دراسات استراتيجيةدراسات سياسية

الخطط والأسـاليب السـياسـية (الاستراتيجية)

بقلم بقلم حسن محمد حسين حمدان

إن الخطط السياسية، والأساليب التي تنفذ بها هذه الخطط، تتغير حسب ما تقتضي المصلحة، وإن كانت الخطط أقل تغييراً من الأساليب، والفرق بين الخطة والأسلوب كما يلاحظ من تتبع السياسة الدولية، هو أن الخطة سياسة عامة، ترسم لتحقيق غاية من الغايات التي يقتضيها نشر المبدأ أو طريقة نشره، أما الأسـلوب فهو سياسة خاصة في جزئية من الجزئيات التي تساعد على تحقيق الخطة وتثبيتها.
فمثلاً الخطة الأميركية للعراق كانت احتلاله بقرار دولي أو دونه، ثم إيجاد حكومة تضفي على الاحتلال شرعيةً دوليةً عن طريق الأمم المتحدة، بعد أن كانت قد أهملتها عند بداية الاحتلال، وشرعيةً أخرى (محليةً) عن طريق انتخابات أو شبه انتخابات عراقية، ثم تتولى هذه الحكومة (نيابةً) عن أهل العراق توقيع صك بالموافقة على بقاء قوات الاحتلال، حتى تُعطى الصفة الشرعية، كونها موجودة بموافقة أهل البلد وطلبهم وبقرار دولي. وهذا سيُبعِد الدول الأخرى ومجلس الأمن عن التدخل في الشأن العراقي، ويجعل أميركا المتصرّف الوحيد بكل شؤون العراق، وبذلك يسبغ على الاحتلال صفة الشرعية؛ لأن الذي أقر بقاءه ووجوده هو حكومة العراق الشرعية (المنتخبة). وسيوضع للعراق دستور جديد بإشراف الاحتلال، تُكَرس فيه الفرقة وتُمَزَّق الدولة بحجة الفدرالية، وستُشعَل نيران الطائفية، وينشغل المسلمون ببعضهم بدل انشغالهم بإخراج الاحتلال؛ ولذلك سخَّرت أميركا كل ما استطاعتها من وسائل وأساليب لاحتلال العراق كخطة موضوعة، ثم جعل هذا الاحتلال (مشروعاً) بإضفاء شكل قانوني دولي ومحلي عليه.

وبالمقابل كانت خطة فرنسا تقضي بتشكيل محور من الدول الكبرى بقيادتها لمواجهة الخطة الأميركية، وقضت هذه الخطة بعرقلة مجلس الأمن عن إصدار قرارات صريحة لتغطية المشاريع الأميركية المتعلقة باستخدام المجلس لغزو العراق، وبذلك عجزت أميركا تماماً عن اللعب بورقة مجلس الأمن، وتم كشفها دولياً باعتبارها دولة خارجة على القانون، فظهرت أميركا على أنها تسير في طريق القوة الغاشمة الخارجة على القانون، بدل أن تظهر حامية للقانون الدولي كما كان ظاهر حالها سابقاً. واستطاعت فرنسا تحريك مشاعر الألمان وإثارتهم، لدرجة أزعجوا أميركا في تصرفاتهم، ووقفت روسيا أيضاً إلى جانب فرنسا في معارضـة أمـيركا من اسـتخـدام مجلس الأمن لدعم خططها. وهكذا نجحت الخطة الفرنسية، لا في منع الغزو الأميركي، وإنما في فضح الأهداف الأميركية من هذا الغزو.

وأما الخطة البريطانية فكانت خطة معقدة، خبيثة، تساند أميركا في الظاهر لتشاركها بشيء من الغنيمة، وتظهر معها على المسرح الدولي إذا كانت كفة أميركا هي الراجحة، وتطعنها في الظهر كلما لاح لها إمكانية الطعن. فبريطانيا سارت مع أميركا؛ لأن كفتها راجحة في الموقف الدولي، ولكنها من جهة أخرى، ألجأتها إلى عرض استصدار قرار من مجلس الأمن بخصوص العدوان على العراق، وقد كانت تعلم مسبقاً عدم إمكانية صدور القرار نتيجةً لمواقف فرنسا وروسيا وألمانيا، فانكشف بذلك عوار أميركا بأنها تريد العدوان على العراق بقرار أو بدون قرار. وأكَّدت بريطانيا هذا التوجه في حضور بلير لاجتماع قمة مع شيراك وشرودر في 20/9/2003م؛ لاستعمال الدهاء السياسي البريطاني في تقوية وتمتين موقف الدولتين ضد الموقف الأميركي، باستفزازهما ببعض الآراء التي تعرضها بريطانيا أو نحو ذلك، فتدفعهما للتصلب دون الظهور البريطاني العلني بذلك أمام أميركا. واستمرت بريطانيا بالسياسة نفسها حتى بعد احتلال العراق، وتقديم أميركا مشاريع للأمم المتحدة لإضفاء شرعية على الاحتلال.

ومثلاً الخطة الأميركية، التي وضعت لمنع صيرورة الاتحاد الأوروبي لحمة واحدة تشكل خطراً على أميركا، قامت على أساس محاور ثلاثة هي:

أولاً: توسيع الاتحاد الأوروبي بدول أوروبا الشرقية، وهذه الدول صنيعة أميركا، ورأس حربتها؛ لإدخال تأثير أميركا في الاتحاد. وقد ظهر هذا عندما أيـدت هذه الدول رؤية أميركا في عدوانها على العراق، ما جعل رامسفيلد يتهكم على أوروبا بمسمى القديمة والجديدة. ولقد استشاط شيراك الرئيس الفرنسي غضباً من تصرفات هذه الدول، وحاول أن يوحي إليها أن اصطفافها بجانب أميركا سيعرقل قبولها النهائي في الاتحاد، ومع ذلك أقر انضمامها في اجـتماع الاتحاد الأوروبي الحاسم لقبول الأعضاء الجدد، ولم تستطع فرنسا تعطيل الانضمام.

ثانياً: استمرار وجود الحلف الأطلسي رغم حلّ حلف وارسو المقابل، ثم توسيع استراتيجية الحلف ليتدخل في المشاكل الأمنية في أوروبا، بدل الدفاع الخارجي عنها كما كان في أصل نشأته. ولما شعرت أوروبا بخطر الحلف عليها، لقيادة أميركا الفعلية له، تداعت فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولكسمبورغ لتشكيل قوة أوروبية خاصة، فاعترضت الولايات المتحدة على ذلك، ولا زالت تثير لأوروبا المتاعب قبل أن ترى القوةُ الأوروبية الخاصة النورَ فعلاً.

ثالثاً: استغلال أميركا للموقف البريطاني. فبريطانيا بدهائها المعهود لا تريد للاتحاد الأوروبي أن يصبح قوةً واحدةً تذوب بريطانيا خلاله، وتصبح دولة هامشية كلكسمبورغ مثلا،ً فهي لا تزال تحمل في أعماقها عظمة الإمبراطورية التي لا تغيب عن ممتلكاتها الشمس؛ لذلك نراها عرقلت تكوين الاتحاد، ولم تدخله إلا لما رأته أمراً واقعاً، فدخلته لإضعافه. ولا زالت حتى الآن لم تشترك في العملة الأوروبية الموحدة (اليورو). وعقلية الإمبراطورية عندها تجعلها تبحث عن دور على المسرح الدولي في أي طريق وجدته. وبالمقابل فإن خطة فرنسا كانت تقوية الاتحاد الأوروبي، وجعله مظلة مناسبة في مواجهة المظلة الأميركية، والسعي لإنشاء جيش أوروبي مستقل عن حلف شمال الأطلسي، وقد استطاعت أن تشد إليها ألمانيا حول ذلك، وتصرفت فرنسا تصرفاً ذكياً جداً باتفاق مع ألمانيا، لدرجة جعلت بريطانيا تنضم إليهما حتى لا يفوتها نصيب من المغنم إن نجح سعي فرنسا وألمانيا. وهكذا نجحت فرنسا مؤخراً مع بريطانيا وألمانيا في التأسيس لنواة هذا الجيش، بالرغم من الضغوط الأميركية الشديدة على بريطانيا وألمانيا لمنع إنشائه. كما ونجحت خطة الدول الثلاث في رسم سياسات بعيدة المدى للاتحاد الأوروبي، بعيداً عن تدخلات الدول الصغيرة في الاتحاد، والدول الطامعة للتأثير فيه كإيطاليا وإسبانيا.

وهكذا نجد أن فرنسا نجحت في إيجاد مدخل، وإن كان في بداياته لتقوية الاتحاد الأوروبي، بإيجاد نواة عسكرية مستقلة في أوروبا بالتوافق مع ألمانيا وبريطانيا. ولولا اعتناق هذه الدول للرأسمالية التي تجعل (المنفعة الخاصة) لكل دولة في سلم القيم عندها، لأمكنها أن توجد اتحاداً أوروبياً قوياً في وجه الولايات المتحدة. ومع ذلك فمجرد نجاح فرنسا في عرض الخطة على دول قوية في أوروبا (ألمانيا وبريطانيا) يعتبر عملاً مؤثراً في وجه أميركا لن تستطيع إغفاله.
ومثلاً الخطة التي وضعتها أميركا لتحجيم روسيا

وجعْلها دولة حتى دون نفوذ إقليمي، فإنها تقوم على دحرها من أماكن نفوذها في البلقان، وشرق أوروبا، ووسط آسيا، وكذلك إبطال مفعول ترسانتها النووية التي تشكل عاملاً مهمّاً من عوامل قوتها، بالإضافة إلى التفوق عليها في غزو الفضاء، فاتخذت لذلك عدة أساليب، منها أنها قامت بضرب الجيش اليوغسلافي (صربيا والجبل الأسود) حيث العلاقة (العرقية السلافية) مع الروس، مستغلة أزمة كسوفا، كما أنها أقامت علاقات اقتصادية وعسكرية مع دول أوروبا الشرقية للنفاذ إليها، ثم قامت بضم الكثير منها إلى حلف شمال الأطلسي، كما أنها استغلت الحرب على الإرهاب، فأقامت قواعد عسكرية لها في دول وسط آسيا، وذلك بعد أن تمكنت من استقطاب بعض حكام تلك الدول بالمساعدات الاقتصادية، وقامت باحتلال أفغانستان وعمدت إلى تطوير نظام دفاعي للصواريخ المضادة للصورايخ؛ لإبطال مفعول الصواريخ الروسية العابرة للقارات، القادرة على حمل رؤوس نووية. كما أنها استطاعت أن تستغل الفقر في جورجيا؛ لإيصال عملائها إلى قمة الهرم هناك، ما أسقط المنطقة العازلة بين روسيا وحلف الناتو في تركيا. وكانت أقنعت روسيا بالتخلي عن محطتها الفضائية مير، والمشاركة في المحطة الفضائية الدولية “آي إس إس”، وذلك للحد من تفوقها في سباق غزو الفضاء. وهكذا تستمر أميركا في خططها لحصار روسيا لتبقى دولةً مقطوعة النفوذ الإقليمي، بعد أن قطع نفوذها الدولي بانهيار الاتحاد السوفياتي.

وكذلك الحال مع الصين؛ لأن أميركا ترى وجوب تركيع الصين، وجعلها دولة عادية، لا سيما وأنها لا تملك مقومات الدولة العظمى، ولكنها أضحت من منتصف التسعينات، بما تملك من قوة، دولة إقليمية عظمى، لها حق النقض في مجلس الأمن، ولها أطماع وطموحات إقليمية، وهذا ما لا ترضى به الولايات المتحدة. فالصين في نظر أميركا سوق تجاري ضخم لابد من الاستفادة منه، وعملاق بشري يجب ترويضه؛ كي لا يصبح خطراً يهدد المصالح الأميركية في منطقة شرق آسيا؛ لذا كان على أميركا وضع خطة بعد انتهاء الحرب الباردة لتحجيم الصين، وحصرها في مجال حيوي ضيق في أحسن الأحوال، إن لم تتمكن من قطع مجالها الحيوي كاملاً؛ لذلك فإنها مهتمة بتطبيع العلاقات مع فيتنام لجعلها حجر عثرة في وجه الصين، حال تحسن العلاقات الأميركية الفيتنامية. كما أنها تحاول جعل شبه الجزيرة الكورية مركزاً خطراً متقدماً حول الصين، بزيادة الضغط على كوريا الشمالية بحجة محور الشر، وفي الوقت نفسه تعمل على الإبقاء على قواعدها العسكرية هناك متاخمةً لحدود الصين وعلى باب دارها. كما أنها تحاول جعل الهند نداً للصين، وتسعى أيضا إلى إيجاد الحلفاء الاستراتيجيين والأحلاف العسكرية الإقليمية في وسط آسيا والشرق الأوسط. كما أنها قامت بإيجاد قواعد عسكرية في وسط آسيا على حدود الصين الغربية على الجهة الأخرى للهيمالايا.

وهكذا فإن الخطط والأساليب السياسية توضع للعمل المباشر، ولكن مع ذلك ليس ببعيد على الدولة أن تغيّر الأساليب الموجودة، وأن تعثر على أساليب أخرى إذا كشفت تلك الأساليب وأصبحت لا تؤدي المطلوب، وكذلك يمكن أن تغير الخطة إذا أصبحت لا تجدي، أو إذا كان بقاؤها يكلِّف الدولة صعاباً ليس من مصلحتها وجودها، ولكن الدولة حين تُغير خطتها إنما تَستبدل بها خطة أُخرى، وحين تُغير الأسلوب تضع مكانه أسلوباً آخر، ولا تقعد عن وضع الخطط والأساليب إلاّ إذا عجزت وانحطت عن مكانتها في الموقف الدولي، كما هي حال الدول التي فقدت فاعليتها السياسية منذ زمن، كاليابان، وإيطاليا، وهولندا، وبلجيكا، وإسبانيا، والبرتغال.

ومثال تغير الخطط ما فعلته أميركا في خطتها التي رسمتها لألمانيا، فقد كانت خطتها بعث العسكرية الألمانية، وإقامة جمهورية ألمانية غربية، ثم صارت خطتها إضعاف ألمانيا الغربية وإيجاد اتحاد بينها وبين ألمانيا الشرقية، وتحديد تسليح ألمانيا، ثم رأت توحيدها عام 1990م لإيجاد دولة أوروبية قوية تزاحم فرنسا وبريطانيا، وتتنافس معهما على قيادة الاتحاد الأوروبي، وبذلك تضعف من إمكانية توحيد أوروبا كقوة واحدة.
وكذلك الخطة التي وضعتها أميركا للصين. فبعد أن رأت دعمها، وجعلها قطباً دولياً، وتحسين العلاقات معها، وكذلك تحسين العلاقات الصينية اليابانية، لجعلها ركيزة من ركائز النظام الدولي؛ وذلك لإضعاف موقف الاتحاد السوفياتي الدولي آنذاك، ولزيادة الشقة بين الحليفين الشيوعيين اللدودين، عادت بعد ذلك أميركا، بعد انقضاء فترة الحرب الباردة، وغيّرت خطتها، ورأت أن الأمر يتطلب الآن وضع خطة لتحجيم الصين، وإرجاعها خلف جدران سورها العظيم. فلجأت إلى وضع خطة كي لا تفكر في أن تصبح خطراً على مصالحها في شرق آسيا، لا سيما أن الصين تملك من العوامل ما يمكنها من ذلك.

ومثال تغيير الأساليب ما قامت به أميركا في بلدان العالم الإسلامي، فبعد أن كانت تعتمد على الانقلابات العسكرية لإيصال عملائها إلى الحكم، وعلى المعونات الاقتصادية من مثل القروض وما يسمى بمشاريع التنمية، ومن مثل الخبراء، وغير ذلك، وعلى ما سمي بالترغيب والترهيب أو العصا والجزرة، أصبحت تعتمد الآن على الحلول العسكرية والترهيب، وعادت إلى الاعتماد على الأحلاف والقواعد العسكرية بعدما كانت قد تخلت عنها، ما أعاد إلى الأذهان فترة الاستعمار العسكري والإمبريالية الغربية.

وكانت بريطانيا قد غيرت من أساليبها فتخلت عن المعاهدات والقواعد العسكرية، واعتمدت على العملاء من الحكام، والاتفاقيات الاقتصادية، واتفاقيات التسلح. ويبدو أنها تحاول الآن السير في ركاب أميركا بأن تعود إلى القواعد العسكرية كأسلوب جديد قديم.

هذا بيان للخطط والأساليب السياسية؛ ولذلك كان واجباً على المسلمين أن يعرفوا يقيناً أن المعسكر الغربي لا يغير فكرته السياسية، ولا طريقته، ولكنه يغير خططه وأساليبه، ليرسم خططاً أخرى، ويتبع أساليب جديدة حتى يتأتى له نشر مبدئه. وإذا قضي على أساليبه وأحبطت خططه، أخفقت مشاريعه التي رسمت من أجلها تلك الخطط والأساليب؛ ولذلك كان الكفاح السياسي موجهاً للخطط والأساليب -في كشفها ومقاومتها- في الوقت الذي يوجه لمحاربة الفكرة السياسية وطريقتها؛ وعليه فإنه من المحتم على المسلمين أن يعرفوا الخطط المرسومة لسياسة كل دولة، وأن يتبينوا أساليبها.

المـوقف الدولي
إن فهم الموقف الدولي يختلف عن فهم سياسة كل دولة؛ وذلك لأن فهم سياسة الدول المؤثرة يتعلق بفهم الفكرة والطريقة اللتين تقوم عليهما سياسة تلك الدول كما بيّـنا سابقاً. وأما الموقف الدولي، الذي هو هيكل العلاقات الدولية المؤثرة، أي الحالة التي تكون عليها الدولة الأولى والدول التي تزاحمها، هذا الموقف لا يتعلق بالفكرة والطريقة، وإنما يتعلق بالعلاقات الدولية، والتسابق الدائم بين الدول على مركز الدولة الأولى، وعلى التـأثير في السياسة الدولية؛ ولذلك كان لابد من فهم الموقف الدولي.

غير أنه يجب أن يكون واضحاً أن الموقف الدولي لا يلزم حالة واحدة، وإنما هو متغير ومتبدل في العالم حسب أوضاعه، وأحواله، وأحداثه، ولكن مع ذلك يمكن رسم صورة واضحة له، ويمكن إعطاء خطوط عريضة عنه، ويمكن إعطاء تفصيلات عن أحواله، إلا أن ذلك كله إنما يدل على حاله حين يظهر للناس وقت وصفه، فيصدق الوصف على واقع موجود، وحين يتغير الموقف الدولي لا يكون الوصف الذي أعطي غير صحيح، وإنما يكون وصفاً لشيء قد وجد ثم ذهب، فيصبح في عداد التاريخ، ويصير من المحتم إعطاء الوصف للواقع الذي يحصل، أي للموقف الدولي الجديد؛ وعلى ذلك فإن الوصف الذي سنسوقه للموقف الدولي في رسم صورته، أو إعطاء خطوط عريضة عنه، أو التعرض لتفصيلاته، إنما هو وصف لواقع شوهد من قبل، أو هو مشاهد الآن، أو متوقع حدوثه، ولكن مع ذلك لا يعتبر أمراً ثابتاً؛ ولهذا يجب على السياسي أن تكون لديه معلومات عن الموقف الدولي، وعن السياسة الدولية، يربطها بما يراه، حتى تتضح له الأمور، ويصدر حكمه عليها.
وفهم الموقف الدولي، يقتضي من المسلمين معرفة مركز الدولة الأولى في العالم، ومركز الدول الأخرى بالنسبة لها، وبالنسبة للسياسة العالمية. ويقتضي معرفة الدول التابعة، والدول التي في الفلك، والدول المستقلة.

أما الدولة التابعة فهي الدولة التي تكون مقيدة بدولة أخرى في سياستها الخارجية، وفي بعض المسائل الداخلية، مثل مصر مع أميركا، وكازاخستان (حالياً) مع روسيا. وأما الدولة التي في الفلك فهي الدولة التي تكون مرتبطة في سياستها الخارجية مع دولة أخرى ارتباط مصلحة لا تبعية، مثل اليابان مع أميركا، وأستراليا مع كل من أميركا وبريطانيا، وكندا مع كل من أميركا وبريطانيا وفرنسا، وتركيا (حالياً) مع بريطانيا وأميركا. وأما الدولة المستقلة فهي الدولة التي تتصرف في سياستها الخارجية والداخلية كما تشاء حسب مصلحتها، مثل فرنسا، والصين، وروسيا.
وهناك أحوال لا تدخل تحت السياسة الدولية، وإنما هي حوادث نشأت جراء خروج الدول الاستعمارية من البلاد. فهذه الأحوال وأمثالها لا تبحث في السياسة الدولية، ولا يعطى عنها خطوط عريضة، بل تدرس كل حالة بواقعها، ويعطى لها الحكم. فمثلا العراق بعد خروج الإنجليز منه، ووقوع انقلاب 14 تموز 1958م، وإلغاء جميع المعاهدات والارتباطات، صار دولةً مستقلةً دولياً، مثله مثل فرنسا، وإنجلترا، وأي دولة مستقلة؛ ولكن لأن حاكمه كان حينئذ عميلاً أميركياً، فإن العراق صار في واقعه دولة تابعة لأميركا وإن كان من ناحية دولية مستقلاً، لكن حين قام انقلاب 17 تموز 1968م، وجاء للحكم عملاء الإنجليز، صار العراق تابعاً لإنجلترا.وهكذا، فالدول المستقلة حين يصبح حاكمها عميلاً، أو يتولى الحكم فيها عميل، فإن الدولة تصبح تابعة للدولة التي يعتبر حاكمها عميلاً لها.

وهكذا جميع الدول التي كانت مستعمرة تعتريها هذه الحالات، وتخرج من يد إلى يد بفعل تغير الحكام. فمثل هذه الدول من ناحية دولية ظاهرية هي مستقلة، ولكن من ناحية حقيقية هي تابعة. ولكن هذه حالات فردية ناتجة عن تحرير المستعمرات من الاستعمار، ومحاولات الدول الاستعمارية الرجوع إلى المستعمرات، أو محاولة دول أخرى أن تحل في الاستعمار محل الدولة الخارجة منها، أي من المستعمرات.
إن المحتم معرفته هو مركز الدولة الأولى في العالم، لما لذلك من الأهمية في فهم السياسة العالمية، وفي فهم الموقف الدولي. ففي السلم تعتبر الدولة الأولى في الموقف الدولي، هي صاحبة الكلمة دولياً، وتستوي فيه بعد ذلك الدولة الثانية، وأي دولة أخرى من حيث استطاعتها التأثير العالمي سياسياً.

والتأثير للدول الأخرى إنما يكون للدول التي لها وزنها في التأثير على الدولة الأولى، ويتفاوت هذا التأثير بتفاوت الدول في القوة الذاتية، والقوة العالمية. فبقدر قوة الدولة، ومدى وزنها العالمي، يكون مقدار ما لها من تأثير على الدولة الأولى، وبالتالي على السياسة العالمية من ناحية دولية.
وأوضح مثال اليوم على محاولة التأثير على الدولة الأولى، ومن ثمَّ التأثير في السياسة العالمية، هو مثال بريطانيا هذه الأيام (2004م)، فإن تأثيرها في السياسة العالمية، من ناحية دولية آتٍ مما لديها من بعض التأثير على أميركا: الدولة الأولى في العالم، كما هو آتٍ من نفوذها المتواصل على مستعمراتها السابقة. وكذلك فرنسا، وروسيا، وألمانيا، فإنها اشتركت معاً بعد الحرب الأميركية البريطانية على العراق لإيجاد نوع من التأثير على الدولة الأولى، وبالتالي التأثير على السياسة العالمية من ناحية دولية.

وأما أمثلة الدول التي لا تؤثر على الدولة الأولى، وبالتالي فلا تأثير مستقل لها في السياسة العالمية، فمنها: الدولة التابعة، حيث لا يتأتى أن يكون لها تأثير على الدولة الأولى إلاّ بمقدار استعمال الدولة المتبوعة لها. وكذلك الدول التي في الفلك فإنها تستمد تأثيرها من الدولة الكبرى التي تدور في فلكها.
وأما باقي الدول غير التابعة، وغير التي في الفلك، وهي الدول المستقلة، كسويسرا، وإسبانيا، وهولندا، وإيطاليا، والسويد، مثلاً، فإنها تستطيع التأثير في السياسة العالمية من ناحية دولية، إذا أمّنت مصالح الدولة الأولى أو هدّدتها، ومن الأمثلة على ذلك، تأمين كل من إيطاليا وإسبانيا لمصلحة مهمة من مصالح أميركا، وذلك عن طريق مساندتهما لأميركا في احتلالها للعراق في 2003م.
ولذلك وجــب على أي دولة تريد أن تؤثـر في السـياسـة العـالمـيـة وتجرّها حسب مصلحتها، أن تسلك أحد طريقين: إما تهديد المصالح الحقيقية للـدولة الأولى في الموقف الدولي تهديداً فعالاً، وإما تأمين مصالح الدولة الأولى عن طريق المساومة لمصلحتها.

وطريق التهديد الفعال المؤثر، هو الطريق المنتج حتماً، وهو الذي يليق بالدولة الصحيحة التي تنشد ضمان تأثيرها، وسماع صوتها في الموقف الدولي. أما الطريق الثاني الذي يُستهدف من سلوكه تأمين المصالح، فإنه سبيل مظلم، غير مأمـون العـثـار، قد يوصل إلى الغاية، وقد يؤدي إلى التهلكة، إذ هو مقامرة بكيان أمة، ومغـامـرة حمقاء بمصير دولة؛ لأن تأمين مصلحة الدولة الكبيرة من قبل أي دولة، لا يمنعها من المساومة على هذه المصالح مع أي دولة دونها مركزاً أو إمكانيات.
فقد ساومت أميركا في العام 2003م على حليفاتها التقليدية من الدول الأوروبية الغربية، بعد أن وصفتها بأوروبا القديمة، وبدأت تبحث عن دول شرق أوروبا لتحل محلها في تحالفها في مسألة العراق، ولوَّحت كذلك ضد بريطانيا عندما حاولت ثنيها عن المضي قُدُماً في غزو العراق من دون الرجوع إلى الأمم المتحدة لتأخذ الشرعية الدولية منها، وقال رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي: «إن بمقدور أميركا الذهاب إلى العراق من دون بريطانيا».

ولتهديد المصالح، وإيجاد التأثير الفعال، يجب أن تكون الدولة قد توفرت لها إمكانيات الدفاع، وأسباب السيطرة الكاملة داخلياً. والسبيل الصحيح لذلك أن تكون سائرة في الطريق الارتقائي التصاعدي، أي يجب أن تكون صاحبة مبدأ تحمل دعوة عالمية، وتبدأ بمن جاورها، وحتى تحمي نفسها من حرب التدخل داخلياً، ولا تقتصر على حماية حدودها، بل تتوسع بمبدئها ونفوذها، حتى تزاحم الدولة الأولى في الموقف الدولي.
ولتتمكن أي دولة من زحزحة الدولة الأولى عن مركزها الرئيسي، عليها أن تقوم بتحويل الجو السياسي لجهتها، وجر الدول الأخرى سياسياً لها ولفكرتها، كما حصل لألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، وعندما تتمكن أي دولة من ذلك، يصبح الموقف الدولي متأرجحاً، حتى تتسلم إحدى الدول مركز الدولة الأولى، وفي الغالب لا يتأتى ذلك إلا إذا وقعت حرب غيرت الموقف، سـواء أكانت عالمية عامة، أم محصورة جزئية، أو إذا كان خطر وقوع الحرب على الدولة الأولى أمـراً راجـحـاً، وتحـتـاج في هذه الحـرب إلى الدولة المزاحمة في معسكرها.

ومركز الدولة الأولى في العالم ليس جديداً، فإنه موجود منذ القدم. فمصر في التاريخ القديم كانت الدولة الأولى، وكانت آشور في العراق تزاحمها على هذا المركز. ودولة الروم كانت الدولة الأولى، وكانت دولة فارس تزاحمها على هذا المركز. والدولة الإسلامية منذ عهد الخلفاء الراشدين حتى الحروب الصليبية كانت الدولة الأولى، ولم يكن لها مزاحم على هذا المركز. وكانت فرنسا هي الدولة الأولى، وكانت إنجلترا تزاحمها على هذا المركز. والدولة العثمانية، بوصفها دولة الخلافة الإسلامية، كانت الدولة الأولى مدة تقرب من ثلاثة قرون، ولم يكن لها مزاحم على هذا المركز، حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي. وقبل الحرب العالمية الأولى كانت ألمانيا هي الدولة الأولى، وكانت إنجلترا وفرنسا تزاحمانها على هذا المركز. وبعد الحرب العالمية الأولى كانت إنجلترا هي الدولة الأولى، وكانت فرنسا تزاحمها على هذا المركز. ثم قبيل الحرب العالمية الثانية كانت بريطانيا الدولة الأولى، وكانت ألمانيا تزاحمها على هذا المركز، حتى كادت أن تكون الدولة الأولى، إلى أن كانت الحرب العالمية الثانية، واشتركت أميركا في الحرب، وانتهت الحرب بأن أصبحت أميركا هي الدولة الأولى في رسم السياسة الدولية والموقف الدولي، حيث كانت أقدر الدول على جعل السياسة الدولية بجانبها، وظلت تسيطر على الموقف الدولي، لا تقع ولا تنفَّذ إلا الأحداث السياسية التي تريدها. ومع ذلك فقد استمر الاتحاد السوفياتي حينها، وبريطانيا، وفرنسا، تحاول مزاحمتها، وكانت تشاركها التأثير في السياسة العالمية بقدر ما، حسب قوة هذه الدول، وبخاصة الاتحاد السوفياتي بشكل قوي، ثم بريطانيا بشكل أضعف.

أما الاتحاد السوفياتي فقد نجح بالوقوف إلى جانب أميركا كشريك وحليف، وتأخرت إنجلترا إلى الوراء، وصارت تنـزل من أسفل إلى أسفل منه، حتى غدت على ما هي عليه الآن. وبيان ذلك أن إنجلترا، بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت تستفيق من ضربة الحرب، وأخذت تحاول زحزحة أميركا عن مركز الدولة الأولى، وصارت تقوم بأعمال سياسية لتؤثر على أميركا، فلم تشترك في الحرب الكورية إلا إشتراكاً رمزياً، وكانت تنقل أخبار أميركا الحربية إلى الصين، والصين هي التي كانت تقوم في الحقيقة بالحرب الكورية، واستطاعت إنجلترا بوسائلها الخفية الخبيثة أن تؤثر على مركز أميركا الدولي في الحرب الكورية، ما زعزع مركزها. وأيضاً وقفت في مؤتمر جنيف الذي عقد من أجل الهند الصينية بجانب المعسكر الشرقي، فخرجت بقرارات في صالح المعسكر الشرقي. وأيضاً فقد كانت تنقل لروسيا أخبار أميركا التجسسية والعسكرية، ومن ذلك ما نقلته عن طائرة (يوتو) لروسيا ما أدى إلى إسقاطها. ثم ما كان من موقف ماكميلان في مؤتمر باريس من الوقوف إلى جانب خروشوف ضد إيزنهاور، ومحاولة إذلال إيزنهاور بوصفه رئيس الولايات المتحدة، ما أدى إلى فشل المؤتمر وإضعاف مركز أميركا. وهكذا قامت بأعمال كثيرة لضرب أميركا، محاولةً التأثير على مركز الدولة الأولى، ولكن أميركا فطنت لكل ذلك. ثم كان اجتماع خروشوف بكندي في فينّا، ومن ذلك التاريخ تحولت إنجلترا من موقف المهاجم لأميركا إلى موقف المدافع عن نفسها، حيث بدأت روسيا (الاتحاد السوفياتي) وأميركا معاً في تصفية إنجلترا في العالم.

لقد كان الاتحاد السوفياتي يشعل الحرب الباردة ضد المعسكر الغربي، ويخص أميركا بالقدر الأكبر من ذلك، فكان يحاول أن يأخذ زمام المبادرة من المعسكر الغربي، ويعمل لزحزحة أميركا عن مركز الدولة الأولى؛ ليكون هو الدولة الأولى في العالم، وقد نجح في عدة أعمال، فاستطاع أن ينقل أميركا من حصنها الحصين، وهو هيئة الأمم المتحدة، في حل المشاكل الدولية، إلى عقد مؤتمرات خارج هيئة الأمم، وكان يشجع إنجلترا على مزاحمة أميركا من أجل إضعاف مركز الدولة الأولى، وتوسيع شقة الخلاف من أجل إضعاف مركز الدولة الأولى، ووسع شقة الخلاف بين فرنسا وأميركا، وأثر كثيراً في الأعمال الدولية. وإلى جانب ذلك تقدم في مجال الفضاء حتى سبق أميركا، وتقدم في الأسلحة النووية وفي الصواريخ عابرة القارات، وأنشأ قاعدة عسكرية له في كوبا لتهديد أميركا، وفضح كثيراً من الأساليب الأميركية في الكونغو، ومصر، والجزائر، وغيرها. إلا أن كل ذلك، وإن أثر على أميركا كل التأثير، ولكنه لم يزحزحها عن مركز الدولة الأولى، وإنما كان انتصارات جزئية في بعض المسائل السياسية دولياً، إلا أن الاتحاد السوفياتي لم ييأس في الهجوم على أميركا بأساليب الحرب الباردة، إلى أن حصل اجتماع خروشوف بكندي سنة 1961م، حيث اجتمعا في شهر حزيران من ذلك العام في فينّا عاصمة النمسا، واتفقا على اقتسام العالم بينهما. وبعد ذلك التاريخ سقطت كل من بريطانيا وفرنسا من السياسة العالمية، وانفرد الاتحاد السوفياتي وأميركا معاً في رسم هذه السياسة.

ولم تفلح جميع المحاولات التي قامت بها بريطانيا في أن يكون لها رأي في السياسة العالمية، وكذلك لم تفلح فرنسا، حتى في أيام ديغول، في أن تتقدم خطوة واحدة في إيجاد أي إمكانية لها في بحث السياسة العالمية، وظلت الحال كذلك حتى العام 1989م، حيث سقط جدار برلين، وانفرط عقد الاتحاد السوفياتي بعد ذلك بعامين بصورة رسمية، وانتهت الحرب الباردة، وورثت روسيا مكانة الاتحاد السوفياتي رسميا في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، لكنها أُسقطت من المركز الثاني في السياسة العالمية، ونشأ وضع دولي جديد أصبحت فيه الولايات المتحدة الأميركية لأول مرة بلا شريك دولي، ودخل العالم في مرحلة دولية غير مسبوقة، فحاولت أميركا في آخر عهد بوش الأب رسم سياسة دولية تفردية، ونادى بمصطلح النظام العالمي الجديد، ولكن هذا النظام لم يكتب له النجاح، وظلّ المصطلح ضبابياً، كما ظلّ الوضع الدولي غائماً، إلى أن جاء كلينتون إلى سدة الحكم في العام 1992م، فأرسى نظاماً دولياً جديداً، لا يعتمد على التفرد، وإنما يعتمد على التفوق. وبدأت إدارة كلينتون بإرساء قواعد هذا النظام الجديد، الذي كان من أهم أركانه انتهاج سياسة المشاركة مع القوى الكبرى الأخرى، التي تجلت في حسم مشاكل البلقان في البوسنة والهرسك وكوسوفا، كما تجلت في تفكيك الأسلحة النووية في كل من أوكرانيا، وروسيا البيضاء، بالتفاهم مع روسيا، وتم كذلك توقيع مذكرات تفاهم بين أميركا والدول التي كانت في السابق جزءاً من المنظومة الشرقية، واشترك في توقيع بعض هذه التفاهمات بريطانيا وألمانيا. واستطاعت أميركا في هذه الحقبة أيضاً، وبفضل سياسات المشاركة، أن توسع حلف شمال الأطلسي، بالتعاون مع الدول الأوروبية الغربية، التي استفادت هي الأخرى من توسيع دول الاتحاد الأوروبي، وتم هذا التوسع وذاك التوسيع على حساب روسيا، وعلى حساب نفوذها.
وتميزت هذه الفترة بصعود القوة الألمانية، حيث صاحب ضعف الاتحاد السوفياتي، وانهيار جدار برلين، وإزالة السند عن ألمانيا الشرقية، صاحب ذلك توحيد ألمانيا الشرقية مع ألمانيا الغربية بسرعة قياسية، وأن تصبح أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، وأن تتحول إلى قوة سياسية فاعلة ومؤثرة تتقرب إليها أميركا وأوروبا، حتى صار الحديث عن دخول ألمانيا نادي الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن موضع تساؤل، أميركياً، وأوروبياً، وعالمياً.

ورافق هذا الوضع السياسي الجديد، وضع اقتصادي جديد، حيث تم تفعيل سياسات السوق بشكل كبير، وتمثل ذلك في سياسات العولمة التي فرضت نفسها على العالم، فاتحدت الشركات، وتعملقت، وبرزت كلاعب اقتصادي رئيسي يملي سياساته على الحكومات، وصارت الشركات متعددة الجنسيات حديث الاقتصاديين، وتم تحويل اتفاقية الجات في العام 1995م إلى منظمة تجارة دولية تحمي سياسات العولمة بغطاء قانوني، كما تم تفعيل دور صندوق النقد والبنك العالميين، بحيث صار هذا الثالوث، وهو منظمة التجارة والصندوق والبنك، يستخدم من قبل الدول الكبرى، كأداة تدخل وضغط في سياسات الدول الاقتصادية، وقد اعترف كل من لورنس إيجلبرجر وزير خارجية أميركا السـابـق، وميشـيل كامديسو رئيس صندوق النقد الدولي، اعترفا بأنهما استخدما الصندوق في الإطاحة بنظام سوهارتو عن طريق فرض سياسة تعويم العملة، وحرمانه من القروض إن لم يقبل بهذه السياسة، فخضع للطلب، وعوَّم العملة وأطيح به.

كما تم تفعيل دور G7 وهي الدول السبع الصناعية، وذلك بإضافة روسيا إليها، وهكذا سيطرت هذه الدول الثماني وهي: أميركا، واليابان، وألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وكندا، وروسيا، سيطرت هذه الدول على السياسات العالمية الاقتصادية والنقدية، فإذا أضفنا إلى هذه الدول الثماني دولة الصين بما لها من ثقل اقتصادي كبير، وبما تملك من قوة نووية، ومركز ثقل سكاني، ومقعد دائم في مجلس الأمن، إذا أضفنا دولة الصين بما تملكه من هذه القوى، فإنه يمكننا القول، بشيء من التجاوز، إن الدول الكبرى في العالم اليوم هي هذه الدول التسع، ولكن تفاوت قوة هذه الدول يجعلنا نسقط منها دولتين وهما إيطاليا وكندا، كونهما لا تملكان أية قوى سياسية أو جيوسياسية، تؤهلهما للعب دور عالمي، وبذلك تبقى الدول المؤثرة في السياسات العالمية سبع دول وهي: أميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وروسيا، والصين، واليابان. ومع اختلاف هذه الدول في التأثير العالمي، فالخمس الأولى تتطلع للتأثير في مناطق مختلفة من العالم، مع تفوّق هائل لأميركا على الأربع الأخرى. والسادسة (الصين) يتركز تطلعها إلى التأثير في محيطها الإقليمي. والسابعة (اليابان) تتطلع إلى التأثر في مناطق مختلفة من العالم، ولكن على الأساس الاقتصادي.

يقول وزير خارجية فرنسا السابق هوبر فيدرين في كتابه “رهانات فرنسا في زمن العولمة”: «إن هذه القوة الوحيدة (أميركا) التي تهيمن على كل المجالات الاقتصادية، والتكنولوجية، والعسكرية، والنقدية، واللغوية، والثقافية، حالة غير مسبوقة في التاريخ» على حد وصفه. ثم يضع فيدرين تصنيفاً خاصاً للدول من حيث القوة والنفوذ فيقول: «إن الولايات المتحدة تمثل المرتبة الأولى في العالم بلا منازع، ويأتي بعدها في الصف الثاني سبع دول ذات نفوذ عالمي هي: فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وروسيا، والصين، واليابان، والهند، شريطة أن تشرع في توسيع رؤيتها التي لا تزال إقليمية». ويقول: «إن معايير هذا التصنيف كثيرة، منها الدخل القومي، والمستوى التكنولوجي، والسلاح النووي، ثم المستوى الكمي والكيفي للأسلحة، والارتباط بمنظمات وتشكيلات دولية، مثل مجلس الأمن، ومجموعة الـ8، أو الاتحاد الأوروبي، ثم ترويج اللغة والتأثير الثقافي الموروث من الماضي».
ولكن الأدق من رأي فيدرين هذا هو أنه بعد أميركا الدولة العملاقة، التي لا تدانيها أية دولة في أوائل القرن الحادي والعشرين، تأتي ثلاث دول كبرى حقيقية هي: روسيا، وبريطانيا، وفرنسا، ثم بعد هذه الثلاث مباشرة تأتي ألمانيا، وهذه الدول الأربع لها تطلعات دولية في أنحاء كثيرة من العالم. ثم الصين وهي دولة كبرى في حدود محيطها الإقليمي، ولولا ضيق تطلعها الدولي لزاحمت كل أو بعض الدول الأربع السابقة. وأما اليابان فهي أكبر الدول بعد أميركا اقتصادياً، وبذلك يكون ترتيب قوة الدول على النحو التالي: أميركا، روسيا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الصين، اليابان، على التوالي، حيث يمكن إطلاق دول كبرى علـى هذه السـبع، أما الهند وكندا وإيطاليا فلا تستحق أن يطلق عليها دول كبرى، مع أنها هي التي تلي هذه السبعة، وتشكل معها الدول العشر الأولى في العالم.

ومع انتهاء القرن العشرين، وبداية الألفية الميلادية الثالثة، حاولت إدارة جورج بوش الابن تغيير قواعد اللعبة، فأسقطت سياسات المشاركة التي انتهجها كلينتون، وبدأت تفرض على القوى الكبرى سياساتها بالإكراه، وانسحبت من عدة معاهدات دولية مثل اتفاقية كيوتو، ومحكمة الجنايات الدولية، واتفاقيات سالت لتخفيض نشر الأسلحة الباليستية، وغيرها، وتوترت العلاقة بينها وبين الدول الكبرى أكثر فأكثر بوقوع أحداث الحادي عشر من أيلول العام 2001م، بتفجيرات مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومبنى البنتاغون في واشنطن، فمنحها ذلك دفعة جديدة في اتجاه التفرد، واتخذت من هذه التفجيرات مبرراً لمحاربة ما أسمته بالإرهاب، فاحتلت أفغانستان والعراق تحت هذه الذريعة. وسادت الغطرسة السياسية الإدارة الأميركية، فتبنت سياسة “إما معنا أو ضدنا”، وأثارت هذه السياسات الجديدة ردات فعل غاضبة من الأوروبيين ومن غيرهم، واتهموها بالتبسيط والسذاجة، وطالبوا الأميركيين بأن يعودوا إلى المشاورة والمشاركة، لكن الأميركيين رفضوا العودة إلى قواعد المشاركة والمشاورة التي سار عليها كلينتون، وتمكن من يسمون بالمحافظين الجدد بقيادة ديك تشيني نائب الرئيس، ورامسفيلد وزير الدفاع، وولفوفيتز نائبه، وريتشارد بيرل رئيس مجلس السياسات الدفاعية، ودوغلاس فيث، وجون بولتون، وكوندوليزا رايس، وآخرين، تمكن هؤلاء من التأثير في قرارات بوش، بحيث وظفوا كل قدراتهم، ونفوذهم، والشركات التي تدعمهم، لخدمة هذه السياسات.
وكان من أبرز هذه السياسات عدم الالتفات إلى الأمم المتحدة، وشرعيتها في اتخاذ القرارات، وجعل الأولوية للمصلحة الأميركية، فإن تعارضت هذه المصلحة مع الشرعية الدولية تم إهمال الشرعية الدولية، وإن لم تتعارض تم تفعيلها، وهكذا تعاملت مع مجلس الأمن، فإن نجحت في استصدار قرارات من المجلس كان به، وإلا تم إهماله وإغفاله.

وحاولت أوروبا ممثلة في بريطانيا أن تثني الإدارة الأميركية عن الالتفاف على الشرعية الدولية، واستقطبت هذه المحاولة وزير الخارجية الأميركي كولن باول، ومال إليها الرئيس بوش، ولكن تكتل مجموعة المحافظين الجدد أفشل هذه المحاولة، وبقيت أميركا تتجاهل سياسات المشاركة، كما تتجاهل إعطاء دور فاعل للمنظمة الدولية.
وعلى أية حال لم تستطع إدارة بوش الابن إسقاط الدول الكبرى، كبريطانيا، وروسيا، وفرنسا، وألمانيا، من لعب دور في السياسة الدولية، بل إن هذه السياسات التي انتهجتها إدارة بوش الابن قوَّت مواقف تلك الدول ولم تضعفها؛ لأنها لجأت إلى توحيد صفوفها دفاعاً عن نفسها أمام هذه الهجمة الأميركية الشرسة عليها، فتشكل محور فرنسا، ألمانيا، روسيا، وتعاون هذا المحور مع بريطانيا بشكل خفي، وتمكنت هذه الدول بالمقاومة والملاينة، أن تثبت مواقعها كدول كبرى فاعلة إلى حد ما في السياسة الدولية.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى