...
دراسات قانونية

التوزيع الوظيفي للسلطات

قال جل شأنه (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) الشورى، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير ، محمد وآله وصحابته، ومن دعى بدعوته واستن بهديه إلى يوم الدين.

تتطلع الأنظمة السياسية إلى تحقيق أهداف محددة، وبمسميات قد تختلف من دولة إلى أخرى، لكنها لا تخرج عن تكونها من ثلاثة سلطات رئيسة (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، والمقصود بالتوزيع الوظيفي هنا هو تحديد وتقسيم العلاقة بين هذه السلطات الثلات فى الحكومة الواحدة.

هل هى علاقة فصل شبه كامل كما هو الحال فى الولايات المتحدة، أم هى علاقة إنصهار واندماج كما هو الحال فى بريطانيا، أم هى علاقة مختلطة كما هو الحال فى فرنسا وروسيا، وبالمثال تتضح الرؤية وتتجلى المفاهيم والمعاني، وسنستعرض هنا لأهم أنواع أنظمة الحكم السائدة في عالمنا اليوم:

1- النظام البرلماني.   2- النظام شبه الرئاسي.  3- النظام الرئاسي.

(أولاً) – النظام البرلماني:

يقوم النظام البرلمانى على مبدئين أساسيين هما: (1) مبدأ إندماج السلطات وليس الفصل بينها، (2) مبدأ إختصاص البرلمان بصلاحيات صنع القرارات وتنفيذها، وبهذا يعتبر البرلمان أعلى سلطة في الدولة، فهو الذي يقترح القوانين، وله الحق في رفضها وتعديلها وإلغائها، ولذلك كانت أهم سماته هي إمكانية عزل البرلمان لرئيس السلطة التنفيذية من منصبه ، إذا لم يقم بواجبه المكلف به دستورياً.

تتشكل أغلب البرلمانات من مجلسين (الأعلى والأسفل، الشعب والولايات، النواب والشيوخ)، وقد جرت العادة بأن ينتخب أحدها ويعين الآخر، والرسم التوضيحى يبين العلاقة بين السلطات الثلاثة فى النظام البرلماني:

فى هذا النظام يقوم الشعب بانتخاب أعضاء البرلمان فقط، وهؤلاء بدورهم يقومون باختيار رئيس الوزراء والحكومة من بينهم وليس من خارجهم، وفى حالة عدم حصول أى حزب (أو كتلة سياسية) فى البرلمان على الأغلبية، تتشكل الحكومة من إئتلاف مجموعة من الأحزاب فى البرلمان، وفى هذا النظام يحق لحزب أو لأحزاب المعارضة، أن تطلب بنصاب قانوني سحب الثقة من الحكومة، متى اعتقدت أن أغلبية أعضاء البرلمان لا يتفقون مع سياساتها.

مزايا النظام البرلماني:

(1) على الرغم من صلاحية رئيس الوزراء في اختيار مجلس الوزراء، إلا أنه متساوي في الدرجة مع أي وزير، ولهذا يطلق عليه ” الوزير الأول “، وهو بهذا التساوي يعتبر مجرد الناطق الرسمى، وليس له إملاء أو فرض سياساته على فريق الوزراء.

(2) رئيس الوزراء وفريق الوزراء يلتزمون بمبدأ “المسؤولية التضامنية”، بمعنى أن أي مشروع يقترحه رئيس الوزراء، لابد أولاً أن يوافق عليه مجلس الوزراء، وعند اعتماده لا يحق لأي وزير الاعتراض عليه إلا بالاستقالة من الحكومة.

(3) رئيس الوزراء وفريق الوزراء مسؤولين أمام البرلمان ويخصص وقت في كل أسبوع لمناقشة وتوجيه الأسئلة للحكومة.

(4) الملك أو الرئيس يقومان بوظائف الرئاسة فقط، فالملك يملك ولا يحكم كما هو الحال فى بريطانيا وأسبانيا، والرئيس يرأس ولا يحكم كما هو الحال فى الهند وألمانيا، وبهذا فيجب أن يلتزما حدود الحياد.

(5) يحق البرلمان عزل رئيس الوزراء بسحب الثقة عنه، والشروع في تشكيل حكومة جديدة، وفي ألمانيا يشترط قبل القيام بسحب الثقة أن يكون البرلمان قد حدد البديل أولاً.

(6) المحكمة العليا هي عبارة عن اللجنة القضائية فى مجلس الشيوخ، الأمر الذي يعني أن المرجعية القضائية هي مرجعية تنفيذية، وأن البرلمان هو أعلى سلطة فى البلد.

(7) يتسم بأنه الأكثر مرونة واستجابة في اتخاذ القرارات من النظام الرئاسي.

(8) يشجع ويحتضن وجود حوار ونقاش جاد بين كل القوى السياسية حول القضايا الرئيسية التى تواجه البلاد.

عيوب النظام البرلماني:

(1) غياب الفصل بين السلطات، الأمر الذي يقود إلى استغلال السلطة والاستبداد بها، خصوصاً فى الدول التي يقل فيها تأثير مؤسسات المجتمع المدني، ووعي الشعوب بحقوقها، وبحدود صلاحيات الدولة وأنظمتها.

(2) يحق لرئيس الوزراء البقاء في منصبه طالما أنه يمتلك ثقة الأغلبية البرلمانية، ويحق له الدعوة لانتخابات جديدة كلما لاحت له المصلحة في ذلك ، خصوصاً عندما يشعر بأن الشعب يؤيد سياساته، ويترتب على هذه الصلاحية عدم ثبات موعد الانتخابات، وهو الذي قامت به مارغريت تتاشر عام 1983، عندما استثمرت انتصارها على الأرجنتين في حرب الفوكلاند، وكانت نتيجة تلك الانتخابات أن زادت نسبة مقاعد حزب المحافظين فى البرلمان من 53% الى 61%.

(3) لا رئيس الجمهورية ولا رئيس الوزراء، يتم اختيارهما من قبل الشعب، الأمر الذي يعني صعوبة أن تتم محاسبتهما عن طريق الشعب إلا من خلال ممثليه في البرلمان.

(ثانياً) – النظام شبه الرئاسي:

وهو الخليط الذي يعرف بالنظام الرئاسى البرلمانى، وفيه يكون رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء شريكان فى تسيير شؤون الدولة، حيث تتوزع السلطات بين الرئيس المنتخب، وبين رئيس الوزراء المسؤول أمام البرلمان.

توزيع السلطات هنا يختلف من بلد إلى اّخر، كما يختلف هذا النظام عن النظام البرلمانى فى أن رئيس الجمهورية يتم اختياره مباشرةً من قبل الشعب، بينما يختلف عن النظام الرئاسي فى أن رئيس الوزراء مسؤول أمام البرلمان الذي يملك صلاحية محاسبته وعزله بنصاب قانوني.

وهو نموذج الحكم المطبق في فرنسا منذ عام 1958 (الجمهورية الخامسة)، عندما اقترح الرئيس ديغول نظام يقوم فيه الرئيس بمشاركة البرلمان فى الحكم، حيث يقوم رئيس الجمهورية بإدارة الشؤون الخارجية للدولة، بينما يتولى رئيس الوزراء إدارة الشؤون الداخلية للبلاد، والرسم التوضيحى يبين العلاقة بين السلطات الثلاثة في النظام شبه الرئاسي:

فى هذا النظام يقوم رئيس الجمهورية بتعيين رئيس الوزراء بعد موافقة البرلمان عليه، ثم يقوم رئيس الوزراء باختيار الوزراء بالتنسيق والتشاور مع رئيس الجمهورية، وفى هذا النظام لا يشترط أن يكون الوزير عضواً فى البرلمان، فقد يكون من خارجه.

مزايا النظام شبه الرئاسي:

(1) للحكومة الحق في إصدار قرارات لها قوة القانون، بشرط أخذ موافقة رئيس الجمهورية عليها.

(2) للحكومة الحق في اقتراح القضايا التى يجب مناقشتها فى البرلمان، ولها أن تشترط أن تتم المناقشة بلا تعديل أو إضافة، أو أن يتم التصويت عليها بنعم أو لا.

(3) يحق لرئيس الجمهورية حل البرلمان، والدعوة لانتخابات جديدة مبكرة بشرط ألا يسئ استخدام هذا الحق، بحيث لا يحق له أن يدعو لإعادة الانتخابات أكثر من مرة واحدة في السنة.

(4) يحق للبرلمان فصل رئيس الوزراء أو أي وزير بسحب الثقة عنه.

(5) لرئيس الجمهورية الحق فى فرض قانون الطوارئ.

(6) لرئيس الجمهورية الحق فى استفتاء الشعب فى القضايا الهامة، وتأخذ النتائج قوة القانون فى الدولة.

(7) تكون المرجعية الدستورية فى يد المجلس الدستورى، ويتكون في فرنسا من تسعة قضاة لمدة تسعة أعوام، بحيث يختار رئيس الجمهورية ثلاثة قضاة، ويختار رئيس مجلس الشعب ثلاثة آخرين، ويختار رئيس مجلس الشيوخ الثلاثة الباقين أما في إيران فيتم اختيار أعضاء المجلس الدستورى عن طريق الانتخابات العامة من الفقهاء والخبراء الدستوريين.

عيوب النظام شبه الرئاسي:

(1) في حال اختيار الرئيس من اتجاه فكري يتعارض مع خط رئيس الوزراء، تتصادم المصالح وتتعثر الخطى وتتوالى الأزمات وتختلط الأمور.. وهو مايسمى بمشكلة التعايش المزدوج، ومثالها الفرنسي عام 1986، عندما وقع الاختيار على ميتيران الإشتراكي رئيساً، ثم فرضت عليه الجمعية العمومية أن يكون شيراك اليميني الراسمالي رئيساً للوزراء.

(2) إمكانية إساءة استخدام الرئيس لصلاحيات إعلان قانون الطوارئ، ومثاله المصري تجسد في إصرار الطاغية مبارك، على تفعيل هذا القانون مذ توليه السلطة سنة 1980 إلى أن أطيح به غير ماسوفاً عليه..!!

(3) إمكانية إساءة استخدام الرئيس لحقه في استفتاء الشعب، كما هو سائد اليوم فى كثير من الدول ذات النظام شبه الرئاسي.

(ثالثاً) – النظام الرئاسي:

ويقوم هذا النظام على أساس الانتخاب الشعبي المباشر لرئيس الجمهورية والمجلس التشريعي ، ويفترض أن كل منهما يراقب الآخر، حيث تناط بالرئيس مسؤولية السلطة التنفيذية، ويتحمل كل مايدور وينتج عن إدارته، والرسم التوضيحى يبين العلاقة بين السلطات الثلاثة في النظام الرئاسي:

في هذا النظام ينتخب الشعب الرئيس والبرلمان مباشرةً، ويقوم الرئيس بتعيين الوزراء ويترأس مجلسهم ويتحمل مسؤلية السلطة التنفيذية، ويرشح القضاة بشرط موافقة غرفتي البرلمان على الترشيحات، وفيه يختص البرلمان بمهمة إصدار القوانين والتشريعات، وبهذا يتحقق الفصل الكامل بين السلطات، ويستكمل بتفعيل مبدأ المراقبة والتوازن ، من خلال إعطاء الأدوات السياسية لمراقبة وتعقب السلطات الثلاثة لبعضها، فيشترط موافقة الرئيس لكل قرار يعتمده البرلمان ليصبح قانوناً نافذاً، وللرئيس حق رفض أو نقد أي قرار لا يتفق مع سياساته، وفى حالة رفض الرئيس يحق للبرلمان إلغاء اعتراض الرئيس بموافقة ثلثي الأعضاء، أما إذا تم تمرير قرار البرلمان فيحق للرئيس أو أي مواطن آخر ، الرجوع الى المؤسسات القضائية لتحديد مدى دستورية هذا القانون.

مزايا النظام الرئاسي:

(1) رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة والحكومة في آن واحد، ويتم انتخابه مباشرة من قبل الشعب، وعليه فلا توجد علاقة رسمية مباشرة بينه وبين البرلمان، ولا يعتمد على رضى البرلمان في اتخاذ قراراته.

(2) هو أكثر الأنظمة استقراراً بالنظر إلى ثبات موعد الانتخابات بقانون، فرئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان يتم انتخابهم لفترات زمنية ثابتة، وبعض المناصب يحدد القانون مدة البقاء فيها، ومثالها في التعديل 22 للدستور الأمريكي عام 1951، حيث تم تحديد فترة الرئاسة بفترتين كل واحدة منهما أربعة سنوات.

(3) يختار الرئيس الوزراء لمساعدته في تنفيذ سياساته، ولا يجوز الجمع بين عضوية البرلمان والمنصب الوزاري أو أي منصب وظيفي في الحكومة أو خارجها.
(4) ضمانة الفصل بين السلطات وتحقيق التوازن والمراقبة بينها، ممكنة وسهلة، وواضحة ومؤكدة.

عيوب النظام الرئاسي:

(1) في حال تعارض برامج السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ، فإنه يقود إلى التصادم، ومثاله الأمريكي عام 1955، عندما تعارضت سياسات الرئيس الديمقراطي وليم كلنتون مع الجمهوريين المسيطرين على الكونغرس، مما نتج عنه تعطيل العمل فى المؤسسات الفيدرالية لعدة أيام، نتجت عنها خسائر عُدت بمئات المليارات.

(2) عند تصادم الإرادات ، يصعب الوصول إلى حلول وسط، وذلك لغياب الآليات الدستورية عدا الانتخابات التي حدد القانون موعدها، ولهذا يستحيل العودة إلى الشعب قبل حلول أوانها.
(3) بسبب الفصل بين السلطات، يصعب تحميل المسؤولية لطرف دون الآخر، وعند التصادم تغلب على المشهد السياسي لغة تبادل الاتهامات والملامة.

الترجيح والاختيار الأنسب:

يعتري الاختيارات الإنسانية ما يعتري البشر من مركبات القصور والجهل والنقص والغفلة والسهو والنسيان واتباع الهوى.. فلا يوجد نظام من كل هذه الأنظمة إلا وله مزاياه وعيوبه، ولابد من الصيرورة إلى ترجيح نظام بعينه وتطعيمه بخصوصية المشهد الليبي، بحيث تكون المؤاءمة والتكييف بقدر حاجات التأسيس، وتحديات البناء التي تعترضنا.

قد يكون النظام الرئاسي هو الذي يحقق لنا الإستقرار والسلام، ويضمن لنا الحرية والعدالة ، مع إضافة بعض الضوابط عليه وذلك لأسباب عديدة لعل أهمها:

(1) لترسخ ثقافة الاستبداد، ولخروجنا للتو من ممارسات سياسية راسخة في الاقصاء والنفي والمصادرة ، فيحسن بنا أن نختار النظام الذي يؤكد ويسهل الفصل شبه الكامل بين السلطات، ويضمن تفعيل مبدأ المراقبة والتوازن.

(2) لغياب مبدأ التداول السلمي على السلطة، ولمعالجة ظاهرة عدم الإيمان بقانون الجاذبية السياسية لدى السياسيين، الأمر الذي يدفع بهم في كل مرة إلى رفض التنحي الطوعي المقنن، إلا بالموت قدراً أو بالعزل قهراً أو بالذبح صبراً..!!

(3) لغياب الثقة بين الحكام والمحكومين، يصعب أن نسلم لأي حاكم بصلاحيات بلا ضمانات وقيود دستورية، ترتكز على دعائم الثقافة والوعي والمسؤولية المجتمعية، في تفعيل آليات الرقابة والضغط والمتابعة، من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وتعميق وعي الشعوب بحقوقها، وبحدود صلاحيات الدولة وأنظمتها.

(4) لحداثة عهدنا بالحرية، فلابد من تبني النظام الرئاسي، وفي أقل تقدير على المدى المنظور، لأجل تأسيس دولة المؤسسات والحريات وسيادة القانون، وأن نتجه قدماً في خطط التنمية والبناء والإعمار.

أيها القارئ الكريم… إن الشكر موصول إلى صاحب الأمتياز في أصل هذه المقالة د. محمد بالروين، فإن حجم الفكرة وإضاءاتها وأهميتها، هو ما دفع إلى إعادة صياغتها وإخراجها.

محمد عمر حسين بعيو

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى