منهجية التحليل السياسي

العلوم الاجتماعية والنقاش الفكري في العالم العربي

أ‌. د. الهواري عدي

ترجمة: د. نوري دريس ؛ د. زين الدين خرشي
مراجعة: الأستاذ محمد داود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

.. فالحداثة والتقليد يعبّران معا عن تناقضات لا يريد أي من التيارين إمعان النظر فيها، و مع ذلك، فإن تلك التناقضات، تدفع بكل واحد منهما باتجاه التطور عبر الزمن. و تجدر الإشارة إلى أن التساؤل المعرفي، حول المجتمعات العربية، كثيف جدا، لكن الوعي الإبييستيمي بقضايا المجتمعات لا يزال في بداية تشكله لدى الفاعلين الذين يقومون بالتحري والبحث عن شبكات قراءة للماضي تُمكّنهم من تصور المستقبل، إلا أن هناك معضلة في مجال العلوم الاجتماعية تتمثل في أن الماضي يشكّل ميدانا لعلم التاريخ وليس للذاكرة أو المخيال.
و مما يضيف للأمر صعوبة أخرى يتمثل في كون جمهور المتابع للمقاربات التنظيرية المجردة متوفر حاليا بكثرة عكس الجمهور المتابع للعلوم الاجتماعية. و لكونها على استعداد لتوفير تفسيرات شاملة و الإجابة عن كل المشاكل التي تعترض المجتمع ، فإن الفلسفة الاجتماعية تُقدّم نظريات تتداخل مواضيعها بعضها ببعض. و من هنا التساؤل حول مدى قدرة عالم الاجتماع في الإجابة عن أسباب التأخر عن الغرب؟ و يرتبط هذا السؤال بعلم التاريخ بمختلف فروعه: التاريخ الديني، و تاريخ الأفكار، و التاريخ الاجتماعي، والتاريخ السياسي، والتاريخ الثقافي…الخ،
كما يرتبط كذلك بالتاريخ الإسلامي في القرن العاشر ، و في القرن الحادي عشر و في الثاني عشر. إن التاريخ لا يمكن اختزاله في كتابة الماضي فقط، بل إنه يشكل تصورا للماضي، وهو تصور يفرضه الوعي الإبستيمي المرتبط بالحاضر. و في ظل غياب هذا الوعي الإبستيمي يُفسح المجال للفلسفة الاجتماعية كي تحاول الإجابة عن كل الأسئلة معا و في الوقت نفسه، بالاعتماد على نموذج مُسبق يحدّد الحقيقة على قاعدة مسلمات مُسبقة وضمنية.
و يشير هذا النموذج إلى أنّ المجتمع قد قصّر في الالتزام بالقوانين الأخلاقية، و الطبيعية والتاريخية، فالمجتمع قد قام بعصيان على نفسه و خرج عن السبيل السوي الذي حدده له الله، أو تلك التي قام بتسطيرها له كل من الطبيعة والتاريخ. واللافت هنا هو أن المؤلفين يتحدثون باسم المجتمع و لا يمنحوا الكلمة للفاعلين في المجتمع. و يكمن الفرق الجوهري بين الفلسفة الاجتماعية و السوسيولوجيا، في أن الأولى تتحدث باسم الزمر الاجتماعية، في حين تتكفل الثانية بجعل أفراد هذه الزمر الاجتماعية يأخذون الكلمة. لذا فإنّ منطق تفكير الفلسفة الاجتماعية هو في الغالب عُضواني (organiciste) و وظيفاني (fonctionnaliste)، بسبب مقاربتها للمجتمع بوصفه كلية تملك جسدا و روحا. و تستند هذه الفلسفة على مفاهيم غير مجسدة ومجردة، مثل –الأمة، و المرأة، و الفرد، و الشعب، و التقدّم، والثقافة، و الهوية، والحداثة…الخ– و هي مقولات و مفاهيم تمّ إعدادها خارج كل سياق سوسيولوجي أو تاريخي، لتعيد بذلك إنتاج وظيفية هوليستية (fonctionnalisme holiste).
المؤكد أنّ الفلسفة الاجتماعية توفر معرفة حول ما يشغل الزمر الاجتماعية، لكنها لا توفر أبدا شبكة قراءة علمية حول معيش (le vécu) هذه الزمر الاجتماعية و الأفراد. هي في الواقع موجودة لتلبية طلب اجتماعي، ويُمكنها أن تُشكّل مرحلة أولى في تكوين فكر سوسيولوجي قد يستجيب لما تُمليه المعايير الأكاديمية المرتبطة بالتخصص. و مهما يكون من أمر، و حتى و لو لم تكن الأمور على الدرجة نفسها، فإن أفكار أوغست كونت قد سبقت طروحات دوركايم وأثرت فيها. و قد كان الأول مؤلف لفلسفة اجتماعية أسماها بـ”الفيزياء الاجتماعية”، وكانت بالفعل إعلانا عن قدوم السوسيولوجيا الحديثة.
يفرض غياب فلسفةٍ للذات في الوضعية الثقافية التي تعيشها المجتمعات العربية، الاعتماد على مقاربات تنظيرية مجردة، إذ كان لفلسفة الذات التي انتشرت في أوروبا الفضل الكبير ، في إرساء القواعد الإبستيمية المؤسسة للعلوم الإنسانية. وتشكلت هذه الأخيرة على مُسلّمة منهجية فحواها أن الذات هي الفاعل الواعي أو غير الواعي للفعل الاجتماعي. و على الرغم من كون الإنسان حيوانا اجتماعيا كما قال بذلك أرسطو، إلا أن هذا لا يعني وجود حتمية طبيعية أو وراثية تحرك الإنسان، لكون الواقع هو بناء اجتماعي، وما التخلف الثقافي الذي تعرفه المجتمعات العربية ليس إلا نتاج لفعل الزمر الاجتماعية التي أغلقت على نفسها ضمن تصورات تمنعها من تصور الفرد بوصفه فاعلا تاريخيا.
إنّ المجتمعات العربية تُنتج وتُعيد إنتاج تاريخها كما تعيد إنتاج تخلّفها الثقافي دون أن يعي الفاعلون ذلك. وعليه، فمن دون مفهومي، الوعي و الذات، لا يمكن للعلوم الاجتماعية أن تتطور. و هو الأمر الذي يفسر وجود نظريات اجتماعية حول العالم العربي وأيضا غياب لسوسيولوجيا حول الزمر الاجتماعية في العالم العربي. ففي كل هذه الكتابات التابعة للفلسفة الاجتماعية، سواء الدنيوية منها أو الدينية، نجد أن علم السوسيولوجيا يعرف حالة من التردد و هو غير قادر على شقّ طريق خاص به.
و مع ذلك تملك السوسيولوجيا ورقة رابحة توظفها لصالحها، و ذلك لكون المجتمع المعاصر، لا يتوفر على التماسك الاجتماعي، و لا على الانسجام الثقافي الذي كان يميّز المجتمع التقليدي سابقا، و الذي كان الخطاب الديني يستجيب لانشغالاته في الماضي. وإذا تمكن علماء الاجتماع من لفت انتباه النخبة إلى تناقضات و ازدواجية سلوكيات الأفراد، سيكون بإمكانهم ضمان القراءة و الإصغاء لأفكارهم مِن قِبل جمهور سيتّسع يوما بعد يوم في مجتمع يتحرر موضوعيا من الوهم لكنه لا يزال يستعمل الفلسفة الاجتماعية فقط بوصفها غطاء ميتافيزيقي للحد من آثار خيبة الأمل والشعور بالإفلاس اللذين يعرفهما المجتمع.

الهواري عدي
أستاذ مُبرز في علم الاجتماع
معهد العلوم السياسية – ليون
جامعة ليون – فرنسا

إنتهى.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى