان قائلا” بالنظر إلى خبرة ترکيا الحضارية الغنية، فإن القيم التي تتشارک فيها مع أوروبا، إضافة لهويتها کدولة علمانية ذات أغلبية مسلمة….سوف يعطي للاتحاد الأوروبي في حال انضمامها إليه أهمية استثنائية لأن ذلک سيثبت أنه من الممکن إقامة تحالف بين الحضارات”( ). إضافة إلى ذلک الطرح نجدها تلقي الضوء على العلاقات التاريخية مع الغرب مقابل الانتماء الترکي الإسلامي، وفي ذلک صرح أردوغان “إن ترکيا بلد يشبه أوروبا لأننا خلال نصف قرن قمنا بتبني واستيعاب معايير ومبادئ وقيم الاتحاد الأوروبي”( )، وهنا يتحول التقسيم بين النحن والهم للمساواة بينهما حيث جرى الترکيز على المساواة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية بالشکل الذي يؤکد أن هناک علاقة بينهما متکافئة وغير طبقية تقوم على الاعتراف المتبادل بين الطرفين.

وغني عن البيان أن ترکيا لن تتخلى عن هدف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إذ يحقق لها هذا الانضمام إرضاء رغبتها وتحقيق حلمها في الانتماء إلى الغرب) (، وفي نفس الوقت يمنحها جاذبية لدى شعوب الشرق الأوسط، لأن ذلک يبرهن على أن دولة ذات أغلبية مسلمة يمکنها تحقيق هذا المستوى من التطور الذي يسمح لها بأن تکون مؤهلة للحصول على مکان في واحد من أکثر الأندية تقدما من الناحيتين السياسية والاقتصادية في العالم( ). هذا في نفس الوقت الذي إذا ما نجحت في تشکيل قوة إقليمية ناهضة فسوف تکتسب جاذبية لدي أوروبا کونها قائدة في منطقة تعتبر حيوية بالنسبة لها، وقد عبر عن ذلک داوود أوغلو “کلما اشتد ساعدنا في الشرق الأوسط اتسع المدى الذي نبلغه في أوروبا”( ).

 باختصار إن ترکيا تصدر صورة ادعائية بامتلاکها هوية متعددة -مسلمة وعثمانية وترکية وأوروبية وأورو آسيوية- وهذا التوسيع المراوغ لحدود الهوية هو أداة من أدوات تحقيق الهدف الترکي ببناء قوة إقليمية عالمية التوجه لأنه يوسع مجال مناورتها وآفاق عملها ويبرر نشاطها الدبلوماسي في فضاءات عدة.

ورغم الأهمية الکبيرة التي تتمتع بها هذه الأداة التکتيکية کونها يمکن أن تساهم في وضع التصورات والرؤى الفکرية موضع التطبيق إلا أنها تحمل في طياتها ازدواجية فکرية وعملية، حيث نجد الدولة الناهضة تسعى جاهدة إلى الانضمام إلى عالم الکبار في حين لا يسمح لها هذا العالم باختراقه. إذ يعج بحسابات أخرى قد تدفعهم لبناء حصن منيع يقف أمام من يحاول اختراقه، لتقع هذه القوى الناهضة بين شقي رحى، فرفض الکبار يولد لديها شعورا بالإذلال والإحباط حيث تقف في منتصف الطريق لا تستطيع الانضمام إلى عالم الکبار لکنها في نفس الوقت تأبى أن تنضم إلى قائمة الدول الأصغر ويدفعها هذا الشعور إلى اتباع سياسة ازدواجية متناقضة على مستوى الفکر والحرکة فنجدها تعارض الغرب وتتبع لهجة معادية له، في نفس الوقت تسعى جاهدة للالتحاق به.

(5) الأدوات الحضارية: إعادة إحياء الامبراطورية الرمزية والتوظيف السياسي للهوية والتاريخ:

لا شک أن ترکيا تعتبر نفسها وريثة الامبراطورية العثمانية منذ أمد بعيد، إلا أن هذه الصورة التاريخية عن الذات تبلورت بوضوح في شکل سياسات في الآونة الأخيرة، حيث قامت ترکيا باستحضار التاريخ بصورة ملفتة للنظر، واستخدمت الخطاب الحضاري من أجل إضفاء شرعية على طموحاتها الإقليمية والدولية وتبرير استحقاقها لوضعية الدولة المرکزية( ). في هذا السياق کتب داوود أوغلو “إن التوتر الذي خلقه الفرق بين الشعور العالي بالثقة بالنفس نظرا لکون هذا البلد کان المرکز السياسي لإمبراطورية کبيرة وبين الموقع الحالي الذي يحتله في تراتبية الدول أحدث تأثيرا نفسيا مذهلا لم يشهده أي مجتمع آخر، وهذا ما يدفعه اليوم للمطالبة بأن يکون في وضع دولي يليق بتاريخه”( ).

ويشير هذا الفکر إلى اتباع ترکيا سياسة إثبات الذات التي شحذت بذکرى ماض إمبراطوري مجيد وبالشعور بالإذلال التاريخي، الذي دفعها للبحث عن وسيلة ضمنية للثأر الذاتي ممن أطلقوا عليها “رجل أوروبا المريض”، فتستعيد کرامتها وسمعتها في المجتمع الدولي، فنجدها تحاول جاهدة استعادة الإرث العثماني وإعادة الاعتبار إلى الامبراطورية من خلال بناء المتاحف التي تذکر بالعصر الذهبي العثماني مثل متحف التاريخ بانوراما 1453 الذي افتتح في يناير 2009، بهدف تمجيد الفتح العثماني وتعظيم شخصية محمد الفاتح الذي قُدم کبطل وطني، والإکثار من الاحتفالات الرسمية بأحداث وشخصيات مرتبطة بالتاريخ تعود جذورها إلى سلالة بني عثمان ليصبح الانتماء لهذه السلالة مصدر فخر وطني يصب في تمجيد الامبراطورية العثمانية. أضف إلى ذلک قيام ترکيا بإطلاق أسماء سلاطين بني عثمان على مشاريع عملاقة مثلما قامت الحکومة الترکية ببناء جسر على البوسفور أطلقت عليه اسم السلطان سليم الأول، وغيرها من الممارسات التي تؤکد أن ترکيا قد خططت لعملية شاملة لاستعادة عظمة الإمبراطورية من خلال ما بات يعرف على المستوى السياسي بـ “العثمانية الجديدة” إلا أن هذه العثمانية لا تهدف فقط لتحقيق أهداف أيديولوجية وإنما براجماتية بالأساس( ). وهذا معناه أن التغني بالماضي العثماني وبالمجد الإمبراطوري هو أداة من أدوات تحقيق الرؤية الترکية للنهوض، ووسيلة لبناء قوة إقليمية في الشرق الأوسط وطريقة لشرعنة العودة نحو الشرق. وفي هذا السياق يرى داوود أوغلو أنه ينبغي استثمار الإرث العثماني في اتجاهين: الأول حماية الأقليات المسلمة في البلقان والقوقاز، الأمر الذي يتيح لها في المقابل استخدام هذه المناطق کرافعة لزيادة نفوذها العالمي) (، أما الثاني فتوسيع نفوذها في المناطق التي کانت تنتمي إلى الامبراطورية العثمانية مما يعزز من مکانتها الدولية. وقد عبر عن ذلک قائلا “لا يمکن لترکيا، الدولة الوريثة للإمبراطورية العثمانية أن تقصر مجال تخطيطها الاستراتيجي على حدودها القانونية فحسب. ويفرض هذا الإرث التاريخي على ترکيا ضرورة ومسؤولية التدخل في أي وقت في قضايا متعددة خارج حدودها”( ).

ولا يمکن أن نغفل عنصرا هاما في فهم الصورة الکلية لإعادة إحياء المجد الامبراطوري إذ يمثل هذا التوجه نوعا من الاستشفاء الذاتي الترکي إذ لا تزال ترکيا تشعر بنوع من العار والإذلال وتتقمص أحيانا دور الضحية بعد أن انهارت الامبراطورية العثمانية وظلت ترکيا تلعب دور التابع لعقود طويلة. ومن ثم فالعودة بالذاکرة إلى امبراطورية وصمت بأنها رجل أوروبا المريض قبل أن تجرد من ممتلکاتها وقوتها شکل المحرک الأساسي لبناء دبلوماسية ناهضة ترکية قائمة على الثأر النفسي واستحضار العظمة الحضارية باعتبار أن ترکيا تتميز بحضارة تختلف عن سائر الحضارات، وخاصة أنها ترى أنها تمتلک تصورا ذاتيا يقوم على تقبل الآخر والتعامل معه بمنطق التبادل والتفاعل بدلا من منطقة الهيمنة والفوقية الذي تقوم عليه الحضارة الغربية، وهذا الإدراک الذاتي ينتج حضارة خيرة منفتحة على الآخر. وقد عبر کثير من القادة الأتراک عن شعورهم بالعظمة الحضارية مثل أردوغان الذي قال: “على مدى قرون کنا حاملين لحضارة وتاريخ ولإرث بغاية الفرادة، وهو نتاج مزيج رائع لثقافات وحضارات مختلفة تفاعلت مع ثقافتنا الخاصة”( ). وهو ما يعني أن استحضار العظمة الحضارية قد انتقل من المستوى الفکري إلى المستوى السياسي. أضف إلى ذلک قيام ترکيا بالترکيز على عظمة الحضارة الإسلامية، باعتبارها دولة تنتمي إليها، والقائمة على المساواة بين الناس والإعلاء من قيم التسامح والتعايش، بخلاف الحضارة الغربية المسيحية المکتفية بذاتها والتي تقوم في جوهرها على التمييز وعدم المساواة بين الشعوب. ومن المتوقع أن تؤدي هذه المقارنة الضمنية إلى دغدغة مشاعر السکان المسلمين في الشرق الأوسط الذي يدور في فلک الإسلام ويعاني استبعاده وتهميشه من قبل النظام الدولي( ).

ثالثا: المستوى التحفيزي: البيئة التدعيمية والعوامل الدافعة:

ويشتمل على ثلاث عناصر:

(1) التمکين الذاتي وإدارة القوة الداخلية:

لا يمکن أن تحقق أي دولة تقدم على المستويين الاقليمي والدولي دون أن تبني مقدرات داخلية للقوة، فإثبات الذات خارجيا لابد أن ينبع من إثباتها داخليا، وقد أدرکت ترکيا ما لهذا المبدأ من أهمية فعملت على إحداث نهضة داخلية منذ ثمانينات القرن الماضي حيث رکزت بصورة أساسية على تطوير الاقتصاد الترکي، وزيادة معدلات التبادل التجاري والاقتصادي مع دول متعددة، کما قامت باستثمارات ضخمة في المجال السياحي بعد أن استطاعت أن تقدم صورة خلابة للسياحة الترکية، أضف إلى ذلک فتح أسواق اقتصادية جديدة مکنتها من تصدير سلعها لدول إقليمية کثيرة) (، لتصبح الفترة من 2002 إلى 2012 هي أزهى عصور حزب العدالة والتنمية الذي تبنى سياسة اقتصادية طموحة قائمة على تحرير الاقتصاد والاعتماد المکثف على الاستثمار الأجنبي المباشر وخصخصة المؤسسات العامة وتحقيق اللامرکزية( ). کل ذلک أدى إلى إحراز تقدم اقتصادي کبير وصفه البعض بالمعجزة الاقتصادية أو السنوات العشر المجيدة حيث احتل الاقتصاد الترکي المرتبة السابعة عشر عالميا، وسجلت ترکيا واحدا من أعلى معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي في العالم بعد الصين والهند وتضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي وقفزت التبادلات التجارية قفزة مذهلة وهو الأمر الذي حولها لدولة تجارية وقوة اقتصادية معتبرة مکنتها من لعب دور أکبر على المستويين الإقليمي والدولي( ).

يأتي ذلک في الوقت الذي استطاعت فيه ترکيا تحقيق قدر من الاستقرار السياسي الداخلي في ظل حکم حزب العدالة والتنمية الذي امتلک رؤية سياسية لما يمکن أن تکون عليه ترکيا داخليا وخارجيا. ولا يعني ذلک أن ترکيا لم تعاني من مشکلات سياسية واقتصادية لکنه يعني أنها نجحت نسبيا في تحويل مقدراتها الداخلية إلى نقاط قوة أکثر منها نقاط ضعف. هذا في نفس الوقت الذي حاولت فيه أن تدير معضلة الأقليات داخلها بنجاح، وهي المشکلة الأکثر خطورة في الداخل الترکي، حيث أدرکت أن التماسک الاجتماعي والاستقرار الداخلي يعدان شرطان مسبقان لأي إشعاع خارجي منشود، ولکي تسير في دروب النهوض ساعية للتأثير خارج حدودها فلابد أن تکون أمة متصالحة مع ذاتها وأن تنعم ببيئة داخلية مستقرة حتى تصدر صورة الدولة المتماسکة( ). وبناء عليه بات حل المشکلة الکردية أمرا ضروريا لتمکين أنقرة من بناء قاعدة إقليمية في الشرق الأوسط، وقد انتهجت ترکيا سبيلين لتحقيق هذا الهدف: الأول هو الانفتاح الآمن على الأکراد کامتداد داخلي لسياسة صفر مشاکل مع الجيران، ومحاولة دعم انتمائهم للأمة الترکية من خلال إحياء التجربة العثمانية، التي قامت على نظام المِلل الذي کفل التعايش السلمي بين الجماعات العرقية والدينية المختلفة، واستخدام المظلة الإسلامية لصهر المجموعات العرقية المختلفة تحت راية الإسلام. وفي سبيل ذلک اعتمدت ترکيا ثلاث مناح: المنحى الثقافي: منحت فيه ترکيا حقوقا ثقافية محدودة للأکراد حيث سمحت لهم بفتح قنوات تليفزيونية باللغة الکردية، وتعليم اللغة الکردية في المعاهد الخاصة، کما يسرت بث برامج باللغة الکردية في القنوات التليفزيونية الرسمية( ). المنحى السياسي: حيث انخرطت ترکيا في مفاوضات سرية مع حزب العمال الکردستاني عام 2010 تحت مسمى “عملية أوسلو” ثم “عملية إمرالي” لأول مرة لتعبر عن تغير في التوجه الرسمي الترکي تجاه القضية. المنحى الاقتصادي: التزمت الحکومة فيه بتوزيع أکثر عدالة لموارد الدولة وبدأت في تطوير مشروعات اقتصادية في جنوب شرق البلاد المعروف بالفقر والتهميش( ).

أما السبيل الثاني لتحقيق هذا الهدف فهو التقارب مع حکومة إقليم کردستان، والذي تحول في الفکر الترکي من عامل تهديد إلى ميدان عمل جديد للدبلوماسية الترکية، فتأسيس إقليم مستقل في العراق کان أسوء کابوس يمکن أن تتخيله ترکيا، وقد حاولت في البداية درؤه بالقوة العسکرية-عملية شمس- التي لم تؤت ثمارها المرجوة، فبدأت في انتهاج سياسة مغايرة قائمة على التقارب مع حکومة کردستان العراق من خلال کثير من الزيارات الرسمية والاجتماعات الثنائية، حتى وصلت العلاقة بينهما لشکل من أشکال التحالف البراجماتي الذي عاد بالفائدة على الطرفين( )، حيث سمحت العلاقات الجيدة مع أربيل بتوطيد القوة الإقليمية لترکيا من خلال زيادة نفوذها لدى الحکومة المرکزية العراقية، بحيث باتت أربيل هي بوابة ترکيا إلى بغداد، وترکيا هي بوابة أربيل نحو الاتحاد الأوروبي والعالم. أضف إلى ذلک أن هذا الانفتاح قد صب في تدعيم الاقتصاد الترکي، حيث تعتبر ترکيا أکبر مستثمر وأکبر شريک تجاري لحکومة إقليم کردستان) (.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الجهود الحثيثة لاحتواء المعضلة العرقية قد أتت بعض ثمارها لکنها لم تؤدي إلى حل المشکلة الکردية بشکل جذري حيث حدث نوع من التهدئة المرحلية التي استفادت منها ترکيا في الانطلاق نحو الخارج لکن ذلک لا يعني أن المعضلة الکردية قد تحولت في عشية وضحاها إلى فرصة تاريخية سانحة والدليل على ذلک تفجرها ثانية مع تطور الوضع في سوريا.

(2) زعامة کاريزمية، وعقلية فکرية- سياسية دينامية:

من أکثر العوامل التي ساعدت ترکيا على صياغة دور فعال لها على المستويين الاقليمي والدولي هو العامل البشري، ونقصد به الامکانيات القيادية البشرية التي استطاعت أن تضع رؤية شاملة للدور الترکي وتحولها إلى خارطة طريق عملية على المستوى السياسي، وفي هذا السياق تبرز قيادتين سياسيتين لم يکن للمشروع الترکي أن ينهض إلا بهما. الأول هو رئيس الدولة رجب طيب أردوغان الذي مثل نموذج الکاريزمي القادر على تجسيد الإرادة السياسية الصلبة وروح العزيمة التي تتميز بها ترکيا کقوى ناهضة. وعادة ما تنبع السلطة الکاريزمية من عاملين، الأول العامل الإنساني والشخصي الذي يتأتى من صفات القائد ذات الطابع الاستثنائي کشخصيته وقيمه وأفکاره، والثاني عامل ظرفي کوجود رغبة وإرادة لدى الشعب للتغيير، واستعدادهم الحقيقي لتلقي رسائل القائد الکاريزمي. وهذا معناه أنه لابد من توافر العاملين بشکل متزامن ومتوازي فالقائد الکاريزمي مع اللحظة التاريخية الملائمة سيؤديان حتما إلى تغيير مجتمعي حقيقي.

ولا جدال أن رجب طيب أردوغان مثل نموذجا لهذا القائد الکاريزمي، وعلى الرغم من اختلاف الآراء حوله حيث يراه البعض مجنون يقود ترکيا نحو الهاوية يراه البعض الآخر قائد سياسي محنک من الدرجة الأولى، وبصرف النظر عن تقييم أردوغان کقائد ورجل دولة فلا جدال أن الجميع يجمع أنه شخصية کاريزمية استطاعت أن تجمع الجماهير الترکية حول حلم واحد، وربما تسهم الخلفية التي انبثق منها أردوغان إلى إضفاء نوع من الجاذبية عليه حيث لم يأتي من ترکيا البيضاء التي ينتمي إليها المتعلمون، الکماليون، العلمانيون، الأرستقراطيون وإنما من ترکيا “السوداء” التي تمثل المهمشين والفقراء، وهو واحدا من الذين ترعرعوا في بيئة محرومة ووصل في النهاية لأن يکون الناطق باسم من لا صوت لهم، وأن يعبر عن آمالهم وطموحاتهم في إيجاد صوت مؤثر لهم في وطنهم. وبالنظر للسيرة الذاتية لأردوغان سنجد أنها تجسيد مسيرة رجل عصامي حقق نجاحا يستحقه وواجه صعوبات کثيرة استطاع التغلب عليها وهو أمر يثير الاحترام والإعجاب لدى الطبقات الشعبية والمهمشة والتي تحولت إلى قاعدته الانتخابية الأولى وخاصة بعد نجاحه في منصب عمدة اسطنبول الذي استطاع من خلاله أن يبني قاعدة شعبية واسعة وشرعية کاريزمية دفعت به نحو تقلد مناصب حيوية أوصلته إلى سدة الحکم. أضف إلى ذلک استحضاره الروح الترکية حيث عمل على إعادة إحياء الذات الترکية، واستطاع أن يحول الشعور بالذل والمهانة من جراء انهيار الامبراطورية العثمانية وما نجم عنها من تبعات إلى شعور بالفخر والاعتزاز بالهوية الترکية فظهر وکأنه رجل ترکيا الجديد( ).

باختصار لقد قدم أردوغان نفسه على أنه صوت الشعب وأنه ترکي أسود قادر على التغيير، وأنه واحد من العامة فلا هو عسکري مثل أتاتورک، ولم يتخرج من جامعات عريقة مثل أوزال أو أربکان، ولا ينحدر من عائلة کبار مالکي الأراضي مثل مندريس، ولا يتکلم لغات أجنبية مثلهم. بل هو شخص عادي ملتصق بالشعب يشعر بهم ويرغب في التغيير. لقد استفاد أردوغان من صفاته الکاريزمية التي تمتع بها فهو بقامته وصوته الجهوري وخطابه الشعبوي تمکن من جذب الجماهير، وبتصديره صورة القوي الجريء القادر على الوقوف بوجه کبار العالم دون خوف أو خضوع التفت الجماهير حوله، وبلفتاته الإنسانية والخيرة أسر قلوب الأتراک، وبتعلقه بالتقاليد والقيم الدينية والأخلاقية التي استطاع أن يوظفها سياسيا وحد الأتراک تحت هوية إسلامية وغذى روح الوطنية لديهم بالشکل الذي جعلهم يرسمون له صورة شخصية مکونة من أربعة أجزاء: القوة، الدين، النموذج، الإنسانية.

بجانب القيادة الکاريزمية التي جسدها أردوغان يأتي قائد آخر من طراز مختلف وهو أحمد داوود أوغلو والذي يمثل رجل دولة حقيقي استطاع أن يرسم رؤية کاملة لما ستکون عليه ترکيا. وتنبع أهمية هذا الرجل من أنه من الأشخاص القلائل الذين استطاعوا أن يربطوا بين کل من العلم والفکر من ناحية والواقع من ناحية أخرى، فخلفيته الأکاديمية والفکرية جعلته قادرا على فهم وتحليل ما يحدث في الساحة الدولية من متغيرات ويحدد موقع ترکيا منها. إنه من الأکاديميين القلائل الذين ترکوا برجهم العاجي لينخرطوا في کواليس السلطة( )، ومن المنظرين المحدودين في العلاقات الدولية الذين سنحت لهم الفرصة لوضع نظرياتهم موضع التطبيق بعد “هنري کسينجر” و”زبيغنيو بريجنسکي” و”ألفارو غارسيا لينيرا”( ). فکان بذلک الترکي الوحيد الذي امتلک رؤية فکرية عميقة وأتيحت له الفرصة لوضعها موضع التطبيق، حيث وضع کتابه العمق الاستراتيجي قبل أن يتولى مناصب سياسية رفيعة في الدولة جعلته قادرا على تطبيق رؤيته الفکرية وتحويلها إلى استراتيجية ممنهجة وبرنامج عمل طويل الأمد. وبذلک اعتبر البعض أن بلورة الدور الترکي هو من صنيعة هذا الرجل، الذي قام بالتنظير للسياسة الخارجية والدبلوماسية الترکية من خلال مؤلفات کثيرة استطاع أن ينطلق منها نحو إرساء دعائم دبلوماسية ترکية مختلفة ذات امکانيات وطاقات غير مسبوقة. وقد وصفته مجلة “فورين بوليسي” بأنه العقل المدبر وراء نهضة ترکيا في العالم، کما وصفه البعض بأنه “کيسنجر الشرق الأوسط” أو “کسينجر ترکيا”( ).

(3) بيئة إقليمية ودولية تبدو موائمة” استراتيجية تحويل التهديدات إلى فرص”:

إن المشروع الترکي لم يکن ليثبت رکائزه بهذه الصورة دون أن تأتيه فرصة سانحة لتطبيقه، وبيئة دولية وإقليمية تساهم في حدوث هذا التحول، ولأن المشروع الترکي بدأ مبکرا –نهايات القرن الماضي-فقد استفاد من بعض التغيرات الدولية التي حدثت في القرن الماضي مثل انهيار الاتحاد السوفييتي في التسعينيات الذي أدى لتحول أنظار العالم إلى هذه المنطقة في انتظار نتائج هذا الانهيار متربصين بما يمکن أن يحدثه من موجات ارتدادية في العالم المحيط بالاتحاد السوفيتي، ورغم ما لهذا التغير من تأثير يعتبره البعض تهديدا إلا أن ترکيا حاولت أن تستغل الفرصة لتنکفئ على ذاتها وتوسع من مساحات مقدراتها القومية، کما حاولت أن تزيد من نفوذها في الأراضي التي کانت تابعة للاتحاد السوفيتي سابقا حيث قدمت دعم مالي للجمهوريات التي کانت منتمية له فيما مضى وتمکنت ترکيا في وقت وجيز من الحصول على مکانة هامة في منطقة آسيا الوسطى، ولم يکن ذلک على الصعيد الاقتصادي فقط، وإنما على الصعيد الجيوسياسي أيضا. وعلى هذا الأساس، بدا أن ترکيا حاولت الاستفادة من الظرف التاريخي لتحقيق مصالحها الخاصة في آسيا الوسطى وبسط نفوذها في هذه المنطقة من العالم. وهذا لا يعني أنها لم تواجه صعوبات کالاصطدام بالانفرادية الأمريکية لکنها حاولت التغلب عليها تارة بالمواجهة وتارة أخرى بالمراوغة.

وبصورة مماثلة حاولت ترکيا الاستفادة من التغيرات التي طالت بيئتها الإقليمية التي طالما تقلبت بين استقرار حذر واضطراب نسبي وتأثرت بأحداث دولية کبرى جعلتها مستهدفة من العالم الغربي کأحداث سبتمبر 2001 التي رسمت صورة سلبية للمنطقة باعتبارها معقل الفکر الإسلامي المتطرف، ووضعت دول هذه المنطقة في مأزق بعد أن وجدت نفسها مضطرة للسير في رکب الولايات المتحدة، وفي الدفاع عن نفسها ضد الاستراتيجية الممنهجة ضدها( )، وقد ظلت سياسة دول هذه المنطقة تتراوح بين الصمود تارة والخضوع تارة أخرى، والتکيف ومسايرة الرکب تارة ثالثة واستمرت کذلک حتى بدأ عقد هذه المنطقة في الانفراط بالغزو الأمريکي للعراق عام 2003 والتي مثلت نقطة التحول الأولى في موازين القوة الاقليمية، وتوصلت ترکيا الى بديهية مهمة وهي “ليس من مصلحة ترکيا المخاطرة بعلاقاتها مع العالمين العربي والاسلامي دون جني الثمار”, فأصبح لزاما عليها أن تقيم توازنا دقيقا بين مختلف الاتجاهات الأمريکية والإسرائيلية والأوروبية ومن ثم العربية) ( وذلک من خلال إقامة علاقات جيدة مع جميع جيرانها الاقليميين بحيث تصبح ترکيا بلدا محوريا على مسافة واحدة من الجميع وقادرة على لعب دور اقليمي متميز في اعادة ترتيبات المنطقة لذا وجدت ضالتها في العراق الذي يعتبر ثاني أکبر منتج للنفط الخام في منظمة الدول المصدرة للنفط(أوبک) کما يعد مرکز شد وجذب إقليميا ودوليا لامتلاکه العديد من المقومات الجغرافية, السياسية, الاقتصادية, الثقافية والحضارية, وأدت هذه المقومات الى تداخل وتشابک المصالح الإقليمية والدولية ولاشک أن التجاور الجغرافي والتنافس التاريخي بين بلدين کبيرين بحجم ترکيا والعراق أنتج فضاءا واسعا للتنافس والتعاون في آن واحد إذ عد التوجه السياسي والاستراتيجي الترکي نحو العراق ناجم عن الاستجابة لتحديات الموقع الجيوسياسي الذي يفرض على ترکيا الاهتمام بالاعتبارات الإقليمية المحيطة بها کمصدر تهديد لأمنها القومي أو کمجال للحرکة والنفوذ الإقليمي أو لإقامة علاقات اقتصادية.

في الواقع لقد انتهجت ترکيا استراتيجية تحويل المخاطر إلى فرص، فاستقرار العراق هو أمر لا جدال فيه بالنسبة لترکيا ومثلها سوريا وغيرها من دول المحيط الإقليمي المتاخمة لها، ومع تعرض هذه المنطقة إلى نوبات مختلفة من عدم الاستقرار نابعة من أسباب مختلفة کغزو العراق، الثورات العربية، وغيرها توقع الجميع حدوث تأثير سلبي على ترکيا وهو أمر لا يمکن إنکاره فاستقرار المحيط الإقليمي لأي دولة هو أمر لا غنى عنه کونه يؤثر على الاستقرار الداخلي للدولة ويزداد الأمر صعوبة في حالة وجود مشکلة عرقية کالأکراد الموزعة بين عدة دول منها ترکيا، إلا أن هذه المخاطر والتهديدات استطاعت ترکيا أن تحولها إلى فرص لها مثلما حدث في العراق الذي تمکنت من التدخل المباشر في شئونه بشکل لم يکن ليحدث لولا هذا الحدث. واتبعت سياسة مختلفة تجاه أکراد العراق، بعد أن عمقت علاقتها بإقليم کردستان وجعلته معتمد اقتصاديا بصورة کبيرة عليها مما يخفض من إمکانيات حدوث مفاجئات غير متوقعة ولا مرغوبة في الشأن الکردي( ).

نفس الاستراتيجية تبنتها ترکيا مرة أخرى عندما اندلعت ثورات الربيع العربي التي فاجأت العالم کله، وليس ترکيا فقط وبات واضحا أن هذه المنطقة على أعتاب مرحلة جديدة من الفوضى وعدم الاستقرار، وبالرغم من أن هذا الحدث کان يمکن أن يمثل تهديدا لترکيا کونها متاخمة لدول حدثت فيها هذه الثورات ومؤشرا على إعادة ترتيب توازنات القوة فيها إلا أنها استطاعت أن تحولها إلى فرصة يمکن استغلالها لتوطيد مکانتها الإقليمية في ظل فراغ قيادي کبير في المنطقة، وخاصة بعد أن انکفأت مصر على ذاتها وظهرت بوادر أزمات خليجية. وبغض الطرف عن ردود أفعال ترکيا التي اتسمت بقدر من الازدواجية في التعامل مع هذه الثورات إلا أنها اتبعت سياسة التروي التي مکنتها من الاستيعاب المبدئي للحدث والعمل على استغلاله قبل أن تتحول إلى التدخل المباشر لتغيير التوازنات في المنطقة لصالحها ( ).

المحور الثاني: رؤية تقييمية لمنظومة النهوض والعودة الترکية: مؤشرات الإخفاق وتحديات الاستمرار:

حاولت کثير من التحليلات تقييم التجربة الترکية باعتبارها تجسيد واقعي لصعود إحدى الدول الناهضة في محيطها الإقليمي، وقد تنوعت في رؤيتها لمدى النجاح الذي حققته ترکيا خلال هذه التجربة؛ ففي حين رأى بعضها أنها حققت نجاحا غير مسبوق وباتت قوة إقليمية کبرى رأت تحليلات أخرى أنها أخفقت للدرجة التي حولت محيطها الإقليمي من صفر أعداء إلى صفر أصدقاء( ).

 إن واقع الأمر أن التجربة الترکية تحمل في طياتها عوامل قوة وعوامل ضعف -شأنها في ذلک شأن کثير من التجارب الدولية- حيث استطاعت ترکيا أن تقدم نموذجا لقوة إقليمية ناهضة تسعى لتعظيم مکانتها الدولية وإيجاد موضع قدم لها في السياسة الدولية، وظلت تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافها إلى أن عصفت بالمنطقة ثورات الربيع العربي التي قلبت موازيين القوة فيها وأنتجت سلسلة من التحديات والعوائق أبطأت المشروع الترکي بل وأجبرته في کثير من الأحيان على أن يغير مساره ويعيد ترتيب أولوياته ويکتسب مزيدا من المرونة لتعظيم المکاسب والحد من الخسائر.

وقد مرت منظومة النهوض والعودة الترکية بأربعة مراحل عکست قدرا من التحولات التکتيکية داخلها تتمثل في:

المرحلة الأولى: مرحلة الانطلاق الممنهج والتغلغل التدريجي: واستمرت من عام 2002-2010 وحاولت فيها ترکيا خلق بيئة آمنة في الجوار الإقليمي من خلال سياسة تصفير المشکلات وسعت نحو استعادة الدور الإقليمي لها بشکل تدريجي، واستغلت بعض الأحداث الدولية کغزو العراق وغيرها لتوطيد رکائز مشروعها، وتجنبت في هذه المرحلة الدخول في مواجهات مفتوحة مع محيطها الإقليمي، وانکفأت بشکل کبير على الإصلاح الاقتصادي، مع الترکيز على استخدام أدوات القوة الناعمة للانفتاح على القارة الأفريقية والشرق الأوسط( )، هذا في نفس الوقت الذي کانت تسعى فيه للانضمام للاتحاد الأوروبي في محاولة للخروج من عباءة التبعية إلى مرحلة من التعاون والمصالح المشترکة. وعلى المستوى الداخلي، بدأت حکومة حزب العدالة والتنمية خلال هذه المرحلة، وبشکل تدريجي، في إعادة هندسة الوضع الاجتماعي الداخلي، وإحکام سيطرته على النظام السياسي الترکي.

المرحلة الثانية: مرحلة الانخراط الحذر والتوازن المفقود: بدأت هذه المرحلة مع اندلاع الثورات العربية في نهاية عام 2010 واستمرت حتى عام 2015، بما شهدته من تخبط ترکي في التعامل مع أطرافها وشهدت حالة من الاستقرار النسبي في علاقاتها مع دول الثورات ما عدا مصر التي دخلت في صدام مفتوح معها مع سقوط نظام الرئيس الأسبق محمد مرسي، وقد مثلت هذه الثورات تحديًا کبيرًا لترکيا وفرصة في الوقت ذاته، إذ برز أمامها تحديان: الأول يکمن في کيفية التوفيق بين مصالحها الاقتصادية وعلاقتها السياسية الجيدة مع أنظمة الحکم في المنطقة وبين واجب دعم هذه الثورات ولا سيما أنها دأبت على تسويق نفسها کنموذج إسلامي ديمقراطي واقتصادي يمکن تعميمه في الدول العربية، أما التحدي الثاني، فيتعلق بموازين القوى الإقليمية، حيث ظهرت المخاوف جلية من تداعيات هذه الثورات وما يمکن أن تفرزه من قوى إقليمية جديدة منافسة لها( )، وهو الأمر الذي جعلها تنتهج ردود أفعال براجماتية تجاه دول الثورات لتؤيد البعض وترفض البعض الآخر ليظهر رد الفعل الترکي متذبذبا ومزدوجا في التعامل مع نفس الحدث، وتلجأ ترکيا لانتهاج سياسة الانخراط الحذر القائم على مراقبة الأوضاع أولًا ثم التحرک بناء عليها ثانيةً، وتضطر للتروي في تنفيذ مشروعها سعيا نحو استعادة التوازن المفقود.

المرحلة الثالثة: مرحلة التصعيد العسکري والانخراط الهجومي: واستمرت هذه المرحلة من 2016 – 2020 حيث تغيرت سياسة أنقرة نحو مزيد من التدخل والانخراط في الأزمات الإقليمية وبدأت في تبني نمط هجومي في علاقاتها مع الأطراف الفاعلة على المستوى الدولي، وبشکل خاص روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميرکية، ونمط صدامي في ما يتعلق بدورها في مواضع الأمن الإقليمي الخاصة بها. وبدأ التوجه الترکي نحو تحصيل النفوذ الإقليمي يصبح أکثر وضوحا، وخصوصا في آسيا عبر انتهاج سياسة خارجية استباقية تقوم على استخدام القوة العسکرية الوقائية خارج حدود ترکيا، وملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة. ورکزت أنقرة خلال هذه المرحلة على استخدام الأدوات العسکرية) (، ليس من أجل ضمان مصالحها السياسية في النطاق الإقليمي فحسب، بل لتحصيل مکتسبات اقتصادية أيضا وخاصة بعد أن بدأ الاقتصاد الترکي يتدهور بشکل ملحوظ ويلقي بظلاله على الداخل الترکي مما دفع البعض لتفسير السلوک الترکي العدائي والمنخرط في الصراعات من منظور الوضع الداخلي المتأزم ووصفوه بأمننة الداخل في مقابل عسکرة الخارج؛ فکل فشل في الداخل، کان يقتضي توسيع دائرة التهديدات الخارجية وتضخيمها، بهدف تهدئة المواطنين والخصوم، وصرف انتباههم عن أزمات الحکم والاقتصاد وغيرها. وقد شهدت هذه المرحلة بدء العمليات العسکرية الخارجية للجيش الترکي، والتي شملت دولاً مثل العراق وسوريا وليبيا، إلى جانب التمرکز العسکري الدائم في عدد من الدول فيما بات يعرف بعسکرة السياسة الإقليمية، کما اتبعت سياسة فرض الأمر الواقع في منطقة شرق المتوسط بعد أن استمرت في إرسال سفن للاستکشاف والبحث وهددت بالرد في حالة تعرض أي من سفنها لأدنى مضايقة وأشارت إلى الوطن الأزرق کإطار حاکم لسياسة ترکيا البحرية وهو الأمر الذي يمثل دليلا واضحا على السياسة التوسعية الترکية في البحار( ). وکان من الطبيعي أن يؤثر هذا النهج الهجومي سلبا على علاقتها بالدول الفاعلة الرئيسية في المنطقة ويجعلها تستشعر حالة من العزلة على المستويين الإقليمي والدولي. وداخليا، عکف الرئيس الترکي على تعديل الأسس التي يقوم عليها نظام الحکم في ترکيا، إذ حوّله إلى نظام رئاسي عوضاً عن النظام البرلماني الذي کان قائماً خلال العقود الماضية، وبدأ عقب انقلاب عام 2016 بإعادة هيکلة کاملة للمؤسسة العسکرية والأمنية والقضائية.

المرحلة الرابعة: مرحلة التهدئة النسبية والتراجع التکتيکي: والتي بدأت مع نهايات عام 2020 حيث بدأت أنقرة في اتباع سياسة التهدئة بدلا من التصعيد الذي انتهجته في المرحلة السابقة وخاصة بعد أن استشعرت خسائر حقيقية على المستويين الإقليمي والدولي ومع تعرضها لأزمة اقتصادية شديدة ترافقت مع شبه عزلة دولية رأت أن تهدئ التوترات المحيطة بها، وتحجم التوجّهات التوسعية والتصعيدية الترکية في ميادين انخراطها الإقليمي والدولي، ولو مرحليا، وخاصة فيما يتعلّق بعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي ودول شرق المتوسط والولايات المتحدة الأميرکية وبعض الدول الفاعلة في المنطقة کمصر التي تغيرت لهجتها في التعامل معها نحو مزيد من التعاون وعبرت عن رغبتها في إجراء مباحثات مباشرة بين الجانبين، کما سعت أيضا لإجراء مباحثات حول شرق المتوسط مع اليونان، وأبدت استعدادها لتحسين العلاقات مع الخليج العربي وإسرائيل والاتحاد الأوروبي( ).

وعلى الرغم من حالة التفاؤل التي سادت الأوساط السياسية من جراء المهادنة الترکية إلا أن هذا لا يعني بالضّرورة أن أنقرة في طريقها للتنازل عن نفوذها أو مکتسباتها أو عقيدتها الاستراتيجية، وإنما يعني أنها أعادت ترتيب أوراقها ربما بشکل مؤقت حتى تستطيع أن تعيد صياغة أدواتها في المرحلة القادمة، کما يعني أيضا أن الأساس الفکري لمنظومة النهوض والعودة الترکية لا يزال قائما ورؤية ترکيا لقدرتها واستحقاقها الحصول على مکانة أکبر على المستوى الدولي لم تتغير وإنما تغيرت أدواتها خلال هذه الفترات فلم تکن الأداة العسکرية هي الخيار الأول في المرحلتين الأولى والثانية التي اعتمدت على أدوات القوة الناعمة واستراتيجية الانخراط السلمي التدريجي، لکنها أصبحت خيارا أوليا في المرحلة الثالثة التي تميزت بالانخراط العسکري والتدخل المباشر في جوارها الإقليمي، وهو ما يعکس تغيرا تکتيکيا أکثر منه استراتيجيا کونه تغير في الأدوات وليس في الاستراتيجيات والأهداف الکبرى. أضف إلى ذلک حدوث تغير في المستوى التحفيزي فأردوغان بات يواجه اعتراضات شعبية أکثر من ذي قبل نتيجة سياساته القمعية وانفراده بالسلطة، کما أن البيئة الدولية والإقليمية لم تعد مواتية وعناصر القوة الذاتية التي مکنت ترکيا لسنوات طويلة من ممارسة دور أکبر على الساحتين الدولية والإقليمية لم تعد کما کانت؛ فالاقتصاد الترکي يعاني والمشکلات الطائفية الداخلية تتفاقم والوضع السياسي الداخلي وتماسکه أصبح مليء بالتصدعات.

وبناء عليه أصبحت المنظومة الترکية في موضع إتهام بعدم الفاعلية وربما بالإخفاق بسبب ما آلت إليه القوة الناهضة الترکية على المستويين الإقليمي والدولي، ولذا کان لابد من رصد بعض مؤشرات الإخفاق والإشارة إلى تحديات وعوائق المنظومة الترکية وذلک على النحو التالي:

(1) مؤشرات إخفاق منظومة النهوض والعودة الترکية:

ظهرت مجموعة من المؤشرات تشير إلى عدم تحقيق المنظومة الترکية للنهوض والعودة لکامل أهدافها، منها:

أ‌- تحول ترکيا لمرکز للأزمات الإقليمية والدولية:

إن تخلي ترکيا عن سياسة عدم التدخل وانخراطها عسکريا في صراعات المنطقة حولها من دولة داعمة للاستقرار إلى دولة صانعة للأزمات، وقد ساعد على ذلک الترکيز التدريجي للسلطة في يد الرئيس أردوغان الذي قاد البلاد لخوض صراعات واشتباکات عديدة مع جيرانها وشرکائها الدوليين الرئيسيين، ليصبح التمدد الترکي الزائد في المنطقة مصدر أزمات في أکثر من ساحة إقليمية. بدءا من الساحة السورية التي انخرطت فيها ترکيا في أکثر من عملية عسکرية مثل درع الفرات 2016، احتلال منطقة عفرين 2018، وعملية نبع السلام 2019 وغيرها من العمليات التي استدعت اجتماعا طارئا لمجلس الأمن في أکتوبر 2019 لبحث الهجوم الترکي على شمال سوريا. ناهيک عن الساحة الليبية التي تدخلت فيها ترکيا لصالح طرف على حساب طرف آخر فأشعلت الصراع الداخلي فيها فضلا عما سببته هذه الأزمة من تصعيد على الجانب المصري الذي أعلن أن الجفرة وسرت خط أحمر وازدادت احتمالات المواجهة العسکرية بينهما عن ذي قبل.

ولا ننسى في هذا الإطار أزمة الأکراد الممتدة والتي تشکل عصب علاقتها بالعراق وسوريا والتي تصاعدت على إثر السلوک الترکي الصامت لما تعرضت له بعض الفئات الکردية، أضف إلى ذلک ما سببته السياسات الترکية تجاه الجماعات الإرهابية من تفشي ظاهرة الإرهاب في المنطقة وخاصة داعش التي حاولت استخدامها کورقة رابحة لتحقيق أهدافها إلا أنها سرعان ما اکتشفت أن هذه الورقة قادرة على زج المنطقة في أتون حروب أهلية وصراعات لا تنتهي. أما أزمة شرق المتوسط وإصرارها على التنقيب فيه عن الغاز رغم تعالي الأصوات الرافضة للسلوک الترکي في هذه البقعة من العالم فلا تزال أمامها الکثير لکي تُحل وخاصة في ظل تعدد الأطراف المشارکة فيها. کل ذلک يؤکد أن ترکيا بات لها يد في کل أزمة تحدث في منطقة الشرق الأوسط وکأنها تحولت من مرکز للاستقرار الإقليمي إلى مرکز للأزمات الإقليمية( ).

ب‌- مکاسب محدودة ونتائج مخيبة للآمال:

بالنظر إلى الدور الطموح الذي قامت به ترکيا وخاصة المتعلق بتدخلاتها العسکرية في القضايا الإقليمية أشار بعض المحللين إلى أن النتائج التي عادت على ترکيا لم تکن بقدر المبذول فيها فعلى سبيل المثال لم تحقق ترکيا الکثير في سوريا منذ بداية تدخلها واحتلالها العسکري المباشر للأراضي السورية في إطار عملية درع الفرات 2016 وحتى العام الحالي، أي بعد 5 سنوات تقريبا، ولا تزال مضطرة للإنفاق على المناطق الآمنة التي فرضتها بقوة السلاح، وعليها أن توفر تمويل مستمر لإدارة أزمة اللاجئين، وهي الورقة التي تحاول استخدامها في التفاوض مع دول أوروبا دون عائد مجدي. وفي ليبيا لم يختلف الحال کثيرا فما زالت المتغيرات تجري في اتجاه بعيد عن قبضة ترکيا، رغم الاتفاقيات مع حکومة فايز السراج، وخاصة فيما يتعلق بالقواعد العسکرية والترتيبات الأمنية والاقتصادية ويُمثِّل وقف التقدم الترکي على خط سرت-الجفرة والمفاوضات الليبية المستجدة تراجعاً للدور الترکي الهجومي في هذه المنطقة. وفي شرق المتوسط أخذت ترکيا تناور تارة وتتراجع تارة أخرى تحت ضغوط التغيُّر في الموقف الأمريکي والتلويح الأوروبي الصريح بفرض عقوبات عليها مما يؤکد أن استراتيجية التمدد الترکية لم تنجح حتى الآن في نيل المکاسب الجيوسياسية الجوهرية التي کانت تطمح إليها. هذا في نفس الوقت الذي فشلت فيه في تحقيق عوائد اقتصادية ملموسة يمکن استثمارها سريعا في مناطق التدخل رغم وضع يدها على موارد حيوية فيها. وفي حال استمر عَجْز أنقرة عن تحصيل مکاسب راهنة لتدخلاتها، فإن ذلک سيجعلها عاجزة عن تمويل عشرات الآلاف من المرتزقة ما قد يُهدد بخروجهم عن السيطرة وتحوُّلهم إلى مجموعات قتالية تحت الطلب قد تصبح هي شخصيا أحد أهدافهم الانتقامية مستقبلا.

ت‌- تدهور العلاقات مع دول المنطقة وخسارة حلفاء دوليين تقليديين:

أدى السلوک الترکي إلى تدهور علاقة أنقرة بکثير من دول المنطقة وفي مقدمتها مصر وسوريا التي وصلت العلاقات بينهما إلى حد القطيعة الدبلوماسية الکاملة) (، ففي مصر تعاملت ترکيا مع ثورة 2013 باعتبارها انقلابا عسکريا وانتقدته علنا وآوت جماعة الإخوان المسلمين على أراضيها وسمحت للإعلام بتشويه صورة مصر، کما هددت الأمن القومي المصري بدعمها للإرهاب وبتدخلها السافر في ليبيا وهو الأمر الذي أوصل العلاقات بينهما إلى حافة الانهيار وخاصة مع تزايد حدة تنافسهما في منطقة شرق المتوسط، أما سوريا فقد حولتها بتدخلها إلى ملف من أعقد ملفات المنطقة بعد أن تغيرت نظرتها للأسد من حليف استراتيجي إلى خصم لابد من القضاء عليه. وکذلک الحال في العراق التي أصبحت مرکز إقليمي يصدر الفوضى والإرهاب، ناهيک عن ليبيا التي اعتبرتها فرصة سانحة لتثبيت أقدامها في ساحل شمال أفريقيا فکانت النتيجة انهيار دولة وتکريس فوضى. کل ذلک يؤکد أن ترکيا تنتهج سياسات تؤدي إن آجلا أو عاجلا إلى تدهور العلاقات بينها وبين دول کانت تعد من حلفائها التقليديين.

وعلى الرغم من أن علاقتها ببعض الدول الأخرى في المنطقة قد تحسنت مثل قطر وإسرائيل(من الباطن) إلا أن ذلک على الجانب الآخر أدى إلى إثارة حفيظة دول أخرى وفي مقدمتهم دول الخليج کالسعودية والإمارات، وقد ازداد الأمر تعقيدا بعد أن اتخذت هذه العلاقات مسارات عسکرية في أعقاب توقيع کل من ترکيا وقطر اتفاق عسکري عام 2014 لإقامة قاعدة عسکرية في قطر وهو الأمر الذي تکرر في الصومال عام 2017 والذي شهد افتتاح قاعدة ترکية جنوب غرب مقديشيو، ولا تزال قاعدة سواکن في السودان المزمع إنشائها تمثل واحدة من أهم القضايا الخلافية بينهما وبين مصر. أضف إلى ذلک تأثير علاقتها بإسرائيل على علاقاتها بالدول العربية فرغم إعلانها الدائم عن إدانتها للسلوک الإسرائيلي وانتقاداتها العلنية للممارسات الوحشية الاسرائيلية في فلسطين نجدها تطور دوما تعاونها الأمني والاستخباراتي والاقتصادي معها مما يثير الشک حول مصداقية هذه الانتقادات( ). کل ذلک يؤکد أن ترکيا بالرغم من أنها لاتزال تحتفظ بعلاقات جيدة مع بعض دول المنطقة إلا أن الغالبية العظمى من دولها تشهد أزمات متکررة معها بالشکل الذي يضع علامات استفهام عن مدى نجاح ترکيا في کسب ود دول المنطقة لقبول دورها الإقليمي المتزايد.

ولم يقتصر تدهور العلاقات على دول المنطقة فقط بل تعدى ذلک للدول الکبرى المنخرطة بمصالحها في ذات المنطقة وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي کانت تعد حليفًا تقليديًا لها، حيث بات الخلاف بينهما علنيا حتى أن واشنطن وقعت عقوبات اقتصادية على بعض الجهات الفردية والمؤسسية في ترکيا بعد تدخلها العسکري في سوريا ولا تزال العلاقات بينهما تحمل في طياتها توترا وخاصة بعد حصول ترکيا على منظومة الصواريخ الروسية وسط اعتراض الولايات المتحدة على ذلک، واعتراضها أيضا على السلوک الترکي في شرق المتوسط.

أما علاقة ترکيا بالاتحاد الأوروبي فلا تزال غير مرضية حيث أعلنت دوله إدانتها لغزو ترکيا لشمال سوريا وجمدوا صادرات الأسلحة الأوروبية إليها فضلا عن تمسکها برفض السلوک الترکي في التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط حتى أن الاتحاد هدد ترکيا بفرض عقوبات اقتصادية وقام بالضغط عليها باقتطاع 145,8 مليون دولار من مبالغ تابعة لصناديق أوروبية کان من المفترض أن تمنح لترکيا خلال العام 2020، وذلک رداً على عمليات التنقيب الترکية في المياه القبرصية، ولا تزال قضايا الوضع الداخلي والديمقراطية وحقوق الإنسان في ترکيا على رأس جدول الأعمال بينهما( ).

هذا ناهيک عن العلاقة المتوترة التي وصلت إلى حد المواجهة المباشرة بين ترکيا وروسيا وخاصة بعد إسقاط ترکيا الطائرة الروسية والذي تبعه رد قوي من روسيا أدى لتراجع ترکي خشية انفلات الوضع والدخول في صدام مباشر مع روسيا ستکون هي الخاسر الأکبر فيه. إلا أن تراجعها لم يمنع من خسارتها على مستويين: الأول المستوى العسکري والاستراتيجي أمام روسيا حيث فقدت القدرة على الطيران فوق سوريا واضطرت للانکفاء لتجنب ردة فعل روسية عنيفة، والثانية سياسية أمام واشنطن وحلف الناتو من خلال عودتها للتماهي مع مواقفهما وخسارتها لهامش الاستقلالية النسبي في سياستها الخارجية بعيدًا عنهما .

ث‌- ثقوب في النموذج الترکي وتراجع الصورة الايجابية الترکية:

على الرغم من إشارة بعض استطلاعات الرأي الترکية والقطرية إلى أن أردوغان هو الرئيس الأکثر شعبية في المنطقة وأن ترکيا لا تزال تحظى بقبول عربي کبير إلا أن واقع الأمر أن الصورة الترکية في بعض بلدان العالم العربي لم تعد کما کانت من قبل( )، فعلى سبيل المثال أظهرت نتائج إحدى استطلاعات الرأي التي أجريت عام 2009 على سبع دول عربية أن 63% من المبحوثين اعتبروا النظام السياسي الترکي نموذج ناجح يجمع بين الإسلام والديمقراطية، في حين رأى 61% منهم أن ترکيا تمثل نموذجا للعالم العربي، و77% أبدوا ترحيبهم بلعب ترکيا لدور أکبر في المنطقة) (، وفي عام 2010 ارتفعت نسبة من يرون ترکيا نموذج من 61% إلى 66%) (، وفي عام 2011 ارتفعت نسبة من يرون أن ترکيا نموذج ناجح يجمع بين الإسلام والديمقراطية من 63% إلى 67%، في حين انخفضت نسبة من يرون ترکيا بصورة النموذج إلى 61% مرة أخرى) (، أما في عام 2012 فقد انخفضت نسبة من يرون ترکيا بصورة إيجابية من 78% إلى 69%، ومن يرونها نموذج من 61% إلى 53% وهو الأمر الذي يؤکد أن صورة ترکيا تتغير بتغير الأحداث وبردود الفعل الترکية عليها) (. وفي أحد استطلاعات الرأي القطرية الحديثة لا يمکن تجاهل نسبة من يرون في مصر أن ترکيا تمثل تهديدا لهم في إحدى نتائج المؤشر العربي الذي أشار إلى أن المصريين يرون أن إسرائيل هي الدولة الأکثر تهديدا لمصر بواقع 25 نقطة وهو أمر منطقي في ضوء استمرار الصراع العربي الإسرائيلي إلا أن الغريب أن ترکيا جاءت في المرتبة التالية بنسبة 18 نقطة ومتفوقة على الولايات المتحدة التي حصدت 10 نقاط فقط، وهو أمر يثير التساؤل حول مصداقية الصورة الإيجابية لترکيا في مصر ودول عربية أخرى لم يشملها المؤشر مثل سوريا وليبيا وهي دول من المتوقع أن تحمل صورة سلبية عن ترکيا نظرا لتدخلاتها العسکرية فيها( ).

ليس هذا فحسب، فالوجود الترکي رغم الترويج لأهميته إلا أنه لا يزال يثير مخاوف شعوب المنطقة من عودة سيطرته تحت عباءة العثمانية الجديدة؛ فلا يزال عالق في الذاکرة الجماعية آثار سلبية للحکم العثماني يصعب محوها وليس أدل على ذلک مما حدث في لبنان أثناء الزيارة الرسمية لأردوغان عام 2013 حيث تجمع متظاهرون في ساحة الشهداء وسط بيروت ورفعوا شعارات رافضة للوجود العثماني، کما رفضت بعض الطوائف المسيحية عرض فيلم “فتح 1453” والذي تميز بإنتاجه الضخم وتعرضه لقصة فتح القسطنطينية کونه يحاول طمس سوء المعاملة التي تعرضت لها الطوائف المسيحية فيها. وتکرر الأمر ثانية مع طائفة أخرى وهي الأرمن التي أظهرت حساسية شديدة تجاه عرض فيلم “الرسالة الأخيرة” حتى أن أحد الأحزاب تحرک لمنع عرضه. کل ذلک يؤکد أن طموحات ترکيا لا تزال تصطدم بما يعاکسها على أرض الواقع وأن المدخل الامبراطوري العثماني الذي تتبعه يستفز ذاکرة شعوب المنطقة المليئة بالفترات المظلمة للحکم العثماني ويجعلها أکثر حذرا من التمدد الترکي.

کل ذلک في نفس الوقت الذي يواجه فيه النموذج الترکي ثقوبا ووهنا من الداخل بالرغم من جاذبيته وفرادته ( )؛ فترکيا اليوم تحتل في مؤشر الديمقراطية المرتبة 110 من بين 167 دولة، بينما تحتل في معدل الاستقرار السياسي طبقاً لمقياس کوفمان (الذي يعطي +2,5 للدول الأعلى استقراراً، و-2,5 للأدنى استقراراً) ما قيمته -1,34، وبهذا فهي تحتل المرتبة 175 من بين 195 دولة في هذا المؤشر، أما في مؤشر عدالة توزيع الدخل فتحتل ترکيا مکانة تقع بين المقبول والضعيف بمعدل 41,9، کل ذلک يعني أن الديمقراطية الترکية التي کانت محل إبهار وإشادة من شعوب المنطقة باتت مهددة بعدم المصداقية في ظل تآکل للسلطة في ترکيا وتشددا في ممارستها وخاصة مع حملة التطهير التي أطلقت في مواجهة کل من يشتبه في انتمائه لحرکة فتح الله غولن، ورد فعل النظام العنيف ضد ما عرف بانتفاضة منتزه غيزي أو انتفاضة تقسيم، لتفقد ترکيا جزءا کبيرا من جاذبيتها في المنطقة ويصبح تمدُّدها الإقليمي الراهن عبئا على بنيتها الداخلية( ). وترتفع بعض الأصوات معلنة رفض النموذج الترکي ليس فقط لهشاشته ولکن لصعوبة استنساخه في العالم العربي کونه غير ملائم للتطبيق فيه وخاصة أن العلمانية في ترکيا لا تحظى بذات القبول في المنطقة العربية کما أن الديمقراطية التي تطورت في ترکيا قد وصلت لما هي عليه بعد سنوات من إدماج الأحزاب الإسلامية في نظام الحکم وهي بيئة سياسية تختلف عن البيئات السياسية في البلدان العربية.

ج‌- التحول من استراتيجية تعظيم المکاسب إلى تقليل الخسائر ومن ازدواجية المکسب(الشرق والغرب معا) إلى ازدواجية الخسارة (لا شرق ولا غرب):

عندما صاغ أغلو عبارة “الرمي بالقوس” وضع نصب عينيه الهدف الاستراتيجي الأکبر لترکيا وهو الجمع بين الشرق والغرب باعتبار أن کل منهما يؤدي إلى الآخر. إلا أن واقع الأمر أن الخطوات التي تخطوها ترکيا في اتجاه الشرق تبعدها عن طريق الغرب بشکل أو بآخر. وأصبح الواقع يعبر عن مقولة معاکسة لاستعارة الرمي بالقوس فبقدر ما تشد ترکيا الوتر في الشرق الأوسط تبتعد أکثر عن الغرب وخاصة أن ترکيا تستخدم الإسلام کأداة في سياستها مع الشرق وتنشر صورة النموذج الاسلامي الديمقراطي وبقدر ما حقق لها هذا النموذج ولوجا إلى الشعوب العربية المدينة بالإسلام في البداية إلا أنه أثار حفيظة فئات أخرى من الشعب تؤمن بالعلمانية أو تدين بديانات أخرى کالمسيحية. ليس هذا فحسب بل واجهت ترکيا أيضا ثقبا آخر في صورتها المصدرة إلى الشرق، والتي طالما رکزت عليها في بناء موقعها کقوة إقليمية حيث سعت دوما إلى تقديم نفسها فوق الانقسامات الطائفية والاستقطاب السني-الشيعي، وعلى الرغم من أن ترکيا حاولت إبقاء نفسها بعيدا عن هذا الانقسام إلا أنها تحولت إلى فاعل سني بعد أن حاولت کثير من الأوساط السنية استقطاب ترکيا وإظهارها کداعم لها وکان لهذا النهج تأثير على صورة ترکيا في الأوساط الشيعية مما انعکس على دورها کقوى ناهضة تسعي لخلق مساحات واحدة بين کافة الأطراف( )، کما انعکس على علاقتها بالغرب الذي باتت فئات منه تعلن تخوفها الصريح بل ورفضها لدخول ترکيا إلى الاتحاد الأوروبي بسبب هويتها الدينية) (. هذا ناهيک عن تحفظ الغرب ورفضه في بعض الأحيان للسياسات الترکية في منطقة الشرق الأوسط بالشکل الذي وصل إلى حد المواجهة المباشرة. وهنا اکتشفت ترکيا أن استراتيجية المرونة القصوى التي حاولت من خلالها الجمع بين الشرق والغرب لم تعد تجدي النفع المطلوب فتحولت من استراتيجية تعظيم المکاسب إلى تقليل الخسائر سواء مع هذا أو ذاک( ).

ح‌- إعادة ترتيب إجبارية للأوراق وانتهاج سياسة أقل حدة وتصعيدا:

بعد أن تأکدت ترکيا من فشل استراتيجية “صفر مشکلات” وتحولها إلى “صفر هدوء” وثقل الخسارة التي بدأت تدفع ثمنها تباعا بدأت في الآونة الأخيرة تنحو نحو إعادة تقييم سياستها الخارجية وتغيير وجهة بوصلتها بفعل عوامل عدة منها: (1) تدهور الاقتصاد الترکي: حيث يواصل معدل التضخم ارتفاعه مسجلًا 15,6% في فبراير 2021، کما تواصل الليرة الترکية تراجعها أمام الدولار مسجلة 7,8 مقابل الدولار في مارس 2021، فيما سجل الناتج المحلي الإجمالي نموًا ضعيفًا في 2020 بنسبة 1,8%، وبلغ معدل البطالة 13,2%، بحسب معهد الإحصاء الترکي. وفاقم تدهور علاقات أنقرة مع دول المنطقة من معاناة الاقتصاد الترکي، حيث تراجع حجم التبادل التجاري بين ترکيا ودول المنطقة في 2020 إلى 51,6 مليار دولار مقارنة بـ63,8 مليار دولار في 2012، وتم تدشين “الحملة الشعبية لمقاطعة ترکيا” في السعودية في سبتمبر 2020، ردًا على عداء أنقرة للمملکة، وقد أدى تدهور الاقتصاد الترکي إلى تراجع قدرة أنقرة على تمويل انخراطها في صراعات المنطقة في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز (إقليم کاراباخ)، فضلًا عن تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية في الداخل وتنامي الأصوات المعارضة لسياسة الحکومة الخارجية التي کلفت البلاد کثيرًا، خاصة وأن العديد من رجال الأعمال الأتراک حمّلوا الحکومة الترکية مسؤولية عدم قدرتهم على تصدير منتجاتهم للسوق العربية، (2) تشکيل جبهات لمواجهة النفوذ الترکي المتصاعد: ففي منطقة شرق المتوسط تم تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط من 6 دول هي (مصر، فلسطين، الأردن، قبرص، إسرائيل، اليونان) مستبعدة ترکيا. وفي 9 مارس 2021، تم الموافقة على انضمام فرنسا للمنتدى بصفة عضو، والولايات المتحدة بصفة مراقب. کما فرض الاتحاد الأوروبي حزمة من العقوبات على ترکيا لمواصلتها أنشطة التنقيب غير المشروعة عن النفط والغاز في شرق المتوسط، کان آخرها في ديسمبر 2020. وبالإضافة لما سبق، تنسق کل من فرنسا واليونان ودولة الإمارات ومصر والسعودية فيما بينها لمواجهة السياسات العدائية لأنقرة في المنطقة. ففي ليبيا، على سبيل المثال، تدعم فرنسا والإمارات ومصر الجيش الوطني الليبي لمکافحة الإرهاب ومواجهة المليشيات المتطرفة المدعومة من ترکيا في الغرب الليبي، وتقدم فرنسا دعمًا عسکريًا لليونان في مواجهة التصعيد الترکي، وفي 17 مارس 2021، انطلقت مناورات “عين الصقر” بين القوات الجوية السعودية ونظيرتها اليونانية، في سماء البحر الأبيض المتوسط، من قاعدة “سودا” اليونانية. وأعربت ترکيا عن استيائها من هذه المناورات. (3) تغير موقف الولايات المتحدة من المهادنة إلى التحجيم: حيث اتجهت الولايات المتحدة إلى تحجيم تمدد ترکيا المبالغ فيه وبدأت منذ إدارة ترامب في تبني مجموعة من السياسات الهادفة لتحجيم سياسات ترکيا في المنطقة ومنها على سبيل المثال إجراء زيارات رسمية للقاعدة البحرية لحلف الناتو في خليج “سودا” بجزيرة “کريت” اليونانية، والتفکير في نقل واشنطن وسائلها الحربية من قاعدة “إنجرليک” الترکية إلى جزيرة کريت اليونانية، لمعاقبة “أردوغان” على سلوکه. وفي ديسمبر 2020، فرضت واشنطن عقوبات على مؤسسة الصناعات الدفاعية الترکية ورئيسها لحيازة أنقرة منظومة “إس-400” الروسية، ورفضها التخلي عنها) (. کما دعا جو بايدن إلى تعزيز الضغوط على ترکيا بسبب تصعيدها التوتر في شرق المتوسط، وأعلن رفضه لسياسة أنقرة ضد الأکراد في شمال شرق سوريا. (4) تعثر المشروع الإسلامي الترکي في المنطقة: حيث بدا واضحا لترکيا أن خروج الإخوان المسلمين من الحکم في مصر لم يکن خروجا فرديا إذ أعقبه خروجا مماثلا في دول عربية أخرى کتونس والسودان مما يشمل ضربة موجعة للمشروع الترکي الذي سعت لوضعه موضع التطبيق في المنطقة) (.

أدت هذه السياقات مجتمعة إلى تراجعات وتغيرات في السياسة الخارجية الترکية، ظهرت تدريجيا في عدة صور منها السماح للولايات المتحدة والتحالف الدولي باستخدام قاعدة إنجيرليک العسکرية بعد شهور طويلة من التمنع، والانخراط الفعلي في التحالف الدولي لمکافحة تنظيم الدولة بعد أشهر من التردد، وخفوت حدة صوت أنقرة في مواجهة نظام السيسي ووتيرة انتقاداتها له، واللهجة اللينة نسبيًا إزاء التدخل العسکري الروسي على حدودها الجنوبية في سوريا والقبول الضمني ببقاء الأسد في الحکم خلال الفترة الانتقالية للحل السياسي المتفق عليه بين وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، کيري ولافروف، في اتفاق فيينا.

ولعل من أهم الاجراءات التي اتخذتها ترکيا سعيا نحو التهدئة: (1) إصلاح العلاقات مع الجوار العربي، وفي مقدمته مصر حيث تغيرت اللهجة الترکية في تعاملها مع مصر وأعلن وزير الخارجية الترکي، في 12 مارس 2021، أن “ترکيا تجري اتصالات مع مصر على مستوى المخابرات ووزارة الخارجية، مؤکدًا “بدء الاتصالات على المستوى الدبلوماسي”. کما حاولت أنقرة أن تقدم على خطوات من شأنها تخفيف حدة التوتر مع القاهرة، حينما طلبت السلطة الترکية من القنوات التابعة لتنظيم الإخوان المسلمين، التي تبث من إسطنبول، تعديل خطابها بما يتسق مع مواثيق الشرف الإعلامية وتقليل التجاوزات. کما حاولت تحسين العلاقات مع السعودية والإمارات من خلال اتصالات رئاسية مباشرة تصب في هذا الاتجاه، (2) تخفيف حدة التوتر مع القوى الأوروبية، حيث أبدى الرئيس “أردوغان”، في يناير 2021، خلال لقاء مع سفراء الاتحاد الأوروبي في أنقرة، استعداد بلاده لتحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، خاصة فرنسا التي أعرب عن سعادته للتباحث مع ماکرون مجددا بعد انقطاع فترة طويلة. کما عقد “أردوغان” عدة مباحثات مع قادة الاتحاد الأوروبي لتسوية الخلافات وعلى رأسها شرق المتوسط وتسوية النزاع في قبرص والتطورات في ليبيا، کما استأنفت ترکيا المحادثات الاستکشافية مع اليونان لبحث الخلافات في بحر إيجه وشرق المتوسط. (3) معالجة الملفات الخلافية مع الولايات المتحدة، والتي يأتي على رأسها الدعم الأمريکي للمقاتلين الأکراد في شمال سوريا وشراء أنقرة منظومة الدفاع “إس-400” من روسيا في محاولة منها لتنشيط المصالح المشترکة مع الولايات المتحدة والتقليل من القضايا الخلافية بينهما( ).

(2) التحديات والمعوقات التي تواجه منظومة النهوض والعودة الترکية:

على الرغم مما تمتعت به هذه المنظومة من قوة على المستويين الفکري والحرکي إلا أنها واجهت تحديات عدة حالت دون تفعيلها على المستوى الأمثل ومنها:

أ‌- تحدي الفوضى الاقليمية وبيئة عدم الاستقرار:

بنت المنظومة الترکية رکائزها على بيئة إقليمية مستقرة إلى حد کبير؛ فأي مشروع إقليمي لا يمکن أن يکتب له النجاح في ظل بيئة إقليمية تموج بالفوضى وعدم الاستقرار. وقد تحولت البيئة المثالية التي قامت عليها الرؤى والتصورات الترکية إلى بيئة مقاومة للدور الترکي إذ اندلعت ثورات الربيع العربي التي زعزعت الوضع الإقليمي القائم وقوضت التوازنات الاستراتيجية التي بنت عليها سياستها الخارجية قبيل اندلاع هذه الثورات.

وقد حاولت ترکيا أن تتمتع بقدر کبير من المرونة التي تمکنها من التأقلم مع التغيرات التي طالت المنطقة باعتبار أن نموذجها الفريد قادرا على التأقلم مع کافة المعطيات، إلا أن ذلک لم يجنبها الوقوع بين شقي رحى بين دعم الثوار الذي بدا أنهم في طريقهم لنيل مطالبهم مما سيکلفها خسارة شرکائها الإقليميين وبين الانحياز للأنظمة المطالب بإسقاطها مما قد ينتج عنه تشويه صورة ترکيا التي رسمتها عبر سنوات مضت. واختارت تأييد بعض هذه الثورات ولکن في سياق حذر ومسارات منفصلة. ولم تکتفي ترکيا بذلک بل رأت أن قدرتها تسمح لها بلعب دور أکبر من مجرد التأقلم أو التأييد، بحيث اتجهت إلى الدفع باتجاه هذا التغيير في بعض الدول العربية مثل سوريا وليبيا مما عاد وبالا عليها بعد أن تحولت المنطقة إلى فوضى عارمة يصعب في وجودها تحقيق الأهداف الاستراتيجية لترکيا( ).

وجدير بالذکر أن طبيعة المنطقة بانقساماتها الطائفية مثلت قيدا إضافيا على فاعلية الدور الترکي فأي انحياز ترکي لطرف على حساب الطرف الآخر بات يوقعها في مأزق ويضر بصورتها التي طالما حاولت تصديرها بتجاوزها للانقسامات الطائفية مثلما حدث بتقاربها مع السعودية وقطر الذي أظهرها بصورة الموالي للمعسکر السني في مقابل المعسکر الشيعي. وربما يعود هذا القدر من التشابک والتعقيد إلى طبيعة النظام الشرق أوسطي الذي يتميز بدرجة عالية من الترابط بين الدول التي يتشکل منها ولذلک فأي نزاع لترکيا مع دولة قد يؤثر على علاقتها بدول مجاورة، وقد عانت ترکيا بالفعل من هذا الترابط فوقوف أنقرة ضد النظام السوري على سبيل المثال أدى لتدهور علاقاتها بجيران آخرين في المنطقة کالحکومة المرکزية في بغداد وبجماعات کالطائفة الشيعية في لبنان المرتبطة بالنظام السوري لأسباب استراتيجية وطائفية، کما تدهورت العلاقة بين ترکيا وإيران وبدا کأنهما دخلا صراع مفتوح کل منهما يحاول الهيمنة فيه على الشرق الأوسط( ).

ب‌- تحدي الموائمة بين استقرار الداخل الترکي ودفع ثمن المکانة الإقليمية:

في خضم انشغال ترکيا بإثبات قوتها وتأثيرها في الجوار الإقليمي تمدد النزاع الإقليمي للداخل الترکي رويدا رويدا. فالأزمة السورية خلفت عواقب ليست هينة على الوضع الداخلي في ترکيا، حيث بات النظام الترکي أکتر استبدادا وإمساکا بمفاصل السلطة، وبات سلوکه وتعاملاته مع مواطنيه يصب في هذا الاتجاه. واستعادت الحکومة الترکية المنطق الأمني في التعامل مع الداخل والخارج ولم يعد مستغربا استخدامها للقوة الصلبة بعد عقود من التخلي عنها) (. کما أن الصراع الذي اتخذ منحى طائفي في سوريا بدأ ينعکس على المجتمع الترکي الذي علت فيه الأصوات بالانتماءات الدينية والعرقية، کما تظل مشکلة اللاجئين السوريين في مقدمة المشکلات التي تواجهها ترکيا على إثر الأزمة السورية إذ تدفق أکثر من ثلاث ملايين لاجئ للأراضي الترکية ورغم أن الحکومة الترکية حاولت تقنين هذه المشکلة بأن أقامت مخيمات لهم على الحدود إلا أن هذا لم يمنع من التدفقات التي حدثت على المدن الکبرى الترکية والتي شکلت مصدر توتر مع السکان الأصليين. أضف إلى ذلک النتائج الاقتصادية الناجمة عن تدهور المبادلات التجارية مع الجار السوري بعد تعليق اتفاقية التجارة الحرة بينهما وتوقف بعض المشروعات الاقتصادية کمشروع توسيع خط أنابيب الغاز إلى ترکيا ناهيک عن تکلفة صيانة المخيمات السورية واستيعاب الأيدي العاملة فضلا عن تأثير ذلک على حرکة الصادرات الترکية لدول الخليج التي کانت تتم عبر الأراضي السورية. وهو أمر يؤکد أن السياسات الدنيا الاقتصادية غالبا ما تتراجع للخلف إذا ما واجهت السياسات العليا الأمنية أية تحديات.

إلا أنه تظل أکبر مشکلة واجهت الداخل الترکي من جراء الأزمة السورية هي الخوف من تفاقم المشکلة الکردية وخاصة مع أزمة کوباني التي تعرض فيها الأکراد السوريين للهجوم من قبل قوات داعش مما أحرج ترکيا حيث وقفت عاجزة عن مساعدة الأکراد خوفا من تنامي الشعور بالاستقلالية لدى أکراد ترکيا وفي نفس الوقت جازفت بتشويه صورتها باعتبارها موافقة ضمنيا على ما يحدث للأکراد فيها وهو الأمر الذي أثر على الوضع الديمقراطي الداخلي وخاصة بعد أن أعلن الأکراد استيائهم من سياسة دولتهم وحکومتها التي اعتبروها سلبية في التعامل مع هذه القضية.

أضف إلى ذلک أن الداخل الترکي قد بدأ يعج بمشاکله الخاصة حيث دخلت الدولة في سلسلة من الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تنم عن تفاعلات غير متوازنة في الداخل الترکي، بدأت مع سلسلة الإصلاحات السياسية التي روج لها أردوغان من أجل مصلحة البلاد کتحويل النظام السياسي من نظام برلماني إلى نظام شبه رئاسي بتعديلات دستورية إلى نظام رئاسي بدأ العمل به بعد الاستفتاء الشعبي عام 2018، ولا يزال يواجه تحديات وانتقادات عديدة فقد وضع جميع أجهزة الحکومة تحت سيطرة شخص واحد، مما تسبب في إضعاف المؤسسات الترکية -من وزارة الخارجية إلى السلطة القضائية- بعد أن تحولت إلى المرکزية المفرطة في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالدولة داخليا وخارجيا ونقلتها إلى مقر أردوغان في أنقرة. في نفس الوقت الذي قام فيه الحزب الحاکم بتفکيک قلاع العلمانية الترکية الواحدة تلو الأخرى، وبسط سيطرته عليها بدءا بالإعلام، ومرورا بالقضاء والمؤسسات التعليمية وانتهاء بالمؤسسة العسکرية، التي تلقت صفعة قوية على إثر الانقلاب العسکري الذي حدث في ترکيا 2016 ودفع ثمنه الجيش الترکي في واقعة أدت إلى تثبيت رکائز الحزب وإلى تقليص دور المؤسسة العسکرية وإلى هيمنة کاملة لأردوغان على الحکم. وهو الأمر الذي تسبب في انفجار موجة من الانتقادات الموجهة لأردوغان وخاصة مع انتهاجه لسياسة تصفية الخصوم التي باتت واضحة مع رد فعله على الانقلاب العسکري فبات في حاجة إلى نجاحات خارجية تشرعن سلطته من جديد( ).

ترافق ذلک مع أفول نجم المعجزة الاقتصادية الترکية، حيث انخفضت معدلات النمو وتأثرت العملة الوطنية سلبا، والتي فقدت نحو ثلث قيمتها منذ العام 2018، فضلاً عن العجز المتنامي في الميزان التجاري، والذي وصل في أغسطس 2020 إلى 4,631 مليار دولار. وترکيا حالياً من الدول الـست الأکثر ديوناً في العالم، إذ وصل دينها الخارجي إلى نحو 431 مليار دولار في نهاية مارس 2020. والأهم أن حجم الدخل الوطني المقدر بنحو 800 مليار دولار أخذ يتَعرَّض للتراجع، بحيث أصبحت قيمته قرابة النصف حسب قيمة العملة الترکية، وهو مسار خطر قد يُفضي إلى خروج ترکيا من مجموعة الدول العشرين ولم يعد الأمل بالانتقال من نادي الدول المدينة إلى نادي الدول المانحة حلما يراد العدالة والتنمية الذي يجد نفسه مرغما على العودة إلى موائد صندوق النقد الدولي کل ذلک مثل مؤشرا على أزمة ترکية داخلية تنذر بانفجار الأوضاع على المدى البعيد.

ت‌- تحدي حدود القوة الذاتية “معضلة عجز القوة” وصعوبة الخروج الآمن:

کشف التعاطي الترکي مع منطقة الشرق الأوسط عن معضلة أطلق عليها البعض “معضلة عجز القوة” التي تشير إلى حدوث فجوة بين قوة الدولة وطموحاتها ومحدودية امکانياتها ومواردها التي تحول دون تحقيق هذه الطموحات، وقد أطلق عليها برتران بديع “فخ تخطي القدرات الذاتية” والذي يشير إلى قيام بعض الدول برسم صورة لها قائمة على کونها أصبحت في مصاف الدول الکبرى أو الإقليمية ذات التأثير والنفوذ إلا أن واقع الأمر أن هذه الدول لا تمتلک القدرات ولا الموارد التي تمکنها من القيام بالأدوار التي أعلنت عنها وبذلک تقع هذه الدول في فخ تخطي قدراتها الذاتية( ).

وينطبق هذا التحليل بدرجة أو بأخرى على ترکيا التي أظهرت کثير من الأحداث وقوعها في فخ الفجوة بين المکانة المقدرة للدولة والقدرات الفعلية التي تمتلکها، وهو الأمر الذي دفع بعض الخبراء لترجيح إمکانية تعرُّضها لخطر “الاستنزاف” طبقاً لنظرية المؤرخ البريطاني بول کينيدي حول “التمدُّد الزائد”، والتي عرضها في کتابه الشهير “نشوء وسقوط القوى العظمى” (الصادر في عام 1987)، على النحو الذي حدث سابقاً مع العديد من القوى الکبرى، ومن بينها الدولة العثمانية ذاتها، والتي يحاول أردوغان إعادة إحيائها مرة أخرى، إذ تحوَّلت في آخر أطوارها إلى “رجل أوروبا المريض” قبل سقوطها النهائي عام 1922.

والمؤشرات الدالة على هذا التوجه کثيرة فنجدها على سبيل المثال غير قادرة على حل الأزمة السورية بمفردها رغم علاقتها الوطيدة بالنظام السوري وبدأت تطالب بتدخل دولي في سوريا إما بإنشاء منطقة حظر جوي وإما القيام بعملية عسکرية برية وهو الأمر الذي يؤکد أن هناک حدود لقوة ترکيا الإقليمية دفعتها للجوء لحلفائها التقليديين والعمل تحت مظلة حلف الناتو، وأنها عاجزة عن تقديم حلول إقليمية لجميع مشکلات دول الشرق الأوسط کما کانت تدعي وهو ما يستدعي تدخلا دوليا أکبر لتعقد قضايا الشرق الأوسط وتسارع أحداثها) (.

وتأتي أزمة الرهائن اللبنانيين في أعزاز والتي حدثت عام 2012 لتلقي الضوء على عجز الدبلوماسية الترکية على حل أزمات الشرق الأوسط منفردة حيث تأخرت کثيرا في حل هذه الأزمة إذ نجحت بعد ما يقرب من عام ونصف (17 شهر) من المفاوضات مع الجيش السوري الحر في الإفراج عن الرهائن مقابل فدية کبيرة وقد دفعها صعوبة الموقف إلى مشارکة قطر هذا الإنجاز وهو الأمر الذي أظهر قطر بصورة اللاعب الإقليمي القادر رغم محدودية دورها الحقيقي.

ثم يأتي سقوط الإسلاميين في معظم الدول التي اندلعت فيها الثورات ليؤکد أن التأثير الترکي على هذه المنطقة من العالم ليس بالقوة الکافية التي تجعلها القوة المهيمنة، فعلى الرغم من إمساک الجماعات الإسلامية لمقاليد الحکم في مصر وتونس وغيرهم إلا أن سقوطهم المدوي مثل مؤشرا على أن قدرة ترکيا الخطابية والبلاغية والرمزية ربما تکون أکبر من قدراتها الفعلية فلکي يتم تطبيق النموذج الترکي لابد من صرف مليارات الدولارات لمساعدة هذه الدول في التنمية وفي بناء نظم وطنية ديمقراطية وهو أمر يصعب على القدرات الترکية الوفاء به.

أضف إلى ذلک أن الجبهات المتعددة المفتوحة لترکيا في منطقة الشرق الأوسط تمثل قيدا وتحديا کبيرا أمام ترکيا، فالانخراط المباشر في سوريا وليبيا والعراق والعلاقات غير الودية مع مصر ودول الخليج –عدا قطر- وغيرها تؤکد أن ترکيا قد سقطت فيما أطلق البعض عليه “المستنقع الشرق أوسطي”، وخروج ترکيا من هذا المستنقع ليس بأمر هين حيث يستدعي بناء استراتيجية بديلة للخروج الآمن بأقل الخسائر الممکنة وهو أمر يصعب تحقيقه على المدى القريب في ظل تصاعد الأزمات الناجمة عن التدخل الترکي في المنطقة والتي يأتي في مقدمتها الأزمتين السورية والليبية تحديدا لأن کل منهما مثل انکشافا کبيرا للقوة الترکية، وبقدر ما کانت ترکيا تظن نفسها في موقع القوة وأنها قادرة على التحکم فيما اعتبرتها حديقتها الخلفية راحت تعلق شيئا فشيئا في الشرک السوري الذي دفعها للانزلاق في المياه الراکدة في الشرق الأوسط حتى أن البعض اعتبر التجربة السورية من أسوأ التجارب التي خاضتها ترکيا إذ سرعان ما انقلبت الأوضاع عليها بعد أن أدرکت خطأ سياساتها فيها) (، وبعد أن استخدمت تنظيم داعش لصالحها في صراعها مع الأسد انقلب ضدها وأضرها في کثير من الأحيان؛ ففي يونيو 2014 قام باحتجاز 49 مواطنا ترکيا يعملون في القنصلية الترکية في الموصل، وفي فبراير 2015 حاصرت مجموعة من داعش ضريح سليمان شاه جد عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية الذي يقع في سوريا على بعد 30 کيلومتر من الحدود الترکية. ومع تزايد الهجمات الارهابية التي حدثت في أماکن مختلفة وأودت بحياة المئات من الأتراک أدرکت ترکيا أن تنظيم داعش قد خرج عن السيطرة وبات يهدد الأمن القومي الترکي( ).

کل ذلک يؤکد أن الملف السوري کان له تأثير على طموحات ترکيا الإقليمية والعالمية فطريقة معالجة ترکيا للوضع في سوريا أضر بسمعتها في الخارج وخاصة بعد تباطأت في المشارکة بفاعلية في التحالف الدولي ضد داعش في سوريا مما دفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لاتهامها بأنها ظهير للجهاديين. أضف إلى ذلک ما سببه اتفاق اللاجئين الذي وقع بين أنقرة وبروکسل عام 2016 من تشويه لصورة ترکيا بعد أن ظهر للعالم أن المبادئ الأخلاقية والإنسانية التي تنادي بها ترکيا يسهل التخلي عنها أمام المصلحة الخاصة( )، وهو الأمر الذي أحرجها على المستوى الدولي وجعل خروجها الآمن من سوريا أمر يصعب تحقيقه في ظل التکلفة الباهظة التي تم دفعها وهي تکلفة ليست اقتصادية وعسکرية فحسب وإنما سياسية وإنسانية أيضا.

وما ينطبق على سوريا ينطبق بصورة أو بأخرى على ليبيا التي انخرطت فيها ترکيا بشکل يجعل خروجها منها منهزمة أمرا يصعب تصوره في ظل ضغوط داخلية واستعداءات خارجية، وهو ما قد يدفعها لمزيد من الانغماس سعيا نحو إيجاد مخرج يحفظ ماء وجهها دوليا. ورغم أن المنطقي أنه کلما زادت التکلفة زادت احتمالات التراجع عن السياسة الانخراطية المتبعة إلا أنه أحيانا يؤدي ارتفاع التکلفة إلى مزيد من الانخراط لصعوبة الخروج بصورة سلبية يصبح اللون الرئيسي فيها هو لون الإخفاق أو الفشل.

ث‌- وهم الاستقلال الشکلي عن التأثيرات الدولية:

لا يمکن تفسير عجز ترکيا عن تحقيق رؤيتها في الشرق الأوسط بعيدا عن بنية النظام الدولي الذي تتحرک من خلاله، حيث اعتمدت ترکيا على رؤية تعددية للنظام الدولي بعد أن تصورت انتهاء عصر الأحادية القطبية بلا رجعة وهو الأمر الذي دفع لأردوغان لتوظيف التنافس الروسي- الأميرکي (الأطلسي) على أنقرة، مما رفع من قيمة مختلف الأوراق التي يمتلکها، وجعلته قادرا على المرواغة والمناورة بين الکرملين والبيت الأبيض. أضف إلى ذلک التقارب الترکي الروسي الذي قدم ميزة لکل من الطرفين ورغم ما سببه ذلک من تدهور في العلاقات بين ترکيا والولايات المتحدة إلا أن هذه العلاقات استمرت في التصاعد وخاصة مع قيام کلا الطرفين باتباع استراتيجية الفصل بين الملفات. هذا بالإضافة لبروز الشرق الأوراسي کمنافس محتمل للغرب قادر على جذب قوى دولية نحوه ومنها ترکيا التي يتوقع حدوث تحوّل جديد في توجهاتها الکبرى الخارجية باتجاه الشرق الأوراسي وفي مقدمتهم الصين وروسيا( ).

کل ذلک جعل ترکيا تتفاءل بالنظام الدولي الذي يشهد تراجعا للقوة الأمريکية وغذى لديها آمالا کبيرة بالقدرة على التصرف بشکل مستقل نسبيا وربما بالتأثير في اللعبة الدولية. إلا أن الواقع الدولي أثبت أن ظلال الأحادية القطبية لا تزال تخيم على الواقع الدولي فلا تزال القوى العظمى مهيمنة وليس أدل على ذلک من تحجيم الدور الذي قامت به ترکيا بالاشتراک مع البرازيل في توقيع اتفاق مع طهران فيما يتعلق بالقضية النووية وهو ما يعد نجاحا دبلوماسيا يضاف إلى رصيد ترکيا وإلى دورها کفاعل إقليمي وبالرغم من ذلک قامت مجموعة الدول الخمسة الکبار بتحجيم ما توصلوا إليه من خلال رفضهم الاعتراف بالاتفاق والتصويت في الأمم المتحدة على حزمة جديدة من العقوبات ضد إيران. وهنا أدرکت ترکيا أن الاستقلالية التي تتمتع بها هي أقل مما کانت تعتقد وأن القوى العظمى لا تزال تمسک بخيوط اللعبة الدولية.

أضف إلى ذلک تدهور علاقتها بروسيا على إثر تعارض مصالحهما في سوريا، فأصبحت بين شقي رحى ما بين علاقات متوترة مع روسيا وأخرى متدهورة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتکتشف أن البيئة الدولية التي کانت مدعمة لطموحاتها الإقليمية باتت تتخذ مواقف ناقدة لها وحتى عندما تسمح لها بتوسيع حدود دورها في الإقليم فهي لا تسمح بذلک في المطلق وإنما ترسم حدودا لهذا الدور وتحتفظ بقدرتها على تحجيمه في أية لحظة إذا توافقت مصالح القوى الکبرى على ذلک( ).

ج‌- ازدحام المجال الاقليمي وبروز تحالفات إقليمية لاحتواء التمدُّد الترکي:

لا يخفى عن الکثيرين صعوبة وتعقيد منطقة الشرق الأوسط للدرجة التي تجعل قوة واحدة مهيمنة ومسيطرة هو شکل من أشکال التفاؤل المبالغ فيه، فالمنطقة مليئة بالقوى الطامحة للعب دور إقليمي وقد کشفت الأزمات التي مرت بها المنطقة عن حجم التنافس بين ترکيا وبين دول أخرى مثل السعودية وقطر وإيران ومصر وکلها دول تطمح لقيادة الشرق الأوسط مما يدل على أن المجال الإقليمي يتسم بالتنافس الشديد بين ترکيا وبين قوى أخرى تطمح لقيادة النظام.

 وعلى الرغم من أن المنطقة قد تعرضت لهزة شديدة على إثر اندلاع ثورات الربيع العربي حيث تغيرت معادلات القوة وحدث فراغ قيادي في الإقليم وأصبح المجال مفتوحا أکثر أمام ترکيا لانتهاز فرصة للقيام بهذا الدور إلا أن محاولات ترکيا الدؤوبة للوصول إلى قمة الهرم الإقليمي لا يعني سماح القوى الأخرى لها باتخاذ موضع القيادة، حيث واجهت ترکيا مقاومة من کثير من الأطراف الإقليمية والدولية لتظهر في صورة اللاعب الإقليمي المهم دون أن تکون الأوحد) (، وقد تأکد هذا المعنى بصورة أکبر مع محاولات بعض الدول التي شهدت ثورات لاستعادة قوتها الذاتية ودورها الإقليمي ويأتي في مقدمتها مصر التي تصدرت شعارات “العودة للمکانة التقليدية” و”نهاية التبعية” توجهات الرئيس السيسي تجاه الدور الخارجي لمصر في ظل التحولات الإقليمية المتلاحقة التي تمثل في جانب منها خطورة على الأمن القومي المصري، وهو الأمر الذي جعلها تدخل في مواجهات مع ترکيا تحاول التصدي لها خلالها، ولم تقتصر هذه المواجهات على مصر فقط فنهْج ترکيا المتشدد وسياستها الخارجية المشتبکة مع الجغرافيا السياسية أدى إلى ظهور تعارضات وصدامات مع معظم اللاعبين الإقليميين الأساسيين، وخلق منافسة إقليمية جديدة في کلٍّ من شرق البحر المتوسط ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأصبح هناک شبه اتفاق غير مکتوب بين دول الإقليم وبعض الدول الأوروبية الرئيسة على الوقوف صفاً واحداً ضد أطماع الرئيس أردوغان وسياساته الجامحة.

في هذا السياق کثَّفت مصر واليونان وقبرص وإسرائيل التعاون الاستراتيجي في العديد من المبادرات، لاسيما استخراج احتياطيات الغاز في شرق البحر المتوسط والإعلان عن منتدى غاز شرق المتوسط، وتم تهميش أنقرة وتجاهلها تماما في هذه العملية. ومن جانبها، قدمت فرنسا الدعم لمبادرة شرق البحر المتوسط للطاقة، کما أن دولة الإمارات قدمت دعماً ضمنيَّاً لهذا المسعى. ورأى رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي، يوسي کوهين، أثناء اجتماعه مع نظرائه في مصر والسعودية والإمارات، أن القوة الإيرانية تعد هشة، معتبراً أن التهديد الحقيقي يأتي من ترکيا.

وعززت الولايات المتحدة مؤخراً قواعدها العسکرية في اليونان، ودعت مراراً ترکيا إلى ضبط النفس بشأن نزاعاتها البحرية مع اليونان، مُلوحةً بالتدخل في التوترات في شرق البحر المتوسط، على نحو لن يُرضي السياسة الترکية. وبعد اندلاع الصراع في إقليم ناغورني قره باغ بين أذربيجان (المدعومة ترکيا) وأرمينيا، شهدت ترکيا تقارباً سريعاً بين الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا هدفه کبح الدعم الترکي القوي لأذربيجان، بما في ذلک تعهُّدات المساعدة العسکرية.

المنظومة البنيوية للتوجه الترکي للهيمنة الإقليمية والصعود الدولي (شکل 1)

( منظومة النهوض والعودة الترکية)

خاتمة:

تعرضنا في السطور السابقة لأهم ملامح وأبعاد المنظومة الترکية للنهوض والعودة، بما في ذلک بنيتها الفکرية وأدواتها وعوامل تحفيزها، وقد اتضح أن هذه المنظومة تعرضت لکثير من الإخفاقات ولا تزال تواجه تحديات جعلت ترکيا أمام إحدى ثلاث خيارات: الأول أن تستمر في أداء الدور الذي صاغته منذ عام 2002 بمختلف أدواته واستراتيجياته، بالرغم من عظم التکلفة التي باتت واضحة في الآونة الأخيرة، وهو خيار مطروح لکن يتوقف مدى تبنيه أو تجنبه على حسب إدراک ترکيا لعمق خسارتها وقدرتها على دفع الثمن إذا ما أصرت على استکمال دورها وتنفيذ منظومتها، وأما الخيار الثاني فهو الخيار المعاکس والذي ينطوي على التخلي عن الدور تماما وهو أمر لا يمکن تصوره في ضوء الفکر والممارسات الترکية الماضية والحالية، أما الخيار الثالث وهو السيناريو الأقرب للتوقع فهو التراجع المؤقت لإعادة تعريف الدور وأدواته من خلال هدنة ترتب فيها بعض أوراقها وتستجمع فيها مزيد من القوة الداخلية لکي تستطيع التغلب على التحديات المتصاعدة التي باتت تواجهها بشکل متکرر، وهذا يؤکد أن ترکيا لا يُتوقع لها أن تتنازل عن الأساس الفکري لمنظومتها إذ أنها تمثل جوهر الفکر الترکي العثماني، کما أن تطلعاتها لمزيد من القوة والمکانة والنفوذ على المستويين الإقليمي والدولي لن يتغير إنما يمکن أن يلقي بظلاله على الأدوات المستخدمة.

وبالرغم من أن التمدد الترکي الزائد في المنطقة يعکس طموحا استراتيجيا مشروعا على المستوى البراجماتي إلا أن رکائز هذا المشروع لا تتوازى مع حجم الطموح الترکي، وهو الأمر الذي قد يضطرها لإعادة النظر في حدود طموحها الإقليمي باتجاه تقليصه لتتوازى المکاسب المحتملة مع المخاطر المؤکدة، وربما لهذا السبب بدأت ترکيا في اتباع سياسة التقاط الأنفاس عوضا عن مزيد من الاشتباک الإقليمي إذ باتت أکثر وعيا وادراکا لمدى صعوبة الصراعات الإقليمية التي انخرطت فيها ومدى غلو الثمن الذي عليها أن تدفعه للخروج منها بشکل لائق لأن الخروج بشکل مهين هو أمر غير وارد في الحسابات الترکية وخاصة مع عظم المبالغ التي تم دفعها في هذا السياق والتي أدت بصورة غير مباشرة إلى تأليب الرأي العام الداخلي ضد قادتها وإلى زيادة مساحة تأثير الداخل على الخارج. ومن ثم فمن المتوقع أن تتبع ترکيا نوعا من التهدئة التکتيکية لاستيعاب الضغوط الواقعة عليها سواء من الداخل أو الخارج لکنها سرعان ما ستعود إلى تحقيق أهدافها العليا وبنيتها الفکرية التي أسست عليها منظومتها للنهوض والعودة.

إن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن ترکيا فشلت کقوى إقليمية صاعدة ولکن يعني أنها استطاعت أن تستغل سياق إقليمي مواتي لإثبات قوتها ولکن بمجرد تغير هذا السياق بات الأمر أصعب مما تتخيل، فلم تستطع أن تعيد هيکلة المنطقة کما أرادت لتحدث فجوة بين تصوراتها وطموحاتها لتحقيق مکانة وبين قدرتها الفعلية وامتلاکها لأدوات تحقيق هذه المکانة على أرض الواقع. وعلى الرغم من صعوبة اعتراف ترکيا بالأخطاء التي ارتکبتها في سياساتها الخارجية إلا أن تحليل مسار الأحداث يفضي إلى نتيجة مؤداها أن ترکيا باتت تتبع سياسة الحد من الخسائر عن وعي وإدراک وخاصة بعد أن تعرضت لشکل من أشکال العزلة الإقليمية والتي حاولت أن تجد لها مسمى إيجابي فأطلقت عليها “العزلة الثمينة” إلا أنها في واقع الأمر کانت تجسيد لإخفاقات القوة الصاعدة في محيطها الإقليمي.

هوامش الدراسة

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى