دراسات شرق أوسطية

العشائر العراقية بين الحكم العثماني والاحتلال الانجليزي

محمد عبدالرحمن عريف

   ظل العراق تحت السيطرة العثمانية زهاء أربعة قرون، وكانت الحركات العشائرية من أهم المشاكل التي واجهت حكم العثمانيين الذين حاولوا بشتى الطرق والوسائل السيطرة عليها، وجمع الأموال عن طريق فرض الضرائب، لذلك اعتمدت الحكومة العثمانية في تعاملها مع العشائر العراقية سياسة كان من شأنها تفكيك النظام العشائري للحد من نفوذ شيوخها.

  اعتمد العثمانيون خلال فترة حكمهم على عائلات محلية ذات نفوذ وتأثير يمتد خارج أسوار المدن، كان من بينهم زعماء عشائر كآل الشاوي شيوخ عشيرة العبيد، والتي منح أمراؤها لقب (باب العرب)، وآل النقيب الذين تولوا منصب نقابة الأشراف وكانت لهم الزعامة الروحية في بغداد وأقطار إسلامية أخرى باعتبارهم من نسل الشيخ عبد القادر الكيلاني وسدنة مرقده في بغداد، وآل الجليلي الذين حكموا الموصل، وآل العمري الذي ينحدرون من سلالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وآل الزهير الذين كانوا يبسطون نفوذهم على مدينة الزبير بالقرب من البصرة، وآل السعدون في المنتفق وسوق الشيوخ وأطراف البصرة، وآخرين.

  لقد تقلد أبناء هذه العوائل معظم المناصب الحكومية في الولايات العثمانية العربية، بالإضافة إلى بعض المناصب خارجها، وانتسبوا إلى الجيش العثماني وخدموا في صفوفه، وبرزت من بينهم أسماء عدد من الضباط الذين درسوا في (مدرسة العشائر) بإسطنبول، والتي أنشأها السلطان عبد الحميد الثاني عام 1892 لتستقبل أبناء الأعيان والأمراء العرب من أجل تعليمهم تعليمًا حديثًا ودمجهم في الوظائف الكبرى للدولة، ثم تسنم بعض هؤلاء مناصب عسكرية ومدنية في جهاز السلطنة الإداري، وشارك الكثيرون منهم في حروب الباب العالي.وبرز دورهم في عدد من المعارك التي خاضتها الدولة العثمانية في أواخر سني حكمها، وكان منهم نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وأحمد عزت العمري وناجي شوكت، وغيرهم، وقد نقل المؤرخ إبراهيم عبد الغني الدروبي جانبًا من حياة هذه الأسر وتقاليدها في كتابه ذائع الصيت (البغداديون أخبارهم ومجالسهم)، وشملت دراسته الأسر المسلمة والمسيحية واليهودية.

  كانت نخبة الضباط العراقيين في الجيش العثماني هم عصب الدولة العراقية الحديثة التي تشكلت عام 1921، ومن أبرزهم رئيس الوزراء المخضرم نوري السعيد، وياسين الهاشمي وأخيه طه الهاشمي، وقد وصلوا إلى مراتب متقدمة في العسكرية العثمانية، وقاد بعضهم معاركها في البلقان وشبه جزيرة القرم وسواها.

  وسط هذا وذاك كانت السلطات العثمانية تلجأ دومًا إلى استخدام القوة والقسوة عن طريق استخدام الحملات العسكرية لمعاقبة العشائر الثائرة ضدها والممتنعة عن دفع الضرائب، ونشر مبدأ الانقسامات بين العشائر وشيوخها. أما بالنسبة لسياستهم تجاه العشائر الكردية، فقد بسط العثمانيون نفوذهم على المناطق الكردية في العراق، وعوملت عشائرها بنفس الأساليب التي اتبعها العثمانيون مع العشائر العربية، فقد اتبعوا سياسة «فرق تسد» لضرب العشائر بعضها بالبعض الآخر، وهذا الأمر جعل العشائر الكردية في حالة تمرد دائمة ضد السلطة العثمانية، كما ظلت ممتنعة عن دفع الضرائب، وإعفاء المجندين.

  نعم بعد الاحتلال البريطاني للعراق بين 1914- 1917 كانت سياسة البريطانيين مغايرة لسياسة العثمانيين، إذ حاولت بريطانيا أن تتقرب إلى شيوخ العشائر والقبائل، وذلك لعدم ثقتهم بسكان المدن ورغبتهم في إيجاد التوازن البريطاني بين القبيلة والمدينة، ومن ثم استخدمهم السير برسي كوكس في العام 1917 لفض المنازعات بأن أسس نظام فض المنازعات لشيوخ القبائل، وأعد لهم شرطة وجهازًا عدليًا، فأصبح لأول مرة الشيخ قوة وسلطة مسلحة خارجة عن القبيلة، لإخضاع القبيلة نفسها.

  لقد أغدقت بريطانيا الأموال على شيوخ العشائر لشراء الذمم، ومنحتهم قطع الأراضي، والامتيازات، وأصبحوا ملاكًا وإقطاعيين كبارًا، للعمل على إخضاع العشائر للقوات البريطانية الغازية، ومن ثم العمل لخدمتها، ومن يعارض من شيوخ العشائر هذا الاتجاه، تعمل بريطانيا على تجريدهم من أية امتيازات والتضييق عليهم، وتصفيتهم.

  عملت بريطانيا على تفهم المكون العراقي والسيطرة عليه دون تقديم أية ضحايا، وتمكنت من رسم صورة للواقع العشائري والقبلي، من خلال تمكن باحثيها من معرفة أبسط المعلومات عن هذا المكون، وفي خلال فترة وجيزة تم جمعها في ملف مودع في مكتبة الوثائق البريطانية تحت رقم (0525)، فضلًا عن ذلك فإنها قامت بدراسة الواقع الاقتصادي لكل قبيلة، ومدى النمو السنوي لكل منها ومدى تأثيرها على القبائل الأخرى. وفي ضوء هذه الدراسة حاولت بريطانيا حكم العراق من خلال دعم العشائر في مناطق محددة في شمال ووسط وجنوب العراق، وبصورة انتقائية بحيث تتطابق مع مصالحها الذاتية. 

التزامات متعددة

  على الرغم مما يراه البعض من أن العراق في مطلع القرن العشرين “لم يكن شعبًا واحدًا أو جماعة سياسية واحدة” فهو بالإضافة إلى عدد كبير من الأقليات “كانوا يشكلون مجتمعات متمايزة ومختلفة رغم تمتعهم بسمات مشتركة. والواقع أن هذا القول نصف الحقيقة، فالعراق كان جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، ولم تكن فيه سلطة سياسية وطنية، أما شعبه فقد كان موحدًا على درجة كبيرة، ولعل أوضح مثال على اشتراك العراقيين بمختلف فئاتهم وطبقاتهم في مواجهة الاحتلال الإنجليزي للعراق (1904–1918).

  إن حالة المقاومة التي وصلت ذروتها في ثورة العشرين وفي هذا الإطار يؤكد الدكتور علي الوردي، أن ثورة العشرين كانت تعبيرًا عن فعل جمعي شعبي لا يمكن أن يكون قد ظهر فجأة بل هو بالتأكيد تعبير عن تأريخ من مشاعر الانتماء تسبق ذلك الفعل. وكان العراقيون جميعًا بمختلف فئاتهم وطبقاتهم يهتفون “يحيا الوطن”. بل إن العرب (ذوي المجتمعات المتمايزة) كما وصفهم حنا بطاطو كانوا غالبًا ما يتحدون في صراعهم ضد الدولة العثمانية، هذا بلا شك يجسد انتماء مشتركًا إلى مجتمع واحد رغم وجود كيان مستقل.

  في إطار هذه المعطيات يبدو أن هوية الوطنية موسومة في وجدان وعقل وضمير جميع العراقيين، وكل الخطر في رأينا ليس في العشيرة بذاتها كوحدة اجتماعية أو حتى العشائرية، بل في بحث العشيرة في بعض الأحيان عن أمنها وعزتها في حضن الغريب الذي يجد فيها صيدًا ثمينًا لأطماعه واستغناء له عن شر القتال، بدل أن تبحث العشيرة عن ذاتها في الوطن عبر صيغ دستورية ووفاق يحفظ لها أمنها وحريتها وتطورها الثقافي وتشبثها في آن بالوطن الذي لا يمكنها من تحقيق سيادتها على نفسها إذا كان منتهكًا، ولا يمكن تذوق الاطمئنان إذا كان قلقًا.

  على الرغم مما تطرحه المتغيرات على الأرض من سلبيات، نجد في تلك الفترة الكثير من الوقائع والتأثيرات التي أسهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في وضع العشيرة العراقية لمفاهيم جديدة أفرزت مفهوم المواطنة، وبعدت عن مفاهيم العصبية الضيقة، مفتوحة على رحاب المجتمع الأرحب لتتحد مع مجموعات كبيرة من عشائر العراق نابذة خلافاتها، لتسعى لتقديم خدمات مجتمعية إنسانية، منها إصدارهم قرارات ضد من يرتكب جرائم بحق الناس، أو الإسهام في حل المشكلات الاجتماعية التي باتت تهدد كل بيت عراقي حينها.

  إن جدل التنوع لم يكن بالضرورة انقساميًا، من حيث العلاقة مع الآخر (الأجنبي) على وجه الخصوص، لأنه تنوع ينطوي على تثاقف وتواصل، إنه تنوع يثري ثقافة الأمة، وخصوصًا في ظروف الأزمات، حيث تمدنا قرائن التأريخ الحضاري في تاريخ العراق الحديث بشهادتين:

الأولى: المعارك التي حدثت في شمال العراق –كما في تلعفر- ضد الإنجليز أكدت مشاركة الأكراد والتركمان في الثورة مع أن الكيان السياسي للعراق لم يكن قد ظهر بعد.

الثانية: أن قبيلة شمر الجربة دافعت عن العراق ضد الغزو الإيراني، وساندت القوات المصرية في الشام ضد العثمانيين، وكان في جيش القبيلة مستشارون مصريون ولشيخها مراسلات مع محمد علي باشا.

  ثمة حقيقة أخرى شهدها المجتمع العراقي تجسدت في نزوح أفواج كبيرة من أسر العشائر العراقية منذ منتصف القرن الماضي إلى المناطق الحضرية الكبيرة وخصوصا مدينة بغداد، وهذه الهجرة لم تزح الولاءات القديمة عن مواقعها، وبالرغم من أنها نمت على حسابها فهي قد تعايشت معها جنبًا إلى جنب. وقد نمت بفعل هذه التطورات قوة اجتماعية جديدة في المجتمع الحضري تمتد في ولاءاتها عميقا في الريف العراقي على الرغم من أن أعدادًا كبيرة انقسمت في المفردات اليومية لحياة المدينة.

  في ظل التحولات المجتمعية السريعة التي مر بها العراق على الأصعدة كافة، ما المطلوب من العشيرة؟ كان المطلوب هو أن تركز اهتماماتها لا على ما هو مرغوب فيه فحسب، بل على ما يمكن إنجازه عمليًا في الواقع. ومن الطبيعي أن العشائر العراقية في عملها، كما في الخطوط السياسية الأخرى، إن اندفعت بتكريس البحث من أجل مصالح المجتمع فإنها في الوقت نفسه ترسي أسس دولة متماسكة.

   في إطار هذه المسارات لابد أن نتذكر أن العشيرة كقوة متماسكة في وجه العوامل البشرية والطبيعية تعترضها أخطار. لكن الأمر يصبح أكثر خطورة عندما تصبح العشيرة جزءًا من المحتل وتروج لمفاهيمه وسياساته، أو عندما تتحول الوحدة العشائرية إلى أداة للدولة وبالتالي تفقد وظيفتها كجزء فاعل من المجتمع المدني. كما يتجسد الخطر الآخر في العودة إلى الانقسامية من خلال تحويل القيادة العشائية من قيادة جماعية إلى قيادة فردية، أو عندما تتحزب العشيرة للطائفة أو الفئة على حساب الوطن، وكذلك عندما تدخل العشيرة في صراع مع العشائر الأخرى على حساب المواطنة لأسباب فردية كحالات القتل والثأر وغيرها. إلى جانب هذا وذاك فإن العشيرة كيان متجدد، وإن أخطر ما يواجهها اليوم عدم قدرتها على تطوير بنيتها الاجتماعية في مجتمع يدخل مرحلة الحداثة (حيث تكون المنزلة مكتسبة وليست منسوبة).

   يمكن القول إنه إذا كان لهذا المجتمع الأصيل أن يبقى متماسكًا في المستقبل وأن يحافظ على هويته مستقلة، فإنه سينظر إلى ثورة 1920 وما شهده المجتمع العراقي اليوم في مواجهة الاحتلال، على أنها مراحل في تقدم العراق باتجاه الانسجام الوطني، بالرغم من أن هذه المراحل لم تكن خالية من المظاهر الانقسامية. وتبقى حقيقة أساسية تمدنا بها قرائن التاريخ الحضاري وفلسفة التاريخ أن المجتمعات القائمة على التمايز (Heterogeneity) والتي تتألف حضاريًا بفعل الاحتكاك تمامًا كما يفعل احتكاك الأسلاك السلبية والإيجابية فيشتعل الضياء.

  نعم بمرور الوقت تبين للقوى الوطنية في البلاد، أن البريطانيين لم يوفوا بوعودهم التي قطعوها، خاصة بقيام دولة مستقلة، بل زادوا غطرسة وانتقاما من العراقيين بتسخيرهم لخدمتها باتباع «نظام السخرة»، واستغلال ثروات العراق لصالحها، واعتقال من يعارضها وزجه في السجون. وهذا الأمر أدى إلى تفجير ثورة العشرين في نهاية حزيران/  يونيو 1920 في العراق.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى