الثورات العربية ومسار حركة التغيير

من اعداد : عمر كوش

1-مسار حركة التغيير:

أعتقد أنه من المبكر الحكم على مسار حركة التغيير التي أحدثتها الثورات العربية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن… ذلك أن مرحلة جديدة من التاريخ بدأت في التشكل، وتحتاج إلى سنوات عديدة للحكم على مسارها، وتحديد مواضع النجاح والإخفاق، لكن ذلك لا يمنع من تبيان، وتلمّس، ما أنجزته الثورات بعد أكثر من عام على إسقاطها الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، وما لم تتمكن من استكماله وتحقيقه، إذ مازالت تحديات وصعوبات كثيرة تعترض طريقها، ولن يكون من السهل الخلاص تماماً التخلص من إرث وتبعات الاستبداد ومواطنه ومركباته.

ويتحكم بممكنات النجاح مدى قدرة حركة التغيير، والقوى الفاعلة فيها، على السير في طريق تحقيق أهداف الثورات، المتمحورة في الوصول إلى دولة مدنية حديثة، ديموقراطية وتعددية، تنهض على التداول السلمي للسلطة، وتسعى إلى تشييد دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان، ينتفي فيها الإقصاء والتهميش ورفض الآخر. إضافة إلى تحقيق تنمية إنسانية، متوازنة ومستدامة،.

ولعل ثورتي تونس ومصر قطعتا شوطاً هاماً في طريق الانتقال الديموقراطي وإعادة بناء وترميم مؤسسات الدولة، مع أن الأشهر الأولى عرفت تجاذبات قوية ما بين القوى الجديدة الصاعدة وبين قوى النظام القديم أو ما يعرف بـ”الفلول”. ولا شك في أنه حين تنجح الثورات الشعبية في إسقاط النظم الديكتاتورية الحاكمة، فإن فترة الانتقال المفاجئ، من حالة القمع ومصادرة الحرّيات السياسيّة والاجتماعية والثقافيّة إلى حالة الحرّيات والانفتاح، تنتج حالة من الفوضى العامة وفقدان التوازن والاستقرار، تعصف بمختلف أركان النظام والدولة، وتطاول حياة المواطنين وأمنهم. ويبرز الانفلات الأمني كسمة واضحة لتلك الفوضى، التي يعمل على إشاعتها وتسعيرها رموز وأركان النظام القديم. وقد نجحت كل من تونس ومصر في تجاوز هذه الحالة إلى حدّ كبير، لكنها ما تزال مؤثرة في بعض المواضع، وخاصة في كل من ليبيا واليمن.

ولأول مرة في التاريخ العربي الحديث صار العالم يتابع باهتمام سير الانتخابات في أكثر من دولة عربية، وينظر في نقاشاتها وحواراتها، ويترقب المهتمون نتائجها. وقد برهنت انتخابات المجلس التأسيسي في تونس، وانتخابات مجلس الشعب في مصر، على سلاسة في عملية الانتقال الديموقراطي، كونها اتسمت باتساع المشاركة الشعبية، وسط مناخ من الحرية والشفافية، مع بعض التجاوزات والثغرات. وعبّرت نتائجها عن الخيار الشعبي، الذي يستحق كل الاحترام والتقدير، لكن فوز أحزاب معينة فيها لا يعني أن الشعب قد منح تفويضاً مطلقاً لقيادتها، ولا يمت فوزها بصلة إلى وجود سياقات أو قناعات إيديولوجية أو دينية مسبقة كانت تحرك الناخبين في كلا البلدين، بل أن ما حركهم للمشاركة بكثافة فيها هو سعيهم لتحقيق إرادتهم، ومساهمتهم في التغيير، ورسم ملامح المرحلة المقبلة.

غير أن نجاح مسار التحول أو التغيير يشير إلى أن قوى الثورة لم تتوقف عن الضغط على القوى الحاكمة في المرحلة الانتقالية، حيث أجبر الرفض الشعبي في تونس على تغيير الحكومة الانتقالية حتى تشكلت الحكومة المنتخبة، فيما عاشت مصر على وقع التجاذبات بين قوى الثورة والمجلس العسكري، ومع ذلك نجحت في إجراء انتخابات رئاسية بين العديد من المرشحين، ومازالت تنتظر تسلم السلطة من المجلس العسكري. وللمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث، والبلاد العربية، جرت مناظرات تلفزيونية ما بين أقوى المرشحين للرئاسة المصرية، بما يعني تشكل ثقافة سياسية جديدة، تقطع من نهج الاستبداد والانفراد بالسلطة. وللمرة الأولى، كذلك، توجه الناخبون المصريون إلى صناديق الاقتراع في 23 مايو / أيار 2012، كي ينتخبوا رئيسهم المقبل، وهم يدركون أن أصواتهم ستصل، وستحسب، وستترك أثراً على مستقبلهم ومستقبل بلادهم، بما يعني أنهم يترجمون جوهر الثورة ووعدها الأهم، وأن سوى ذلك تفاصيل قابلة للجدل والشك أيضاً، وتتطلب الوعي والسهر على سلامة مسار حركة التغيير المنشود.

وفي سياق مسار التحول تحققت خطوات عديدة في التغيير نحو الأفضل، ليس أهمها حلّ كل من حزب التجمع الدستوري والحزب الوطني، وإلغاء أجهزة الأمن وإداراتها التي كانت تعتقل المواطنين بشكل تعسفي. بل أن ما يدعم أسباب النجاح هو دخول البلاد مرحلة من الحراك السياسي والاجتماعي، المتاح أمام جميع الفئات والأفراد، حيث تشكلت أحزاب وجمعيات مدنية عديدة، وباتت الساحة السياسة مجالاً عاماً للتداول والممارسة، وليست حكراً على الحزب الحاكم والأحزاب التي تدور في فلكه.

2-صعود الإسلاميين:

تمثل حركات الإسلام السياسي خارطة واسعة ومتنوعة من القوى والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، وهي ليست متجانسة من حيث الفعالية والتأثير في الشارع، ومختلفة في الرؤى والأفكار والأطروحات والتنظيمات، ولا يمكن وضعها في خانة واحدة.

ولعل الأهم هو أن الحركات والأحزاب والقوى الإسلامية قبل الثورات ليست نفسها بعدها، إذ طاولها كثير من التغيّر والتحول في الأفكار والأطروحات والممارسة، فالثورات غيّرت مختلف القوى السياسية والاجتماعية، وأوجدت اصطفافات وتحالفات جديدة.

وفجّرت الثورات مختلف التكوينات السياسية، ومنها تلك التي تستلهم المرجعية الإسلامية، حيث خرج ناشطوها من عتمات غرفهم المغلقة إلى الفضاء العام، ودخل الناس أفراداً وجماعات إلى المجال السياسي، الذي كان مغلقاً ومصادراً إبان عهود الاستبداد. وطاولت التغيرات الخطاب السياسي والإيديولوجي للقوى الإسلامية، بحيث بات من الممكن أن تكون الديموقراطية المرجعية الناظمة للخطاب في الممارسة وفي إدارة الصراعات والاختلافات، ما يعني رفض العنف والقبول بمخارج العملية الديموقراطية وقواعدها. وبات متاحاً، أيضاً، أن ينطلق الخطاب السياسي والممارسة من منهل التعددية السياسية وقبول الآخر المختلف، ونبذ الإقصاء، والابتعاد عن الشعارات الإيديولوجية الفاقعة، الأمر الذي يفتح باب الاحتكام إلى البرامج والسياسات الواقعية، بغية كسب ثقة الرأي العام.

غير أن علامات استفهام كثيرة تطال خطاب القوى الإسلامية في مصر، وتخص مركبات وحملات المفاهيم التي تصدر عنه، مثل الدولة المدنية والتعددية والديموقراطية والمواطنَة، التي دخلت حديثاً في قاموس هذا الخطابـ وتحتاج التدقيق والنقد، من حيث طبيعة الدولة المدنية التي يتحدث عنها الإسلاميون، وماهية المواطنة التي يطرحونها، ومدى اقترابها من المساواة الكاملة بين سائر أفراد الشعب في الحقوق والواجبات، ومدى قبول الأحزاب والقوى الإسلامية بتولي غير المسلم مهام ومناصب في الدولة، ومنها رئاسة الجمهورية، إضافة إلى علاقة الشريعة بمصادر التشريع، بما يعني اعتبارها المصدر الرئيس، المضي إلى مصادرة حق غير المسلمين في التأسيس الدستوري والقانون للدولة(1).

ولعل من بين أسباب نجاح الأحزاب الإسلامية في دول الثورات العربية:

1-استغلالها الجيد لمناخ الانفتاح السياسي، واستخدامه لتوسيع نفوذها وتأثيرها في الفضاء العام، من خلال التركيز على الهوية، وزيادة التحشيد والتنظيم، بالنظر إلى الدور الواسع للدين الإسلامي في مختلف الأوساط الاجتماعية في بلداننا العربية.

وليس جديداً القول بأن حضور الدين قوي، ويحتل مكاناً مميزاً في منظومة الأفكار السائدة في مجتمعاتنا العربية، وله تأثير ثقافي واضح فيها، الأمر الذي استغلته الأحزاب الإسلامية. وإن كان وجيهاً القول بأن الحركات والأحزاب الإسلامية لم تنشأ من فراغ، بل من الأوساط الاجتماعية، إلا أنها عمدت إلى توظيف الدين في خدمة السياسة، بالرغم من الجدل الواسع بخصوص علاقة الديني بالسياسي.

2-وجود أسباب موضوعية، سياسية واجتماعية واقتصادية، استغلتها الأحزاب الإسلامية في صراعها على السلطة، واستثمارها سنوات الصراع مع عهود الاستبداد.

3-استغلال القوى الإسلامية منابر المساجد للدعاية الانتخابية للمرشحيها في سائر الانتخابات، والأخطر هو توظيفها سلاح الفتاوى الدينية في حملاتها الدعائية(2).

4-امتلاك القوى الإسلامية، وخاصة حركة الإخوان المسلمين، موارد مالية هامة، وقيامهم بأعمال الإغاثة والمساعدة في الأزمات والكوارث الطبيعية، وإسهامهم في الجمعيات الخيرية.

5-التأثير القوي للقوى والحزاب الإسلامية على بعض منظمات المجتمع المدني من نقابات ونوادي وجمعيات وسوى ذلك.

ولا شك في أن نجاح الأحزاب الإسلامية، ذات التوجه الإخواني عموماً والسلفي، في الوصول إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، لأول مرة في التاريخ العربي المعاصر، يضعها أمام المسؤولية المباشرة عن مستقبل البلاد، وأمام امتحان النجاح والفشل في المرحلة الانتقالية، فضلاً عن وضعها تحت مجهر ترقب ورهان مختلف القوى الإقليمية والدولية.

3-الإخوان والتحول الديموقراطي:

تحذر أصوات كثيرة، في أيامنا هذه، من استبدال استبداد العسكر وديكتاتورياتهم باستبداد إسلامي وديكتاتورية أصولية، حيث تتردد هذه التحذيرات في مختلف بلداننا العربية وفي معظم البلدان الغربية، ووجدت مؤخراً صداها في روسيا. وتستند في ذلك إلى التحولات التي أفضت إليها الثورات العربية، وحملت فوز حركة النهضة في الانتخابات التونسية وفوز الإخوان المسلمين في مصر، وبروز دور الإسلاميين في ليبيا، إضافة إلى التوقع بصعود دور جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ما بعد نجاح الثورة.

وتجد هذه الأصوات حجتها في ماضي حركات الإسلام السياسي، وما عرف عنها من عدم احترامها للديموقراطية، بالرغم من إقرار بعضها المعلن بها، ومواقفها من حقوق الأقليّات الدينيّة والطائفيّة وحقوق المرأة. لكن تلك الأصوات تخلط ما بين الماضي في ظل الديكتاتورية وبين حاضر الثورات العربية، إلى جانب خلطها بين خصوصيات وظروف كل بلد من بلدان الثورات العربية وسواها، وتعميمها الشديد الذي يساوي بين إخوان مصر وإخوان سوريا وحركة النهضة التونسية وسواها من حركات الإسلام السياسي، بالرغم من أن واقع الحال يكشف اختلافات عديدة بينهم.

في الحالة التونسية احترمت حركة النهضة صندوق الانتخاب، وأقامت تحالفات مع قوى علمانية، حيث ساهمت في إيصال المنصف المرزوقي العلماني إلى الرئاسة المؤقتة لتونس، وتقاسمت السلطة من حزب “المؤتمر من أجل الجمهورية” و”التكتل من أجل العمل والحريات”. بالمقابل هناك خطر على المسار الديموقراطي من بعض المتشددين، وخاصة في الحركات السلفية والجهادية.

وفي مصر، أبرزت التطورات تكييف جماعة الإخوان المسلمين سلوكهم وخطابهم مع الظروف والتغيرات الجديدة، حيث تعاونت وتحالفت مع بعض القوى والتيّارات السياسية الأخرى، على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية الواضحة بينها وبين أطروحات وتوجهات تلك التيارات. وهي تحاول منذ تنحي حسني مبارك إلى اليوم الظهور بمظهر القوة السياسية الوسطية، المستجيبة لمتطلبات التحول الديموقراطي. وقد عرفت انقسامات ما بين “الإصلاحيين” و”المتشددين”، حيث تمردت جماعات شابة على سلطوية القيادات التقليدية، وطالبت بتعزيز مشاركة الشباب والنساء، واعتماد الشفافية في عملية صنع القرارات. والأهم من ذلك مطالبتهم باعتماد مقاربة أكثر إبداعاً للنصوص الدينية، أقلمة إسلامية لقيم الديمقراطية والمواطنية والحداثة، إلى جانب المطالبة بفصل شبكات المشاركة السياسية في الأحزاب الإسلامية عن أنشطتها الدعويّة.

أما في سوريا فقد عُرف عن الإخوان المسلمين فيها احترامهم لمتطلبات العمل الديموقراطي، من خلال مشاركتهم في المؤسسات السياسية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، من خلال الإسهام في التجربة الديموقراطية الجنينية التي توقفت عام 1958. وقد أصدر قادة الإخوان المسلمون مؤخراً وثيقة وعهد وميثاق وطني، أكدوا فيها على تطلعهم إلى دولة مدنية تعددية، والتزامهم بإشادة دولة مواطنة يتساوى فيها الجميع بالحقوق والأهلية، وبما يضمن حق أي مواطن، إمرأة كانت أم رجلاً، ومسيحياً كان أم مسلماً، بالوصول إلى رئاسة الجمهورية. وهو أمر يعطي الكثير عن مدى اقتراب هذه الجماعة من أي حزب ليبرالي، وامتلاك قياداتها أفقاً ديموقراطيّاً، مدنياً ومتسامحاً.

أما تعامل الأحزاب والقوى الإسلامية مع الحداثة، فهو مختلف بدوره. وهي لا ترفض الحداثة بشكل عام، بل تتعامل مع منجزاتها وتقنياتها، وتستخدمها دون النظر بأصلها وفصلها. لكن على المستوى الفكري، جرى تصوير حركات الإسلام السياسي على أنها معادية للحداثة ورافضة لمنجزاتها. وهو أمر مغلوط تماماً، إذ ترفض أوساطاً إسلامية عديدة جملة من القيم الثقافية والاجتماعية الغربية التي أرادت القوى المهيمنة السيطرة من خلالها على العالم الإسلامي. أي أن الرفض يدخل في سياق رفض الهيمنة والسيطرة والتبعية، المندرج في سياق ردّ الفعل والحفاظ على الهوية في وجه سياسات الدول الغربية، التي حاول منظروها الانتقاص من معالم الثقافة الإسلامية وتحويلها إلى مجرد فولكلور وآثار من غابر التاريخ. أما قيم الثقافة الإنسانية للحداثة والتي هي منجز الحضارة الإنسانية، فلا يمكن أن تعترض عليها الحركات الإسلامية العربية، بالرغم من توجس بعضهم منها.

4-النموذج القادم:

يمكن القول بأن الثورة لا تتأطر في نموذج معين، ذهني أو تخيلي، كي يمتلك أهلية للإسقاط والتجريب في مختلف الدول والمجتمعات، حسبما تصورته الإيديولوجيات الغائية والمثالية، لأن الثورة، بوصفها حدثاً، تمثل خروجاً عن السائد والمألوف والبديهي، ولا تقبل التفسير والتعليل، وتقع خارج كل الحسابات والتوقعات القبلية والتفسيرات البعدية. ولعل الثورة في حدوثها أقرب إلى عمل الخلق والإبداع، لتغدو حدثاً متفرداً بذاته لا يشبهه شيء.

وإن كانت الثورة لا تتأطر في نموذج معين، فإنني لا أعتقد بأن القوى والأحزاب الإسلامية، التي وصلت إلى السلطة في المرحلة الانتقالية، ستتبع أو ستلتحق بنموذج معين، سواء كان النموذج التركي الديموقراطي أم النموذج الإيراني الاستبدادي. لكن ذلك لا يعني أنها قد تستفيد من مختلف التجارب، بغية بناء الدولة في كل من مصر وتونس وليبيا، وسواها.

ويرجع اعتبار بعض المراقبين تركيا بمثابة الدولة النموذج في المنطقة العربية، بالنظر إلى علاقاتها الجيدة والإيجابية مع محيطها العربي والإسلامي، إلى جانب نجاحاتها الملحوظة في ميادين التنمية والاقتصاد والديموقراطية وفي علاقة الدين بالدولة. وقد اعتبرت تركيا دولة ناجحة في إدارة العلاقات الدولية، نظراً لمراعاة نظامها ومسؤوليها التوازن الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود.

ودفع قيام تركيا بدورها المتعاظم، كقوة إقليمية صاعدة، بعض المفكرين العرب إلى الدعوة إلى إلتقاط اللحظة التركية في تاريخ الشرق الأوسط، والوقوف بعناية وتبصّر أمام المنوال أو التجربة التركية. لكن الأهم هو أن تركيا تحظى بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة، تبدي إعجابها بتجربتها، التي نجحت في حلّ إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمي للسلطة، إلى جانب نجاحات تركيا الاقتصادية. كما تستند تركيا إلى تقبل شعوب دول المنطقة، بسبب الموقع والذاكرة التاريخية المشتركة، وباعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلاً لأدوار قديمة.

أما أيران فلا تشكل نموذجاً للإسلاميين، سواء في تونس أم في مصر، وذلك بالنظر إلى أن إيران اليوم صاحبة مشروع ارتدادي، يضرب عمقه في التاريخ، مع العلم أن العرب الذين دخلوا إيران، في غابر الأزمان، دخلوها كمسلمين، ولم يكنوا العداء للشعوب الإيرانية التي دخلت الإسلام دون إكراه.

ويتخذ المشروع الإيراني الذي يسعى النظام الإيراني إليه في المنطقة تلاوين مختلفة، كونه يصدر عن عقل سياسي يزاوج ما بين الديني والقومي، أي ما بين العقيدة المؤولة مذهبياً، وفق فهم رجال الدين، وبين الطموح القومي الضارب في عمق الإيديولوجيا، الأمر الذي يجعل منه مشروعاً جامعاً ما بين السعي إلى الهيمنة وإلى التغيير، وهادفاً إلى تحقيقهما بمختلف الوسائل.

ومن ينظر في أطروحات ومبادئ حركة النهضة التونبسية وحزب الحرية والعدالة المصري، والأخوان المسلمين عموماً، يجد أنها أقرب إلى أطروحات حزب العدالة والتنمية التركي بالنظر إلى التقاطعات التالية:

1-إحياء الدور الحضاري للمسلمين على مختلف الأصعدة المحلية والإقليمية.

2-الدعوة إلى الحفاظ على الهوية الإسلامية، وإعادة إحيائها بالافتراق عن التبعية للغرب.

3-الدعوة إلى تجديد الفكر الإسلامي، بما يتناسب مع متطلبات ومقتضيات العصر الراهن وتطوراته.

وقد يكون مفيداً للقوى الإسلامية في مصر الاستفادة من التجربة التركية في علاقتها مع العسكر، وبما يقدم عوناً للتعامل مع المجلس العسكري، ووضع نهاية لتحكم العسكر في الوضع الداخلي، وحسم مخاض الصراع معه لصالح الحكم المدني. لكن الأهم هو بناء نموذج مدني للدولة في كل من تونس ومصر، يقدم مثالاً في احترام الحريات العامة والفردية، واحترام حقوق الإنسان، ويضمن حقوق المرأة والتداول السلمي السلطة وسوى ذلك.

5-الحراك المجتمعي:

إن ما حدث، في تونس ومصر وليبيا واليمن، وما يجري في سوريا منذ خمسة عشر شهراً، هو تعبير عن حراك شعبي احتجاجي، تحول إلى ثورات وطنية، أسقطت الأنظمة الاستبدادية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، ولن يتوقف في سوريا قبل بلوغ أهدافها في التغيير.

وفاجأت الثورات العربية مختلف المراقبين والباحثين والسياسيين، كونها جاءت خارج كل التوقعات والتحليلات والتنبؤات في جميع بلدان العالم، سواء في الولايات المتحدة الأميركية ومعها البلدان الأوروبية أم في البلدان العربية وسواها. وقد لجأت الأنظمة الاستبدادية الحاكمة إلى سلوك نهج الإنكار والاستناد إلى نظرية المؤامرة، حيث أنكرت وجود حراك شعبي، وأنكرت معه وجود أزمات وطنية، واعتبرت حراك الناس مؤامرة خارجية.

وكلنا يتذكر أنه حين نجحت الثورة التونسية في إسقاط النظام الاستبدادي في تونس، سارع قادة وساسة ومثقفي الأنظمة في كل من مصر وليبيا وسوريا إلى القول بأن تونس ليست مصر وليست ليبيا وليست سوريا، وحاولوا إنكار وجود مظاهر ومواطن الاستبداد والطغيان والفساد في هذه البلدان.

وكان الإنكار، في سوريا، سياسة ونهجاً، العنوان الرئيس لخطاب جميع المسؤولين في أجهزة النظام ووسائل إعلامه، بل وحاول مناصرو النظام، من قوميين ويساريين متقادمين، تسويق مقولة فارغة، مفادها أن الثورات أطاحت نظامي بن علي وحسني مبارك لأنهما من نظم الاعتدال، وعقاباً على سياسات الإذعان والسير في ركب المخططات الأمبريالية والصهيونية في المنطقة، وبالتالي فإن نظم الممانعة والمقاومة عصية على الثورات الشعبية، لأنها نظم شعبية وتقف في وجه الهجمات والمشاريع الأميركية والصهيونية. أما حين وصل الحراك الاحتجاجي إلى سوريا واندلعت الثورة، فقد حاول أركان النظام إنكاره ورميه بتهمة العمالة والخيانة، وكأن النسبة الغالبة من الشعب السوري مجرد أدوات بيد القوى الأجنبية التي تريد النيل من النظام.

وترجع أسباب الاحتجاجات الغاضبة ضد الأنظمة الاستبدادية إلى جملة من الأسباب، تراكمت منذ سنوات، بل وعقود طويلة، ولم تلاقي أية معالجة أو حل. وأفضى التراكم إلى تركة ثقيلة، جسدها الاستحواذ على السلطة والثروة، من خلال مندرجات القمع والإذلال والفساد، وأشارت إليها المعدلات المرتفة للفقر والأمية، وتدني المستوى المعيشي للغالبية، وضعف دخول أبناء الطبقة الوسطى، والفساد الاقتصادي والإداري المستشري في مختلف مفاصل الدولة، وتزوير الانتخابات، وسطوة الأجهزة الأمنية الاستخباراتية، وتهميش أصحاب الكفاءات والخبرات لصالح أسر الحكام والمقربين من أبناء الأنظمة والمافيات المرتبطة بها.

وقد ضرب الفقر غالبية أبناء المجتمع، بالنظر إلى السياسات والخطط الاقتصادية التي طبقت على مدار عدة عقود من الزمن، وجسدتها سياسات اللبرلة المتوحشة، التي تقدس اقتصاد السوق الحر المنفلت من أية ضوابط والخصخصة المنفلتة، التي نهبت أصول الدولة لصالح رجال الأعمال والمقربين من النظام.

وأدى ذلك إلى نشوء اختلالات خطيرة في التوازن الاقتصادي والاجتماعي وانقسام حاد في المجتمعات العربية. وعليه تعددت أسباب الغضب الشعبي، من الفقر إلى البطالة، ومن القمع والكبت والظلم إلى اليأس وانسداد الأفق السياسي، وانتفاء إمكانية الوصول إلى فضاء الحريات والتعددية السياسية الحقيقية والتداول السلمي للسلطة، وبالتالي انتفت البرامج والمشاريع التي يمكنها أن تستجيب لمطالب الناس وتلبي حاجاتهم، وتشدهم إليها.

6-الانحياز للثورة:

لا يمكن التسليم بأن بعض الثورات والانتفاضات في دول عربية كانت بفعل مخططات أجنبية، أو تنفيذاً لأجندات دولية. وخيار الانحياز: إما إلى جهة ثورة تُمكّن المخطط الأجنبي أو إلى جهة إفشال مخطط أجنبي ثمنه إجهاض ثورة، هو خيار افتراضي، وغير واقعي، حيث برهنت الثورات العربية أنها ثورات وطنية قبل كل شيء، ومحركها ووقودها داخلي. هذا لا ينفي إمكانية تدخل الأجنبي في سياق محاولة حرف الثورة عن مسارها أو محاولة احتوائها، لكنها إمكانية لاحقة على قيام الثورة وليست سابقة عليها. وأثبتت التجارب أن السلطات العربية الحاكمة حاولت على الدوام توظيف مسألة التدخل الأجنبي في خدمة تأبيد حكمها. وكانت تستعين بمبرر التدخل الخارجي وتنفيذ المخططات الأجنبية كلما بزر حراك اجتماعي احتجاجي ضد سلطتها، ولم تتوقف يوماً عن تحقيق مآربها السياسية والاقتصادية من خلال الاستعانة بخبرات ومساعدات الأجنبي، لأن المهم بالنسبة إليها هو فرض الاستبداد أياً كانت الوسيلة، وأياً كانت الذريعة واليافطة التي ترفعها.

والافتراض بأن الثورات أو الانتفاضات العربية كانت بفعل مخطط أجنبي، يقود إلى نظرية المؤامرة، التي يلغي دعاتها ومروجيها ما يختزنه الواقع المعاش في البلدان العربية من مشاعر ومكنونات وطاقات، مع أنها كانت تتفجر على مرأى من عيونهم في أشكال مختلفة من الحراك الاجتماعي والسياسي الذي قمع في أكثر من مناسبة، وكان يتمخض في كل مرّة عن أزمة عاصفة تثبت وجود قوى حيّة تنشد التغيير نحو الأفضل، لكن القمع كان أكبر، ومع قمع الحراك كان التسلط يزداد والظلم يكثر.

ويفتقد أصحاب المؤامرة إلى المنهجية اللازمة، ذلك أن النظرة الإيديولوجية هي الغالبة لديهم، وتحجب مفاعيل ومسببات الحراك الشعبي، الأمر الذي يكشف عن عمى إيديولوجي يمنع إمكانية معرفة القوى التي كانت ترفض التغيير والإصلاح، وتحاول الالتفاف على المطالب الشعبية مع كل أزمة وعاصفة تغيير.

إن ما حدث منذ نهاية العام 2010، وما يحدث إلى أيامناه هذه، في بلداننا العربية هو احتجاج ورفض شعبي واسع، قادته جماعات الشباب على سياسات الأنظمة، وعلى الأزمة الاجتماعية العميقة، وعلى التمييز والتهميش والبطالة المقيمة، وعلى الإمعان في الإقصاء والإيغال في مرتع الأزمات والخيبات. لكن الأنظمة المستبدة لم تك قادرة إلا على القتل والعزل والتفرقة والتمييز والفصل، ومع ذلك كان الحراك الاحتجاجي في أكثر من بلد عربي – رغم القمع والقتل الهائل – شديد الطهورية والسلمية إلى حدود غير مألوفة في الحركات الثورية، التي قامت في العالم الحديث، لذلك فالانحياز هو إلى صف الثورات الشعبية العربية، بوصفه موقفاً وطنياً وأخلاقياً وإنسانياً.

7-الانقسام الحاصل:

من أبرز التحديات التي تواجه عملية التحول الديمقراطي في كل من تونس ومصر وليبيا، هو الانقسام الحاصل بين القوى السياسية، الإسلامية والمدنية وسواهما. ولعل الأمانة العلمية تقضي القول بأن الانقسام الحاصل هو بين قوى سياسية، لا يمكن تصنيفها إلى قوى إسلامية وأخرى مدنية، نظراً لأن الأحزاب ذات المرجعية الدينية هي أيضاً قوى مدنية، وتدعو إلى حكم مدني ودولة مدنية، وأقرت ذلك في برامجها وأدبياتها، خاصة القوى والأحزاب الخارجة عن حركة الإخوان المسلمين في مصر وتونس وليبيا. بالمقابل هناك من القوى والأحزاب التي تصنف مدنية لا تنكر الهوية الإسلامية، وانتسابها للفضاء الإسلامي.

وبصرف النظر عن التقسيمات الإجرائية، فإن الانقسام بين مختلف القوى السياسية هو انقسام طبيعي في سائر بلدان العالم، ومنها البلدان العربية، ولعله يحفزّ قدرة هذه القوى على تكريس التوافق والانفتاح فيما بينها، بغية بناء دولة وطنية ممأسسة. فيما يعمق الصراع والتناحر الأيديولوجي بينها من أزمة الهوية في بلداننا العربية، التي ظهرت بشكل فاقع خلال عهود الاستبداد والحكم الديكتاتوري.(3)

وتستلزم المرحلة الانتقالية في بلدان الثورات العربية قيام ائتلاف بين القوى الديمقراطية المتعددة، وبما يشكل رافعة أساسية لعملية التحول الديموقراطي. كما يعتبر بناء اقتصاد وطني قوي يستند إلى دورة إنتاج متكاملة، من أبرز التحديات التي تواجه بلدان الثورات العربية في المرحلة المقبلة، على اعتبار أن العامل الاقتصادي لعب دوراً مهماً في جميع الثورات. ومن ثم، فإن معالجة المشكلات الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية سيشكل المرتكز الاجتماعي وصمام الأمان لعملية التحول الديموقراطي.

وفي الحالة المصرية، ظهر الانقسام بين قوتين رئيسيتين: أولهما حزب الحرّية والعدالة، وحزب النّور، وثانيهما حزب الوفد، والكتلة المصريّة، وستتحدّد ملامح التحول الديموقراطي بناء على قدرتها على صوغ معادلة توازن وتوافقٍ مشتركة فيما بينها، ثمّ إيجاد معادلة للتّعامل مع المجلس العسكري، ومع قضايا المجتمع المصري. ذلك أن من أهم أسباب استقرار النّظام والوصول إلى الرّسوخ السّياسي، هو نجاح القوى السياسيّة في إقرار قواعدَ حاكمة للعلاقات والخلافات بينها، ومدى قدرتها على صياغتها بشكل توافقي، الأمر الذي يبدو صعباً في المرحلة الراهنة.

المصادر:

1-عزمي بشارة، الثورة التونسية المجيدة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012.

2-جلال ورغي، الحركة الإسلامية التركية-معالم التجربة وحدود المنوال في العالم العربي، مركز الجزيرة للدراسات والدار العربية للعلوم، الدوحة – بيروت 2010.

3-تريتا بارزي، إيران والمجتمع الدولي، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2012.

1-أنظر: ريتا فرج، خطاب الإسلاميين في الربيع العربي وهواجس الأقليات، السفير، 2/6/2012.

2-عبد الحميد الأنصاري، هل يمكن “تحييد” المساجد في ظل الإسلاميين؟ جريدة الاتحاد، وجهات نظر، 23 مايو / أيار، 2012

3-الانتخابات التّونسيّة محطّة تاريخيّة على طريق التّحوّل الدّيمقراطيّ، وحدة تحيل السياسات، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، الدوحة، 27 أوكتوبر 2011.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button