الدبلوماسية و المنظمات الدوليةنظرية العلاقات الدولية

الدبلوماسية غير الحكومية بين حداثة المفهوم وفعالية التأثير

أ‌. حسن بن كادي – أستاذ مساعد (أ) ، قسم العلوم السياسية

كلية الحقوق والعلوم السياسية – جامعة قاصدي مرباح ورقلة

الملخص :

تناقش هذه الورقة حقل التنمية السياسية في مرحلة هامة انحصر فيها – بشكل لافت –استخدام المفهوم مند العقود الثلاثة الأخيرة التي تميزت بظهور نظام دولي جديد على مستوى الواقعي وحركة ما بعد الحداثة على مستوى الفكري والثقافي والعلمي, ثم طغيان العولمة ، مما نتج عنه تحول حقل التنمية السياسية إلى نسق جديد ، وعليه يهدف المقال إلى إبراز أثر المتغيرات التي طرأت على هذا حقل في ظل التحولات السالفة الذكر .

مقدمة :

شهد حقل التنمية السياسية مند الخمسينات اهتماما متميزا وكثيفا عكسه حجم التراث الضخم الذي خلفه الرواد الأوائل في علم السياسة, واستمر هذا الاهتمام حتى ثمانيات القرن الماضي, ولكن مع انتهاء الحرب الباردة, وتغير هيكل النظام الدولي الذي رافقه انحسار النظرة الاشتراكية في مقابل انتشار النموذج الرأسمالي, وظهور ما أطلق عليه عموما “النظام الدولي الجديد” على المستوى الواقعي, أو”حركة ما بعد الحداثة” على المستوى الفكري والثقافي والعلمي, تراجع – بشكل لافت وتحت تأثير عوامل عدة – الاهتمام بهذا الحقل وأخذ يتحول إلى نسق جديد ؛ فمند بداية التسعينات والغرب والعالم من ورائه يعيش تلك اللحظة التحولية الكبرى التي أُطلق عليها “التحول الحاد في التاريخ”1, هذا التحول أفرز ظاهرة العولمة التي من أبرز مظاهرها بداية نهاية مفهوم الدولة القومية ذات السيادة التي لم تعد إلا واحدة من وحدات التكامل السياسي في ظل نظام تتعايش فيه هياكل عبر قومية إقليمية ودولية, محلية وقبائلية … وتبلور نمط جديد من المجتمعات عرف بمجتمع المعلومات بكل خصائصه ومميزاته , أثّر ذلك بشكل مباشر على حقل التنمية السياسية وموضوعها ونظرياتها, وطُرحت مسألة إعادة التنظير لهذا الحقل الحيوي بناء على التحولات المتسارعة السالفة الذكر, وتأسيسا على ذلك يسعى هذا المقال إلى رصد تأثير إفرازات العولمة – وما سبقها – في حقل التنمية السياسية وحاجة الحقل إلى إعادة التأصيل انطلاقا من السؤال الرئيسي التالي : ما أبرز تأثيرات العولمة في حقل التنمية السياسية ؟ ولتحليل هذه الإشكالية والإجابة عليها استعنا بالعناصر التالية :

  • تأثير فلسفة ما بعد الحداثة في علم السياسية والنظرية السياسية .
  • تأثير مابعد الحداثة في الحقل السياسي المعني بالتنمية .
  • العولمة وحاجة مناهج التنظير في حقل التنمية السياسية إلى إعادة التأصيل .
  •  التنمية السياسية والعودة إلى دراسة الدولة .
  • تحول المفاهيم السياسية في ظل مجتمع المعلومات .

أولاً : تأثير فلسفة ما بعد الحداثة في علم السياسية والنظرية السياسية :

تعود أهمية الحديث عن ما بعد الحداثة في هذا السياق على اعتبارها تشكل نقطة فاصلة بين مرحلتين من مراحل تطور حقل التنمية السياسية؛ امتدت أولاهما من الخمسينات إلى نهاية السبعينات وتميزت بالاهتمام المنقطع النظير بموضوع التنمية السياسية تنظيرا وتأصيلا وتطبيقا, وكان هذا في إطار “الحداثة” التي مثلت المشروع الفكري والثقافي الذي أطَّر الحضارة الغربية وامتداداتها العالمية, وفي إطار السلوكية التي مثلت كذلك النسق المعرفي التي صيغت في إطاره العلوم الاجتماعية فيما بعد الحرب العالمية الثانية, وما تأسَّس بعد ذلك من مدارس فكرية ونظريات مختلفة كمدرسة التحديث والتنمية, والنظرية الماركسية, ونظرية التبعية …, ثم جاءت فلسفة ما بعد الحداثة لتحدث ما يشبه “الانقلاب والردة” عن مضامين المشروع الحداثي, وتطرح نسق جديد تؤطر من خلاله مواضيعه- أي المشروع الحداثي- التي على رأسها موضوع التنمية السياسية .

1- التعريف بماهية ما بعد الحداثة : تكمن الفكرة الأساسية لتيار ما بعد الحداثة في الاعتقاد بأن أساليب العالم الغربي في الرؤى والمعرفة والتغير طرأ عليها في السنوات الأخيرة تغير جذري نجم في الأغلب عن التقدم الهائل في وسائل الإعلام والاتصال والتواصل الجماهيري وتطور نظم المعلومات في العالم ككل مما ترتب عليه حدوث تغيرات في اقتصاديات العالم الغربي التي تعتمد على التصنيع وازدياد الميل إلى الانصراف عن هذا النمط من الحياة الاقتصادية وظهور مجتمع وثقافة من نوع جديد2 .

وعلى الرغم من أن ما بعد الحداثة تشخيص لكل ما يحدث حولنا إلا أنها لم تُعطَ حتى الآن تعريفا, وترجع صعوبة وضع تحديد دقيق لكلمة ما بعد الحداثة إلى أنها تتولد عن معانٍ مختلفة تختلف باختلاف الفروع التي تدخل في نطاقها حيث أن أغلب ما كتب عن ما بعد الحداثة نبع من تواجد اختلاف معرفي عما تدعو إليه ما بعد الحـداثة أو ما تتعـهد به , فمـثلا نجـد أن هذا المصـطلح متطابق إلى حد كبير مع ما بعد البنيوية ونجده متعارضاً معها في أحيانا أخرى، كذلك نجد أن المصطلح قد يستخدم في أحيانا ثالثة بشكل نظري صارم ليصف المشهد الثقافي المعاصر3 , وللأسف فإن معتنقي ما بعد الحداثة ورموزها الفكريين لم يتفقوا حتى على تعبير ما بعد الحداثة نفسه , فالبعض مثل ” ليوتارد ” يفضل صيغة أكثر ايجابية وتحديدا لشرط ما بعد الحديث , بينما هناك من يراها منطقا ثقافيا للرأسمالية المتأخرة ” كجيمسون ” أو عصرا ثقافيا أخيرا في الغرب4 .

ويرى محمود فتحي عبد العال أن إضافة مقطع (مابعد) إلى مصطلح الحداثة قد يشير إلى الاستمرارية مع الحداثة ولكنها ليست استمرارية تواصلية – بمعنى أن ما بعد الحداثة استكمال لمشروع الحداثة – بقدر كونها استمرارية من أجل القطيعة , فالاستمرارية مع الحداثة هنا ضرورة نابعة من أن فهم ما بعد الشيء يستوجب معه منطقيا فهم الشيء نفسه لتحديد موقف معين تجاهه , وفى ظل هذه الاستمرارية مع الحداثة تتولد القطيعة والانفصال عنها, وبالرغم من ذلك كله فإن المقطع (مابعد) يعد تأكيداً على تمايز ما بعد الحداثة على الحداثة باعتبارها مرحلة فكرية وثقافية جديدة مناهضة لمرحلة الحداثة, وفى ضوء ما سبق يمكن القول بأن المقطع (ما بعد) قد أفاد مصطلح ما بعد الحداثة في تحديد هويته واتجاهه تجاه تيار الحداثة5 .

وبناء على ما سبق, واستنادا إلى آراء أبرز من تكلم عن مفهوم مابعد الحداثة6 يمكن القول بأن تيار ما بعد الحداثة يستند إلى مجموعة من المبادئ التي ينطلق منها في معالجته لمختلف القضايا وهى على النحو التالي7 :

– العدمية : وتعنى انعدام قيمة القيم في ظل الحداثة ومنجزاتها ونقد الذات وإنكار الحقيقة والموضوعية والتاريخ ويمثل هذا المبدأ المنطلق الداخلي لتيار ما بعد الحداثة .

– التعامل مع مختلف القضايا من خلال اللغة , حيث تتركز تحليلات ما بعد الحداثة على الخطاب وهذا يعنى أن تحليل النصوص أو تفكيكها قد أصبح يحظى بالمكانة الأولى في الجهد النظري لمفكري ما بعد الحداثة. ومن ثم يمكن القول بأن اتخاذ الخطاب كوحدة للتحليل قد يظهر معه انصراف مفكري ما بعد الحداثة عن تحليل الواقع أو المضامين الملموسة للحقائق, وذلك نظرا لأن الخطاب قد لا يعطي صورة حقيقية عن الواقع .

– سعت حركة ما بعد الحداثة إلى تحطيم الأنساق الفكرية الكبرى المغلقة والتي عادة ما تأخذ شكل الأيديولوجيات, على أساس زعمها تقديم تفسير كلي للظواهر , كما أنها انطلقت من حتمية وهمية لا أساس لها. انطلاقا مما سبق يمكن النظر إلى ما بعد الحداثة باعتبارها “حالة حضارية تهدف إلى خلق نمط ثقافي ومعرفي يتعارض مع الحداثة، له سمات وخصائص تمجد عدم التحديد واللامعنى والتعددية والاختلاف والنسبية في النظر إلى الواقع ويعلى من قيمة الثقافة والمعرفة في توجيه المجتمع الإنساني” وهذا يعنى أنها مرحلة من مراحل تطور المجتمعات تلي الحداثة وتهدف إلى “خلق نمط ثقافي و معرفي” بمعنى أنها تهدف – في ضوء منطق التحولات الذي افرزها- إلى إعادة هيكلة البنية الموجودة داخل مستويات الوجود الإنساني ، كما أن هذا النمط يرفض الأطر النظرية والمنهجية للحداثة ومدلولاتها الواقعية ، ويتسم بسمات مغايرة للنمط الحداثي تجسد رؤيته عن الواقع ، وتخلق له رؤية تتماشى مع تأثير المعطيات الواقعية الجديدة على الحياة الاجتماعية والمتجسدة في الاعتماد على التكنولوجيا وطغيان وسائل الإعلام والاتصال على الواقع.

أما ما بعد الحداثة كنظرية, فإنه يفضل أن توصف بأنها تمثل موقفا نقديا أو فلسفة نقدية أكثر من وصفها اتجاها نظريا بعينه, ذلك أنها جاءت كانتفاضة أو (تمرد) على الاتجاهات النظرية الوضعية, ومتمحورة حول النقد الابستمولوجي والمنهجي للاتجاهات النظرية التقليدية القائمة على أساس الفلسفة الوضعية والتجربة العقلانية8. إضافة لما احتوته فلسفة ما بعد الحداثة من نزعة لتحرير الإنسان, وموقفها المضاد للشمولية السياسية والأحادية الفكرية, والدعوة إلى الأنساق الفكرية والمنهجية المفتوحة مما جعل بنائها النظري معقدا وصعبا للإدراك, وعسيرا في الوقت ذاته على فهم إسهامها وتأثيرها في الحقل السياسي عموما, وحقل النظرية السياسية والتنمية خصوصا.

2- تأثير ما بعد الحداثة في علم السياسة والنظرية السياسية : يعتقد كثيرون منهم (مارتن توماس) أن جوهر حركة ما بعد الحداثة في حقيقته ما هو إلا “إعادة هيكلة للرأسمالية الليبرالية المتقدمة عبر إعادة توجيه القيم والمعايير السائدة, مما يفضي إلى سلوك سياسي جديد ينعكس على النواحي الاقتصادية والاجتماعية”9, ويرتكز هذا السلوك على ثلاث قواعد: التشكيك في نظرية المعرفة مما يلزم إعادة تقييمها, والثاني الالتزام بالبراغماتية والتعددية التي تفضل الممارسات السياسية في مرحلة ما بعد التقليدية, والثالث التركيز على موضوعات الاختلاف والتناص (contextuality) .

فعندما احتضنت المدرسة الأمريكية علم السياسة المعاصر أصبح هذا العلم أكثر ارتباطا بواقع المجتمع الأمريكي ومشكلاته, وهو ما أثر يقينا على التحولات المعرفية التي شهدها علم السياسة مند ذلك الوقت, فالثورة السلوكية التي ارتبطت بتقاليد الفلسفة الوضعية أحدثت نقلة نوعية في علم السياسة الذي تأثر في نهاية الخمسينات والستينات بمفهوم “النظرية الكبرى”, مع الأخذ بعين الاعتبار التحولات التكنولوجية والإجراءات العقلانية .

وفي هذه المرحلة من تطور علم السياسة يمكن أن نلاحظ متغيرين هامين: أولهما ما أطلق عليه (باكنهام) أيديولوجيا الليبرالية الأمريكية, وثانيهما ما أطلق عليه (بودهايمر) أيديولوجيا النزعة التنموية

وبمراجعة دراسات التنمية السياسية التي أنجزت أواخر الخمسينات وطيلة الستينات, نلاحظ أنها شكلت انقطاعا عن الأعمال ذات “النزعة القانونية الشكلية”, فالدراسات السلوكية في علم السياسة طرحت تحولا منهجيا بمعنى التحول من التركيز على المتغيرات القانونية والمؤسسية إلى التركيز على المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية .

وإذا كانت الحداثة هي المشروع الفكري والثقافي الذي أطر الحضارة الغربية وامتداداتها العالمية, فإن السلوكية هي النسق المعرفي التي صيغت في إطاره العلوم الاجتماعية فيما بعد الحرب العالمية الثانية, خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية التي احتلت موقع الريادة في بناء المدرسة السلوكية ومدها إلى مختلف العلوم الاجتماعية10 .

على أن السلوكية التي تمثل مضمون المشروع الحداثي في العلوم الاجتماعية تعرضت لانتقادات معرفية نالت من أسسها وأركانها, وهو ما أدى إلى زعزعة نموذجها المعرفي التنموي المرتبط بها والدائر في فلكها, وليس بخاف أن ذلك النقد قد مثل أزمة منظورية وفقا للمفهوم الكوني في علم السياسة, الأمر الذي أفضى فيما بعد إلى تجاوز فكر الحداثة وتأسيس نماذج ما بعد الحداثة, هذه الأخيرة اتسمت بتعددية مفرطة تغيب عنها المرجعية والمعيارية – وإن كانت مادية في عمومها – ذلك أن عالم ما بعد الحداثة تسقط فيه- أو هكذا يفترض- كل المنظورات المعرفية والأخلاقية والجماعية, لأن الأمر ليس إلا عملية تفكيك كاملة11 .

وعلى الرغم من أن فلسفة ما بعد الحداثة قد أفضت إلى تغيرات وتحولات منهجية ومعرفية في علم السياسة؛ حيث بدأ يركز على مفاهيم النسبية الثقافية, ويبتعد عن مفهوم النظريات الكبرى ذات النزعة الكلية والمتمركزة حول اللوجوس12, فإن ذلك يقوِّض أيضا من دعائم الأسس المعرفية التي يرتكز عليها “الآخر” -أي الغير غربي- إذ أن الحقيقة الدينية بل والإنسانية غير واردة13 . ويذهب الكثيرون إلى القول أنه لا يمكن لنا فهم مجتمع ما بعد الحداثة وثقافته ما لم نستخدم مفاهيم ما بعد الحداثة ذاتها في التحليل, فقد دعا مفكرو ما بعد الحداثة إلى رفض السوسيولوجيا التي أسسها السوسيولوجيون الكلاسيكيون رفضاً تاماً،كما اعتبروا أن الأفكار السياسية الحداثية أفكار ميتة، ولا بد من صياغة شكل سياسي ما بعد حداثي جديد.

إن الخاصية الرئيسة التي تشكل فكر ما بعد الحداثة في الحقل الأكاديمي هي مبالغته إن لم يكن ارتباكه في الأفكار والسلوكيات المختلفة, وبما أن أفكار ما بعد الحداثة تتفق في رفض أفكار الحداثة المعتاد عليها، التي تتعلّق بالمعرفة واليقين والنظام, ونجد في المقابل تأييداً وتركيزاً على المبادئ المعاكسة، أي على الفهم غير الموضوعي والتشكيك والفوضى, فإن هذا لا يضع مفكري ما بعد الحداثة في موقف معارض لفكر الحداثة فحسب، بل للمجتمع الذي يعتقدون بأنه يجسده. وعادة ما يُعتبر هذا نظاماً اجتماعياً قائماً على نموذج بيروقراطي قمعي للعقلانية. إذ يشكل مجتمع فوضوي وغير عقلاني، ومن ثم مرن متحرر، أساساً لرغبات كثيرين من مفكري ما بعد الحداثة السياسية14.

ويلخص الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار (JeanFrancois Lyotard)في كتابه حالة ما بعد الحداثة (The postmodernCondition) الفكر المابعد حداثي بالقول أنه :”التشكيك في «الأنساق الفكرية العملاقة»”. والتي هي عبارة عن تفسيرات فخمة تتناول الحياة البشرية في موضوعاتها، خصوصاً ما يتعلق منها بمقولة الحرية والتحرر، التي كانت سائدة في الحياة الاجتماعية والسياسية الغربية خلال القرون الأخيرة الماضية. ومن بين هذه الموضوعات الاعتقاد الليبرالي بزيادة مستوى الديمقراطية والتطور والفكرة الماركسية التي تحثّ على ثورة شاملة وتحرر طبقة العمال الكامل في مجتمع اشتراكي مستقبلي. ويرى ليوتار أن هذه الأفكار هي التي شكلت جزءاً أساسياً من تطور الحداثة الغربية. ومن منظور ما بعد الحداثة ليست هذه الأمور إلا ضرباً من ضروب الخيال، وهي أفكار تتداولها مجموعة ما على أنها عالمية في اهتمامها وتطبيقها.

والحق أنه رغم التحولات المشار إليها إلا أن العقل الغربي لم يتجاوز قط ثوابت نظامه المعرفي, فمن الناحية المعرفية ظلت اتجاهات الحداثة وما بعد الحداثة على تنوعها واختلافها تؤمن بالعقل وبمركزية الإنسان, وبالوضعية المستبعدة للعامل الديني والخلقي, إلا أن ما بعد الحداثة خففت إلى حد كبير من حدة التمركز حول الذات, والقول بالحقيقة المطلقة, ودعت إلى الاعتراف بثقافة الآخر .

ثانياً : تأثير مابعد الحداثة في الحقل السياسي المعني بالتنمية :

لقد تركز النقد الموجه لنظرية الحداثة على مسلماتها المعرفية خصوصا تلك التي بنيت عليها المدرسة السلوكية نموذجها التنموي, واعتبرت تلك المسلمات غير حقيقية أو غير ممكنة التطبيق, ومن ثم تأسست ما بعد الحداثة على نقض هذه المسلمات التي يمكن إجمالها فيما يلي15:

$1- عالمية العلم والنظريات والمناهج وإمكانية التعميم عبر الثقافات والأزمان والأماكن .

$1- الاستغراق في الذات الأوروبية والتمركز حولها .

$1- الاعتقاد في إمكانية إيجاد حقيقة مجسدة حيث ظل الخطاب الحداثي منشغلا وبصورة مستمرة حول تطوير النظرية الواحدة الصحيحة أو المنهج الواحد الصحيح القادر على فهم العالم, والذي يمكن من خلاله الوصول إلى الحقيقة في الواقع وقول الكلمة الأخيرة في العلم والمعرفة والقيم .

وقد انعكست مقولات ما بعد الحداثة على السلوكية والتنموية وتم توجيه الاهتمام إلى عدم إمكانية تطبيق مقولات السلوكية وفشلها في تحقيق ما وعدت به وهدفت إليه من عالمية وموضوعية وحيادية, بل على العكس وقعت في التحيز الأيديولوجي واتصفت بالطابع الاختزالي وفشلت في تحقيق الحياد العلمي . ومن ثم برز الاهتمام بضرورة إعادة التفكير في مفاهيم “التقليدية”و”الحداثة”و”التنمية” وتداعياتها, ثم دار النقاش حول طبيعة الظروف التي تمر بها عملية التنمية في العالم الثالث وضرورة مراجعة وإعادة فحص المفاهيم الثلاثة, والبحث في المسلمات التي دفعت إلى الاعتقاد بعالمية النموذج الأوروبي للتنمية .

وفي ذلك بدأت نظرية التنمية تتحول سواء على مستوى الأطر النظرية أو النموذج المعرفي أو الموضوعات, فبدلا من التركيز على الثقافة انصرف الاهتمام إلى الاقتصاد كمدخل للتغيير, وبدلا من الدعوة إلى إيجاد ثقافة مدنية عالمية أصبحت الدعوة تتجه إلى إيجاد مجتمع مدني عالمي, وبدلا من التركيز على بناء الدولة وبناء الأمة أصبح الاهتمام منصرفا نحو قضايا التعددية وتجاوز الدولة وتحطيم مفهوم السيادة, وبدلا من اتخاذ الدولة كمركز أصبح السوق هو المركز16 …الخ .

ويمكن القول أن التغيير في نظرية التنمية لم يكن فقط تغييرا “جوانيا” يتعلق بالمكونات والمحددات النظرية فحسب, وإنما كان أيضا تغييرا “برانيا” يتعلق بالمجال الحيوي للحقل وموقعه في داخل علم السياسة وعلاقته بالعلوم الأخرى, وفيما يلي بعض المحددات النظرية للتنمية في مرحلة مابعد الحداثة17 :

$1- بروز مفهوم التنمية المستديمة (sustainable Development).

$1- تغير مفهوم المجتمع المحلي, وظهور مفهوم المجتمع المدني العالمي .

$1- تآكل مفهوم السيادة ونهاية مفهوم الدولة القومية .

$1- الانتقال من مركزية الدولة إلى مركزية السوق .

$1- انتهاء مفهوم العالم الثالث والبديل الثالث .

وعلى الرغم من الأزمة المعرفية التي عانت منها دراسة التنمية السياسية مند أواخر الستينات فإن القراءة الواعية لأدبيات التنمية تفصح بجلاء عن وجود التزام أيديولوجي تعبر عنه منظومة القيم المحورية التي تنطوي عليها نظرية التنمية السياسية تجاه الرأسمالية سواء على الصعيد الدولي أو بحسبانها أنموذجا للتغيير الاقتصادي والاجتماعي ينبغي على الدول النامية أن تحتذي به . فقد فرض النموذج الثقافي الأمريكي مجموعة من القضايا المركزية تمحور حولها علم السياسة المعني بالتنمية, وهي كما حددها “روبرت باكنهام” على النحو التالي18 :

$1- إن التغيير والتنمية عملية سهلة .

$1- إن الأشياء الجميلة تسير بغير انقطاع .

$1- إن الثورة والنزاعات الراديكالية تعد أمورا غير مرغوب فيها .

$1- إن توزيع القوة أفضل من تركزها .

ولا شك أن القبول بهذه القضايا يساعد على تحديد طبيعة التخلف, ويؤثر على مسار الخيارات الخاصة بحل المشكلات من ناحية, ومن ناحية أخرى يساعد على استقرار النخبة, والمحافظة على النظام, ومن ثَمَّ كسر حدة التساؤلات الجوهرية المتصلة بالعلاقات الثنائية القائمة .

لقد شهدت الثمانينات وبداية التسعينات حركة ضخمة نحو الديمقراطية, أطلق عليها هنتنجتون تعبير “الموجة الثالثة للديمقراطية” لم تؤد فقط إلى بروز أدبيات جديدة تحت عنوان:”الانتقال أو التحول نحو الديمقراطية”, ولكنها أدت كذلك إلى إعادة تقييم وإحياء منظور التنمية السياسية, حيث بدأت الارتباطات التي اقترحتها أدبيات التنمية السياسية بين التنمية وبين الديمقراطية والاستقرار والسياسات المعتدلة, بدأت في التحقق والبروز بصورة أكثر إيجابية في أرض الواقع . لقد تضافرت مجموعة من العوامل أسهمت في عودة المنظور التنموي وافتراضاته تحت مسمى “الديمقراطية” من أهمها19 :

$1- تحديد العناصر والمفاهيم القابلة للتطبيق في أدبيات التنمية بفضل توافر خبرات فعلية استمرت مدة طويلة أدت إلى زيادة الثقة في إمكانية تحديد استراتجيات التنمية الناجحة .

$1- وجود ثقافة سياسية عالمية مؤيدة للديمقراطية بعد أن أثبتت هذه الأخيرة أنها أكثر أشكال الحكم حيوية وفعالية, وأصبحت تتمتع بقبول وشرعية دولية .

$1- عدم جاذبية النماذج الأخرى خاصة بعد انهيار النظم الشيوعية والشمولية وما لفَّ لفَّهُما20 .

$1- الاتجاهات السياسية المتغيرة في الولايات المتحدة خاصة بعد انتعاش الاقتصاد الأمريكي, واستعادة الثقة في الولايات المتحدة ونمو الإحساس بأنها ليست سيئة بالضرورة على الأقل عند مقارنتها بدول أخرى, وأن لديها الكثير مما يمكن أن يتعلمه العالم منها ومن تجربتها .

$1- التغيرات العالمية الحديثة التي أثبتت أنه إذا كانت نماذج وتنبؤات “ليبست”و”روستو” بشأن تصوير العلاقة بين التنمية والديمقراطية خاطئة على المدى القصير فإن هذه التنبؤات قد أثبتت مصداقيتها على المدى الطويل, أي أن هناك علاقات وارتباطات بين التنمية والديمقراطية على المدى البعيد لا يمكن إنكارها أو تجاهلها, على الرغم من عدم وجود علاقة سببية ضرورية وأوتوماتكية بين هذين المتغيرين مثلما افترضت الأدبيات المبكرة للتنمية .

لقد فرض كل هذا ضرورة إعادة النظر في المسلمات الرئيسية للتنمية السياسية بصورة جديدة استنادا على مقاربة (التنمية – الديمقراطية), وبناء على ذلك تماشى التحول السياسي في بلدان عديدة – شرق ووسط أوروبا تحديدا- إلى الديمقراطية يدًا بيد مع التحول إلى اقتصاد رأسمالي بإعادة هيكلة المجال السياسي ليكون ديمقراطيًّا وضامنًا لحقوق الإنسان من ناحية، وضامنًا لحقوق الملكية الخاصة من ناحية أخرى. وخدم الظرفان الإقليمي والعالمي هذه الصيغة من التحول؛ إذ كانت الأيديولوجيا الليبرالية بصيغتيها الاقتصادية والسياسية في الصدارة مع سقوط الكتلة الشرقية، وصعود نظريات نهاية التاريخ على حد تعبير فرنسيس فوكوياما في كتابه الشهير “نهاية التاريخ”، وكان تمدد الاتحاد الأوروبي شرقًا وتوسيع عضوية الناتو كفيلين معًا بتوفير تدفقات رأسمالية ضخمة للغاية تعوض العجز الناتج عن تدني معدلات الادخار المحلي، وتمول التحول الاقتصادي نحو اقتصاديات أكثر إنتاجية وأكثر رخاءً، وإن كانت أكثر إلحاقًا بالاقتصاديات الكبرى في غرب أوروبا.

ونتج عن هذه التحولات في التسعينيات إنشاء نظم ديمقراطية ليبرالية محافظة إلى حدٍّ كبير على أساس قصر التحول على الجانب السياسي، وفصله عن الاقتصادي والاجتماعي، وإسناد هذين الآخرين لقوى السوق التي طالما عطلت تحت حكم الشيوعية والتبعية للاتحاد السوفيتي. وعبرت أدبيات التحول الديمقراطي عن هذه المحافظة في قراءة وتعريف الديمقراطية السياسية، فتصورات شميتر وأودونيل ووايت هيد في كتاباتهم الشهيرة حول حالات التحول الديمقراطي ترى الديمقراطية في شقها الليبرالي بالأساس، وتراها نتاجًا لحالات تفاوض واتفاق بين النخب القديمة والجديدة، ولا تنظر للجماهير باعتبارها فاعلا مستقلا أو حاضرًا بذاته إلا من خلال النخب التي تحركها أو تحشدها. ويترتب على هذه الرؤية بالطبع النظر للديمقراطية كإنشاء لمجال سياسي مفتوح يستوفي الشروط الإجرائية للانتخاب والترشح الحر والمشاركة السياسية مع الجوانب الحرياتية الأساسية المدنية والسياسية، ولكن في ظل غياب أية تصورات حول العنصرين الاقتصادي والاجتماعي، ومدى اتصالهما بالتحول الديمقراطي من ناحية، والتمكين السياسي للفئات المهمشة اقتصاديًّا من خلال آليات التمثيل الديمقراطي.

والحق أن هذه التصورات تتقاطع إلى حد كبير مع التصورات الليبرالية للديمقراطية التمثيلية، والتي يقتصر فيها مفهوم السياسة على إدارة الشأن العام مخصومًا منه جملة من الحقوق والحريات الفردية التي تتجلى في المجال الخاص من ناحية، وفي آليات السوق لتوزيع الموارد من ناحية أخرى.

ومع تَسيُّد المنظور النيوليبرالي والنيوكلاسيكي للاقتصاد في العالم منذ الثمانينيات، وتدعيم قبضته في التسعينيات أصبح على التحول الديمقراطي أن يتعايش مع مقتضيات التحول الرأسمالي في صيغته النيوليبرالية المدعومة من الولايات المتحدة والمؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد والبنك الدوليين.

لكن التحليل الابستمولوجي لنظرية التنمية في هذه المرحلة يظهر أنها ترتكز على مقولات وافتراضات المشروع الحداثي, وما ينطوي عليه هذا المشروع من فكرة الإلحاق الحضاري للمجتمعات النامية بالغرب, وقد ظهر ذلك جليا عندما انتهت الظروف الدولية والإقليمية التي دفعت إلى طرح المشروع التنموي, فالذي تغير هو المسمى, لكن الأهداف والمبادئ ظلت باقية21؛ ففي أوائل التسعينات بدأت عملية تأسيس اتجاه جديد للتنمية السياسية تماما كما حدث مع الرعيل الأول من كتاب التنمية السياسية في أوائل الستينات. لقد تركت مؤسسة فورد مكانها لمؤسسات وهيئات أخرى على رأسها “الهيئة القومية الأمريكية من أجل الديمقراطية” والتي تأسست عام 1983, ومؤسسة هوفر, وبرنامج أمريكا اللاتينية للدارسين التابع لمركز (ودرو ولسون) العالمي, وكمشروع “كاملوث” الأمريكي الذي يعد من أهم المشاريع التحديثية التي وصفت من قبل الجامعات الأورو-أمريكية تحت شعار “التحديث والتطور السياسي” ..الخ .

ولا شك أن هذه المؤسسات أكدت على الجهود السابقة التي بذلت في حقل التنمية السياسية, ففي عام 1990 صدرت مجلة الديمقراطية عن الهيئة القومية الأمريكية من أجل الديمقراطية, فقامت بنشر دراسات لعدد من الكتاب المعروفين مثل هنتنجتون, وشميتر, وأدونيل, كما تبنت بعض الخلاصات النظرية التي توصل إليها هنتنجتون و”جوان نلس″, في مؤلفيهما :”اختيار غير سهل: المشاركة السياسية والدول النامية” سنة 1976 الذي دعا الكونغرس إلى ضرورة الاقتصار في منح المعونات الاقتصادية للدول النامية التي تتسم نظمها السياسية بالرغبة والاستعداد لمحاكاة النموذج الأمريكي الإنمائي22 … وغيرها, وهي دراسات تعادل سلسلة الدراسات التي أطلقت عام 1963 حول التنمية السياسية .

لقد شكّل موضوعالديمقراطية والانتقالالديمقراطيمجالا خصباللدراسةوالتحليل،وإطاراواسعاتنصبفيه اهتماماتالباحثينوالفاعلينالسياسيين – الغربيين منهم وغير الغربيين-علىمقاربةهذاالموضوعمنزوايامتعددة،لعلأهمها اعتبارهالوسيلةالمفضيةللتنميةالسياسية،واعتبارالديمقراطيةهدفهاوغايتها ومنثم كان جلمنتكلمأوكتبعنالتنميةالسياسية،إلاوقرنها ب”بناءالديمقراطية”؛ تارةباعتبارالأخيرةوسيلةالتنميةالسياسيةوالطريقالمفضيلها،وتارةأخرىباعتبارهاغاية التنميةالسياسية، وكانتالنتيجةاختزالالحديثعنقضاياالتنميةالسياسيةفيالحديثعن قضاياالديمقراطيةوالتحولالديمقراطي والإصلاح السياسي وغيرها من المفردات .

خلاصة القول أنه منذ تسعينيات القرن الماضي، وعلى اثر التحولات العميقة في بيئة النظام الدولي والانفجار المعلوماتي والاتصالي، أخذت الأدبيات العلمية تنمو بالتدريج نحو مبحث الإصلاح السياسي، وتقدمه على التنمية السياسية في إطارها العام. وقد أخذ هذا التطور تأصيله العلمي من المناقشات الكبرى التي شهدتها الولايات المتحدة في هذه المرحلـة، وبالتحديد في ضوء انهيار الاتحاد السوفييتي؛ إذ ظهرت الفكرة المركزية حول الانتصار النهائي لليبرالية الديمقراطية والتي جاء بها “فوكوياما” تحت عنوان “نهايـة التاريخ”، بإعلانه نهاية الحراك الاجتماعي البشري بنموذج الليبرالية الديمقراطية، وأنه يجب على مجتمعات العالم إصلاح أنظمتها بما يتفق وهذا النموذج23. ومن ثم، عاد البريق إلى مفهوم الديمقراطية والإصلاح السياسي، الذين أخذا بعدا دعائيا في وسائل الإعلام أكثر من التأصيل العلمي؛ فالحراك البشري لم ينشأ – بحسب فوكوياما24 – عن بحث الإنسان عن الرضا والسعادة الفرديـة، كما قرر جون لوك وتوماس هوبز في عصـر الأنوار، بل يعـود بهذا الحراك إلى التفسير الهيغلي، الذي يقول إن الدافع للحراك التاريخي كان وما زال توق الإنسان المحض إلى “تحقيق الذات”.

ثالثا ً: العولمة وحاجة مناهج التنظير في حقل التنمية السياسية إلى إعادة التأصيل .

التأصيل عملية بناء وتعد بمثابة إعادة خلق أو إعادة تأسيس للنظرية ولها قيمتها العلمية والوظيفية25, فالتأصيل هو إعادة قراءة النظرية مع إعادة تحديد ينابيعها المعرفية في ضوء المعطيات المستجدة التي أفرزتها التحولات الاجتماعية محليا وعالميا .

بمعنى أن التأصيل لا ينحصر في خلق نظريات جديدة فحسب, بل يمكن أن يكون من خلال إعادة التفسير والتكييف والتجديد, حسب الثقافة العلمية للباحث, وما يفرضه العلم من تطورات, وما يفرزه الواقع من تحولات لاسيما في العلوم التي يتناول موضوعها دراسة المجتمعات البشرية التي تكون في العادة وثيقة الصلة بالأطر المعرفية لكل مجتمع .

ومن ناحية أخرى تعد عملية التقعيد في كل فن أمرا ضروريا، به تنضبط فروعه وجزئياته، وهذا أمر تفرضه الحاجة العلمية لاستجماع عناصره التي يقوم بها، ودون هذه القواعد يكون عمل العاملين في هذا الفن نوعا من العبث . ومع التحولات الثقافية والفكرية والاجتماعية التي أصبحت تفرض نفسها أصبح التفكير في تطوير مناهج العلوم أمرا ضروريا يفرضه الواقع الجديد26, إذ من المؤكد من أن ظاهرة العولمة قد أبرزت عدم قدرة النظريات التقليدية على التعامل مع هذه الظاهرة فيما يتعلق بصياغة تصورات ورؤى لتفسير قضايا وأبعاد وتأثيرات العولمة على مجتمعات العالم المختلفة أيا كان موقع هذه المجتمعات على سلم التقدم .

فعلى الصعيد التنموي فإن الحالة الراهنة للتنظير التنموي بوجه عام والسياسي بشكل خاص تقتضي وقفة تأملية ومراجعة على مستوى الفكر التنموي السوسيولوجي والسوسيوثقافي, وعلى المستوى الواقع التنموي بكل أبعاده وتحدياته في إطار علاقة لا تنفصل عن المتغيرات العالمية ؛ ذلك أن العالم اليوم يتحرك نحو ما يسمى بالتحول النماذجي, حيث يتزايد الشك في المفاهيم والنظريات والعلوم التي كانت راسخة فيما مضى إبان ما سمي بمرحلة الحداثة, تلك المرحلة التي اتسمت بسيادة النموذج التطوري الخطي الحتمي, وانتشار مفاهيم التقدم والتنمية والريادة, وغيرها من مفاهيم تطرح الزيادة الكمية والعلوم الطبيعية بوصفها النموذج المحتذى. لم تعد تلك النظريات الراسخة تمثل قناعات حقيقية لدى العديد من الباحثين, لقد انهارت المنظومات المفاهمية التابعة لهذه النظريات, وازداد الشك فيما دعي قبلاً بالعلم والمنهج العلمي وفي يقينيته وفي حتميته .

فهذا عالم السياسة الأمريكي (جيمس روزناو) يرى صعوبة صياغة تعريف يلائم التنوع الضخم لتجليات ظاهرة العولمة المتعددة الأبعاد. فعلى سبيل المثال يقيم مفهوم العولمة علاقة بين مستويات متعددة للتحليل؛ الاقتصاد, السياسة, الثقافة, الأيديولوجيا,..”, ويعقب قائلا :”وفي ظل ذلك كله, فإن مهمة إيجاد صيغة مفردة تصف كل هذه الأنشطة تبدو عملية صعبة, وحتى ولو تم تطوير هذا المفهوم, فإن المشكوك فيه أن يتم قبوله واستعماله بشكل واسع″27, لذلك تعددت تعريفات مفهوم العولمة, وسيكون من المفيد الاقتصار بالحديث عن مضامين وتجليات وتأثيرات العولمة على الحقل السياسي الراهن أو ما يعرف “بالعولمة السياسية” لعلاقة ذلك بموضوعنا .

يلخص المنظر البريطاني ديفيد هيلد28، خبير العلومالسياسية، كيفية تحقق العولمة السياسية. بدءً من مستوى العلاقاتغير السياسية بين المجتمعات، لإدراك هذا الأمر، ومن ثمّ يوجّه بحوثه خطوةخطوة إلى إضعاف الدولة القومية، وفي النهاية استقرار الحكومة العالميةبديلاً عن الحكومة القومية،فالعولمة تتّسع وتتعمّق لتشمل كلّ الأبعاد الحياتية اليومية، وتؤثّرفي كلّ الجوانب بما في ذلك الجانب السياسي الذي يشمل السلوك والوعي والفكروالحدث والقرار السياسي، الداخلي منه والخارجي. لقد أصبحت السياسة معولمة،والبشرية تعيش عصر العولمة السياسية . وقد أعلن “صامويل هنتنغتون” في مقاله الشهير “صدام الحضارات” سنة 1993، دخول “السياسة على نطاق العالم كله مرحلة جديدة “.

ولعل من تجليات المرحلة الجديدة على الحقل السياسي محاولة ” تنميط مجموعة قواعد التفاعل السياسي الداخلي والوطني مع فرض تصورات منمذجة لأساليب الحكم”29,فالعولمة السياسية، وإن كانت مرتبطة إلى حد بعيد بالمنطق الجدلي للفلسفة النيوليبرالية، لكنها أيضا تعكس التصورات والأطروحات التي أفرزها عالم ما بعد الحداثة. لكن على رغم تزايد الاهتمام بظاهرة العولمة عموماً إلا أن البحث في البعدالسياسي للعولمة ودراسة حركة عولمة السياسة غير متقدم في البحوث والدراساتالسياسية . وعلماء السياسة على غير العادة لم يبذلوا الجهد المطلوب لدراسةتأثيرات العولمة في السياسة ، كيف تتم عولمة العالم سياسياً, ويقول” زبيغنيو بريجنسكي” في التعليق على هذا التردد من قبل علماء السياسة تجاهالإحاطة بالظواهر والمستجدات السياسية العالمية المعاصرة: << إننا في عالمجديد إلا أن علماء السياسة لا يزالون منشغلين بدراسة وتحليل العالم القديمالذي تم تجاوزه في الواقع . وعندما يبدأ هؤلاء العلماء بالتركيز علىالمعطيات والوقائع السياسية الجديدة يكون العالم قد تغير وتم استبدالهبعالم جديد آخر>>30.

ضف إلى ذلك فإن التحولات المعرفية والابستمولوجية الكبرى التي شهدتها منظومة الفكر الغربي, والتي وصلت إلى مرحلة “المابعديات”؛ من السلوكية إلى ما بعد السلوكية, ومن الحداثة إلى ما بعد الحداثة, ومن الرأسمالية إلى ما بعد الرأسمالية, ومن التصنيع إلى ما بعد التصنيع, ومن المادية إلى ما بعد المادية, ومن البنيوية إلى ما بعد البنيوية(خطاب التفكك) … وهلم جرا, هذه التحولات- التي يراها فريق من الباحثين سمة من سمات النظام المعرفي الغربي – تأتي في سياق بيئة مشبعة معلوماتيا، مما يعني ضرورة التعامل مع المعلومات بآلية التصفية والتنقية المستمرة، وتقديم الاستجابة المطلوبة في الوقت الذي تتجه فيه الاستجابات لتصبح عالمية النطاق. هذه الاستجابات الفورية تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات، وتحدد مواقفها من التحديث، بما فيه تنمية الحياة السياسية وتطويرها.

لقد ارتبطت ثورة المعلومات والاتصالات في العالم، إلى جانب التحولات التي أحدثتها في الإنتاج والعمل، بازدياد أشكال التنوع الثقافي والاجتماعي، وبالتالي المزيد من التعددية السياسية، في ضوء الاندماج العالمي وتزايد ضغوط التأثير، مما دعا الكثير من الباحثين إلى التساؤل عن الأهداف الجديدة للتنمية السياسية؟ وفي الوقت الذي اتجه فيه تيار التنمية السياسية نحو طرح سؤال الإصلاح السياسي للنظم التقليدية التي مازالت بعيدة عن التحول الديمقراطي في العالم النامي ولم تحدث تنمية سياسية حقيقية، طرحت أهداف أخرى للإطار النظري الجديد للتنمية السياسية على المستوى الإنساني، تتلخص بأربعة أهداف، هي: الأمن، والتوسع الإقليمي، وتقليل النزاعات والاحتكاكات الخارجية وتقليل الخلافات أو الإشكاليات الداخلية. وترتبط بهذه الأهداف ثلاثة أهداف أخرى فرعية، هي: العدالة والنظـام والحرية31.

وفي هذا الصدد، باتت اتجاهات البحث في التنمية والإصلاح السياسي في العقد الأخير تتجه نحو العودة إلى دراسة الدولة، في ضوء عوامل ومتغيرات أهمها أن الدولة لم تكتمل في الكثير من المجتمعات النامية، إلى جانب انهيار دول قائمة، كما حدث في الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا ودول شرق أوروبا الأخرى، مما طرح مسألة إعادة بناء دول أو دولة جديدة على آثار دولة منهارة أو متفككة.

وتأتى العودة إلى دراسة الدولة بالتزامن مع دعوات أخرى إلى نهاية عصر(الدولة-الأمة) أو (الدولة القومية الحديثة)، التي يرجع ظهورها إلى الثورة الصناعية. وهو التراجع الذي يعزى إلى تأثيرات الاتصالات وثورة المعلومات والاقتصاد المعرفي، والتي تقود الحضارة الإنسانية نحو تشكيل قاعدة مجتمع مدني عالمي. وهذا ما نتبيّنه في العنصر الموالي .

ثالثاً : التنمية السياسية والعودة إلى دراسة الدولة .

تحدث هولتون في مبحثه عن العولمة السياسية، عن عجزالدول و”موت الجغرافيا” والذي سيحصل بفعل ثورة الاتصالات، وتشكُل نظاماتصالات جديد قائلا :”إن ثورة الاتصالات وتشكّل نظام اتصالات ديجيتالية جديدة،لا يسطّر “موت الجغرافيا” فحسب، بل أزال الحدود السياسية أيضاً”32, فعندما يتغيّر مفهوم القوّة بفعل العولمة السياسية، وتفقد الدولةاقتدارها التقليدي، ويتغير عملها من إعطاء معلومات إلى متلقي معلومات،ستتغير قوة المحور العسكرية إلى قوة المحور المعلوماتية، وستكون القوةبأغلبيتها بيد من يمتلك الأقراص الصلبة لتكنولوجيا المعلومات والأقراصالمدمجة للاتصالات. وفي هذه الحالة ستخرج كافة القضايا الاجتماعية والسياسيةوالثقافية والعرقية …وغيرها من شكلها السابق، وسوف تحتاج بسبب تأثرها بالتطوراتالدولية، إلى تعريف جديد وإعادة بناء. وقد ادعى المفكر البريطاني “دانيال بل” قبل حوالي عشرين سنة بأن “مؤسسة الدولة القومية (Nation State) صغيرة جداً لمسائل الحياة الكبرى، وكبيرة جداً لمسائل الحياةالصغرى”.

إن الدولة التي كانت دائماً الوحدة الارتكازية لكل النشاطات والقرارات والتشريعات أصبحت الآن وكما يوضح “ريتشارد فويك”، مجرد وحدة ضمن شبكة من العلاقات والوحدات الكثيرة في عالم يزداد انكماشاً وترابطاً33 . فالقرارات التي تتخذ في عاصمة من العواصم العالمية سرعان ما تنتشر انتشاراً سريعاً إلى كل العواصم، والتشريعات التي تخص دولة من الدول تستحوذ مباشرة على اهتمام العالم بأسره، والسياسات التي تستهدف قطاعات اجتماعية في مجتمع من المجتمعات تؤثر تأثيراً حاسماً في السياسات الداخلية والخارجية لكل المجتمعات القريبة والبعيدة.‏

وبالرجوع إلىالتحولات التي طرأت على مفهوم الدولة وأدوارها نلاحظ أنها مثّلت وفقاً للمدارس التقليدية في العلوم السياسية الفاعل الرئيس، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية تحولت النظرة إلى الدولة؛ إذ اتجه بعض الباحثين إلى تجاهل دور الدولة في العملية السياسية، وتعددت المدارس التي تناولت دور الدولة في ذلك ومنها المدرسة الماركسية التي نظرت إلى الدولة باعتبارها مازالت الفاعل الرئيس والمسيطرة على العلاقات الاجتماعية، أما مدرسة الحداثة فقد أكدت على المبادئ والقيم والمعرفة كأساس للتنمية والتطور الاقتصادي، فأشارت إلى أن التنمية تكون أكثر تحققاً في المجتمعات التي ينتشر بها التعليم، كما أن الحداثة تدعم الديمقراطية عبر وجود توجهات ديمقراطية لدى النخبة المتعلمة، بينما المجتمع الذي يفتقد إلى التحديث يكون أكثر راديكالية، كما تدعم الحداثة النظام الديمقراطي الرأسمالي، وطبقاً لكل من المدرسة الماركسية والحداثة التطور الاقتصادي والتنمية يتوقف على طبيعة النظام السياسي السائد .

وفي السبعينات والثمانينات اتجه علماء الاجتماع خاصة لإعادة النظر إلى مفهوم الدولة وظهرت الماركسية الجديدة التي تدعم ضرورة العودة للدولة القوية المتدخلة لإصلاح مفاسد النظام الرأسمالي ، وقد دعمت عدة دراسات بالولايات المتحدة الأمريكية ضرورة عودة دور الدولة خاصة في ظل التدخلات العسكرية .

لقد اهتمت الاتجاهات الحديثة بدارسة التحديات التي تواجه الدول وسبل مواجهة الدولة لهذه التحديات وعلى رأسها ما يطرأ على النظام الدولي من تغييرات تنعكس على الدول، ومن تلك التحديات: انتشار التكنولوجيا، عولمة الاقتصاد، بروز منظمات دولية حكومية وغير حكومية وتصاعد أدوارهم، مما جعل الليبراليون الجدد وباحثي العلاقات الدولية يشيرون إلى تضاءل دور الدولة وإضعافه.

ومع تثبيت دعائم العولمة ظهرت عدة تفاعلات خارج حدود الدولة فلم تصبح الدولة مسيطرة على ما يدور داخلها، فاتسعت التدخلات الخارجية وبرزت الأجندات الدولية، وضعفت هيمنة الدولة على إقليمها, كما برزت المنظمات الدولية التي أصبحت تتدخل في سياسات الدول .كما أن العولمة ارتبطت بالسياسة التصنيعية والتجارة الحرة والمنافسة الخارجية وأصبح هناك قواعد دولية تضعها المنظمات مثل منظمة التجارة الدولية ، الاتحاد الأوروبي وقد أدت سياسة التصنيع والتجارة الحرة إلى بروز شركات دولية كبرى تسيطر على السوق وتلعب دور في التوجهات السياسية, وأصبحت الشركات الكبرى لها دور فاعل داخل الحياة السياسية.

وفي يتعلق بجماعات المصلحة فقد أدت العولمة إلى زيادة قوة جماعات المصلحة وقدرتهم على الضغط على الحكومة من اجل تحقيق مطالبهم ,كذلك أدت العولمة إلى ظهور المؤسسات غير الحكومية والتي تتدخل في سياسات الدولة ومراقبتها،حيث اتسعت هذه المؤسسات وانتشرت داخل حدود الدول، وبشكل عام أدت نهاية الحرب الباردة والعولمة والتكنولوجيا المتطورة إلى ضعف دور الدول وبروز العديد من التحديات في مواجهتها.

وذهبت (نيفين مسعد) إلى أن الدولة في عصر العولمة قد أفرغت من مفهومها الأساسي من دولة رعوية إلى دولة تسعى لتحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية, وتنفيذ السياسات العالمية للحاق بركب الحضارة34 . إذن فالدولة انتقلت من المفهوم الكلاسيكي لها إلى المفهوم الحديث, حيث أصبحت الدولة وفق هذا المفهوم تمثل معنى جديد بأولوياتها وأهدافها, وعلاقاتها مع الدول, ووضعها ومكانتها في المنظومة الدولية, إلى قدرتها على البقاء والسيطرة على مكوناتها الداخلية, وعناصرها والحفاظ على سيادتها على أرضها وعلى مصادر بقائها .

ومن أبرز المظاهر المصاحبة لهذا الانتقال بروز أزمة تماسك الدولة الوطنية(الدولة الأمة), وابتذال سيادتها بسلطة التكنولوجيات القديمة والجديدة خاصة، وانكشافها الأمني الاستخباراتي, وانطماس الحدود بين الداخل والخارج, ضف إلى ذلك كثافة التفاعلات العابرة للأنساق الوطنية وتزايد الاعتماد المتبادل, وتلاعب الأقوياء بالتبعية المتبادلة وتسارع عمليات التدويل، مع اختراق القيم الأخلاقية والدينية والثقافية والتلاعب بها عبر استغلال التناقضات الداخلية وإعادة تكييف المنظومات والمؤسسات الاجتماعية والدينية والقانونية الوطنية تحت ستار الإصلاح والشراكة والتعاون .. وباختصار تبلور مجتمع جديد بمفاهيم سياسية جديدة .

رابعا ً: تحول المفاهيم السياسية في ظل مجتمع المعلومات .

إن ما يميز العولمة عموما والعولمة في بعدها السياسي خصوصا توسلها بالثورة الحاسوبية, والثورة في وسائل الاتصال والمواصلات, مقتحمة مجال الوعي والإدراك والثقافة, ومعممة أنماط الاستهلاك المباشر من الخارج قبل أن تمر المجتمعات بعملية تطور سياسي اجتماعي متدرج يتلائم معها بشكل عضوي, فضلا عن اقتحامها مجالات الثقافة, مما صورها كعملية أيديولوجية جارية على الأرض وتؤسس نوعا من “الامبريالية الثقافية”35.

ومن النافل القول أن مجتمع المعلومات يأتي بعد مراحل متعددة مر بها التاريخ الإنساني، وتميزت كل مرحلة بخصائص وميزات، حيث شهدت الإنسانية من قبل تكنولوجيا الصيد ثم تكنولوجيا الزراعة وبعدها تكنولوجيا المعلومات، التي رسمت الملامح الأولى لمجتمع المعلومات36, ولعله من النافل القول كذلك أن مفهوم مجتمع المعلومات لم يتبلور تماما في الفكر العالمي للعديد من الباحثين إلا أنهم اتفقوا على اعتباره نتيجة للتحولات الغير مسبوقة الذي مرت به البشرية منذ الستينات بمناسبة خطاب النهايات ( نهاية المكان.. مصانع بلا عمال, نهاية المسافة.. تعليم بلا معلمين, نهاية المدينة, نهاية الكتاب, نهاية الورق.. مكتبات بلا رفوف …الخ .

إن مجتمع المعلومات يركز أساسا على إنتاج المعلومة والحصول عليها واستغلالها في خدمة أهداف التنمية والتطوير، من خلال وضع آليات وإدارة انسيابها بواسطة بنية تحتية للمعلومات وشبكات الاتصال، ويمكن القول أن أهم عناصر قيام مجتمع المعلومات مبني على قيمة المعرفة وإتاحة عادلة للوصول إلى المعلومات وتنمية الإدراك البشري ومهارة استخدام تكنولوجيا المعلومات.

ويعتبر الباحثين أن خصائص مجتمع المعلومات تستمد أساسا من تكنولوجيا المعلومات ذاتها وهي تتلخص في37 :

• أن المعلومات غير قابلة للاستهلاك أو للتحول أو التفتت لأنها تراكمية، وأكثر الوسائل فعالية لتجميعها وتوزيعها تقوم على أساس المشاركة في عملية التجميع والاستخدام العام بواسطة المواطنين.

• إن قيمة المعلومات هي استبعاد عدم التأكد, وتنمية القدرة الإنسانية على اختيار أكثر القرارات فعالية.

• أن سر الواقع الاجتماعي العميق لتكنولوجيا المعلومات أنها تقوم على أساس التركيز على العمل الذهني وتعميقه والتجديد في صياغة النسق الاجتماعي.

• انفجار المعرفة: إذ تتزايد المعلومات بمعدلات كبيرة نتيجة التطورات الحديثة .

• اعتبار المعلومات المادة الخام للكثير من القطاعات في المجتمع المعاصر، وهذا ما يسمى صناعة المعلومات.

• نمو المجتمعات المعتمدة كلية على المعلومات: كمؤسسات الجرائد والأخبار والاستعلامات، والبنوك وشركات التأمين وغيرها.

• التماسك الاجتماعي والبعد الإنساني اللذان ظهرا في مجتمعات بلا حدود نتيجة التطورات في طرق الاتصالات، وهو ما أدى إلى ظهور كيانات متعددة الجنسية وخصائص المواطنة الشبكية، كما أثرت العولمة وتحرير الأسواق على الإنتاجية على الصعيد المؤسسي ومدى قابلية الدول للتنافس في بيئة عابرة للحدود، فالقوة العاملة الناشئة تستلزم ظهور مفاهيم جديدة للعمل .

ففي ظل مجتمع المعلومات والخصائص السالفة الذكر حدث ما يشبه “انقلابا” على المفاهيم والأفكار التي سادت خلال الألفية الماضية – بالموازاة مع تحول مفهوم الدولة, وانتشار مقولات مثل: نهاية التاريخ ونهاية السياسة ونهاية الخصوصية ونهاية النيوليبيرالية (بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001, ونهاية الأيديولوجيا، ونهاية الفلسفة، ونهاية الدولة الوطنية، ونهاية المكان، ونهاية الجغرافيا، ونهاية المدرسة، ونهاية المدرِّس، ونهاية الكتاب، نهاية الورق، ونهاية الفيزياء، ونهاية المكتبة، ونهاية العمل، ونهاية الخطية، ونهاية الوسطاء، ونهاية الذاكرة … التي هي في الواقع بدايات لتحولات جديدة غير مسبوقة تاريخيا38 – ومن تلك الأفكار:” بروز فكرة المواطنة العالمية, والهوية الإنسانية, والانتماء العالمي, والوعي الكوني, يضاف إلى ذلك بروز ظواهر صاحبت تمدد “العولمة السياسية” كظاهرة التدفق الحر والغير مقيد للسياسة على الصعيد العالمي, وظاهرة تمدد السياسة خارج نطاق الدولة القومية, وظاهرة لحظنة السياسة, والزيادة الغير مسبوقة في الروابط السياسية بين الدول والمجتمعات والأفراد …الخ”39. وقد لخّص بعضهم جملة تلك الظواهر بمقولة :”إن ظاهرة السياسة في كل أرجاء العالم قد أصبحت اليوم مرتبطة بالسياسة في كل أرجاء العالم”.

وكنتيجة لتشكل “نظام دولي يتجه نحو التوحد في قواعده, وقيمه, وأهدافه” بعد سعي الدول الغربية إلى فرض النموذج الغربي في الحكم – المتمثل في الديمقراطية- واعتبارها كأداة للتعامل مع الدول الأخرى, خاصة وأنه لم يعد هناك نظام يجاري النظام الرأسمالي الديمقراطي, ظهر مفهوم الهندسة السياسية ليعبر عن طموح غربي لبناء تصور سياسي موحد, قوامه حقوق الإنسان العالمية التي تنشئ نمطية قيمية ومعيارية موحدة, تساعد على بروز نموذج سياسي واحد ومتوافق جامع بين الديمقراطية المشاركية والحكم الراشد ودولة الحق والقانون, ويركز هذا المفهوم باختصار على ما يلي

– عالمية حقوق الإنسان .

– الديمقراطية التشاركية كنموذج للحكم.

– الحكم الراشد كنموذج للتسيير .

– ضرورة استخدام القوة والضغط لإعادة تشكيل أنظمة الحكم في العالم بما يتماشى وتصورات الهندسة السياسية .

وانعكس ذلك ببروز اتجاه جديد نحو “الديمقراطية الالكترونية” عبر الانتخاب الالكتروني, وتزايد دور الانترنيت وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي في الحركة الاجتماعية والسياسية العابرة للحدود, وهذا ما أكدته ثورات (الربيع العربي), يضاف إلى ذلك اهتزاز اليوطوبيات التي طالما رُوِّج لها خلال القرنين السابقين أنصار الأيديولوجيات الحداثية (الليبرالية والشيوعية) وتنامي الاتجاهات الأيديولوجية السياسية الأقل مغالاة في يقينيتها الوضعية, في مقابل تنامي التيارات الفكرية ال “مابعد حداثية” المتطلعة لبناء نموذج أعلى وأكمل هو مجتمع (ديمقراطية السوق الحرة) بالتزامن مع تصاعد اليوطوبيات الجديدة – القديمة عبر: اليسار الجديد, والإسلام الجديد, والكونفشيوسية الجديدة, أو البحث عن نماذج مابين حداثية40…

وبناء على ما سبق فقد صار الانشغال والجهود منصبة حول :

– إعادة تعريف مفاهيم سياسية كلاسيكية مرتبطة بالظروف التاريخية الحضارية لظهور الدولة الوطنية الحديثة مثل: السيادة الوطنية، الحدود الوطنية، الاقتصاد الوطني، السوق الوطنية، الهوية الوطنية، اللغة الوطنية… بحيث تنسجم مع التحولات التي تدفع إليها ديناميكية العولمة الاتصالية والاقتصادية والسياسية.

– زيادة درجة التسييس لأوساط واسعة من البشر بعد طول احتكار للمجال السياسي من طرف السياسيين وأساليبهم السرية في إدارة الشأن العام وانكشاف الكثير من ممارساتهم عبر السلطة الرابعة ومواقع الإنترنت والقنوات الفضائية والمعارضات السياسية وهذا أتاح فسحة أكبر من المشاركة العامة والاهتمام بالشأن العام, وقلّص من حدة تهميش أو هامشية الدور السياسي لقطاعات سكانية كثيرة41.

– تزايد وتيرة الحراك الجيلي وسرعة تنضيج وعي الصغار والشباب من الأجيال الجديدة التي عاصرت ثورة المعلومات والاتصالات والدمقرطة مما يضغط في اتجاه التجديد الجيلي والتداول الجيلي على السلطة والقيادة ـ على أساس الإدارة عبر الفريق والذكاء الجماعي ـ على المستويات المحلية والمركزية، خاصة ِلما أضحى يتطلبه الفعل السياسي من مهارات لا تكفي معه القدرة الخطابية وكاريزما الشخصية والإنجازات البطولية لقيادات الجيل المخضرم من الأجيال الشبابية السابقة42.

– تعقد العمل السياسي وتزايد تكاليفه المعنوية والمادية على المستوى الفردي والمحلي والوطني والدولي مما يتطلب تكوينا مستمرا للنخب السياسية وتعبئة للذكاء الجماعي الوطني والتقليل من نموذج الدولة الشديدة التدخل في التفاصيل والمشكلات الصغيرة لمواجهة تعقد وتسارع وتيرة الأنشطة الإنسانية المتدفقة عبر الحدود الهلامية, والتكيف مع القيم الجديدة النامية في المجتمع .

– تزايد المطالبة المجتمعية بالمزيـد مـن الشفافية والشرعية والإدارة الديمقراطية للحكـم والشؤون العامة بحيث تطالب بجهاز دولي فعال اقتصاديا, خاصة مع انتشار ثقافة حقوق الإنسان ومفاهيم المواطنـة والديمقراطية السياسية والتعددية السياسية .

خاتمة :

لقد تراجع الحديث عن التنمية السياسية عالميا لصالح خطاب الديمقراطية والإصلاح السياسي منذ مطلع التسعينات لأن المفهوم الأول هو من إنتاج الحداثة السياسية الغربية، أما المفهوم الثاني فهو قادم من “مناخات” ما بعد الحداثة، حيث ضاعت الثقة بمشروع الحداثة في الكثير من ملامحه؛ ذلك أن مفكرو ما بعد الحداثة يعتقدون أن الأفكار السياسية “الحداثية” أفكار ميتة، ولا بد من صياغة شكل سياسي ما بعد حداثي جديد ارتسمت ملامحه في الحديث عن التمكين للديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان…وغيرها, ومع هيمنة ظاهرة العولمة لاسيما في بعدها السياسي والتقني, وبروز ملامح مجتمع المعلومات في مقابل تفكك مفهوم الدولة التقليدي, برزت الحاجة إلى مجددا إلى إعادة التنظير لحقل التنمية السياسية, وصياغة مفاهيم جديدة تواكب التغيرات المتسارعة على الساحة الفكرية والثقافية والأيديولوجية .

الهوامش :

1. انظر : نصر محمد عارف, “نظرية التنمية في مرحلة ما بعد الحداثة”, في ريتشارد هيجوت, نظرية التنمية السياسية, ترجمة حمدي عبد الرحمان ومحمد عبد الحميد, ط1,الأردن: المركز العلمي للدراسات السياسية, مطبعة الجامعة الأردنية, مارس 2001, ص.181.

2. أحمد زايد ، ” البحث عن ما بعد الحداثة” ، مجلة العربي ، العدد 506 ، الكويت : وزارة الإعلام, 2001, ص. 18.

$13. Paul Cilliers, complexity and post modernism : Understanding complex systems , London and New York, Routledgep.113.

4. مي غضوب، ما بعد الحداثة: العرب في لقطة فيديو ، بيروت : دار الساقي ، 1992 ، ص .20.

5. فتحي محمود عبد العال أبو دوح, “ما بعد الحداثة : إشكالية المفهوم”, الحوار المتمدن, العدد 2812, بتاريخ : 27 أكتوبر 2009, عبر الرابط الالكتروني :http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=189625
$16. راجع في هذه الآراء : السيد ياسين, “الحداثة وما بعد الحداثة”, في محمد سبيلا وعبد السلام بن عبد العالي ، نصوص مختارة :الحداثة ، الدار البيضاء : دار توبقال ، 1996، ص ص.120- 123.

$17. محمود فتحي عبد العال , المرجع السابق, ولمزيد من التفاصيل حول فكرما بعد الحاثة راجع : محمود فتحي عبد العال ، الأسس النظرية والمنهجية لتيار ما بعد الحداثة في علم الاجتماع : تحليل نقدي ، رسالة ماجستير ، مصر : جامعة عين شمس, كلية الآداب, قسم الاجتماع ، 2006 .

$18. انظر : جندلي عبد الناصر, التنظير في العلاقات الدولية بين الاتجاهات التفسيرية والنظريات التكوينية, ط1, الجزائر : دار الخلدونية للنشر والتوزيع, 2007, ص. 106.

$19. Martin Lloyd Thomas,” Post modernization and the Formation of a Post modern Political Disposition”,Sheffield University, UK, ShOP Feb 2000

$110. نصر محمد عارف, التنمية من منظور متجدد, القاهرة : مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتجية, 2002, ص.72.

$111. حميد عبد الرحمان حسن, “علم السياسة وأزمة ما بعد الحداثة : نحو بديل حضاري”, ثقافتنا للدراسات والبحوث, المجلد 06, العدد 23, (د.م.ط), 2010, ص.144.

$112. اللوغوس : logos كلمة يونانية تعني الخطاب ، المبدأ ، العقل والعلم “. كما يعرف أيضا أنه :
– مجال التعبير والقول والخطاب .
– مجال الاستدلال والحجة والعلم .
– مجال النظام والمبدأ والعلة الجوهرية . انظر : الموسوعة الحرة : http://arz.wikipedia.org/wiki/

$113. أنظر : عبد الوهاب المسيري, “اليهودية وما بعد الحداثة: رؤية معرفية”, إسلامية المعرفة, العدد 10, 1997, ص ص. 94. 95. متوفر على الرابط : phttp://ishraquat.blogspot.com/2010/01/blog-post_31.html

$114. ديفيد انغليز وجون هيدسون, “مدخل إلى سوسيولوجيا الثقافة”, ترجمة لما نصير, المستقبل, العدد 4703, ص. 20. متوفرة على الرابط :

http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=np&Articleid=573157

$115. نصر محمد عارف, التنمية من منظور متجدد, المرجع السابق, ص.73.

$116. لتفاصيل أكثر انظر : نصر محمد عارف “نظرية التنمية في مرحلة ما بعد الحداثة”, المرجع السابق, ص.ص.281. 182.

$117. نصر محمد عارف,التنمية من منظور متجدد, المرجع السابق, ص. 80 .

$118. حميد عبد الرحمان حسن, مرجع سابق, ص. 148 .

$119. انظر في هذه العوامل : محمد زاهي بشير المغيربي, قراءات في السياسة المقارنة, ط1, بنغازي: منشورات جامعة قار يونس, 1998.ص.288.

$120. مع سقوط جدار برلين 1989 أخذت النظم الشيوعية السلطوية تتساقط واحدة تلو الأخرى في تشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا. وبدا أن العالم بصدد موجة رابعة للتحول الديمقراطي. ولكن الملاحظ أن هذه الموجات المتأخرة للتحول الديمقراطي قد تماشت مع التحول للاقتصاد الرأسمالي، وخاصة مع هيمنة التصورات النيوليبرالية على السياسات العامة منذ نهاية السبعينيات مع صعود مارجريت تاتشر إلى سدة الحكم في بريطانيا، ثم انتخاب رونالد ريجان رئيسًا.

$121. حميد عبد الرحمان حسن, مرجع سابق, ص. 148.

$122. انظر : أسامة الغزالي حرب, الأحزاب السياسية في العالم الثالث, الكويت : المجلس الوطني للفنون والثقافة والآداب, 1997, ص.12.

$123. باسم الطوسي, “اتجاهات الإصلاح السياسي من منظور ما بعد الحداثة”, جريدة الغد الالكترونية بتاريخ : 04. يوليو 2005 : http://www.alghad.com/m/articles/551794

$124. يرى فوكوياما أن الديمقراطية الليبرالية لا يمكن أن تدخل من الباب الخلفي، بل يجب أن تأتي في لحظة ما من قرار سياسي واعٍ ومقصود، يعمل على تأسيس الديمقراطية. وفي الوقت الذي قد يعمل هذا القرار على إيجاد صدام وصراع بين أطراف مؤيدة وأخرى معارضة، إلا أن ربط التحول الديمقراطي يدل على أن التغيير الاجتماعي والسياسي لا يشترط دوماً صداماً أو عنفاً من اجل تحقيق الديمقراطية، بل إن التغيير الديمقراطي يأتي أيضاً من خلال إصلاح واع وجريء. ومن هنا، عادت الإزاحة الفكرية إلى الإصلاح السياسي، وفق محددات الليبرالية الديمقراطية، بقوة أكبر من أي وقت مضى.

$125. محمد قمبر, ص. 154.

$126. أنظر : محمد أمزيان, :نقد مناهج العلوم الإنسانية وخطوات صياغة مناهج إسلامية للعلوم الإنسانية”, في : قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية, القاهرة : المعهد العالمي للفكر الإسلامي, 1996, ص.203.

$127. انظر في ذلك, وحول تعاريف ومفاهيم العولمة: قاسم حجاج, فجر العولمة الجديدة, ج1, غرداية-الجزائر : درا نزهة الألباب للنشر والتوزيع, 2013, ص.84.

$128. Held، D. Democracy and Global order : from modern state to cosmopolitan Governance. Cambridge: Polity press,1995، P. 126.

$129. امحند برقوق, ” العولمة السياسية “, متاح على الموقع الالكتروني :

http://www.politics-ar.com/ar/index.php/permalink/3025.html (24- 05- 2015).

$130. عبد الخالق عبد الله, “عولمة السياسة والعولمة السياسية”, مجلة البرلمان العربي, العدد 102, الاتحاد البرلماني العربي: سبتمبر 2007, ص.28.

$131. باسم الطوسي, المرجع السابق .

$132. Holton. R, Globalization and the nation – state. London : McMillan, 1998, P. 1.

$133. عبد الخالق عبد الله، “العولمة: جذورها وفروعها وكيفية التعامل معها”، مجلة عالم الفكر، العدد 27، كانون أول، الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, 1999، ص. 82 .

$134. نيفين مسعد, رؤية الشباب العربي للعولمة, القاهرة : معهد البحوث والدراسات العربية, 2000, ص. 104 .

$135. قاسم حجاج, المرجع السابق, ص.99.

$136. يرى بعض الباحثين أن مصطلح مجتمع المعلومات ظهر منذ الستينات على يد ”مارشال ماك لوهان“، كما يرى الأمريكي (ألفن طوفلر) أن ملامح مجتمع المعلومات بدت منذ 1956 عندما تجاوز عدد العاملين في الإعلام كل العاملين في القطاعات الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية. ويعد مجتمع المعلومات المجتمع الرابع من تطور البشرية؛ إذ يوضح (جاك لوزورن) أن البشرية مرت بثلاث مراحل وهي تمر حاليا بالرابعة:المرحلة الأولى تتمثل في الصيد وجني الثمار,المرحلة الثانية هي الزراعة, والمرحلة الثالثة هي مرحلة الصناعة, أما المرحلة الرابعة فهي عصر المجتمع المعلوماتي وبدت مع انتشار تكنولوجيات الإعلام والمعلومات , انظر : – ذياب البداية , الأمن وحرب المعلومات.عمان: دار الشرق للنشر والتوزيع, 2002 ،. ص. 53.

$137. قنديلجي، عامر, ” البيئة التكنولوجية في مجتمع المعلومات العربي المعاصر وتأثيرها في خدمات المكتبات”, عن موقع :

http://www.arabain.net/arabic/5 nadwch/pivots/environnement académique. – (تصفح بتاريخ : 22-03-2015).

$138. انظر : نبيل علي، “الثقافة العربية وعصر المعلومات : رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي”، سلسلة عالم المعرفة, العدد 265، الكويت : إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،. يناير 2001, ص. 14 ـ 19.

$139. أحمد ثابت وآخرون, العولمة وتداعياتها على الوطن العربي, بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية, 2003, ص.46.

$140. قاسم حجاج , المرجع السابق, ص ص. 121 .122.

$141. قاسم حجاج , ” التنشئة السياسية أولوية حضارية ومستقبلية” , مقال نشر على موقع التراث بتاريخ : 08- 04- 2015 عبر الرابط : http://www.tourath.org/ar/content/view/2141/42

$142. للتوسع أكثر حول هذه النقطة راجع : جون تابسكوت جيل الانترنيت– كيف يغير جيل الانترنيت عالمنا-(ترجمة حسام بيومي محمود), مصر : كلمات عربية للنشر والتوزيع, 2011, ص. 121.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى