الجدل الليبرالي – الواقعي حول دور الإعتماد المتبادل في تعزيز الأمن الدولي

الجدل الليبرالي/ الواقعي حول دور الإعتمادpdf

المتبادل في تعزيز الأمن الدولي

د/ محمد الطاهر عديلة

جامعة محمد بوضياف- المسيلة (الجزائر) 

مقدمة :

يذهب ريتشارد ليتل إلى أنه ابتداء من نهاية الستينيات وبداية السبعينيات بدأت أصوات من داخل حقل العلاقات الدولية تجادل بأن طبيعة السياسة الدولية وبنية النظام الدولي قد عرفتا تغيرا وتحولا كبيرين. ولقد جادلت بالخصوص أن التقسيم أو الفصل الذي أقامته النظرية الواقعية بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية لم يعد ممكنا. وكنتيجة لذلك، ليست فقط الحدود التي تفصل بين الدول قد تلاشت، بل إن محركات ومحددات السياسة الدولية أصبحت تنبع من داخل الدول أو السياسات المحلية. وبالنتيجة، تغيرت مصادر تفسير السلوك الخارجي للدول، وذلك بالإنتقال من الإعتماد على بنية النظام الدولي إلى الإعتماد على بنية الدولة ذاتها. وهذه التطورات وصفت أساسا بأنها تطور طبيعي لظاهرة الإعتماد المتبادل (Interdependance)1.

أولا- في معنى الإعتماد المتبادل.  

نشير في البداية إلى أن ظاهرة الإعتماد المتبادل هي ظاهرة إنسانية قديمة قدم الإنسان ذاته. حيث ينبئنا التاريخ أن المجتمعات والشعوب لم تكن أبدا معزولة عن بعضها البعض، بل كانت تعرف حالة من التعامل والإتصال بين بعضها البعض، وأنه لم يكن بمقدور أي منها أن تعيش مكتفية ومنكفئة بنفسها عن الآخرين، إذ هناك قدر من الإعتماد المتبادل بينها. لكن في الوقت نفسه لم يكن أبدا بالدرجة التي هو عليها الآن، إذ لعب التقدم التقني والتطور النوعي في وسائل النقل والإتصالات دورا كبيرا في البروز القوي لهذه الظاهرة بداية من النصف الثاني من القرن العشرين2. ولعبت العولمة الدور الحاسم في نقل الإعتماد المتبادل (خاصة في المجال الإقتصادي) إلى مستوياته القصوى بداية من التسعينيات من القرن نفسه.

يعتقد أنصار الإعتماد المتبادل أن الظاهرة كانت موجودة قبل بداية السبعينيات، ولكن الهيمنة الكبيرة التي مارستها الواقعية على حقل التنظير في العلاقات الدولية جعلت المنظرين لا يلتفتون إليها إلا بعد مجيء روبرت كيوهين وجوزيف ناي، من خلال كتابهما “العلاقات العبروطنية والسياسة العالمية” (1971)، والذي عُد المرجع الأساسي للمنظرين الليبراليين التعدديين فيما بعد. ولقد ضم الكتاب مجموعة من المقالات التنظيرية لنخبة من المفكرين الليبراليين الذين رفضوا مقولات الواقعية وتوصيفها لطبيعة وهيكلة السياسة الدولية، خاصة فكرة “مركزية الدولة”. هذا الكتاب حفز العديد من المنظرين الليبراليين على تقديم أعمال تنظيرية وتأصيلية وتطبيقية تدعم الطروحات الأساسية لـ “نظرية” الإعتماد المتبادل، وعلى رأس هؤلاء نجد ستانلي هوفمان، ريتشارد مانسباش، بيل فيرجسون، دونالد لامبتر، وغيرهم ممن تأسست لهم مقاعد جديدة في أقسام العلوم السياسية بالجامعات الأمريكية، وأصبحوا من أقطاب التحليل السياسي الدولي3.

لا يثير الإعتماد المتبادل جدلا كبيرا في تعريفه وتحديد مفهومه كبقية المفاهيم الأخرى في حقل العلاقات الدولية، بحيث يحصره الليبراليون أساسا في مجال العلاقات الإقتصادية الدولية. كما لا يثير جدلا حول وجوده والإعتراف بذلك، فحتى الواقعيين الجدد يقرون بوجود الظاهرة في مجال العلاقات الدولية. ولكن الجدل المثار حوله يتعلق بمدى تأثيره في السياسات الدولية وفي مضامينها، وكذا بإمكانية أن يكون عاملا محفزا ودافعا إلى السلم الدولي.

يعرفه جوزيف ناي بأنه “موقف من التأثير المتبادل أو الإعتماد على الآخرين وبينهم”4. ونجد عند ناي وكيوهين تعريفا آخر للإعتماد المتبادل “المعقد” (الفارق في الدرجة والكثافة) حيث يقولان بأنه “انخفاض أهمية وقيمة العلاقات الأمنية والعسكرية مقابل ارتفاع وتيرة وأهمية العلاقات الإقتصادية والإجتماعية المتعددة في الربط بين دول العالم”5.

وهذان التعريفان يركزان على نقطتين أساسيتين:

$11-      الإعتماد المتبادل هو علاقة تأثير وتأثر بين طرفين أو أكثر، أو هو علاقة تبادلية ثنائية الإتجاه (عكس التبعية التي هي اعتماد في اتجاه واحد).

$12-    الإعتماد المتبادل محركاته اقتصادية بحتة، فهو يصف حالة للسياسة الدولية تتميز بتراجع الأبعاد الأمنية والعسكرية لصالح الأبعاد الإقتصادية، ومن ورائها الإجتماعية.

وتعرف نادية محمود مصطفى الإعتماد المتبادل بأنه “ظاهرة عبر قومية معقدة تتضمن أنماطا تفاعلية متعددة الأبعاد ومتعددة القطاعات بين الدول، ينتج عنها درجة عالية من حساسية التفاعلات بين أعضاء النظام للتغيرات التي تقع في إطار أحدهم، كما ينتج عنها درجة عالية من عرضة هؤلاء أو قابليتهم للتأثر بالقوى والأحداث الخارجية، ومن ثم يتوقف عليها مدى قدرتهم على مواجهة أو عدم مواجهة أعباء وتكلفة هذه التأثيرات الخارجية”6.

ومما يستفاد من هذا التعريف هو إشارة الكاتبة إلى عنصرين أساسيينيميزان وينتجان عن أية عملية اعتماد متبادل، وهما: الحساسية (Sensitivity)والهشاشة (Vulnerability). فالحساسية تعني تأثر دولة ما أو عدة دول بما يحدث من تغيرات في دولة أو دول أخرى، وإحدى وسائل قياس هذا العنصر هي دراسة ما إذا كانت التغيرات في مجالات معينة تختلف بالطريقة ذاتها عبر الحدود الإقليمية، كالقول مثلا أن ارتفاع سعر القمح في الدول المنتجة له يؤدي إلى ارتفاع سعره بصورة آلية لدى الدول المستوردة له. أما الهشاشة فتشير إلى قدرة الدول على تحمل التكاليف عند تعرضها للتغيرات الخارجية، فقد تكون دولتان متساويتان في الحساسية إزاء ارتفاع أسعار النفط مثلا، ولكن قد لا تكونان على الدرجة نفسها من الهشاشة، فلربما تستطيع إحداهما، بما تملكه من قدرات وإمكانات، أن تجد مصادر طاقة بديلة تخفف بها اعتمادها على النفط، بينما تعجز الأخرى عن ذلك7. فالفارق بين الحساسية والهشاشة يتمثل، باختصار، في أن الدول قد تتأثر بالفعل نفسه (الحساسية)، ولكن ردود فعلها اتجاهه تختلف (الهشاشة).

يفترض مفهوم الإعتماد المتبادل وجود علاقة طردية بين زيادة وكثافة التفاعل والتعامل والتبادل بين الدول (خاصة في المجال الإقتصادي والتجاري) وبين ارتفاع مستوى الإعتماد المتبادل في النظام الدولي ككل، أو على الأقل بين الدول التي يحدث بينها تبادل كثيف. وعلى العكس من ذلك، كلما انخفضت مستويات التفاعل والتبادل بين الدول كلما انخفض مستوى الإعتماد المتبادل بينها وزادت درجة الإستقلالية، فهذه الأخيرة هي ما يقابل ويناقض ظاهرة الإعتماد المتبادل8.

وفكرة الإعتماد المتبادل وثيقة الصلة بفكرة الإقتصاد العالمي أو الإقتصاد “المعولم”، إذ تعتبر ركنه الأساسي. فلا يمكن الحديث أبدا عن اقتصاد عالمي في غياب درجة عالية من الإعتماد المتبادل “الدولي” الذي يكفل وجوده واستمراره. ولقد أصبح الإقتصاد العالمي يلعب دورا كبيرا في توجيه وإدارة شؤون السياسة العالمية، وأصبحت الدول أكثر ارتباطا وتبعية له، خاصة في ظل العولمة. والفرضية المتداولة في هذا المجال أنه “كلما انخرطت الدول في الإقتصاد العالمي كلما زادت درجة حساسيتها وانخفضت فعالية استقلاليتها”، وبالتالي أصبحت أكثر عرضة لتغيرات وتقلبات الإقتصاد العالمي. بينما هشاشتها ترتبط بمدى صمودها وقدرتها على مواجهة هذه التغيرات والتقليل من آثارها.

والإقتصاد العالمي أطرافه متعددة من الدول ومن غير الدول كالشركات الكبرى، والشركات المتعددة الجنسيات، والمؤسسات المالية الدولية، …إلخ، وبالتالي قد تكون الدول في حالة اعتماد متبادل مع أحد الأطراف من غير الدول. فعلى سبيل المثال قد تعتمد دولة نفطية ما على استثمارات شركة بترولية عالمية، وتراهن هذه الأخيرة بكل استثماراتها في هذه الدولة النفطية، ومن ثم ينشأ اعتماد متبادل بينهما. فكما يكون الإعتماد المتبادل بين الدول، قد يكون بين دول وأطراف أخرى من غير الدول، في ظل مفهوم ليبرالي “تعددي” للسياسة العالمية لا يعترف للدول بأسبقية ولا بأفضلية، بل يَعدُّها فاعلا فقد مكانته لصالح فواعل أخرى، تحت ضغوط عجزه وعدم قدرته على تحمل مسؤولياته الداخلية والخارجية، وكذا الظروف والتحولات الدولية التي تجاوزته.

إذن فالإعتماد المتبادل أصبح يلعب دورا كبيرا ومتزايدا في العلاقات الدولية “الإقتصادية” ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين، وأصبح يفرض على المنظرين والمختصين في شؤون العلاقات الدولية أن ينظروا إليه من زاوية بديلة، تتيح إمكانية فهمه وتحليله في ضوء التغيرات الجوهرية التي حدثت على مستوى النظام الدولي ومكوناته.

لكن، ما الدلائل أو المؤشرات العامة التي تقود إلى القول بأن العالم بات يعرف حالة من الإعتماد المتبادل “الدولي”، والتي تُوجِب معها النظر إلى السياسة الدولية بطريقة مغايرة تماما كما يدعي الليبراليون أنصار الإعتماد المتبادل؟

ثانيا- مؤشرات تنامي ظاهرة الإعتماد المتبادل في العلاقات الدولية.

يورد أنصار الإعتماد المتبادل مجموعة من الخصائص أو السمات ليؤشروا بها على الوجود الفعلي لظاهرة الإعتماد المتبادل وتنامي دورها في العلاقات الدولية. فمن الناحية النظرية يستندون إلى مجموعة من المعايير يحكمون من خلالها على وجود الظاهرة من عدمه، وهذه المعايير تتمثل في9:

$11-  حجم المعاملات التي تتم بين الفاعلين الرئيسيين في النظام الدولي.

$12-  درجة حساسية الفاعلين الدوليين.

$13-  قابلية الفاعلين للتأثر بالعوامل الخارجية.

$14-  توافر أطر مؤسسية للتفاعل بين الوحدات الدولية.

بينما هناك مجموعة من المؤشرات العملية التي تدلل على أن العالم بات يعرف، بالفعل، حالة متقدمة من الإعتماد المتبادل، والتي من خلالها يمكن استشفاف المعايير السابقة. وهي10:

$11-إرتباط المجتمعات بالعديد من الروابط غير الرسمية بين النخب الحكومية، بالإضافة إلى الروابط الخارجية الرسمية. وكذلك العلاقات غير الرسمية بين النخب غير الحكومية والمنظمات عبر القومية.

$12-تتضمن أجندة العلاقات الدولية العديد من القضايا التي لا تتميز بتراتبية معينة في الأهمية. بمعنى أن قضايا الأمن العسكري لم تعد تحتل الأولوية كما كانت، بل أضحت تزاحمها قضايا أخرى مثل الإقتصاد والبيئة وحقوق الإنسان …إلخ.

$13-  تصبح القوة العسكرية غير ذات مغزى في حل الخلافات حول القضايا الإقتصادية بين الدول التي تسود بينها حالة من الإعتماد المتبادل.

ومن المؤشرات التي تدلل على أن القوة الإقتصادية (ومعها المسائل والقضايا ذات الصلة) أصبحت تلعب دورا كبيرا في العلاقات الدولية خاصة بعد نهاية الحرب الباردة نجد ما يلي11:

$11-هناك توجه عالمي نحو تكريس سياسة التكتلات الإقتصادية الإقليمية. كالإتحاد الأوروبي، و”النافتا” بقيادة الولايات المتحدة، والإتحاد الأسيو- باسفيكي بقيادة كل من الصين واليابان، فضلا عن سياسات التعاون في إطار ما يسمى بـ “الشراكة الأورو- متوسطية”.

$12-إحلال منظمة التجارة العالمية (OMC) كتكتل تجاري عالمي في عام 1994 محل الإتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (GATT). حيث أوكلت لها مهمة الإشراف على التجارة الدولية، إذ تساهم بنسبة 95% من الحجم الكلي للتجارة العالمية، كما تعمل على إزالة الحواجز الجمركية على السلع والخدمات، وتأسيس قواعد التخصص والتقسيم الدولي للعمل، …إلخ.

$13-توسع وتنامي العولمة الإقتصادية باندماج دول أوروبا الوسطى والشرقية في الإقتصاد الرأسمالي العالمي، وكذا في الإتحاد الأوروبي. وهي الدول التي تنظر إلى الإعتماد المتبادل كميكانيزم أساسي للإنضمام إلى أي تكتل.

$14-  الصعود التدريجي والسريع للقوة الإقتصادية الصينية، والذي يؤهلها في المدى المنظورإلى منافسة القوة الإقتصادية للولايات المتحدة.

هذه المؤشرات وغيرها تدلل بوضوح، حسب الليبراليين، أن تحولا عميقا قد مس جوهر العلاقات الدولية، كما أنه قد أعاد ترتيب الأولويات والموضوعات في السياسات الخارجية للدول. فلم تعد القوة وتحقيق الأمن هي فقط ما يهم الدول (مسائل السياسة العليا) وإنما توسعت وتنوعت اهتماماتها لتشمل الإقتصاد والرفاه الإجتماعي أو مسائل “السياسة الدنيا” بتعبير جوزيف ناي. ولم تعد النزاعات المسلحة واختلال ميزان القوى العسكري هما فقط مصدرا التهديد الوحيد للأمن الدولي، بل تعددت وتنوعت هذه المصادر. وأعيد تعريف الأمن الدولي (توسيعه) بشكل يدمج الأخطار الجديدة التي تتهدده.

لكن هذا الوصف الليبرالي لواقع العلاقات الدولية لم يحظ بقبول العديد من المنظرين الواقعيين. حيث رأوا فيه مبالغة كبيرة في تحجيم دور الدولة في السياسة الدولية وتضخيم دور الفواعل الأخرى، وفي إعطاء أهمية كبيرة للإقتصاد (التجارة) على حساب القوة العسكرية في إدارة الشؤون الدولية. لقد قالوا إن النشاط الإقتصادي ليس عالميا بالشكل الذي يصوره الليبراليون، والإعتماد المتبادل لم يبلغ الدرجة التي يمكنه معها تهديد إستقلالية الدول، خاصة الكبرى منها. فعلى سبيل المثال، ينتج الأمريكيون 90 % مما يستهلكونه من سلع وخدمات. والأمر نفسه يمكن أن يقال على الإقتصاديات الأوروبية الكبرى12. كما أن القوة العسكرية مازالت الوسيلة المفضلة لدى الدول لفض خلافاتها ونزاعاتها. ومعضلة الأمن الدولي لا تزال قائمة. وبالتالي، لا يمكن الحديث عن تحول جوهري في طبيعة السياسة الدولية.

إن هذا يقودنا مباشرة إلى الجدل الذي قام بين الليبراليين والواقعيين حول دور الإعتماد المتبادل في تعزيز وترقية السلم والأمن الدوليين.

ثالثا- الجدال الليبرالي/الواقعي حول تأثير الإعتماد المتبادل على الأمن والسلم الدوليين.

في البداية يمكن القول أن مقاربة الإعتماد المتبادل جاءت كتحد وكبديل عن النظرة الواقعية المهيمنة على فهم وتحليل العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. ويعتقد أنصارها أن العالم في الستينيات والسبعينيات قد عرف تغيرات جوهرية لم يستطع، أو بالأحرى، لم يرد الواقعيون رؤيتها واعتمادها في عمليتي التحليل والتنظير. وبالتالي، بات من اللازم البحث عن مفاهيم ونظريات جديدة تستوعب التغير الحاصل في البيئة الدولية.

كيوهين وناي عددا ثلاثة نقاط تحدى فيهم مفهوم الإعتماد المتبادل نظرة الواقعيين للسياسة الدولية، تمثلت في13:

$11-  بينما ركز الواقعيون على العلاقات بين الدول فقط، أوضح الليبراليون أن السياسة الدولية باتت مسرحا للعديد من التفاعلات والنشاطات التي تتم بين أطراف أو فواعل من غير الدول، كما أن التأثير المتزايد لهذه الفواعل أصبح يهدد قدرات الدول نفسها على التصرف بشكل مستقل في العلاقات الدولية.

$12- تهاوي التمييز الذي أقامه الواقعيون بين مسائل السياسة العليا (الأمن) ومسائل السياسة الدنيا (الإقتصاد والتجارة). فالسياسة العالمية لم تعد تحكمها مثل تلك التراتبية.

$13-  إن تنامي الإعتماد المتبادل بدرجة عالية بين الدول جعل من القوة العسكرية أقل قابلية للإستخدام، وأقل أهمية من الخيار السياسي.

لقد أثرت الرؤى المتباينة لكل من الليبراليين والواقعيين لطبيعة السياسة الدولية وهيكليتها ومكوناتها على فرضياتهما المتعلقة بمدى تأثير ودور الإعتماد المتبادل في تحقيق السلم والأمن الدوليين. وجاءت هذه الفرضيات على النحو التالي:

أ- الفرضية الليبرالية: الإعتماد المتبادل كعامل محفز للسلم.

يعتقد الليبراليون أن الإعتماد بين الدول يخلق مصالح متبادلة، والتي قد تكون مكلفة جدا في حالة ما إذا تراجعنا عنها واخترنا اللجوء إلى استراتيجيات الحرب. فالإعتماد المتبادل هو مرادف للسلم، لأنه يؤسس لشروط التعاون بين الدول. ويؤكدون على وجود علاقة وثيقة بين الإعتماد المتبادل والتعاون من جهة، واحتمالات التقليل من الحروب والنزاعات المسلحة من جهة أخرى، ويعزون ذلك للأسباب التالية14:

$11-  يوفران (أي الإعتماد المتبادل والتعاون) مصالح مشتركة ومنافع متنوعة.

$12-  يعززان التفاهم وينزعان مشاعر عدم الثقة والشك المتبادل، عن طريق زيادة التبادل التجاري والإتصال والإعتماد المتبادل.

$13-يعبران عن رضا الدول بالتنازل عن جزء من سلطتها لصالح المؤسسات الدولية، طمعا في تحقيق السلام والإستقرار بالتعاون مع الدول الأخرى. لا بالعمل المنفرد كما يروج لذلك الواقعيون الجدد. وعليه تصبح المؤسسات الدولية فاعلا فوق- وطني، لها من التأثير في السياسات الدولية ما يفوق دور الدول القومية نفسها. وعليه يغدو النظام الدولي نظاما مؤسسيا ذا بنية تعاونية وجماعية.

يلخص كل من تشارلز ديفيد وعفاف بن السايح الحجج التي يسوقها الليبراليون في التدليل على الإرتباط القوي بين الإعتماد المتبادل وتحقيق السلم على النحو التالي15:

$11- غالبا ما تفضل الدول التجارة على الحرب. فعلى منوال بعض الكتاب الليبراليين “الدوليين” مثل نورمان انجل وريتشارد كوبدن اللذين قالا بأن الدول تفضل أن تتاجر أكثر مما تحارب، يذهب ريتشارد روزكرانس إلى أن الحرب أصبحت أداة بالية وقديمة بالنسبة للدول التي أصبحت تفضل التجارة، لما أصبحت تقدمه وتسهم به في تطوير اقتصادياتها. وبالنسبة لآخرين من أنصار الإعتماد المتبادل، فإن مجرد الرغبة في تحقيق مكاسب من خلال التبادل بين الدول هو كاف لجعل العلاقات الدولية أكثر تعاونية.

$12-الإعتماد المتبادل هو التوصيف الأهم للنظام الدولي الحالي. فالإعتماد المتبادل هو حقيقة واقعية يجب أخذها بعين الإعتبار لفهم التغيرات التي تحصل في النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. والطرح العبر- مؤسساتي الذي قدمه كل من كيوهين وناي هو رد فعل على برادايم “مركزية الدولة” الذي قدمته الواقعية بعد الحرب. ودون إهمال لدور الدولة كفاعل رئيسي في العلاقات الدولية فإن كيوهين وناي يقترحان الإهتمام بدراسة تأثير الفواعل العبر– وطنية الجديدة من أجل فهم السياسة العالمية.

$13-السلم يفترض ويقتضي الإعتماد المتبادل. فالإعتماد المتبادل “الإقتصادي” يقلل من اللجوء إلى الحرب، حتى في حالة الإعتماد المتبادل غير المتكافئ، لأن الدولة الأكثر تبعية في علاقة تجارية ما سوف لن تحطم علاقاتها الإقتصادية وتدخل في نزاع، لأنها سوف تخسر أكثر. كذلك فإن استقرار النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية يمكن تفسير جزء كبير منه بالعودة إلى الإعتماد المتبادل الإقتصادي المتزايد بين الدول.

$14-الإعتماد المتبادل يربط الدول ببعضها البعض ويقودها إلى التعاون. فالإعتماد المتبادل يؤدي إلى التقارب بين الدول من خلال التعاون الذي هو ضروري لسير وديمومة العلاقات بين الدول. فعن طريق “مبدأ الإقليمية” مثلا يمكن أن يؤدي الإعتماد المتبادل إلى أكبر قدر من الشفافية السياسية بين الأعضاء المشكلين للتجمع الإقليمي. وهذه من شأنها أن تسهل التعاون والأخذ بعين الإعتبار مصالح كل طرف. بالنسبة لبعض الكتاب الذين استلهموا من “الوظيفية” فإن الإعتماد المتبادل يخلق مشكلات مشتركة، تقتضي تعاونا بين الدول لحلها، وهذا ما يبرر ضرورة إنشاء مؤسسات تتولى تأطير هذا التعاون.

إذن، وحسب الليبراليين، يشكل الإعتماد المتبادل في العلاقات بين الدول بديلا حقيقيا عن علاقات القوة. لأنه يقوم على منطق المقايضة والتبادل والمنفعة المشتركة. كما أنه يؤسس لعلاقات دولية سلمية من خلال الإعلاء من شأن الإعتبارات والإهتمامات الإقتصادية والتجارية، في مقابل التقليل والحد من اللجوء إلى التصورات والسياسات الدولية المبنية على فكرة القوة.

ب- الفرضية الواقعية: الإعتماد المتبادل كعامل دافع للنزاع.

يُهمل الواقعيون، بشكل عام، العامل الإقتصادي في تفسير الميل نحو الحرب أو السلم. ومع ذلك فإن عددا من الكتابات المهمة قد تحدثت عن التأثير المحتمل للإعتماد المتبادل في السياسة الدولية.

في المنظار الواقعي، تشكل التجارة الخارجية مصدرا للنزاعات. نظرا لأن الإنفتاح الإقتصادي يعني مزيدا من الهشاشة وفقدان الإستقلالية، وعليه يعتبر الإعتماد المتبادل مرادفا لعدم الأمن والنزاع. وتستند هذه الفرضية إلى عدة حجج قدمها بالأساس كينيث والتز. يمكن تلخيصها كالتالي16:

$11- كل نزاع يفترض حدوث عملية اعتماد متبادل مسبقة. فبالنسبة لـ والتز كل نزاع يتطلب بدايةً درجة دنيا من الإعتماد المتبادل، لأن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. وهذا يعني أن وجود علاقة صراعية أو نزاعية بين طرفين أو أكثر يقتضي ابتداء وجود علاقة بينهما. وهذه الحجة في الحقيقة أُسست على تعريف للإعتماد المتبادل خاص بالواقعيين، حيث يعتبرونه مرادفا لهشاشة كبيرة ومتزايدة. وبالتالي، فهو تهديد خارجي على الدولة التخلص منه للحفاظ على استقلالها.

$12- إن الإقتصاديات الصناعية حاليا أقل درجة في اعتمادها المتبادل منها على مستوى أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى. لأنه بالنسبة لـ والتز يعني الإعتماد المتبادل علاقة اقتصادية متماثلة أو متكافئة. وعليه، لا يعتقد والتز بوجود أي من المظاهر الدالة على أن النظام الدولي يشهد حالة من الإعتماد المتبادل المتزايد بين الدول. في حين أن كتابا واقعيين آخرين مثل روبرت جيلبين يعترفون بوجود الظاهرة، لكنهم يرفضون الطرح القائل بأن الدولة سوف لن تكون الفاعل المهيمن في النظام الدولي، بل لا يمكن أبدا، حسبهم، للفواعل الإقتصادية “الخاصة” أن تحل محل الدولة – الأمة.

$13-كتاب آخرون من أتباع الواقعية مثل ريتشارد كوبر لا يرفضون أهمية ظاهرة الإعتماد المتبادل المتزايد بين الدول، ولكنهم يشيرون أكثر إلى أخطاره. فالإعتماد المتبادل هنا يُرى كتهديد لاستقلالية الدول، لأنه يؤسس لعلاقات تبعية تكون مربحة لبعض الأطراف على حساب الأخرى (الإعتماد المتبادل غير المتكافئ). وحسب هذا الطرح، فإن التجارة الخارجية يعاد صياغتها في مدلولات ذات علاقة بالأمن الإقتصادي الذي يشكل جزءا من الأمن الوطني. وعليه، فإن إضافة الأمن الإقتصادي إلى الأجندة التقليدية للأمن يقتضي مراقبة تأثير العوامل الإقتصادية الخارجية على الإقتصاد الوطني للدولة. وعندئذ تصبح متابعة أهداف الأمن الإقتصادي مرتبطة بالمجالات العسكرية للأمن الوطني.

$14-يميل الواقعيون إلى تعريف الإعتماد المتبادل بوظيفتي الهشاشة والحساسية. فالهشاشة كما أشرنا سابقا تشير إلى الكلفة المتعلقة بالدخول في عملية اعتماد متبادل، وهذا الأخير لا يعني بالضرورة علاقة تبعية متبادلة ومتماثلة، وبالتالي فإن مصلحة الدولة تقتضي التخلص من كل علاقة تبعية يمكن أن تضع أمنها في خطر. وبالنسبة لـ والتز، فإن عدم تماثل الكثير من العلاقات التي توصف بأنها تخضع لمبدأ الإعتماد المتبادل يكشف عن عدم ملائمة استخدام المصطلح. فاستعمال مصطلح الإعتماد المتبادل هو جد محايد ومضلل لوصف واقع العلاقات الإقتصادية بين الدول، التي هي في الحقيقة، حسبه، لعبة صفرية تنطوي على رابحين وخاسرين.

يخلص الواقعيون في تحليلهم لظاهرة الإعتماد المتبادل إلى أنها شكل لعلاقة القوة بين الدول، تتضمن تكاليف ومنافع متوقعة، وينجم عنها وضع من الهشاشة يختلف من دولة إلى أخرى حسب درجتي التبعية والإستقلالية. وهذا يعني في واقع الحال أن العلاقة ليست مربحة لجميع الدول17. مما يعني أن توازنات القوة، حتى وإن كانت محدداتها اقتصادية، سوف لن تكون مرضية وعادلة لجميع الدول التي ستبحث دائما عن وضع أفضل مما هي عليه. وهذا سبب كاف جدا أن تضل الحروب والنزاعات شبحا يخيم على العلاقات بين الدول.

الخاتمة :

يمكن القول أن الواقعيين قد حرروا مفهوم الإعتماد المتبادل من بعض المضامين البسيطة التي ألحقت به، كفكرة التعاون أو فكرة المنفعة المشتركة التي تقتضيه. كما أنهم أبطلوا فرضية الإرتباط الحتمي بينه وبين السلم والأمن الدوليين. وبالتالي فهو ظاهرة دولية تحتمل كل علاقات التأثر والتأثير، كما أنه يحتمل الصراع كما يحتمل التعاون، ويحتمل الندية كما يحتمل غيابها. وبالتالي فإن وصف العالم بأنه في حالة اعتماد متبادل متقدمة لا يعني أنه سيكون سلميا بالضرورة18.

وفي الجانب المقابل، اقتنع الليبراليون وعلى رأسهم كيوهين وناي بأن تنامي ظاهرة الإعتماد المتبادل وبروز الفواعل الجديدة من غير الدول، وتصدر الإهتمامات الإقتصادية والبيئية… للأجندة الدولية لا يجب أن يعميهم عن حقيقة مأزق “الفوضى” (Anarchy) الذي يعانيه النظام الدولي، وأن الإعتماد المتبادل وحده لن يكفي لتحقيق السلم والأمن الدوليين دون وجود مؤسسات دولية قوية قادرة على التخفيف من حدة “الفوضى” الدولية والمشكلات الناجمة عنها. كما أن ظهور الواقعية الجديدة على يد والتز في نهاية الثمانينيات عجّل بتحول الليبراليين أنصار الإعتماد المتبادل إلى ما سمي بـ “المؤسساتية الجديدة” أو “الليبرالية الجديدة” (New Liberalism) في محاولة لإبقاء الليبرالية في معركة المنافسة النظرية مع الواقعية.

الهوامش:

$11)   Richard little, The growing relevance of pluralism?,  In Steve Smith and Ken Booth andMarysia Zalewski(eds), International Theory: Positivism and beyond (UK:Cambridge University Press, firstedition, 1996).p66.

$12)   أنور محمد فرج، نظرية الواقعية في العلاقات الدولية: دراسة نقدية مقارنة في ضوء النظريات المعاصرة   (السليمانية: مركز كردستان للدراسات الإستراتيجية، 2007). ص284.

$13)        محمد وقيع الله، مداخل دراسة العلاقات السياسية الدولية، إسلامية المعرفة، العدد14، ص76.

$14)        أحمد محمد أبو زيد، تأثير المنظمات الدولية في سلوك الدول القومية، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد44، 2012، ص96.

$15)        المرجع نفسه، ص96.

$16)        نادية محمود مصطفى، نظرية العلاقات الدولية بين المنظور الواقعي والدعوة إلى منظور جديد، ص17. على الرابط:

http://hadaracenter.com/pdfs/نظرية%20العلاقات.pdf

$17)   مارتن غريفيثس و تيري أوكلاهان، المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية (الإمارات العربية المتحدة ، مركز الخليجللأبحاث، 2008). ص65.

$18)        نادية محمود مصطفى، مرجع سابق، ص18.

$19)        أنور محمد فرج، مرجع سابق، ص292.

$110)    المرجع نفسه، ص ص294-295.

$111)  عبد الناصر جندلي، إشكالية تكيف المنظور الواقعي للعلاقات الدولية مع التحولات الدولية لما بعد الحرب الباردة، المستقبل العربي، العدد 376، 2010، ص34.

$112)    أنور محمد فرج، مرجع سابق، ص418.

$113)    مارتن غريفيثس و تيري أوكلاهان، مرجع سابق، ص66.

$114)    أحمد محمد أبو زيد، مرجع سابق، ص95.

$115)    Charles-Philippe David et Afef Benessaieh, La paix par l’intégration? Théories sur l’interdépendance et les Nouveaux Problèmes de Sécurité , Études Internationales,vol 28, n°2, 1997, pp 238-240.

$116)    Ibid, pp 233-236.

$117)    Ibid, p 237.

$118)    أنور محمد فرج، مرجع سابق، ص293.

 

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button