دراسات اقتصادية

الرأسمالية التعيسة و طريق الخداع في الإقتصاد العالمي

إن السياسة الإقتصادية في مفهومها الكلي تعد من أكبر المجالات البحثية العلمية التي تحدد الخطوط العريضة للإقتصاد الدولي أو للمالية العمومية و الشؤون النقدية. إذ من أهم هذه السياسات نذكر السياسة التجارية و المالية و النقدية و التي تمثل في مجملها القلب النابض للإقتصاد الوطني أو الرابط الدولي بين الدول عبر المبادلات التجارية اليومية. أما بخصوص النظريات العلمية في مناهج الإقتصاد فهي تأخذ أشكالا متنوعة منها المدرسة الكلاسيكية و التي تنبثق عنها النظرية الرأسمالية عبر التحرر الكلي للأسواق المالية و تحرر المبادلات التجارية و التكتلات الإقتصادية و التجارية. أيضا المدرسة الكاينيزية تعطي مساحة أوسع للتحرر المالي مع تدخل الدولة لوضع بعض التعديلات حتي لا ينحرف مسار الإقتصاد الوطني نحو الهاوية بحيث يتم تعديله نحو الطريق الصحيح. و من أبرز الأنظمة الإقتصادية الحديثة و المعدلة في بعض الدول العربية تكون فيها السياسة الإقتصادية أقرب للنظرية النيو كاينيزية و التي تعرف بتدخل اليد الخفية لإصلاح الأسواق الحرة مع وضع بعض برامج التضامن الوطني مثل صندوق تعويض أو صندوق إعانات.

كل هذه النظريات التي تشمل الإقتصاد الكلي المنظم للمحاسبة الوطنية و التجارة الدولية و المالية العمومية و السياسة الجبائية و الإستهلاك مع الإدخار لم تحتوي في مضمونها علي العدالة الإجتماعية. بالتالي يمكن القول اليوم أن النظرية الماركسية تعتبر أفضل بديل للنظرية الإقتصادية الكلاسيكية و الكاينيزية أو مشتقاتها. إن الفقر المتقع و التهميش و المحسوبية و غياب المساواة بين الطبقات تولد النقمة بين الشعوب و تزيد من إنتشار الأزمات بمختلف أنواعها منها الإجتماعي, الإقتصادي و السياسي. الرأسمالية المتوحشة لا تحقق الإستقرار و السلم الإجتماعي بل نتنتج التعاسة و الحقد و الإنحراف لبعض الأشخاص إما نحو الجريمة أو الهجرة الغير الشرعية. إذ لا يمكن اليوم بأي حال من الأحوال أن ترتهن الشعوب الفقيرة لمثل تلك السياسات التي تختزل الدولة في دويلة تديرها بعض الطبقات و رجال الأعمال تحت مسمي حكم رأس المال. و قد كشفت تلك الثورات الإجتماعية تحت مسمي الربيع العربي من زاوية المفهوم الغربي لتغطية فشل النظام الرأسمالي مدي درجة السخط الإجتماعي و تدهور المقدرة الشرائية و خاصة منها البطالة القاتلة و عدم تسوية وضعية العاملين في القطاع الخاص بصفة مؤقتة. إذ تسعي الدول الغربية التي تتدخل في الشؤون الإقتصادية لتلك الدول المتضررة بتجميل الثورات و جعلها ربيع دون أن تعترف بأخطائها الجسيمة تجاه تلك الطبقات التي إنفجرت نتيجة سوء العيش و عدم توفير أبسط الحاجيات للحياة بكرامة و التي سببها الأساسي مناهج التحرر الكلي و الخصخصة و الرأسمالية التعيسة.

إن الإصلاحات الهيكلية للإقتصاديات في معظم الدول العربية لا تتلاءم مع مختلف الطبقات الإجتماعية و مستوي البنية التحتية من منشآت صناعية و فضاءات لإنجاز مشاريع ذو قدرة تنافسية أو إنتاج منتجات قابلة للتصدير. إذ يمثل فشل ذلك النظام الرأسمالي المتوحش و المرعب مصدر الكارثة الحقيقية لعدم إستقرار الإقتصاد العالمي و “المتسبب” الرئيسي في جميع الأزمات المالية أو الثورات الإجتماعية. كما يعد المصدر الرئيسي لعدم الإستقرار في الأسواق المالية تحت مفهوم أسواق رؤوس الأموال التي تتركز علي المضاربة في الأسواق و الإستثمار و حركة السيولة النقدية. بالتالي هذا الفشل يعكس مدي تدهور الأوضاع لأغلب الفئات فتبرز في تلك الدول مظاهر العجز الكلي لبعض الطبقات التي تدخل في إضرابات عمالية و نقابية متواصلة نتيجة لعدم تسوية الوضعية أو تدهور الرواتب الشهرية أو نتيجة لظلم القطاع الخاص الذي يستغل الطبقات الكادحة بمقابل مالي زهيد دون تغطية اجتماعية و أيضا بصفة مؤقتة. الرأسمالية لا تحقق العدالة الإجتماعية أو تلبي الحاجيات الأساسية لطبقة العمال و الموظفين العموميين و الأساتذة في شتي المجالات.

أما نتائجها النفسية فهي أكثر ضررا بكثير من نتائجها المادية بحيث أغلب المواطنين في بعض الدول التي تنتهج النظام الرأسمالي تسجل فيها العديد من حالات الإنتحار أو الجريمة المنظمة أو السرقة أو الإنحراف عن المسار الأخلاقي الوظيفي و الإلتجاء إلي طرق أخري لتغطية عجز الراتب الشهري. إذ مجمل هذه التعاسة لتلك الطبقات تسببت فيها الإدارة المباشرة لنظام الحكم في تلك الدول و التي لم تحقق المساواة و التوزيع العادل للثروة الوطنية و توفير الحقوق الكاملة لجميع المواطنين. أما في المقابل فمعظم الدول التي انتهجت النظام الماركسي بتطبيق جميع مناهجه بطريقة صحيحة حققت لمواطنيها العدالة الإجتماعية و المساواة بين الطبقات و قضت علي البطالة و التهميش و المحسوبية و الفساد داخل أجهزة الدولة و مؤسساتها و أرست الحوكمة الرشيدة. كما ساهمت الأنظمة الإشتراكية في تحفيز اقتصاديات تلك الدول التي أعتمدت منهج المركزية في الشؤون الإقتصادية و ذلك بالإرتقاء بمستواها إلي صفوف الدول المتقدمة و أصبحت المنافس الرئيسي للنظام الرأسمالي و منتجاته و أبرز دليل علي ذلك القطب الصناعي و التجاري العالمي “الصين الشعبية” و التي من المحتمل أن تخلف الولايات المتحدة الرأسمالية مع موفي سنة 2050. أما فضاء البريكس الذي يضم البرازيل و روسيا و الهند و الصين و جنوب إفريقيا فهو يمثل اليوم ثالث قطب صناعي و مالي و تجاري بعد أمريكا و الإتحاد الأوروبي.

إن الإختلال الإجتماعي و المادي بين الطبقات و تجزئتها لطبقات فقيرة و متوسطة و غنية أو أحيانا إلي فقيرة و غنية فقط في بعض الدول مع إنتهاج التحرر و الخصخصة في جميع القطاعات لتشمل الصحة و التعليم و الخدمات العامة مثل الماء و الكهرباء و الغاز و الهاتف و حتي الأمن تمثل إنحرافا خطيرا عن مسار تحقيق العدالة الإجتماعية و المساواة في الدخل و توزيع الثروة الوطنية الناتجة عن عمل تلك الفئات العاملة ليتم امتصاصها لفائدة بعض رجال الأعمال المفسدين في الأرض و ذلك بعدم تقديم أبسط الحقوق لتلك الطبقات و من أهمها التغطية الإجتماعية و مراعاة المقدرة الشرائية و الزيادة في الدخل أو راتب التقاعد. يعتبر النظام الرأسمالي التعيس هو أساس الخراب في معظم الدول العربية و ذلك عبر الإرتهان لإملاءات بعض المؤسسات المشبوهة في سياستها الإقتصادية و المالية الخارجية مثل مؤسسات البريتن وودز التي تضم صندوق النقد الدولي تحت تعلة الحفاظ علي الإستقرار المالي و البنك الدولي المشرف علي التنمية بشتي فروعها و الأسواق المالية المقرضة و الضامنة لفوائد المستثمرين في أسواق رؤوس الأموال.

هذا الخداع المنظم في الإقتصاد العالمي يمثل اليوم في جوهره إستعمارا جديدا من البوابة الإقتصادية. إذ بعد ذلك النضال و الإستشهاد من أجل استقلال تلك الأوطان العربية يعود المستعمر إليها بحلة جديدة و من بوابة أخري ليفرض املاءاته و ابتزازه للثروات الوطنية تحت مصطلح الإصلاحات الهيكلية و سياسة التأهيل الشامل لتغرق تلك الدول في مستنقع الأزمات و الإفلاس و تبرز عجز في الميزانية المالية و التجارية و تتفاقم المديونية بلانهاية. و في المقابل يزداد السخط الإجتماعي نتيجة تدهور الأوضاع و غلاء الأسعار و إرتفاع نسبة التضخم و البطالة مما تنعكس سلبا علي الإستقرار الإقتصادي و السياسي.

 فؤاد الصباغ باحث اقتصادي دولي

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى