دراسات سياسية

السياسة العامة علي صعيد المفاهيم

 

أ/ مفهوم السياسة العامة:

إن دراسة المفاهيم المتعلقة بالسياسة العامة هي دراسة لما يفعله النظام السياسي للإجابة على السؤال الكبير الذي طرحه“هارولد لاسويل”منذ 50 عاما :من يحصل على ماذا؟ ومتى وكيف؟،أو هي التوزيع أو التخصيص السلطوي للقيم على حد تعبير“دافيد إستون”(1).وهي أيضا دراسة لوظائف النظام السياسي وقدراته وفق منهج(غابريل ألموند)وبتعبيرأدق“لرفاعة الطهطاوي” هي قضاء مصالح العباد و إدارة شؤونهم ، أي بإختصار دراسة للأداء الحكومي بمظمونه الإداري والسياسي(2).

  وقبل التعرف على مفهوم السياسة العامة لا بد من التعرف على بعض المفاهيم التي تدخل في تركيب ومحصلة هذا المفهوم اللزج والمائع، وعند تشريح السياسة العامة فأول مفهوم يمكن أن يستدعي الاهتمام هو مصطلح السياسة .

* تعريف السياسة :

هناك تعاريف متعددة ومتباينة لكلمة ” سياسة “ فقد عرفت السياسة(policy) بأنها:“برنامج معد للقيم المستهدفة والممارسات،وهي وضع وصياغة وتطبيق التحديات والمطالب والتوقعات فيما يخص مستقبل علاقات الذات مع الغير , وقد أكد البعض على عنصر الإكراه , فوضعت السياسة بأنها الإكراه المخطط عمدا،أو أقوال تحدد غرض ووسائل وموضوع أشياء ممارسة الإكراه داخل سياق علاقة القوة في المنظمات ،وأشار البعض إلى مخرج لأي صانع قرار وأشار البعض إلى تعلقها بالمدى الطويل والبعض إلى جوانب التوجه نحو الهدف”(1).

ويعرف أحد علماء السياسة وهو presthusالسياسة بأنها:“أسلوب أو طريقة للتصرف الذي يتم إختياره بواسطة الحكومة والمنظمات الجماعية أو ألأفراد من بين العديد من البدائل في ضوء ظروف معينة لكي ترشد وتحدد القرارات الحالية والمستقبلية”.(2) .

وهناك من عرف السياسة -ومن زاوية محددة- كعملية تحكم صنع القرار في تعريف يصفها بأنها:“مرشد للتفكير في إتخاذ القرار،فهي تحكم وتصف إجراء عملية إتخاذ القرارات في ضوء أو من خلال إطار محدد، وهذا الإطار هو مجموعة من القواعد التي تحكم وتوجه عملية إتخاذ القرارات”(1).

أي يمكن النظر إلى السياسة في معناها الأساسي على أنها عملية إختيار فردي أو جماعي والتي تشرح وتبرر وترشد أو تحدد تصرفا معينا سواء كان قائما فعلا أو يحتمل الوقوع , وعادة السياسة تحدد الإطار الذي يمكن للقرارات أن تتخذ فيه ، وفي بعض الأحيان يمكن أن تكون محصلة لعدد من القرارات أو النتائج المتراكمة للتصرفات والإختيارات.

ومن بين التعاريف الواردة كذلك أن:”إصطلاح السياسة بصفة عامة يطلق على تلك القرارات الجوهرية التي تتم في منشأة معينة وتتصف بأكبر قدر من التشعب وتعطي أطول مدى زمني وتتطلب أكبر قدر من المعلومات والتفكير الإبداعي و التأملي …”(2).

وحتى لا نكون منحازين إلى أي مدرسة أو إسهام فكري,رغم إعترافنا بمدى الاهتمام الكبير والمتزايد التي تحصي به دراسات السياسة في المدارس الغربية , وذلك بوضع الأسس الفلسفية والإطار المفاهيمي للسياسة كعلم قائم بذاته وكل ما يشمل بها من مفاهيم ، لكن تبقى المدرسة العربية الإسلامية ذات إسهامات فذة في هذا الحقل ، حيث نجد لمصطلح السياسة أصولا و إرهاصات في التراث العربي الأصيل و إلا كيف نفسر ما ورد على لسان العرب“القيام بالأمر بما يصلحه”.وقد فهم العرب السياسة بمعاني كثيرة , فالحكم هو مناط السياسة عند الفقهاء الذين شغلهم موضوع الأمة والإمامة والتي قصد بها تدبير شؤون الراعي والرعية بما يتفق وأحكام الشرع. أي السياسة بالمنضور الإسلامي مناطها السلوك الذي ينشد خير الأمة,كما ربط المفهوم كذلك بعدة مصطلحات كالتدبير عند (حامد ربيع) والقيام بشؤون الناس والإصلاح , والرياسة , والعمران كما ورد في أدبيات ابن خلدون الذي تعد نظرته للسياسة من باب النشاط والممارسة(1) .

هذا عن مفهوم السياسة لكن لا ينبغي أن نلصق مفهوم السياسةpolicy” لما قد يشير إليه مفهوم السياساتpoliticsوالتي تعرف على أنها:“..تلك التوصيات العامة التي تشكل إطار للتفكير في المواقف،وتوجه القرارات نحو تنفيذ الغايات المنشودة،وتكون واضحة،محددة،مفهومة،تتسم بالثبات النسبي،واقعية ومنطقية،وألا تكون متعارضة مع الأهداف.”(2).

وفي تعريف آخر تمثل السياسات:” مجموعة القواعد والمبادئ التي يلتزم بها المخططون و المنفذون في كل مراحل العمل،فهي تعبير عن الاتجاهات الرسمية في التنظيم نحو أنماط السلوك المسموح به،وتعبر أيضا عن الوسائل التي يمكن اتباعها لتحقيق الأهداف.”(1) .

فالسياسة بإيجاز هي صياغة الأهداف، وفي مفهومها العام هي إتجاه يوضح أسلوب التفكير عند إتخاذ القرارات الصالحة لمشروع ما, كما أنها الموجه والمرشد للأفعال والقرارات لأنها تضع الأساس الذي يربط تلك الأفعال بالأهداف، وهناك إرتباط وثيق وثمة علاقة جوهرية بين المبادئ والسياسات والقواعد في مجال التطبيق العملي. ومن جملة التعاريف المقدمة من أهل الاختصاص يتضح لنا جليا أن السياسة تتفاوت وتختلف من حيث تعاريفها حسب المناظر والزوايا المراد تحديدها, فهناك من ينظر لها من زاوية السلوك المرتبط بالأشخاص ومؤسسات وعمليات الحكم ، أما آخرون فيصفونها على أنها جوهر العمليات المتعلقة بالتعامل مع المشكلات وصولا إلى الأهداف،كما تشير التعريفات أيضا إلى أن السياسة هي تفاعلات إنسانية محملة بالتهديد أو بالقوة التي يراها البعض أنها لب السياسة،على إعتبار أن السياسة هي جماعة أفراد وأقلية يمارسون السلطة و الإكراه المنظم على أغلبية من المؤسسين الذين يسلمون بذلك من تلقاء أنفسهم وتحت سلطة الأمر.فبعد أن تطرقنا ولو بصورة مختصرة إلى مفهوم السياسة،والفرق بين مفهوم السياسة والسياسات،سوف نقف عند مفهوم السياسة العامة كأحد المفاهيم المستحدثة في علم السياسة والإدارة العامة،وعلى خلفية المفهومين السابقين“السياسة والسياسات” أسهم العديد من علماء السياسة في وصف وتحديد مصطلح السياسة العامة حسب منطلقاتهم الفكرية والمداخل المنتهجة في دراسة هذا المفهوم،ومن خلال الاطلاع و إمعان النظر في أهم التعاريف الواردة يمكن أن نقسم هذه الإسهامات إلى الزوايا التالية:

1– مفهوم السياسة العامة من منظور ممارسة القوة(السلطة):

 في البداية لا بد من الإشارة إلى معنى القوة التي تعبر بصفة عامة عن “قدرة شخص أو مجموعة أو حكومة ما على القيام بعمل يؤثر في شخص أو مجموعة من الأحداث تغير في السلوك المحتمل القيام به إزاء عمل مستقبلي محدد”.وتكون القوة نتيجة إمتلاك مصدر أو مصادر القوة المعروفة مثل الإكراه , المال , الخبرة , المنصب , الشخصية ….الخ ,وعليه فان أصحاب هذا الاتجاه يرون أن نتائج أي مجتمع سياسي ما هو إلا تعبير عن البيئة التي يعيش فيها هذا المجتمع من محصلة أنماط النفوذ،أو أن التركيز الأكبر على عملية القوة السياسية وكيفية ممارسة النفوذ لتحقيق السياسات العامة والوسائل التي بها تم ذلك .

إن القوة كقيمة في حد ذاتها ينظر إليها علماء الإجتماع السياسي على أنها سبب النشاطات الاجتماعية للتنظيم،ويعني أن القوة هي سبب ونتيجة في آن واحد لقيام التنظيم الإجتماعي , ومن ناحية ثانية فان القوة كظاهرة أو كعملية لا يمكن أن تظهر إلا إذا بدأ الأفراد في الدخول في التفاعل وعلاقات مع بعضهم كمصلحة للتنظيم , كما يرى إتجاه ثالث أن القوة مجرد وسيلة لتحقيق الأهداف والمصالح والأغراض القومية كالأمن والإستقرار والرخاء…الخ , ونحو ذلك تصبح بدورها هدفا في حد ذاته تسعى الدولة لتحقيقه بشتى الطرق. ورغم أن مفهوم القوة هو المفهوم الأساسي في العلوم الإجتماعية وبالذات في علم السياسة إلا أن هناك تعريفات مختلفة لهذا المفهوم بل لا يوجد تعريف متفق عليه ،ولكن هناك ملامح للقوة يمكن الإستدلال عليها , فقد حاول فريق من علماء السياسة التوصل إلى تعاريف واضحة وشاملة لمعنى القوة من زاوية التحكم والإحتكار لوسائلها، فعرفها“أوستن رينيA-RENNEYبأنها:” علافة التبعية والطاعة من جانب والسلطة والسيطرة من جانب أخر”. أما ” مارشال C.MARCHEL” فوصفها بأنها أمكانية التوصل إلى الغايات المطلوبة”.

كما عرفها البعض من باب التأثير على الآخرين حيث يعرف“ماكس فيبر M.WEEBER القوة بأنها:”إحتمال قيام شخص ما في علاقة اجتماعية بتنفيذ رغباته رغم مقاومة الآخرين بغض النظر عن الأساس الذي يقوم عليه هذا الاحتمال” .ومن بين التعريفات التي سارت على مدى هذا التعريف ما قدمه“دال DEHLحيث يقول: “القدرة على جعل شخص أخر يقوم بعمل لم يكن يقوم به بغير ذلك”(1).

وهناك تعريف للقوة من زاوية القدرة على التأثير في صنع القرار في المجتمع، حيث إتجه كل مـن“هارولد لاسويل H.LASWELو“أبرهام كابلان A-KAPLAN إتجاها أخر في تعريف القوة , فهي تعني:“المشاركة في صنع القرارات المهمة في المجتمع والقرار بصفة عامة هو الإختيار الواعي بين البدائل بعد دراسة الموقف من أجل تحقيق هدف معين , هذا التعريف يؤكد على أنه من الصعب تحديد المراكز الفعالة أو مواطن القوة في إتخاذ القرار”(1).

فهذه تعاريف متنوعة للقوة من عدة زوايا كالتحكم أو التأثير أو صنع القرار،فالقوة ذات طبيعة نسبية وعملية ذات وجهين هما السلطة والنفوذ , هذا بإختصار شديد كل ما قد تحمله القوة من معنى فنحن أردنا تشريحها حتى نقف على مفهوم السياسة العامة من منظور القوة .

وإنطلاقا من مفهوم القوة عرف“هارولد لاسويل H-LASWELL السياسة العامة بأنها:” من يحوز على ماذا ؟ ومتى ؟ وكيف ؟ من خلال نشاطات تتعلق بتوزيع الموارد والمكاسب والقيم والمزايا وتقاسم الوظائف والمكانة الإجتماعية , بفعل ممارسة القوة أوالنفوذ , والتأثير بين أفراد المجتمع من قبل المستحوذين على مصادر القوة”(1).

كما توسع في بسط ذلك المنطلق كل من“مارك ليندنبيرك .M-LINDENBING “و”بنيامين كروسبي B-CROSBY, حين عرفا السياسة العامة من منطلق برغماتي عملي يخضع لعمليات الأخذ والجذب والمساومة من أنها:”عملية نظامية تحظى بميزات ديناميكية متحركة للمبادلة والمساومة،وللتعبير عمن يحوز على ماذا؟ ومتى ؟ وكيف ؟ كما عن ماذا أريد ؟ ومن يملكه ؟ وكيف يمكن أن أحصل عليه ؟”(2).

إن منظور القوة يعكس إمكانية الصفوةELITEفي حصولها على القيمVALUESالعامة عبر التأثيرINFLUENCEعلى قوة الآخرين في المجتمع , وأن السياسة العامة يمكن لها أن تكون إنعكاسات لوجهة نظر أو إرادة أصحاب النفوذ والقوة , الذين يسيطرون على محاور التنظيم السياسي ونشاطات مؤسساته المختلفة .

غير أن هذا المنظور لقي إنتقادات لاذعة من لدن الكثير من المفكرين الذين لا يؤمنون بأن القوة وحدها قادرة على تفسير كل العلاقات والتفاعلات والنشاطات التي تدور في فلك السياسة العامة ضمن إطار المجتمع فضلا عن تداخل المضامين السياسة العامة فهي تعبر عن الجزء الخفي فيها , وإلا كيف نصف الإجراءات والنشاطات والمبادئ والقواعد , المعبر عنها وحتى المحددات المزمع تحقيقها , وأهدافها المنشودة , فلهذا النقد تأثير في بروز تيار أخر يعرف السياسة العامة من منطلق أخر يختلف تماما .

2- مفهوم السياسة العامة من منظور أداء النظام:

لقد وصف العديد من علماء السياسة النظام بشك عام وذلك بإعتباره مجموعة من الأجزاء تشكل فيما بينها نسقا من العلاقة المتبادلة في إطار تلك الوحدة الكلية, ومن هذه الزاوية يولي“ديفد استون D.EASTTON إهتماما بالسياسة العامة، أى من وجهة تحليل النظام كنتيجة ومحصلة في حياة المجتمع من منطلق تفاعلها الصحيح مع البيئة الشاملة التي تشكل فيها المؤسسات والمرتكزات والسلوكيات والعلاقات أصولا للظاهرة السياسية التي يتعامل معها النظام السياسي، وعليه فهو يعرفها:” توزيع القيم في المجتمع بطريقة سلطوية آمرة, من خلال القرارات والأنشطة الإلزامية الموزعة لتلك القيم في إطار عملية تفاعلية بين المدخلات والمخرجات والتغذية العكسية”(1). فهذا التعريف يعطينا صورة عن بيئة السياسة العامة أي علاقتها بالنظام السياسي وكل ما قد يحدث من تفاعلات وعلاقات وصراعات ومساومات كما ينظر للسياسة كنسق يتفاعل مع باقي الأنساق الأخرى أخذا وعطاء .

كما يرى أيضاجابرييل ألموندG.ALMENDبأن السياسة العامة تمثل:“محصلة عملية منتظمة عن تفاعل المدخلات ( مطالب + دعم مع المخرجات ( قرارات وسياسات… ) للتعبير عن أداء النظام السياسي في قدرته الإستخراجية والتنظيمية , التوزيعية الرمزية , ….) , كما يراها أيضا من زاوية إجرائية بأنها :” تعبيرات عن النوايا التي يتم سنها أو إقرارها من قبل السلطة التنفيذية والتشريعية التي تقوم أيضا بتخصيص الموارد وتحديد الجهات المسؤولة عن تطبيق إنجاز هذه الأهداف”(1).

وقد لا تكون أراء“بربارة مكلينان B.MELENNANوزملاؤه أكثر إختلافا عن التعريف السابق , في تعريفهم للسياسة العامة بأنها:“النشاطات والتوجهات الناجمة عن العمليات الحكومية إستجابة للمطالب الموجهة من قبل النظام الإجتماعي إلى النظام السياسي…”(1).

إن هذا المنظور قدم نظرة كلية واسعة وشاملة , لحركة البيئة وتفاعل نظمها , بالشكل الذي يسهم في إقامة وحدة تحليلية مترابطة ترتكز على قضايا وشؤون المصلحة العامة , كإستجابة للنظام السياسي , وهذا يلزمنا للإشارة إلى الجانب الايكولوجي ودوره في بناء السياسات العامة , فها هي هذه العلاقة ؟ والى أي مدى يلعب النظام السياسي دورا في توجيه السياسة العامة ؟. إن فتح باب كهذا يتطلب دراسة متخصصة للجانب البيئ في الإدارة العامة لكن سنحاول أن نعطي نظرة ولو بإيجاز عن الدور الذي يلعبه النظام السياسي في تحديد معالم السياسات العامة , أو الفضاء الذي تتحرك فيه الحكومات ومجال تغطيتها.

ولذا يرى أصحاب هذا المدخل الايكولوجي أو(البيئي ) أن نجاح أي تنظيم في أداء مهامه بنجاح في المجتمع , لا يعني نجاحه بنفس القدر في بيئة مغايرة لبيئة المجتمع الذي ينتمي إليه التنظيم , وعليه فالتنظيم لابد أن ينبثق من البيئة التي ينتمي إليها بعواملها المختلفة.لقد كان الاهتمام بالأثر البيئي على الإدارة قديما حيث تقول المصادر التاريخية أن“كونفوشيوس”وهو أحد فلاسفة الصين القدماء أول من نبه إلى الأثر الايكولوجي حيث قال:“أن على الحكام أن يفهموا الأحوال السائدة في بلد ما حتى يحكموه, وعليهم أن يراعوا العوامل الطبيعية والأحوال الاجتماعية عند حماية مسؤولياتهم”(1).

هذا التعبير صادق عن الأثر البيئي في توجيه المسؤولين عند بناء أي سياسة في شتى المجالات, أما في العصر الحديث فنجد“جون قاوس”من الأوائل الذين إهتموا بإبراز الجانب البيئي وأهميته, وبجانبها دراسات“فريد ريجز FREED.R في التركيز عن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والمتغير الثقافي , وهناك عدة دراسات أخرى تنوه إلى ضرورة التأقلم والتكيف مع المتغيرات البيئية من قبل واضعي السياسة العامة والتي تؤدي إلى سلسلة من ردود الأفعال التي تؤثر على كل جانب من جوانب العمل داخل النظام السياسي .ويقول في هذا الشأن“عبد الكريم درويش- والدكتورة ليلى تكلا”في مؤلفهما المشترك“أصول الإدارة العامة”:“….إننا لا يمكن أن نفترض أن الجهاز الحكومي في مجتمع ما يستطيع أن ينجو من إعتبارات الزمان والمكان الجغرافي والسكان , أو بأنه يمكن بشكل أخر أن يبدو مستقلا أو منعزلا عن تأثير الحضارة أو السياسة أو التنظيم الإجتماعي والإقتصادي الذي نما فيه , بل يمكن أن نرى الوجه الحقيقي للإدارة الحكومية في أي مجتمع دون خداع أو سوء فهم … فبيئة الإدارة ما هي في الواقع إلا امتداد للبيئة الإجتماعية الأخرى السائد بمافيها من عوامل القوة والضعف , الكفاية وعدم الكفاية العزيمة والتوكل , الصلاحية والفساد , النزعة للسيطرة , والاتجاه نحو الديمقراطية أو الميل للتمسك بالنظام أو الخروج عليه ، أو إحترام المواعيد وتقدير أهمية الوقت أو التفريط فيه ….”(1).

فالسياسة العامة من منظور تحليل النظام تتأثر بعوامل عديدة قائمة في المجتمع فتحتاج المجتمعات لمزيد من الخدمات الصحية , والتربية والتعليم , والضمان الاجتماعي , الدخل والأمن والسلامة…الخ , فهذه متغيرات تأتي من البيئة الاجتماعية فينبغي للسياسة العامة أن تتوافق مع هذه الاحتياجات , فالبيئة الداخلية والخارجية تعملان على تشكيل القضايا والمشكلات السياسية في الدولة , وتضع تحديات في وجه السياسة العامة وتهديدها مثل البطالة والتضخم … الخ. وعليه لا تكون السياسة العامة ذات كفاءة وفعالة ما لم تراعي الظروف البيئية التي تحيط بها , فالحاجة ماسة إلى أن تولد السياسة عامة في رحم بيئتها وتنتقل إلى النظام السياسي عبر قنواته , إضافة إلى دور البيئة في وضع القيود والمحددات على متخذي القرارات كما أن خصائص النظام السياسي من حجم ونوع المواد وغيرها من المتغيرات المتعلقة بعدد السكان وسخط العيش وأساليب الثقافة , تعد جميعها خصائص بيئية مهمة لدى متخذي السياسات فتعرف السياسة العامة من وجهة نظر النظام أبعد في الواقع لما عليه في نظرية القوة .

3- مفهوم السياسة العامة من المنظور المؤسسي (الحكومة):

توصف الحكومة بأنها سلطة تمارس السيادة في الدولة لأجل حفظ النظام وتنظيم الأمور داخليا وخارجيا , فضلا عن كونها بنية تنظيمية تشمل أجهزة ومؤسسات تقوم بوضع القواعد القانونية وتنفيذها،إلى جانب كونها تمثل مركز عملية إتخاذ القرار ورسم السياسات العامة،أي العلبة السوداء كما وصفها“استون” التي تحدد كيفية إنسياب العلاقة بين التشريع والتنفيذ والقضاء .فيمكن حسب هذه المعطيات النظر إلى السياسة العامة من خلال كونها ممارسة تمثل عملية إتخاذ القرارات ورسم السياسات داخل الأجهزة الحكومية في سبيل صيانة بنيتها التنظيمية, فمن هذا المنظور المركب المستوعب لطبيعة الحكومة من حيث ما تحمله من مواصفات وخصائص وردت عدة تعاريف تدل علي السياسة العامة من حيث كونها عملية تنظيمية تقتضيها الطبيعة المؤسساتية للحكومة وعلاقتها مع البيئة الخارجية بكل محتوياتها.

فمن هذا المنطلق عرف“منري توني” السياسة العامة بأنها:” تلك الوسائل المعتمدة من خلال الحكومة في سبيل إحداث تغيرات معينة داخل النظام الاجتماعي للدولة”. لقد أوضح هذا التعريف الجوانب الفنية للسياسة العامة بوصفها عملية ديناميكية آلية،أي تلك الأساليب المستخدمة من قبل الحكومة هي التي أدت إلى صياغة السياسة العامة وتوجيهها بنمط معين لإحداث صدى داخل البيئة.

لكن“دي كوسيولاس D-KOUSOULAS كان أكثر تحديد وشمولا بوصفه للسياسة العامة من منظور الحكومة بأنها:” تلك القرارات والخطط التي تضعها الهيئات الحكومية، من أجل معالجة القضايا العامة في المجتمع”(1). فهو يوضح سلوك الحكومة إزاء القضايا والمشكلات, تعبيرا عن ذلك بإصدار قرارات وخطط لمواجهة هذه المشاكل, فالتعريف شامل للوسائل والأجهزة الحكومية والوظائف ( قرارات التحويل ) والأهداف ( مواجهة القضايا ).

ومن زاوية أخرى وبشكل شامل عرفها (توماس داي) بأنها:” العلاقة بين الوحدة الحكومية وبيئتها،فهي تعبير عن كل شيء تقوم به الحكومة،أوهي تقرير أو اختيار حكومي للفعل أو عدم الفعل…”(2). أي أنها إختيار الحكومات لما تفعله وما لا تفعله ضمن مجال معين، فهذا توضيح لماهية أفكار الحكومة وعملية ظبط الصراع بين المجتمع وأعضاء التنظيم من سلوك وبيروقراطيات التنظيم وتوزيع المنافع وغير ذلك.

هذا التعريف يتناول الإختلاف بين ما تقرره الحكومة وما تفعله فعلا ، بل أنه ينصرف إلى أعمال لا تدخل ضمن السياسة العامة كتعين شخصي , وكذلك يوضح الجانب الضمني والخفي في السياسة أي بمعنى السكوت حول قضية ما , أو عدم إبداء أي رد فعل حول مشكلة ما كإضراب أو طلب الزيادة في الأجر لشريحة معينة,هذا الصمت رغم أن هذا الأمر من مهمتها وحتى في حالة وعودها فهذا يعبر عن عدم الفعل الذي يعبر عن سياسة عامة للحكومة .

وبأكثر تفصيل في النشاط يعرفها“جيمس اندرسون” الذي عبر عن المصطلح من وجهة نظر الهدف علي أن السياسة العامة هي:”برنامج عمل مقترح لشخص أو جماعة أو حكومة في نطاق بيئة محددة لتوضيح الغرض المستهدف والمحددات المراد تجاوزها سعيا للوصول إلى الأهداف،أو لتحقيق غرض مقصود…أوهى برنامج عمل هادف يعقبه أداء فردي أو جماعي في التصدي لمشكلة أو قضية ما..”(1).

أي طريقة عمل هادفة يتبعها منفذ أو منفذون في تعاملهم مع مشكلة أو مسألة ذات إهتمام بارز تندرج في إطار ما هو واقع فعليا أو تلك السياسات التي تطورها الأجهزة الحكومية والمسؤولون الحكومين , رغم تأثير الأشخاص والعوامل غير الحكومية في تطويرها .

ومن مدخل آخر تشير إلى:” الأهداف التي تقرر الحكومة تنفيذها في مختلف مجالات النشاط الذي تتدخل فيه الدولة”(2).أي كل ما من شأنه أن يحضى بتدخل الدولة وليس هناك إشارة في التعريف ما إذا كانت هذه الأهداف تتعلق بخير الأمة , فإذا كانت الرعاية الصحية , والتربية وحفظ الأمن والتنمية تعد من الأهداف التي تعمل الدولة على تحقيقها .فعادة ما يكون تدخل الحكومة في القهر والتعسف والقيام بحرب عدوانية هذا أيضا يكون هدفا تسعى الإدارة والحكومة بشكل عام إلى تحقيقه باستعمالها السلطة اللائحية كالظبط والتنظيم .

وثمة تعريفات متعددة من هذه الزاوية ومعظمها يندرج في إطار ما قدمناه من حيث كون السياسة العامة مجموعة القواعد والبرامج الحكومية التي تشكل قرارات أو مخرجات النظام السياسي بصدد مجال معين , ويتم التعبير عن السياسة العامة في عدة صور وأشكال منها القوانين واللوائح والقرارات الإدارية.فالمنظور الحكومي للسياسة العامة يولي إهتماما بارزا في وقتنا الحاضر وذلك بفعل ما يشهده المحيط السياسي من تغيرات إقليمية ودولية لبلدان العالم والبلدان النامية خاصة, حيث تشكل السياسات العامة واحدة من أهم المعايير التي تقيم عليها الحكومات و التي تقيم وزنا لمستقبلها ومدى قدرتها على تحقيق الرضى العام لشعوبها من حيث كونها تحدد الخيارات والأهداف والبرامج .

مما جعل المصطلح حقلا للدراسة والتحليل،خاصة لأداء المؤسسات السياسية والإدارية التي تضطلع بمهام صنع السياسة العامة وتنفيذها وكل الفاعلين فيها, والدليل الصادق على ذلك تساقط الحكومات في العالم العربي والنامي عموما تعبير عن عدم قدرتها على دفع عجلة التنمية الشاملة والمستدامة لشعوبها فيعطينا هذا المنظور صورة حقيقية عن مهام الحكومات وأجهزتها ويمثل منطلقا علميا في دراسة جوانبها وممارساتها . وفي هذا الصدد تحضرنا نباهة الدكتور“فهمي خليفة الفهداوي”من خيرة ما كتب في السياسة العامة حيث يقول صراحة “… أن شواهد النصوص السياسية حول ماهية السياسة, من حيث السلوك هو جذر السياسة وأصلها, وبالتالي هناك قبليات مستقلة للمفاهيم التابعة التي نتعامل معها, ونجعلها أصولا لمنطلقاتها الفكرية, فالحكمة قبل الحكومة وان الطاعة قبل السلطة, والتصويت قبل القرار والطلب قبل القيمة, والاعتقاد قبل الإيديولوجية, والإقناع قبل النفوذ والقوة , والواجب قبل الاضطرار…”(1).

هذا التعبير الدقيق يضع السياسة العامة مدعاة هامة في المجتمع وتحتم على الحكومة أن تعي عبر سياستها المصلحة العامة بكل ما تحمله الكلمة من دلالات .

ب/ مفهوم صنع السياسة العامة .

لقد تم التحول في الستينات والسبعينات من دراسة القرار إلى دراسة صنع القرار كتطبيق للعملية السياسية, وأصبح التركيز أيضا على المشكلات العامة القابلة للحل, والتركيز على التنفيذ و إستخدام المعرفة والأساليب العلمية والفنية في عملية بناء السياسات وكذا الأساليب والمعارف اللازمة لصنع أفضل للسياسة العامة, وذلك من منظور كلي يعتمد على المعرفة والخبرات الشخصية لصناع السياسة والإبداع المنظم في إختيار البدائل، وكذلك الاهتمام بالمتغيرات البيئية وعمليات التغيير وظروف التبدل الاجتماعي, بالإضافة إلى الاعتراف بالعقلانية في مجال السياسات . وبناءا على هذه المعطيات أصبحت عملية صنع السياسة العامة عملية ديناميكية تمر بعدة مراحل, وتتمخض عنها عدة تفاعلات ناجمة عن البيئة الداخلية والخارجية،وفي هذا الإطار يمكن إعتبار صنع السياسة العامة عملية سياسية تتضمن صراعا بين أفراد وجماعات , وأحيانا كفاحا ونظالا من أجل الخيارات حول قضايا سياسية ومشاكل عامة،وفي هذا السياق يعرف فهمي خليفة الفهداوي في كتابه “السياسة العامة منظور كلي في البنية والتحليل” عملية صنع السياسة العامة بأنها :” تلك المنظومة الفاعلة ( المستقلة والمتغيرة والمتكيفة والتابعة ), التي تتفاعل مع محيطها والمتغيرات ذات العلاقة من خلال استجابتها الحيوية ( فكرا وعملا ) بالشكل الذي يعبر عن نشاط المؤسسات الحكومية الرسمية وسلطاتها المنعكسة في البيئة الاجتماعية المحيطة بها بمختلف مجالاتها,عبر الأهداف والبرامج والسلوكيات المنتظمة في حل القضايا ومواجهة المشكلات القائمة والمستقبلية،وتحديد الوسائل والموارد البشرية والفنية اللازمة،كمنطلقات نظامية هامة لأغراض التنفيذ والممارسة التطبيقية,ومتابعتها وتطويرها, وتقويمها, كما يجسم أو يجسد تحقيق ملموس للمصلحة العامة المشتركة المطلوبة في المجتمع”(1).

إن هذا التعريف في تقديرنا يضم معاني عدة تتعلق بجوانب صنع السياسة العامة من توفير الموارد والقيام بمجموعة من الإجراءات تقوم بها أطراف مختلفة حسب موقعه في النظام السياسي ككل, ولا يمكن أن يحدث هذا بمعزل عن البيئة المحلية, فلا تكون هذه العملية منسقة وكفوءة وفعالة ما لم تأخذ في الحسبان الظروف البيئية كالثقافة السياسية والظروف الاجتماعية والاقتصادية, والمؤثرات الرسمية وغير الرسمية التي تؤثر في هذه العملية.ولابد من الإشارة هنا إلى وجود إختلافات جوهرية بين عملية صنع السياسة العامة وعملية صنع القرار،حيث يكون صنع السياسة العامة من واجبات الجهاز السياسي في الدولة وبمشاركة كل الفاعلين في النظام السياسي والاجتماعي،أما صنع القرار فيتم من طرف العاملين في الجهاز الإداري في كافة المستويات المركزية والمحلية, كما أن أهداف السياسة العامة ذات طبيعة حيوية ديناميكية, بينما يغلب الطابع الروتيني على عملية صنع القرار ولا بأس هنا أن نعطي تعريفا إجرائيا لعملية صنع القرار حتى تكون أكثر وضوحا ونقف على مجمل الإختلافات الجوهرية بين العمليتين, فعملية صنع القرار تعرف بأنها :” عملية المفاضلة بين البدائل والحلول المتاحة , وإختيار أكثر هذه الحلول صلاحية لتحقيق الهدف من حل المشكلة, كما يعرف عملية صنع القرار بأنه فعل يختاره الفرد بوصفه أنسب وسيلة متاحة لإنجاز الهدف أو الأهداف التي يبتغيها من حل المشكلة التي تشغله”(1).

وبالتالي أساس اتخاذ القرار هو وجود بدائل وهذه العملية تعتمد بدرجة كبيرة على المهارات الخاصة لمتخذي القرارات, ويعتبر العلماء أن صنع القرارلب العملية الإدارية باعتبارها مهارة أساسية للقائد أو المدير, مما يدل هذا على أن العملية تتعلق بالمنظومة الإدارية وهي عملية روتينية تتعلق بأهداف محددة عكس صنع السياسات العامة التي تعد محصلة المجموعة من المؤشرات والقوى وتعتبر عملية مائعة وحركية وشاملة .

ج/ مفهوم تحليل السياسة العامة:

لقد تتعددت المدارس الفكرية التي تتناول بالدراسة موضوع تحليل وتقويم السياسات العامة وتختلف النظرة لطبيعة الدور الذي يلعبه محلل السياسات العامة , فمنها من يرى أن الوظيفة الأساسية لمحلل السياسات العامة تتعدى عملية جمع وتنظيم الحقائق وتمتد إلى الدعوى لحلول بعينها بشأن سياسة ما, ومنها من يرى أن دوره الرئيسي يتمثل في تنظيم الخطاب العام حول هذه السياسات بالإضافة إلى تقديم طرق أخرى بديلة لفهم قضايا السياسات العامة, وبهذا يحتل موضوع تحليل السياسة العامة أهمية واسعة النطاق في حقل السياسة, وبالتالي أعتبر التحليل عملية ملازمة لعملية صنع السياسة العامة .

إنَ تحليل السياسة العامة تمثل عملية منهاجيه للوصول إلى أنجح الحلول المتاحة للمشكلات والقضايا التي تواجه المجتمعات والحكومات والدول, كما تمثل جهدا متواصلا منذ القدم في تفضيل الخيارات و إقرار القرارات والتعبير عن التجارب والممارسات.ويمكن القول أن الأسس التي قامت عليها الحضارات لم تكن بمحض الصدفة و إنما أقيمت من خلال ممارسات وتفضيلات وتحليلات للسياسات. كما أن التوجهات العملية والممارسات التطبيقية للكثير من المؤسسات السياسية والحكومية في دول العالم حتمت الاهتمام بتحليل السياسات العامة لغرض رفع كفاءة البرامج الحكومية, وتزايد المشكلات الاجتماعية والبشرية.

وكذلك الطابع العلمي الذي إكتسى حقل العلوم السياسية مع بزوغ فجر السلوكية , والمناهج العلمية التي أصبحت تستخدم في حقل العلوم السياسية, لذلك سرعان ما احتلت دراسات تحليل السياسات ومهنة محلل لسياسات أهمية كبرى داخل مراكز المعلومات والبحوث،وتعود نشأته كعلم إلى كتابهارود لاسويل H.LASSWELL” policy science the الذي ظهر في خمسينات القرن الماضي, ومنه كانت الدعوة إلى ضرورة التركيز على تحليل مخرجات النظام السياسي, خاصة السياسة العامة . وقد إستفاد القطاع الحكومي من بداية السبعينات في معظم الدول من تلك المجالات العلمية والكمية لغرض تحليل السياسات العامة.

وتمكن القول أن تحليل السياسة العامة أصبح أمرا في غاية التعقيد بسبب (تعقد المشكلات والقضايا الداخلية , وكذا تعدد الفاعلين والشبكات الرسمية وغير الرسمية بالإضافة إلى طغيان البعد الدولي على البعد الداخلي)* . الشيئ الذي يضع محللي السياسات في موقف حرج من المشكلات والقضايا العامة، وجعل تحليل السياسة العامة كعملية معرفية تهدف إلى الاستكشاف والإبداع والإبتكار للإحاطة بالمشكلات ودعم إتخاذ القرارات بالإستناد إلى المناهج التي ترتبط بجمع وتفسير المعلومات , ويمكن أن نضع تعريفا لتحليل السياسة العامة.

وبأكثر تخصص يعرف “السيد ياسين”مصطلح تحليل السياسة العامة بأنه :” ذلك الجهد الهادف إلى توضيح الآثار التي يمكن أن تنجم عن إختيار حل واحد أو حلول عدة سواء تم ذلك بطريقة قبلية أو بعدية”(1). غير أن هذا التعريف لا يدلنا بصدق عن العمليات التي يتم من خلالها التحليل والمناهج المستخدمة, وبشكل واضح يعرفها“م. بنتيل M . BENTELعلى أنها:” منهج يساعد متخذ القرار لإختيار البديل الأفضل لحل مشكلة عامة ’ وذات أهمية مستعينا في ذلك باستعمال الطرق العلمية الرشيدة”(2).

وهناك تعاريف عديدة تناولت من زوايا مختلفة تحليل السياسة العامة سواء من حيث المناهج والبحوث المستخدمة في جمع المعلومات حول القضايا والمشكلات، أو حيث نطاق ومجالات الدراسة والتحليل .أى هي منظومة الجهود المنسقة المعنية بالبحث والدراسة والتمحيص والتحليل في طبيعة المشكلات والقضايا المجتمعية

التي هي محط اهتمام السياسة العامة لمواجهتها, مما يؤدي إلى تحديد أثار تلك المشكلات ومواجهة القضايا وإزالة الانعكاسات السلبية, الناجمة عنها تماما و إقامة التوازن الطبيعي أو إعادته إلى المجتمع بصورة جلية.

د/ العلاقة بين السياسة العامة والإدارة العامة:

إذ كان تعريف السياسة العامة على نحو ما تم ذكره، فإن نشاط الأجهزة الحكومية يتكون من جزأين هما رسم السياسة العامة وتنفيذها، والمقصود من جهة برسم السياسة أي ما يجب عمله وهو ما يعبر عنه بالسياسة العامة، أما المقصود بالتنفيذ هو تحديد الأسلوب الواجب إستخدامه وهو الجزء الذي يعبر عن مهام الإدارة .وإذا إستحضرنا مفهوم الإدارة العامة هنا على إعتبارها مجموعة النشاطات والإجراءات التي تتضمن تنفيذ وتطبيق البرامج الحكومية وتحويلها الى نتائج ملموسة بأكبر مقدار من الكفاية بما يحقق الرضى لأفراد الشعب،فهذا التعريف قد يثير تساؤلا جوهريا حول طبيعة العلاقة بين السياسة والإدارة(1).

فإذا كان الإختلاف من الناحية المفاهمية، فعمليا تحديد العلاقة بينهما يعد أمرا في غاية الصعوبة وذلك لطبيعة الإرتباط الجوهري بين الإدارة العامة والسياسة العامة، فيمكن أن نحلل الأمر إلى عنصرين متتاليين من حيث الأسبقية الزمنية هما إتخاذ القرار وتنفيذه، فالتنفيذ يلي صنع السياسة العامة، فالإدارة العامة تهدف إلى إدارة أهداف السياسة العامة وتنفيذ قراراتها ومخرجاتها، الشيء الذي يجعل من الإدارة العامة آدات طيعة في يد السياسيين وصناع القرار، من خلال حث رجال الإدارة الفنيين التي توكل لهم مهمة تنفيذ سياسة الدولة العامة وتترك الحكومة غاليا إن لم يكن دائما لإدارة قدرا مناسبا من الحرية في إختيار السلطة التقديرية لكي تستطيع أن تؤدي وضائفها بفعالية.

من هذه الزاوية تبدو الإدارة العامة أداة تنفيذية للسياسة العامة، حيث أن السياسة العامة دون تنفيذ تقوم به الإدارة العامة تصبح سياسة إدعائية وليست فعلية ولا تقدم خدمات ، فالإدارة العامة يقع على عاتقها مسؤولية تحويل السياسات إلى إجراءات عملية مجسدة على أرض الواقع لغرض تحقيق الأهداف المتوخاة.وكذلك تعد السياسة العامة بمثابة إستجابة للمشكلات المدركة أو المستشعرة على المستويات العليا في الدولة، بينما معظم نشاطات هذه الإستجابة تجري في مكاتب الإدارة العامة وأجهزتها المعنية بإستلام طلبات وإلتماسات المجتمع للدفع والتأثير على الحكومة لكي تقوم بأي فعل إزاء هذه الطلبات. مثل تنظيم الأجور وتنظيم الضرائب أو زيادة في عدد المنظمات أو وضع خطط حفظ الأمن أو إجراءات التقاعد والضمان الإجتماعي ، تنظيم النقل ، حماية البيئة ، التنمية الريفية …الخ،أو كل ما يرتبط بالصالح العام . لكن من جهة أخرى هناك من يرى عكس

ذلك حيث يرى بعض فقهاء الإدارة العامة أنه لابد من جعل الجهاز الإداري محايدا وبعيد عن المؤثرات السياسية ورأت بضرورة عدم التداخل في الصلاحيات بين الإداريين والسياسيين والخبراء.

وإذا إفترضنا أن الحكومة قد تتحمل مسؤولية التدخل في كل القضايا التنظيمية فما هي الأدوات التي تستخدمها، وهل ستحول صلاحياتها إلى مستويات إدارية فرعية أدنى أم أنها تقدر التجانس إلى الحد الذي يجعلها تحيل التشريعات إلى مستويات أدني؟. إن الإجابة على هذه الأسئلة يدلنا على واجب رسم الحدود بين المسؤوليات والوظائف حتى لا تؤدي إلى عدم التجانس وعدم الإستقرار وتضارب المصالح والمسؤوليات والسلطات،فعملية تحديد الأهداف التي تقوم الإدارة بتحقيقها هي إذا عملية خارجية عن إطار نشاط الإدارة العامة فتقوم به سلطة أعلى هي الحكومة، ولكن علوها لا يبرر إعتدائها على إختصاصات السلطة الإدارية. رغم هذا التباين في الرؤيا إلا أن الإدارة العامة ما هي إلا جزء لا يتجزأ من البناء المؤسسي للدولة الذي يضطلع بمهمة الإلتزام بتنفيذ السياسة العامة،وكذلك قد يخلق الفصل بينهما جهازا إداريا خاليا من التطلعات السياسية، وإلا كيف نفسر شبح البيروقراطية والتكنوقراطية التي ألقت بضلالها على معترك السياسة كدليل على دور الإدارة العامة في بناء السياسات حيث يبدو مظهر الصلة جليا بينهما من خلال التداخل من الناحية العضوية ، ولهذا السبب قيل أن الإدارة العامة تحضي بإهتمام السياسيين كما أن السياسة العامة تعد مجالا حيويا للنفوذ من قبل الإداريين ومجالا للمناورة لكسب التأييد، أي بين السياسيين كنواب ووزراء وخبراء وبين الإداريين يشاركونهم في رسم أهداف السياسة العامة وعليه فالصلة وثيقة بين الإدارة العامة والسياسة العامة إلى درجة أن أحدهما يفقد ماهيته بدون الآخر رغم إيماننا بتباين النشاط الإداري في تنفيذ الأهداف وطبيعة العمل السياسي المعقد في رسم السياسات العامة .

وأخير نلخص هذه العلاقة في مدى تحقيق الأهداف المرسومة، فجدوى السياسات العامة وعدم عقمها بتوقف على فعالية البناء المؤسسي الإداري الذي يحول السياسات إلى نتائج واقعية، فالمواطن لا يهمه في النهاية إن كان البرلمان يتكون من غرفة أو غرفتين،أو هناك عدد من المؤسسات الإدارية العامة أو وجود حزب أو اكثر ما لم يرى واقعا لما يفعله النظام على حياته من مستوى المعيشة بشكل مباشر من تعليم ، صحة ، إسكان ، غذاء ، موصلات ، أمن …الخ.

وفي نهاية الأمر يمكن القول أن مفهوم السياسة العامة مفهوم مائع له دلالته على مستويات ومناظير عدة ، لكن إذا أجرينا جردا لجل التعريفات التي إحتوت المناظير الثلاثة تترسح لدينا قناعة خالصة حول مفهوم عام يكمل فيه كل منظور الآخر فإذا كانت الحكومة هي الممثلة للسلطة السياسية في الدولة فهي الهيئة العليا المسلم لها النفوذ فهي القوة النظامية المناط بها توزيع الموارد والقيم داخل المجتمع ،وهذه السلطة التي تتسم بالقوة

المنظمة والإحتكار موجودة في بيئة نظام سياسي معين تؤثر وتتأثر به فلا بد أن نستجيب لمطالبة حتى يكتب لها النجاح والبقاء فلا يمكن إغفال المؤثرات الإيكولوجية فإن هذا المنظور يكمل الأول ويتركه يعمل في آلية منتظمة ضمن هذه الدائرة من التفاعلات.وبوصف الحكومة سلطة تمارس السيادة في نظام ما، فلا بد لها من أجهزة خاصة ومؤسسات نقوم بإعداد برامج ووضع الإجراءات وكل ما يدور فيها من تفاعلات بين المسؤولون الحكوميون وصناع السياسة، من أجل صياغة مبادئ عامة لتترك المهام التنفيذية على عائق الإدارة العامة لوضع هذه البرامج والإجراءات حيز التنفيذ وتحويلها إلى نتائج ملموسة تحقق نفعا مباشرا للمجتمع في شتى المجالات.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى