دراسات سياسية

الجزائر بين الشرعية الدستورية والشرعية الشعبية

بقلم نور الهدى بن بتقى   

توالى الهبة الشّعبية للأسبوع التّاسع على التّوالي، ويتزايد أعداد المتظاهرين جمعة بعد جمعة، وعلى نفس المواقف ثابتون وعلى رحيل كل الأوجه التي مثّلت النّظام السّابق صامدون، وعلى المماطلة أو تبني سياسة الأمر الواقع المنبثقة من تفعيل المادة 102 من الدستور رافضون، وعلى تطبيق المادتين 07 و08 مصرّون، وعلى فكرة الشّعب أساس الحكم ومصدر السّلطة مُوحّدُون، من الشرق إلى الغرب مرورا بالوسط ووصولا للجنوب الكبير بصوت واحد «يتنحاو قاع» يصدعون ويهتفون، ألا يوجد في هذا الوطن من بقايا السلطة أو من أولئك الذين لا يزالون يحكمون ويتحكّمون في مصير الجزائر من يحتكم لصوت العقل وينهي فصول الشرعية التاريخية، ويكيف الشرعية الدستورية بما يريح ويطمئن الشعب صاحب الشرعية، وهذا ببيان الدستور الذي صنعوه، أفلا يعقلون؟! ماذا هم منتظرون؟
الوقت يمر والضغط يتزايد والمخاطر تزداد، كما ذكرت سابقا في مقال بعنوان «الجزائر ما بين رهانات الداخل وتحديات الخارج – قراءة في الوضع وتأكيد على مسألتي بناء الثقة والتوقيت-»، فإنّ ما يمكن تحقيقه اليوم أو خلال الأسبوع يصعب تحقيقه في الأسبوع الموالي ليستحيل تحقيقه بعد أسبوعين، أعيد وأركّز على مسألة الوقت لأهميته المحورية في الحد من الانزلاقات التي قد تحدث  سواء أكانت أمنية أو سياسية أو حتى اقتصادية، فلا نجعل الأزمة التي تمر بها اليوم الجزائر تنتقل من طابعها السياسي الذي يمكن حلّها بأطر قانونية إلى مستوى أزمة أمنية واقتصادية تدخل البلاد والعباد في معضلة متشابكة معقدة يصعب الخروج منها نتيجة تسارع المعطيات، تداخل العوامل المختلفة داخليا وخارجيا مع تميز الوضع بالثبات في مواقف السلطة يقابلها ثبات في مواقف الحراك الشعبي، لتعتبر استقالة رئيس المجلس الدستوري يوم 16 أفريل 2019 بداية انتصار الحراك الشعبي، غير أنّ الوقت يداهم وعليه فمن الضروري ايجاد مخرج مرض للأغلبية بشكل سريع علما أن «إرضاء الجميع غاية لا تدرك وإنقاذ الجزائر أمر مستعجل لا يترك».

الجزائر أكبر من أي مسؤول وأهم من كل شخصية

أراهن بل أجزم على أنّ الخبراء في القانون الدستوري وحتى القانونيين ممّن يشهد لهم بالكفاءة والمهنية والمصداقية، لهم مخرج دستوري وهذا باستخراج الثغرات القانونية التي لطالما استخدمت في قضايا فساد لتبرئة وإنقاذ أصحابها، مع تفعيلها بسرعة بما يتيح تطبيق الإرادة الشعبية دون إدخال البلاد في فراغ مؤسساتي ودستوري يستغل من هذا أو ذاك، أو يدفع بالمؤسسة العسكرية بالتدخل في الشأن السياسي أكثر وبطريقة مباشرة، بإنهاء العقبة القانونية المتمثلة في رحيل بقايا النظام أيضا، وإنهاء سياسة الأمر الواقع الذي فرضه تطبيق المادة 102 التي نادى بها الشعب في البداية، غير أنّ التفطن لعواقبها المتعلقة أساسا بتولي رئيس مجلس الأمة المحسوب على النظام رئاسة الدولة بعد استقالة الرئيس المنتج لشغور منصب الرئاسة أوتوماتيكيا جعلها مادة مرفوضة، لتميز المشهد السياسي بتغيير شكلي تمحور في تغيير  بعض الوجوه وليس تغيير سياسات ونمط حكم، وهو الأمر المرفوض في جوهر الحراك الشعبي جملة وتفصيلا، لتتدارك الجماهير الأمر فترفض تطبيق المادة 102 بمفردها وتطالب بتفعيل أيضا المادتين 07 و08 من الدستور، واللتان أيّدتهما قيادة الجيش الوطني الشعبي في خطوة جريئة معبّرة على مرافقة مطالب الشعب لإيصال الجزائر لبر الأمان والحفاظ على استقرار الوطن، واستمرار عمل المؤسسات التي تمثل لب وجوهر الدولة، فالدولة كمؤسسات يجب أن تبقى ويحافظ عليها، وعلى النظام كسياسة ومنهج حكم أن يتغير بما يعزّز قوة الدولة التي أساسها الشعب دون سواه.

التّشبّث بمواد الدستور بطريقة جامدة تستفز أكثر الحراك الشّعبي

أفلا يفقهون؟! بخطورة التّشبّث بمواد الدستور بطريقة جامدة تستفز أكثر الحراك الشعبي وتنقله من سلميته إلى تجاوزات لا يحمد عقباها، حتى إن كانت معزولة أو موجّهة من طرف داخلي أو آخر خارجي، فالضغط يولّد الانفجار لا محال، وأعود دائما للمقال السابق لأذكّر بمسألة أو تساؤل متعلق  بصمود رجال الأمن نفسيا وتكتيكيا، فكم سيصمد أفراد الأمن في استيعاب ضغوط حالة الاستنفار الأمني المتواصل؟ وإلى متى؟ وهي جزئية قد تبدو للبعض ثانوية ولكن مهمة في مثل هذه الأوضاع الاستثنائية التي تستغل جزئياتها أكثر من عمومياتها، ولأن المسألة متعلقة بالإنسان الذي يتأثر ويتكيف بالبيئة المحيطة به رغما عنه وليس خيارا ينقاد إليه رغبة، فالإنسان ليس آلة يمكن التحكم فيها وتجريدها من المشاعر والانفعالات مع التحكم في ردود أفعاله.
أفلا يعقلون؟! أن الدستور صنع بشري وأن طرق التسيير ومنهجية العمل في إدارة الأوقات العادية، وكذا الاستثنائية اجتهاد إنساني قد يصلح تنفيذها في فترة وتصبح غير صالحة التطبيق في فترة أخرى، لهذا من الضروري توظيف مفهومي التحيين والتكييف، وكذا المراجعة سواء أكانت جذرية أو جزئية لمسألة نمط الحكم واستراتيجية التسيير والآليات  القانونية المنظمة للعمل السياسي أو الاقتصادي، فكما تمّ الانتقال من النمط الاشتراكي للنمط الرأسمالي اقتصاديا، ومن نظام الحزب الواحد إلى نظام التعددية الحزبية، ومن مرحلة الانغلاق إلى الانفتاح السياسي نتيجة ظروف داخلية وأخرى خارجية مرتبطة بانهيار الاتحاد السوفييتي الذي مثل المرجعية الأساسية في تبني خيارات الجزائر ما بعد الاستقلال، يمكن طبعا الانتقال من مفهوم «حكم الشعب» الشكلي إلى مفهوم «حكم الشعب» الفعلي، فالأمر غير مستحيل مع التذكير أن جعل أسطورة حكم الشعب حقيقة فعلية متجسّدة في الممارسات الرسمية، يتطلب وقتا وليس بالسهولة بمكان تحقيق ذلك بعد عشية وضحاها، غير أنّ ما تعيشه اليوم الجزائر من حراك شعبي يمثل صوت أغلبية الجزائريين المنادي بالتغيير الجذري الفعلي، وليس الشكلي بداية الانطلاقة نحو تجسيد وتحقيق هذه الأسطورة على أرض الواقع، وفرصة لا يجب تضييعها لبناء دولة ضحّى من أجلها ملايين الشّهداء وحلموا بها، ويستحقّها الأبناء والأحفاد من جيل ليس من السهل التعامل معه بأساليب ووسائل اتصال واعلام قديمة تعوّد عليها جيل الأجداد والآباء.

السّبق الصّحفي التزام دائم بأخلاقيات مهنة الإعلام

أفلا يتعلّمون؟! في خضم الأحداث المتسارعة وتطور وسائل الإعلام وتعدّدها من جهة، وغياب قنوات اتصال رسمية فعلية وفعّالة، وتصدر قنوات اتصال رقمية إلكترونية الواجهة الإعلامية من جهة أخرى، مع صعوبة تحديد من المسؤول عن نشر الأخبار فيها، والترويج للإشاعات والأخبار الكاذبة، على المسؤولين على قنوات الأخبار العمومية والخاصة، المواقع والجرائد الالكترونية وحتى مواقع التواصل الاجتماعي الالتزام بروح المسؤولية والمصداقية في التعامل مع الأخبار المتداولة، مع رفع مستوى المهنية والحرفية في نشر المعطيات، المعلومات والمستجدات، فلا يخفى عن أحد أهمية السلطة الرابعة ودورها المحوري في توجيه العملية الاتصالية بنقل الخبر الصحيح، تحليله ونشره، وكذا دورها الاستراتيجي في الترويج للأخبار المغلوطة والكاذبة خدمة لأجندة تفعيل الأزمات، وتعميق الخلافات حد الوصول لحروب إعلامية تكون اللغة – الكلمات – فيها هي السلاح – الأداة – كما يمكن أن تتحول وتنتقل إلى حروب ميدانية تكون فيها الأسلحة بمختلف أنواعها هي الأداة ولغة المنطق بين المتخاصمين، فالتاريخ شاهد على نشوب حروب بسبب تصريح أو خبر أذاعوه دون التأكد من صحته فقامت القيامة ولم تقعد، فالسبق الصحفي يجب أن يلتزم دائما وأبدا بأخلقيات مهنة الاعلام ويخدم أهداف العملية الاتصالية…
أفلا يتحرّكون؟! بما أن القانونيين انضمّوا للحراك الشعبي مقررين مقاطعة القرارات الصادرة عن رئيس الدولة المتولي للمنصب بحكم الدستور، وبقوة القانون الذي أشرفوا بطريقة أو بأخرى على صناعة مواده، وهم الخبراء بخفاياه والمدركين جيدا لثغراته، ألم يحن الوقت بعد ليجتمعوا لتدوين خارطة طريق قانونية ودستورية لتطبيق إرادة الشعب؟!، حيث قالوا في وقفتهم أنهم من الشعب ويحكمون باسم الشعب، وأن الحراك حرّرهم من الضغوطات الممارسة عليهم منذ عقود من الزمن، ألم يحن الوقت بعد ليعلنوا عن طريقة قانونية مرتكزة على آليات عملية لتفعيل إرادة الشعب كاملة غير منقوصة؟! تفاديا لتدخل مؤسسة الجيش في الشأن السياسي، حيث كانت قيادتها صريحة بالإعلان عن صعوبة تطبيق حل خارج عن الأطر القانونية الدستورية، لإدراكها التام أنه أمر يفتح بابا لا يغلق لضرب المؤسسة العسكرية، ومنها استقرار وأمن البلاد اللذين يمثّلان خطا أحمر لا يجب تجاوزهما أو التغافل عنهما، وهذا حتى إن كان دستورا خِيطَ على مقاس النظام السابق، فعدم تطبيقه – طبعا بعد تفعيل الثغرات وتوظيفها بما يعجل الحل – يعتبر ثغرة أمنية يجب تفاديها، ألا يعتبر هذا الخطاب من المؤسسة العسكرية ضوءا أخضر إن صح التعبير ليتحرك القانونيين لإيجاد حل دستوري باستغلال هذه الثغرات القانونية؟ ومن ثم يعرض على الشعب الذي له حق الموافقة أو التحفظ مع التعديل أو الرفض، لتأتي المؤسسة العسكرية مُرافقة حَامية لخيارات الشعب كما تعهدت. أليس هذا من شأنه التعجيل في إيجاد حَلٍ مُرضٍ للشعب، الحفاظ على استقرار وأمن الوطن، ضمان استمرار العمل المؤسساتي للدولة مع حماية المؤسسة العسكرية وصونها من المستهدفين لها المنتظرين لأن تزِّل قدمها بعد ثبوتها؟

المساواة لا تحقّق المطلوب في حين العدل يحفظ الحقوق ويكرّس الواجبات

أفلا يسمعون؟! ألا تستحق الجزائر التنازل عن الأنا لصالح الجماعة؟ ألا يستحق الأبناء والأحفاد وطنا في كنف العمل الجاد والأمل بأن الغد أفضل من اليوم، وأن المستقبل أجمل من الأمس ليس لأنهم من هنا أو هناك، ينتمون لهـذا أو ذاك وإنما لأنهم أبناء وطن ومواطنو دولة أساسها العدل لا المساواة «العدل أساس الملك»، باعتبار أن المساواة لا تحقق المطلوب في حين العدل يحفظ الحقوق ويكرس الواجبات، فكل له نصيب بما عمل واجتهد وليس بما ملك وامتلك من اسم ونسب، قوة أو سلطة، فالتعامل مثلا مع موظفين أحدهما سليم الجسد والآخر من ذوي الاحتياجات الخاصة بمنطق المساواة جور وظلم، في حين التعامل معهما بمنطق العدل باحترام الخصوصية والظرف حق لهما وواجب على المتعامل معهما…
أفلا يؤمنون؟! بأن الكل في قارب واحد، وأن الوطن واحد لا سواه، وأن الأمن نعمة تستحق تغليب العقل عن عنفوان الذات، تجاوز تجبر الأنا لصالح الصالح العام وترك المنصب والسلطة لإنقاذ القارب قبل فوات الأوان ومضي عقارب الساعة إلى الأمام فتلتف العقارب على الرقاب فلا ينجو منها أحد، ولا ينفع الندم ولا يجدي التأسف والاعتذار…
أفلا يعون؟! أن الجزائر أكبر من أي مسؤول، وأهم من كل شخصية تاريخية، سياسية، اجتماعية وحتى دينية وأن الكل راحل عن منصبه رغبة أو عنوة سنة الله في خلقه، سوى الشعب – المواطن – الذي يحافظ على صفته هاته فلا دولة بلا شعب، وعلى الشعب أن يعي أن لا دولة بلا أخلاق فالأخلاق لب التغيير وأساس المضي قدما في كل المجالات، والخُلق أساسه العلم فمن سعى للعلم وأدرك وهجه النوراني اكتسب الخُلقَ، ومن لم يُقدّر العلم وتجاهل الخُلقَ أصبح وباء على الأرض والخَلقِ – العباد –
اللّهم احفظ الجزائر بحفظك وأكرمها بكرمك، وثبّت أقدام المخلصين من أبنائها بتوفيقك، وألهمهم سبل الرشاد وجنبها الفتن ما ظهر منها وما بطن، فأنت العزيز القدير الجبّار المتعال، فعّال لما تريد.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى