دراسات سوسيولوجية

الجامعة تغرق في قطرة اسمها "نظام الألمدي"

الجامعة تغرق في قطرة اسمها “نظام الألمدي” ( مقال للذكتور بشير مصيطفي منشور في جريدة “الشروق اليومي” ليوم 9 مارس 2011 )

قامت الجامعة الجزائرية ولما تقعد، وقال الطلبة: يجب أن تتراجع الحكومة عن قراراتها المتخذة مؤخرا فيما له علاقة بتصنيف الشهادات والرتب على سلم الوظيف العمومي والعبور بين النظامين “الكلاسيكي” و”الجديد” في التعليم العالي. وقام القطاع الوزاري فعلا بإطلاق إشارات واضحة ومباشرة عن قرار السلطات العمومية التراجع عن مرسوم 13 ديسمبر 2010 ومن ثَم إيجاد صيغة لضبط الوضع عن طريق الندوات الجامعية التي شرع فيها على مستوى الكليات بدءا من تاريخ 27 فيفري. ومع ذلك توسعت رقعة الاحتجاج وعلا سقف المطالب ليطال مصير مسؤولي قطاع التعليم العالي أنفسهم. فماذا يعني أن يتمسك الطلاب بموقفهم وهم على مرمى حجر من سداسي جامعي أبيض؟ وهل يشكل موقفهم هذا ساحة إجماع داخل مجتمع الطلبة؟ وما هي الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتحرك طلابي بهذا الحجم في دولة تنفق على التعليم العالي ما يزيد عن 212 مليار دينار.
لثقة المفقودة
*
لم يعد الخطاب الرسمي للسلطات كافيا لتحقيق جدوى السياسات كما كان سابقا، ويذكر الجميع وخلال فترة السبعينيات كيف كان الجزائريون ينتظرون ما بعد نشرة الثامنة ليسمعوا خطاب الدولة الذي كانت فيه عبارة “قررنا” تعني فعلا سياسيا يراه الناس قبل أن تصدر المراسيم. ومع الزمن وتراجع قوة المؤسسات وتذبذب القوانين والاجراءات تشكلت لدى الرأي العام الجزائري قناعة بأن ما يقره الليل قد يمحوه النهار، وبالفعل تحولت البلاد خلال العشرين عاما الأخيرة الى ساحة للتجارب فيما له علاقة بإدارة الاستثمار وتسيير التعليم وتقنين الممارسات التجارية، تجارب طالت قطاعات عدة ربما كان آخرها قطاع السكن بالنسبة لأساتذة التعليم العالي، قطاع التربية وإدارة شؤون الموظفين، قطاع المالية
*
وحصيلة القوانين المنظمة للاستثمار والتجارة، قطاع التجارة وموضوع تطهير الممارسات التجارية، قطاع البنوك وحدود التعامل النقدي وإدارة القروض، وأخيرا قطاع التعليم العالي وتطبيقات نظام “الألمدي”.
*
وما يطبع هذه التجارب هو فقدان الاستقرار في القوانين والاجراءات المنظمة لكل قطاع حيث من السهل علينا استيعاب كل احتمال لتراجع قد يقع تحت ظروف معينة مما أفقد تلك الاجراءات عنصر الثقة وبات الجميع يرى في الخطاب الرسمي للدولة وسيلة للهروب الى الأمام في ظل مؤسسات تنفيذية هشة وإدارة لازالت تعمل بنفس “ريتم” حقبة التخطيط المركزي. هذا ما يفسر لنا تصاعد الاحتجاجات بين الفئات المختلفة كلما سنحت الفرصة للمطالبة بحقوق ظلت حبيسة “اللاوعي” لفترة طويلة وربما حان الوقت للتعبير عنها.
*
السياسات المستوردة
*
يحمل نظام “الألمدي” في التعليم العالي حكمة اقتصادية وهي تقريب التكوين الأساسي من سوق الشغل، وهو نظام نشأ ضمن التكوين المعرفي الفرنكفوني، وبالنسبة للجزائر فهو نسخة طبق الأصل للنظام الفرنسي. وما قيل عن نظام التعليم العالي الجديد يقال أيضا عن نظام المحاسبة في الجزائر وعن جزء من نظام الأحوال الشخصية وكذا عن الإدارة في جل القطاعات وعن تسيير نظام التقاعد وعن الكثير من السياسات القطاعية التي تعتمد في منهجيتها على المرجعية الفرنسية.
*
ليس عيبا أن يقتبس شعب من التجارب الناجحة لشعوب أخرى ولكن من الخطورة فعلا أن تقتبس التجارب ذات المحتوى الاجتماعي والثقافي وربما السياسي أيضا فما بالك إذا كانت هناك عوامل فنية تميز هذه التجربة عن تلك. وبالفعل، تختزن التجربة الفرنسية في مجال التعليم العالي صورة التكوين النوعي للإجابة عن سؤال السوق الذي يستهدف التشغيل في فرص عمل ذات طابع مهني، سوق مدعوم بأداء اقتصادي مبني على الثروة ويعاني من ميزانية دولة عاجزة ومن قيود فنية تخص هيكل الانتاج الذي عليه أن يحافظ على ميزته التصديرية في الفضاء الأوربي قبل أن يتحول الى “يونان” ثانية.
*
أما الجزائر فلا شأن لها بذلك كله، وسوق العمل فيها ليس مرنا بل ضيقا، وهي دولة لا تصدر الثروة ولا قدم لها في سوق المنافسة، ورؤيتها في مجال السياسات الاقتصادية ضيقة، وهي دولة تخرج -في ظل النظام الكلاسيكي- سنويا 150 ألف جامعي أغلبهم باحثون عن الشغل، أما في النظام الجديد ومع بقاء سوق العمل على حاله أو بافتراض تطوره المحدود على سلم المرونة في المدى القريب، فإن نظام “الألمدي” سيرفع من نسبة الخريجين بسبب قصر مدة الليسانس الى 3 سنوات وقيود الانتقال الى “الماستر”، وضع يغذي مفردات “الثورة” وسط الجامعيين بدون عمل ويعيد مشهد “البوعزيزي” -الجامعي الذي يبيع الخضر والفواكه في تونس- الى الواجهة، ولكن ضمن المعادلة الجزائرية هذه المرة.
*
المطلوب عمله
*
ليس هناك الكثير من التفكير في المطلوب عمله بعد أن أطلقت وزارة التعليم العالي نقاشا على مستوى المؤسسات الجامعية لإعداد النصوص القانونية لمطابقة النظامين الكلاسيكي و”الألمدي”، سوى مراجعة الفكرة من أساسها حيث يبدو أن المشكلة تتجاوز المطابقة بين النظامين الى إخضاع منظومة التعليم العالي في الجزائر لحقائق الاقتصاد الوطني وللمعادلة الاجتماعية والنفسية للطالب الجزائري من جهة ولقيود التنمية التي يجب أن تقوم على نوعية المعرفة من جهة ثانية. ربما يكون أقصر طريق هو إلغاء النظام الجديد والاستثمار في تطوير النظام الكلاسيكي على سلم نوعية التكوين والبرامج ذات الصلة بالمؤسسة وواقع الشغل. كما يكون مفيدا أن تتدخل أعلى سلطة في البلاد ممثلة في مؤسسة “الرئاسة” للحسم في ملف سيظل ساحة جدل كلما اقتنع الجميع بأنه ملف تشترك في صياغته تجارب دول مختلفة ليست بالضروة تجارب ناجحة في مجتمع مختلف لأنها تعكس وضعا اقتصاديا واجتماعيا مغايرا.
*
وفي الأخير، يكون من المفيد أن يقتنع مجتمع طلبة الجزائر بأن رسالتهم الآن تتجاوز -بأشواط طويلة- استعراض القوة بين المنظمات الطلابية لربح نقاط أخرى على سلم النضال الطلابي، وأن الأهم من ذلك كله أن يلتف الجميع حول مطلب التشاور فيما سيأتي من قرارات تخص مستقبلهم العلمي والمهني، وحول إطلاق أفكار حقيقية لتحسين نوعية التعليم العالي وتنمية الوعي الطلابي، أما الجدل القائم -الآن- فسينتهي قريبا بحلول ترضي الجميع ولكن لا أحد يدري الى أي مدى يدوم الرضا؟

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى