دراسات سياسية

السلوك السياسي والمفاهيم السلوكية

السلوك السياسي والمفاهيم السلوكية *
Political Behaviour and Behavioural Concepts
إعداد: أ.د. كمال محمد الأسطل
Collected by Professor Doctor Kamal M M Al-Astal

تقديم وتنويه: هذه المفاهيم التي نقدمها مستمدة من دراسات باحثين في جامعات عريقة مثل جامعة القاهرة وهذا الجزء مستمد من المصدر: د. محمد السيد سليم ود.جلال عبد الله معوض، السلوك السياسي،  محاضرات، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، العام الجامعي 92-1993.

v   أهمية دراسة السلوك
الإنسان كائن حي متعدد الجوانب, فهو يتميز بخصائص ذاتية موروثة ومكتسبة, كما أنه يدخل مع البيئة المحيطة به في مجموعة من التفاعلات التي يؤثر من خلالها في البيئة , كما يتأثر بدوره بتلك البيئة . وفى هذا الإطار تصدر عن الإنسان أنماط متعددة من التصرفات والتصورات , بعضها ظاهر يمكن ملاحظته بشكل مباشر والبعض الآخر باطن , وإن كان من الممكن ملاحظته من خلال أدوات بحثية متعددة, ففي تعامله مع البيئة يبلور الإنسان مجموعة من الاتجاهات , والقيم, والإدراكات والصور الذهنية , ومجموعة من السلوكيات والمعاملات وغيرها. وسنعود بعد قليل إلى التمييز بين هذه الأشكال . ولكن يمكن القول مؤقتاً أن السلوك هو شكل من أشكال التصرفات التي تصدر عن الإنسان ولكنه من أهم تلك الأشكال , لعدة أسباب أهمها:
أولاً: أنه من بين كل التصرفات والتصورات الإنسانية , فإن السلوك وحدة للتحليل قابلة للدراسة “الإمبريقية“(1),
ثانياً: أن السلوك الإنساني هو أداة التغيير فمهما آمن الإنسان بمعتقدات أو قيم أو تصورات ودافع عنها, فإنه لا أهمية لتلك المعتقدات والقيم مالم تتحول إلى سلوك, أي تتحول إلى حركة تنتج تغييراً معينا في البيئة المحيطة بالإنسان . ولعل ذلك يذكرنا بالتمييز التقليدي بين (القول) , و(الفعل) حيث يصبح للفعل (السلوك) دائما الغلبة بحكم أنه هو وحده الذي يؤدى إلى تغيير.
كيف ظهرت المدرسة السلوكية: واطسن مؤسسا
ظهرت المدرسة السلوكية  Behaviorist School  في علم النفس  في العشرينات من القرن العشرين علي يد العالم الأمريكي واطسن فقد انطلقت هذه المدرسة من رفض مدرسة “التأمل الباطني الذاتي” للظواهر النفسية , لأن هذا التأمل لا يؤدى إلى بلورة معرفة علمية تستند إلى قواعد واضحة ومعلنة يمكن التحقق منها .(2) بدلا من ذلك أكدت المدرسة السلوكية أن “السلوك” هو وحدة ظاهرة قابلة للملاحظة وبالتالي للتحليل العلمي ومن ثم , فإن السلوك الإنساني يجب أن يمثل بؤرة اهتمام مختلف العلوم الاجتماعية , وبحيث يتم دراسة السلوك من مختلف جوانبه البيولوجية والنفسية والاجتماعية.
وتنطلق المدرسة السلوكية من عدة افتراضات أساسية :-
1.  أن السلوك الفردي يشكل وحدة التحليل سواء على مستوى وصف هذا السلوك, أو تحديد مصادره,أو التنبؤ بمساراته المستقبلية وتركز هذه المدرسة أكثر ما تركز على السعي لفهم مصادر السلوك الفردي فمثلاً لماذا يكون الفرد  (أ) عدوانيا , بينما الفرد (ب) مسالما, لماذا يهتم الشخص (ج) بالسياسة بينما لا يكترث الشخص (د) بها على الإطلاق, وهكذا .
2.  أن السلوك الفردي هو محصلة للتفاعل بين الذات الفردية والبيئة الاجتماعية المحيطة بها, ولكن تختلف أجنحة المدرسة السلوكية في الوزن النسبي الذي تعطيه للذات أو للبيئة.
3.  بما أن السلوك الفردي هو وحدة ظاهرة قابلة للملاحظة , فإنه من الضروري استخدام الأدوات الامبريقية المختلفة لدراسة هذا السلوك بما في ذلك الأدوات التجريبية والمعملية. وكثيراً ما يلجأ بعض أصحاب هذه المدرسة أن دراسة سلوك الحيوانات دراسة معملية والاستفادة من نتائج تلك الدراسة في تفسير سلوك الإنسان.
v   تعريف السلوك والتمييز بينه وبين والتصرفات والتصورات البشرية الأخرى:-
ما المقصود بالسلوك
يقصد بالسلوك كل تصرف حركي لفظي أو فعلى ظاهر محدد زمانا ومكانا تقوم بين الكائنات الحية تجاه ذواتها أو تجاه البيئة لتحقيق عملية الأقلمة بين الوجود الذاتى والبيئة .
خصائص السلوك
طبقا لهذا التعريف , فإن السلوك يتسم بعدة خصائص أهمها:-
1.  السلوك هو حركة الكائنات الحية بالانتقال من وضع إلى وضع آخر فسلوك (أ) يعنى انتقاله من الحالة (1) إلى الحالة (2) بحيث ينتقل إلى وضع جديد يختلف عن الوضع السابق للسلوك. ومن ثم , فإن السلوك يتضمن , بالضرورة , تغييراً بشكل ما. ومن ثم , فإن لكل كائن حى سلوك يمثل التعبير عن وجوده الحى أى قدرته على الحركة. كذلك فإنه من البديهى , أن إذا انتفت  القدرة على الحركة انتفى السلوك.
2.  السلوك قد يكون سلوكاً لفظياً (قولياً), وقد يكون سلوكاً فعليا (عمليا) . الشكل الأول هو تعبير كلامى حركى , أما الشكل الثاني فإنه حركة مادية.
3.  السلوك تصرف (ظاهر) أى يمكن مشاهدته وملاحظته وقياسه فهو اذن ليس بحالة عقلية أو ذهنية بحثة . صحيح أن السلوك قد ينشأ نتيجة تلك الحالة , ولكن ما لم تؤد تلك الحالة الذهنية إلى تغيير كلامى أو حركة مادية , لا ينشأ السلوك وبهذا , بينما يعد “الاتجاه ” تصور باطن , بينما السلوك هو تصرف ظاهر قائم بذاته.
4.  السلوك وحدة تصرف محددة زمانا ومكانا , بمعنى أن تلك الوحدة تحدث فى مكان محدد , وتبدأ وتنتهى فى لحظة زمنية معينة تختلف باختلاف نوع السلوك ولكن , وبصرف النظر عن تلك الفترة الزمنية ,  فإن السلوك ليس تصرفا “مستمرا” كحركة الآلة على سبيل المثال . فحركة الآلة , رغم أنها حركة , إلا أن لا يمكن تحديد نقطة بداية ونقطة نهاية لها فهى حركة تكرارية روتينية مستمرة على مدى فترة زمنية معينة. وبالمثل , فإن حركة “المعاملات البشرية ” كالمعاملات التجارية مثلاً حركة مستمرة تكرارية يصعب تحديد نقطة بداية ونقطة نهاية لها.
5.  السلوك هو سلوك (الكائنات الحية ) وحدها ولكل كائن حى , كما قدمنا سلوك يعبر عن حيويته, ومن , ثم , فالحيوانات والطيور والبشر كائنات حية منشأة للسلوك.
ولذلك لا يمكن أن نتحدث , كما يرى بعض الدارسين عن سلوك الاجرام السماوية لأن تلك الإجرام ليست بكائنات حية ذات إرادة ذاتية وقادرة على أن تنشئ السلوك التابع, إلى حد معين من ذواتها . ذلك أن السلوك يفترض أن هذا السلوك يعبر عن سعى من أنشأ ليحقق هدف معين , وهو ما يقودنا إلى الخصيصة التالية للسلوك.
6.  السلوك هو تعبير عن هدف معين يسعى الكائن الحى الذى أنشأ إلى تحقيقه, وهذا الهدف يمثل نقطة النهاية لهذا السلوك . وقد يكون الهدف الذى يسعى إليه الكائن الحى هدف ذاتى يسعى إلى تحقيق انطلاقا من ذاته , وقد يكون الهدف مجرد الاستجابة لضغوط البيئة , فمجرد سعى الكائن الحى للتأقلم مع البيئة هو هدف.
7.  السلوك قد يكون موجه اتجاه الذات , وقد يكون موجها تجاه البيئة , فقد يكون موجها تجاه الذات كالسلوك الانتحارى مثلا , وقد يكون موجها تجاه ما يحيط بذاته من مؤثرات (البيئة ) وفى الحالة الأخيرة , فإن الفرد يسعى إلى أقلمة وجود مع مقتضيات البيئة من خلال مجموعة من السلوكيات المتتالية .
8.  وتكمل  الخصائص السالفة بعضها , بمعنى أنه ينبغى توافر تلك الخصائص لكى ينشأ السلوك , كما أنه يكفى غياب أحدها لكى تفقد وحدة التحليل صفة السلوك ويقودنا ذلك إلى التمييز بين السلوك وغيره من المفاهيم التى قد تختلط به.
التمييز بين السلوك والتعبيرات والمفاهيم الإنسانية المختلفة
ولعل أهم تلك المفاهيم هى :-
القرار , المعاملات , الأيديولوجية والعقيدة , والإدراك , والصورة الذهنية , والقيمية , والرأى
أولا: القرار Decision
القرار هو اختيار بين بدائل متاحة لحل مشكلة محددة فيشترط لتوافر صفة القرار وجود مشكلة فى حاجة إلى التعامل معها , ووجود بدائل متاحة لحل تلك المشكلة , ومن الممكن أن تتم عملية اتخاذ القرار فى ذهن الإنسان دون أن يعلن أو يفصح عن القرار وفى هذه الحالة تتوافر صفة القرار , ولكن لا تتوافر خصائص السلوك . أما إذا أعلن الإنسان قراره أو بدأ فى تطبيقه , فإنه فى هذه الحالة يتطابق القرار مع السلوك . كذلك يمكن القول أن كل سلوك يسبقه قرار معين , ما لم يكن هذا السلوك سلوكاً انعكاسيا عصبيا بحثا لم يجرأ التفكير فيه قبل إتباعه.
لكي نوضح ما نقول دعنا نضرب المثال التالي. عندما قام الانفصاليون السوريون بالاستيلاء على إذاعة دمشق في 28 سبتمبر سنة 1961 في بداية الحركة الانفصالية عن الجمهورية العربية المتحدة واجه صانع القرار المصري مشكلة في حاجة إلى حل , وفى هذا الإطار كانت أمامه بدائل متاحة. إما قبول الانفصال السوري , أو استعمال القوة ضد الانفصاليون. وقد قرر صانع القرار المصري اللجوء إلى البديل الثاني (القرار) , ولكنه حتمي وجد أن تطبيقه سيؤدي إلى مواجهة عسكرية قرر اللجوء إلى البديل الثاني (القرار) وأعلن ذلك رسميا (السلوك).
ثانيا: أما المعاملات Transactions
المعاملات عبارة عن أنشطة تكرارية روتينية مستمرة ليس لها نقطة بداية محددة أو نقطة نهاية محددة , كالحركات الميكانيكية المتتابعة للآلة , ما إن تدور الآلة حتى يصعب دراسة كل حركة من حركاتها كوحدة مستقلة منفصلة . ولكن إذا انتقلنا إلى ميدان  التصرفات الإنسانية فإن التمييز بين المعاملات والسلوكيات ربما كان أقل وضوحا . فالمعاملات البشرية هي تلك الأنشطة الاقتصادية والتجارية والاتصالية التي تتم بين البشر. هذه الأنشطة تتم بشكل تكراري بحيث يصعب الفصل بينها إلى وحدات محددة زماناً ومكاناً, كما أن هذا الفصل إذا تم يصبح غير ذي معنى انتظر ميلا إلى مجموعة الأنشطة الاقتصادية التي تشكل الناتج القومي الاجمالى للدولة , فالعامل الصناعي(أ) يقوم علي مدار ساعات يوم العمل بإنتاج كميات من سلعة معينة تضاف إلى ما ينتجه العامل الصناعي (ب) , والعامل الصناعي(ج) …إلخ .
على مدار فترة زمنية طويلة نسبيا(سنة) لكي ينشأ الناتج القومي الإجمالي الصناعي . ويضاف ذلك إلى ما ينتجه العامل الزراعي (أ) كل دورة زراعية معينة والعامل الزراعي(ب)….إلخ.
بالإضافة إلى مجموعة المبادلات التجارية التي تتم عبر الفترة الزمنية ذاتها, وهكذا فإن هذه المعاملات ليست محددة زمانا ومكانا كما هو الحال في السلوك ولذلك, فإننا لا نعتبر إنتاج العامل الزراعي قناطير من البندورة والخيار في موسم زراعي معين , أو بيع التاجر لسلع ثمنها ألف دينار على مدار شهر بمثابة سلوكيات , ولكنها كما قلنا معاملات .
ثالثا: الاتجاه Attitude
 فهو تقويم ذاتي لظاهرة معينة يرتكز في شكل استعداد باطن latent لدى الفرد يعبر عن المسافة العاطفية بين الفرد والظاهرة , والاتجاه قد يعبر عنه وقد لا يتم التعبير عنه على الإطلاق , وإنما يستدل من خلال أدوات قياس منهجية والمهم أن الاتجاه يعبر عن مسافة عاطفية أساسا كمشاعر الحب والكراهية أو الاحترام والاحتقار وغيرها.
كذلك فالاتجاه قد تكون له وظيفة سلوكية وقد لا يؤثر في السلوك بشكل ملموس . ويختلف الاتجاه عن العقيدة التي تقوم ظاهرة معينة اختلافا بينا , فمن الممكن أن يقوم الفرد الشئ بشكل سلبي (عقيدة تقويمية) ولكنه يحب هذا الشئ في الوقت ذاته (اتجاه) , كالتمرينات الرياضية .
رابعا: القيم Values  هي رموز تعبر عن تصور الإنسان لما يعتبره الحياة المثالية أو الجيدة , كقيم المساواة , والحرية , والعدالة وغيرها. هذه القيم تمثل ما تصوره الفرد عالما مثاليا. والقيم بذلك ترتبط بالأيديولوجية إلى حد بعيد.  وعلي سبيل المثال فمن يرى أن المساواة هي القيمة العليا, أميل إلى اعتناق الأيديولوجية الاشتراكية ولكن القيم أيضا قد تكون فيما باطنه ولا يعبر عنها أو يستدل عليها إلا بشكل غير مباشر.
خامسا: الإيديولوجية Ideology
 هي تصور فكرى مثالي  للحياة السياسية المستقبلية يقدم الأدوات العملية الكفيلة بتحقيق تلك الحياة. أهم ما يميز الإيديولوجية هو أنها تخاطب المستقبل وتسعى نحو تغيير المجتمع إلى وضع آخر تتصور أنه الوضع السياسي المثالي. فالإيديولوجية تتسم بالنزعة نحو التغيير السياسي وإعادة بناء المجتمع للوصول إلى وضع مثالي معين بناء على تحليل معين للأوضاع السابقة أو الراهنة , ولا تكفي الإيديولوجية بذلك ولكنها تقدم الأدوات التي يمكن من خلالها الوصول إلى الوضع المثالي المتصور .
أي أن الأيديولوجية عبارة عن مجموعة متكاملة من الأفكار تشخص الواقع الراهن (عادة ما يكون سيئا) وتقدم ادوات التغيير الحركية للانتقال للواقع الأفضل المنشود مع تقديم تصور شامل للعلاقة بين الفرد والمجتمع والوجود (الكون).
الأيديولوجية تختلف عن الفلسفة
وهى بذلك تختلف عن الفلسفة السياسية إذ أن الأخيرة تقتصر في معظم الأحيان علي التصور المثالي , فأفلاطون لم يقدم سوى تصورا سياسيا مثالا هو الجمهورية المثالية , بينما قدمت الماركسية تصورا سياسيا وحددت كيفية الوصول إلى هذا التصور أي أنها قدمت أيديولوجية . وأخيرا فإن الإيديولوجية تتميز بدرجة عالية من الارتباط العاطفي بينها وبين معتنقيها يدفعهم إلى اعتبار أن إيديولوجيتهم هي الإيديولوجية الوحيدة الصالحة , وإلى التحرك السياسي النشيط , العنيف في معظم الأحوال , لتطبيق تصوراتها وذلك يعكس النسق العقيدى , كما سنرى إلا إذ أنه  لا يتميز بتلك الدرجة من الارتباط العاطفي.
سادسا: العقيدة Belief
هو حكم احتمالي ذاتي نص عليه صراحة أو ضمنا في شكل تأكيد أو مقولة , هذا الحكم يصف أو يوصى أو يقوم ظاهرة أو أسلوبا للعمل بحيث يرتبط بين الظاهرة أو الأسلوب وبين صفة معينة. فللعقيدة إذن عدة خصائص:
أولا: أنها حكم يصدره الفرد تجاه ظاهرة أو أسلوب معين , فهذا الحكم يتميز بأنه احتمالي الطابع بمعنى أن الفرد يعتقد بدرجة معينة من القوة تتفاوت من شخص إلى الآخر , أن الظاهرة تتسم بصفة معينة.
ثانيا: أن العقيدة تجئ في شكل مقولة صريحة أو ضمنية , أي يعبر عنها بشكل قولي. والمقولة قد تكون صريحة إذا عبرت عن العقيدة مباشرة (كأن يقول الفرد: أعتقد أن إسرائيل دولة عدوانية) أو تكون ضمنية, إذا عبرت عن العقيدة بشكل غير مباشر (كأن يقول الفرد أن إسرائيل هي دولة الذئاب المتوحشة ) . وبالعكس فإن الاتجاه ” لا يعبر عنه قوليا لأنه بالأساس استعداد “باطن” وليس قولا ظاهرا.
ثالثا: أن العقيدة تنشأ علاقة بين الظاهرة موضع العقيدة وبين صفة معينة وهذه العلاقة قد تنطوي على وصف الظاهرة (أعتقد أن إسرائيل ستهاجم العرب قريبا) أو تقويم الظاهرة ( اعتقد أن إسرائيل دولة عدوانية ) أو التوصية بإتباع سياسة معينة تجاه الظاهرة (أعتقد أن الردع هو أفضل سياسية للعرب تجاه إسرائيل) , وأخيرا فإن العقائد تتميز بوظيفتها السلوكية , فالعقائد تحرك السلوك الفردي وتوجه الفرد نحو اتخاذ بدائل معينة , وهى بذلك تختلف عن الأفكار  Thoughts أو “الآراء”  Opinions التي تطرأ على ذهن الفرد دون أن يكون لها وظيفة سلوكية, وينبغي أن نوضح أن هناك نوعين من العقائد: العقائد التي تربط ظواهر بصفات , والعقائد في قضايا أو ظواهر معينة ( كالاعتقاد في وجود الله, أو الاعتقاد في جدوى أعمال السحر) , والتعريف السابق لا ينطبق إلا على النوع الأول من العقائد.
والعقائد لا توجد في ذهن الفرد بشكل عشوائي , ولكنها توجد بشكل منتظم بحيث تجمع بينها روابط معينة بحيث أنها تشكل نسقا نسميه (النسق العقيدى )  Belief System
سابعا: الإدراك Perception
فهو يمثل وعى الفرد بمجموعة القضايا الموضوعية المرتبطة بموقف معين . فالفرد يتلقى مجموعة ضخمة من المعلومات عن شتى القضايا هذه المعلومات تخلق لدى الفرد وعيا معينا لتلك القضايا , وكلما طرأ حافز خارجي يتعلق بتلك القضايا, أثير هذا الوعي لدى الفرد بحيث يتمكن من إعطاء معنى معين لهذا الحافز وتذكر نوع معين من القضايا ومن ثم , فالإدراك ببساطة ينصرف إلى القضايا التي تثار في ذهن الفرد حينما يثار حافز خارجي يدفع الفرد إلى تذكر تلك القضايا فإذا تلقى الفرد خبرا معينا عن إسرائيل, فإنه قد تثار في ذهنه قضايا معينة كاحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية والعربية , بينما إذا تلقي فرد آخر الحافز ذاته قد تثار في ذهنه قضايا مختلفة كتعمير النقب, الديمقراطية في إسرائيل وارتفاع مستوى معيشة العرب في إسرائيل , هذه القضايا المثارة في ذهن الفرد هي ما نطلق عليه اصطلاح الإدراك.
ثامنا: التصوير Image  أو الصورة الذهنية
 فهو الانطباع الأولى العام للفرد عن موضوع معين, كأن يكون لدى الفرد انطباعا عاما بأن دولة معينة هي دولة شريرة  . ومن البديهي أن التصور لكونه انطباع عام وأولى يسبق الإدراك , كما أنه يؤثر في نوع القضايا المدركة.
لكي نوضح الفارق بين تلك المفاهيم فإننا نسوق المثال التالي: قد يكون لدى الفرد انطباع عن قائد سياسي معين بأنه زعيم قومي(تصور) رغم أنه يكره مفهوم هذا القائد للقومية (اتجاه ) فإذا أثير أمامه موضوع يتعلق بهذا القائد تذكر بعض سياساته ومواقفه المشهورة تجاه  قضايا معينة (إدراك) , ولكنه حين يؤكد صحة سياسته إزاء الأعداء فإنه يعبر عن (عقيدة) , كما أنه حينما يعبر عن تفضيله لرموز مثالية معينة . فإنه عندئذ يتحدث عن (القيم), ولكنه حينما يشير إلى ضرورة تغيير المجتمع نحو وضع مثالي من خلال الثورة الشعبية , فإنه يعبر بذلك عن (أيديولوجية).
v   تعريف السلوك السياسي
السلوك السياسي هو شكل من أشكال السلوك الإنساني تنطبق عليه كل صفات السلوك عدا أنه ينصرف إلى ظواهر معينة هي الظواهر السياسية مما يدعونا إلى ضرورة التعريف بمعنى السياسة التي يشكلها السلوك السياسي.
فكلمة “سياسية ” هي ترجمة لمصطلحين الأول هو السياسة بمعنى Policy  والثاني هو السياسة بمعنى Politics
(1) السياسة Policy بالمعنى الأول تنصرف السياسة إلى برنامج عمل يتبعه الإنسان أو الوحدة البشرية المعنية لتحقيق هدف معين, كأن نتحدث عن السياسة الخارجية المصرية أو السياسة العالمية الأمريكية , أو السياسة الاجتماعية لنقابات العمال وغيرها ، مثل السياسة التعليمية، السياسة التنموية. السياسة هنا هي أقرب إلى برنامج العمل منها إلى مفهوم السياسة بالمعنى الثاني, وهو المعنى المقصود حينما نشير إلى السلوك السياسي.
(2) “السياسية” بالمعنى الثاني ؛Politics , هي صفة من صفات الاجتماع البشري, فكلما أجمع البشر في مكان معين تعددت حاجاتهم , وتناقضات مفاهيمهم  حول كيفية استغلال وتوزيع الموارد المتاحة لإشباع تلك الحاجات.
ولحل تلك المعضلة , فإن الأمر يتطلب وجود “سلطة عامة ”  تتولى صياغة قواعد معضلات الاجتماع البشرى , وبالذات اتخاذ القرارات “العامة ” المتعلقة بكيفية توزيع الموارد وصياغة قواعد عامة وفرض احترام تلك القواعد ولعل أهمها ما يميز تلك السلطة العامة هو :
أ‌.         أنها مفوضة من المجتمع في اتخاذ القرارات الملزمة للمجتمع ككل. ومن ثم , فهي سلطة تتمتع بالشرعية والإلزام العام.
ب‌.     أنها تستطع اتخاذ قرارات في ميدان توظيف الموارد العامة ’ أي تلك الموارد والأنشطة الاجتماعية المتاحة للمجتمع كوحدة كلية .
بهذا المعنى تختلف السلطة العامة عن السلطة الخاصة (كسلطة رب الأسرة على أسرته) في أن الأخيرة ليست لها سلطة الإلزام العام كما أنها لا تسرى إلا في ميدان ما هو خاص بتلك السلطة وحدها.
أن كل السلوكيات المتعلقة بهذه السلطة العامة , كيفية الوصول إليها, وكيفية الاحتفاظ بها, وكيفية إدارة شئونها فيما يتعلق بتوزيع الموارد العامة , أي تحديد من يحصل على ماذا؟ ومتى أو كيف و بالتحديد:-
أ‌.         عملية تحديد الأهداف العامة للمجتمع.
ب‌.     عملية تحديد أولويات تلك الأهداف (زيادة الإنفاق على الدفاع مثلا بدلا من التعليم)
ت‌.     أساليب تحقيق الأهداف العامة (الإستراتيجية العامة للمجتمع)
بهذا المعنى , فإن السياسة مفهوم شامل, بحيث أن التصرف الذي يبدو ولأول مرة وهلة على أنه مجرد تصرف فني بحت (كشق طريق , أو زيادة الإنفاق على بند اجتماعي معين) , هو في حقيقته تصرف سياسي. كذلك , فمن الملاحظ أن حجم (السياسة) في مجمل النشاط الاجتماعي يتزايد باستمرار, إذ أن كثير من الأنشطة الاجتماعية تتجه باستمرار نحو “التسييس”Politicization   ويقدم كارل دويتش مقياسا لتزايد أهمية السياسة , بنصيب القطاع العام والحكومي من الناتج القومي الاجتماعي (أي الجزء من الموارد الاجتماعية الخاضعة لإشراف المجتمع ككل) . ويوضح مثلاً أنه في سنة 1789( سنة اندلاع الثورة الفرنسية) كان نصيب القطاع العام والحكومي من الناتج القومي في فرنسا 8% وقد ازداد هذا النصيب سنة 1975 إلى حوالي 42% والظاهرة ذاتها موجودة في مختلف دول العالم بنسب مختلفة.
السياسة إذن هي تلك الأنشطة المتعلقة باتخاذ القرارات العامة الملزمة للمجتمع وبالذات فيما يتعلق بتوزيع الموارد الاجتماعية . Allocation of Resources
إن هذا التعريف للسياسة يظل تعريفاً قاصرا ما لم نتبعه بمفهوم السياسة على المستوى الواقع خارج حدود الاجتماع البشري , أي السياسة على مستوى العالم ككل . عند هذا المستوى , فإن السياسة تنصرف إلى الأنشطة التي تتبعها الوحدات المكونة للنظام العالمي تجاه بعضها البعض في سعيها إلى تحقيق أهدافها العامة .
فسعى مصر مثلا إلى دفع الولايات المتحدة نحو زيادة حجم المعونة الأمريكية لمصر, أو تنشيط المفاوضات الغربية – الإسرائيلية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط , أو تحقيق الأمن في الخليج العربي , كل ذلك يدخل تحت بند السياسة ,  ولكن أن تكون الدولة كوحدة نظامية هي الكيان السياسي الوحيد الذي يقوم بالنشاط السياسي الخارجي , فمن الممكن أن تظهر وحدات أخرى في هذا المجال : كالتنظيمات الدولية (الأمم المتحدة , جامعة الدول العربية مثلا) , أو الوحدات السياسية التي تقع داخل حدود الدولة (كاتحادات العمال , والأحزاب السياسية, والنقابات المهنية)>
v   أشكال السلوك السياسي
يتألف السلوك الإنساني من طوائف متعددة وغير متجانسة من السلوكيات , كالسلوك الاقتصادي, والسلوك الاجتماعي , والسلوك الثقافي, والسلوك السياسي وغيرها. كذلك , فالسلوك السياسي لا يمثل وحدة متجانسة من السلوكيات , وإنما يتكون من أشكال وطوائف متعددة يصعب حصرها , وإن كان يمكن تحديد أهم أشكالها فيما يلي :-
1.  السلوك الانتخابي:-
ويقصد به كيف ولماذا بصوت الفرد لمرشح أو لحزب أو لنقابة أو لتنظيم معين, وكيف ولماذا تصوت دولة في التنظيمات الدولية على القضايا المختلفة المعروضة أمام تلك التنظيمات , لماذا يشارك الفرد في الانتخابات ولماذا يمتنع عن المشاركة في الانتخابات , وهكذا .
2.  السلوك التشريعي:-
ويشمل سلوك أعضاء الهيئات التشريعية فيما يتعلق بكيفية وأسباب تصويت هؤلاء الأعضاء على مشروعات القوانين , وكيف تتم عملية التوفيق بين الآراء المتعارضة لأعضاء الهيئات التشريعية.
3.  السلوك الحكومي:-
ويشمل السلوك التنفيذي بشقيه السياسي والإداري ,أي سلوك القائمين على السلطة التنفيذية بشقيها السياسي والإداري في ثنايا سعيهم لتطبيق السياسات التنفيذية , وتطبيق القواعد القانونية. فقرار الحكومة بزيادة الإنفاق الدفاعي أو إنشاء مدن جديدة , أو خفض الرسوم الجمركية , أو تكثيف الحملات ضد تجار المخدرات , كلها نماذج للسلوكيات السياسية الحكومية.
4.  السلوك القضائي:-
لا يقتصر دور القضاء على مجرد تطبيق القانون في حالة التنازع . فللقضاء أيضا دور فى تفسير القوانين, والاجتهاد في أسلوب تطبيقها , وذلك بشكل أخص على مستوى المحاكم العليا والمحاكم الدستورية وتتأثر تلك التفسيرات والاجتهادات بالخلفية الإيديولوجية والعقائدية للقضاة , وفى هذا الإطار يعد سلوك القضاة في ميدان إصدار الأحكام بناء على اجتهادات وتفسيرات معينة , بمثابة شكل من أشكال الدستورية العليا في مصر والتي أثرت في حركة النظام السياسي خلال السنوات العشرين الأخيرة , كحكم المحكمة بخصوص إلغاء الاستثناءات في القبول بالجامعات .
5.  السلوك الحزبي:-
ويقصد به سلوك الأحزاب السياسية في سعيها للوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها بما في ذلك سلوكها لاجتذاب ولاء الناخبين سواء من حيث الدخول في العملية الانتخابية أو مجرد تقديم خدمات اجتماعية للمواطنين. ويشمل السلوك الحزبي أيضا سلوكيات الأحزاب تجاه بعضها (التحالفات والائتلافات التي تتم بينها).
6.  سلوك التنظيمات المدنية في القضايا العامة :-
تنشأ في المجتمعات التي وصلت إلى درجة معينة من التطور الاجتماعي تنظيمات مدنية , كالنقابات المهنية والاتحادات العمالية وغيرها, وهى تنظيمات تنشأ لرعاية مصالح أعضائها أساسا, ولكنها أيضا تلعب أدوارا فيما يتعلق بالقضايا العامة للمجتمع . ومن ذلك مثلا تأييد اتحاد العمال المصري لسياسة الحكومة المصرية , أو سلوك نقابة الأطباء المصرية تجاه قضية البوسنة والهرسك . بيد أن سلوك التنظيمات المدنية في القضايا المهنية الخالصة لا يعد في رأينا سلوكا سياسيا.
7.  السلوك السياسي الدولي :-
وهو كل سلوك تقوم به الوحدات الدولية المختلفة الدول , التنظيمات الدولية والأفراد حين يهتمون بالقضايا السياسية في سعيها لتحقيق أهدافها في المحيط الدولي , كإعلان الحرب على دولة أخرى ’ أو إعطاء المعونة الاقتصادية بدولة أخرى, وهكذا .

v   التمييز بين تحليل السلوك السياسي , والدراسة السلوكية للسياسة
يخلط كثير من الدارسين بين تحليل السلوك السياسي كامتداده للمدرسة السلوكية Behaviorism وبين المدرسة السلوكية في التحليل السياسي وهى المدرسة التي سنطلق عليها اصطلاحا لتمييزه عن المدرسة الأولي بالمدرسة السلوكية Behaviorism
نشأت المدرسة أو الدراسة السلوكية للسياسة في حوالي منتصف الخمسينات من القرن العشرين, وشكلت ما يمكن أن نسميه ثورة كاملة في التحليل السياسي , نقلت هذا التحليل من مستوي كيفي إلى مستوي آخر .   فقد كان علم السياسة قبل ظهور الثورة السلوكية يركز على المناهج التاريخية والقانونية والفلسفية إلى حد بعيد, وتعامل مع الظواهر السياسية باعتبارها ظواهر منفصلة عن بعضها , ويصعب ربطها في إطار نظري أو الوصول إلى تصميمات (أو قوانين) تفسيرية لتلك الظواهر , ويمكن تلخيص أهم مقولات المدرسة السلوكية , كما صاغها ديفيد ايستون في المقولات التالية:-
1.أن التفاعلات السياسية تتميز بوجود أنماط متواترة , فهذه التفاعلات ليست عشوائية ولكنها تفاعلات منتظمة يمكن التوصل إليها من خلال الدراسة العلمية وتوظيفها للتنبؤ بالمسارات المستقبلية لتلك التفاعلات.
2. ضرورة الفصل بين القيم والوقائع في عملية التحليل السياسي بحيث يغد والتحليل السياسي منصبا     على الوقائع فقط أي Value-free .
3. أن الهدف من التحليل السياسي من قواعد بحثية محددة وفعلية بحيث يمكن “التحقق” من صحة نتائج التحليل بإتباع القواعد المنهجية العلمية.
4. ضرورة أن ينطلق التحليل السياسي من قواعد بحثية محددة وفعلية بحيث يمكن “التحقق” من صحة نتائج التحليل بإتباع القواعد المنهجية العلمية.
5. إن دقة التحليل السياسي تتطلب (التحويل الكمي) للظواهر السياسية بحيث يمكن قياس تلك الظواهر قياسا إحصائيا .
6. أهمية تكامل العلوم الاجتماعية والاستفادة من أدوات البحث ونتائج العلوم الاجتماعية الأخرى كعلم النفس , وعلم الاقتصاد , وعلم الاجتماع وغيرها.
لقد أدت الثورة السلوكية إلى تطور هائل في علم السياسة , بمعنى توظيف أدوات بحثية جديدة , والتوصل إلى نظريات علمية جديدة , واكتساب التحليل السياسي عموما طابعا علميا وضعيا.
وما يهمنا في هذه العجالة هو أنه ليس هناك تلازم ضروري بين تحليل السلوك السياسي والتحليل السلوكي (السلوكوى) للسياسة, وأنه من الممكن دراسة السلوك السياسي من منظور سلوكوي أو من منظور تقليدي.

هوامش الفصل الأول
1.  يقصد “بالامبيريقية ” Empiricism  القابلية للملاحظة والدراسة . ومن ثم , فإن التحليل الإمبريقى هو ذلك التحليل الذي يتناول ظواهر قابلة للملاحظة البشرية بأدوات لتحليل الحس المتاحة للإنسان ومن ثم فإن الإمبيريقية ليست مرادفا للتجريبية أو للتحليل الكمي كما يشيع في بعض الكتابات ,وبهذا المعنى فإن الإمبيريقية شرط من شروط التحليل العلمي.
2.  بالإضافة إلى شرط الامبيريقية, فإن التحليل العلمي يتصف بصفتين هامتين أخريين هما:
–     (1) وجود قواعد للتحليل، (2) والموضوعية فالعلم يتميز بوجود قواعد محددة ومعلنة تحدد كيفية التوصل إلى النتائج بحيث أنه يمكن التحقق من صحة النتائج من خلال مراجعة كيفية تطبيق القواعد على الظاهرة محل البحث ضيف إلى ذلك أن التحليل العلمي يتصف بالفصل بين القيم الذاتية للباحث, وبين الحقائق التي يتولى تحليلها, وهو ما نطلق عليه “الموضوعية”.
–     * المصدر: د. محمد السيد سليم ود.جلال عبد الله معوض، السلوك السياسي،  محاضرات، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، العام الجامعي 92-1993.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى