دراسات سياسية

الفكر السياسي لـــــــــــ مالك بنبي

مالك بن نبي( 1905 – 1973م). مفكر جزائري معروف. وأحد المفكرين الإسلاميين الذين قدَّموا رؤاهم لنهضة بلادهم على هَدْي القرآن الكريم للخروج من مأزق التخلف والتبعية. فاهتم بالوقت باعتباره ممرًا يدخل المجتمع من خلاله التاريخ أو يخرج منه، وبالفعالية على أنها فهم جوهر الإنسان، وبالتاريخ وعلاقتهما الواحد بالآخر، وبالحضارة على أنها جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع أن يوفر لكل فرد من أعضائه الضمانات الاجتماعية اللازمة لتقدمه.
وُلد مالك بن نبي بعاصمة الشرق الجزائري قسنطينة عام 1905م من أب موظف بسيط. انتقلت به عائلته إلى تبسَّة، حيث ارتاد المدرسة القرآنية لمدة أربع سنوات بالتوازي مع المدرسة الفرنسية. ولكن مع بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، انتقل ثانية إلى قسنطينة. ومنها إلى تبسَّة حيث التحق بالمدرسة الإعدادية.
وكان متفوقًا على أقرانه، فأعطي منحة لمواصلة الدراسة بقسنطينة، وهناك زاوج بين تأثير الثقافتين العربية والفرنسية على الرغم من صغر سنه. سافر عام 1925م إلى مرسيليا وليون وباريس بحثًا عن عمل و لكن دون جدوى، فعاد إلى الجزائر حيث عمل في تبسة مساعد كاتب في المحكمة. وأتاح له عمله هذا الاحتكاك بمختلف الشرائح الاجتماعية أيام الاستعمار مما ساعده على تفسير ظواهر مختلفة فيما بعد. وفي عام 1928م تعرّف مالك بن نبي على الشيخ عبدالحميد بن باديس، وعرف قيمته التربوية والإصلاحية. ثم سافر مرة ثانية إلى فرنسا عام 1930م، حيث حاول الدخول إلى معهد الدراسات الشرقية ولكنه لم ينجح في الدخول لأنه جزائري، وسُمح له بدخول مدرسة اللاسلكي وتخرج فيها مهندسًا كهربائيًا سنة 1931م، وتزوج حينذاك فرنسية أسلمت واتخذت خديجة اسمًا لها. ولم تنجب له فتزوج ثانية بعد وصوله إلى مصر سنة 1956م، وخلال غربته لم ينشغل عن السياسة وشؤون البلاد حيث كان يتابع عن كثب حركات الإصلاح داخل الوطن وخارجه.
بقي في باريس من سنة 1939م إلى 1956م، ثم عاد إلى القاهرة للمشاركة في الثورة الجزائرية من هناك. ولم يغادر مصر إلا بعد استقلال الجزائر حيث أصبح سنة 1963م مديرًا للتعليم العالي حتى 1967م، ثم استقال وانقطع للعمل الفكري وتنظيم ندوات كان يحضرها الطلبة من مختلف المشارب. وظل مالك بن نبي ينير الطريق أمام العالم الإسلامي بفكره إلى أن توفي.
أما آثاره الفكرية، فيمكن القول إنه لم يكفّ عن العطاء منذ سنة 1946م حيث ألّف أول كتاب له وهو الظاهرة القرآنية، هذا الكتاب الذي كان سبب إسلام الكثير من الغربيين. وتلاه برواية لبيك (1947م)، وهي رواية فلسفية، ثم شروط النهضة (1948م)؛ وجهة العالم الإسلامي. وفي عام 1955 أصدر بمناسبة انعقاد مؤتمر باندونج الفكرة الأفروآسيوية (1956م) ومشكلة الثقافة (1959م) والصراع الفكري في البلاد المستعمرة (1960م) وهو أول كتاب كتبه مالك بالعربية مباشرة بخلاف معظم كتبه التي ألفها بالفرنسية، وترجمها إلى العربية المفكر الإسلامي المصري الدكتور عبدالصبور شاهين، حيث تعتبر هذه الترجمات الجسر الأول الذي نقل مالك بن نبي إلى عقول قرَّاء العربية. وفي عام 1960م كتب أيضًا كتابه فكرة كومنولث إسلامي؛ ميلاد مجتمع (1962م)؛ إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي (1969م)؛ مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي؛ مذكرات شاهد القرن (1970م)؛ المسلم في عالم الاقتصاد (1972م). ونشر له بعد وفاته دور المسلم ورسالته في القرن العشرين (1977م)؛ بين الرشاد والتيه( (1978م.
ولمالك بن نبي آثار فكرية لم تطبع وهي في صورة مخطوطات مثل: خطاب مفتوح لخروتشوف وأيزنهاور؛ دولة مجتمع إسلامي؛ مذكرات شاهد القرن (القسم الثالث)؛ العلاقات الاجتماعية وأثر الدين فيها؛ المشكلة اليهودية؛ اليهودية أم النصرانية؛ دراسة حول النصرانية؛ مجالس دمشق (مجموعة محاضرات باللغة العربية)؛ مجالس تفكير (محاضرات كان يلقيها في منزله في الجزائر).
نقد مالك بن نبي للفكر السياسي الغربي الحديث
ينطلق في عرض رؤيته للمفاهيم السياسية الغربية وأهمها الديمقراطية وما تعلَّق بها، انطلاقا من اليونان القدماء وديمقراطيتهم في أثينا التي كانت تعني الحرية والمساواة إلا أنها تستثني الأجانب والأرقاء الذين لم تكن لهم حقوق كالمواطنين الأحرار أهل البلد..أما فيما يتعلَّق بالديمقراطية كمفهوم شامل يعني سلطة الإنسان فهو مناقِض لفكرة خضوع الإنسان إلى سلطة الله، لأن سلطان الأمة أو الإنسان في الديمقراطية الغربية سلطة مطلقة لذا تصبح قراراتُها قوانين واجبة التنفيذ حتى وإن كانت مُخالِفة للقانون الأخلاقي ومتعارضة مع المصالح الإنسانية العامة.
ومن هنا آثارها السيئة التي تُحدِث ضررا للآخرين.. ثم يتابع بحثه بالنظر في مدى تحقُّق الديمقراطية وتجسُّدها في الواقع الأوروبي فيضع لذلك شروطا ذاتية وأخرى موضوعية. الذاتية ولها وجهان: الشعورُ الديمقراطي نحو الأنا أو النفس والشعورُ نفسُه نحو الغير أو الآخرين، وهنا يُعرِّف الشعورَ الديمقراطي بشقيه الإيجابي والسلبي. الايجابي هو الحدُّ الايجابي بين نافيتين..نافية العبودية ونافية الاستعباد..أما السلبي فهو الحد الوسط بين طرفين كلُّ واحد منهما يمثِّل نقيضا بالنسبة للآخر: النقيض المعبِّر عن نفسية وشعور العبد المسكين من ناحية، والنقيض الذي يُعبِّر عن نفسية وشعور المُستعبِد المُستبِد.
سوق إثرها ثلاثة نماذج نافية للشعور الديمقراطي هي: نموذج نفسية العبد، نموذج نفسية المُستعبِد، والنموذج الثالث الذي يجمع النفسيتين..لينتهي إلى نتيجة مفادها أن الديمقراطية الغربية لا تكفل الشروط الذاتية لكونها تفتقر إلى الحواجز والمقدِّمات المدعِّمة للشعور الديمقراطي ليتساءل بعدها عما إذا كانت تكفل الشروط الموضوعية..التي تتمثل في الحقوق والحريات السياسية والضمانات الاجتماعية، التي هي ضعيفة نظرا لأنها لا تحمي الأفراد من الربا والاحتكار..
والنتيجة في نظر مالك بن نبي أن المجتمعات الغربية رغم اتخاذها الديمقراطية نظاما للحكم فإنها لم تحقِّق في الواقع الاجتماعي ما تتضمنُه الديمقراطيةُ وتنصُّ عليه من مساواة وعدالة وحقوق وحريات وضمانات اجتماعية، إذ لم تحقِّق الشروط المشار إليها ذاتية وموضوعية.
ينتقِل إثرها إلى توضيح العلاقة بين السياسة والدين والأخلاق، عبر تساؤل مفاده: هل تتوفَّر السياسة الغربية على الشروط الكفيلة بتحقيق التجانس والتعاون بين عمل الدولة وعمل الفرد؟ يبادر بالإشارة إلى أن التعاون لا يتم إلا إذا توفَّر عاملٌ أساسي هو عامل العقيدة التي تستطيع وحدها جعلَ ثمن الجُهد مُحتملا مهما كانت قيمته لدى صاحبه.
ومنه فإن الفصل بين الدين والدولة (أو العلمانية) لن يكون سياسة ناجِحة لأنها لا تستند إلى ما من شأنه أن يغرس في نفسية الفرد والمواطن القابلية والاستعداد للتضحية والبطولة والايثار. كما يقرِّر مالك بن نبي أن التجانسَّ بين عمل الدولة وعمل الفرد ينبغي أن يقوم وجوبا على عامل أخلاقي لأن السياسة بلا أخلاق خرابٌ للأمة.
ومنه وبما أن السياسة الغربية تقوم على مصالح عاجلة لا تعرفُ الثباتَ والاستقرارَ ولا تستند إلى قيم أخلاقية ثابتة فليس بإمكانها تحقيق التجانس المشار إليه، ما يؤدِّي إلى خلل ظاهر في صِلة الدولة بالوسط الاجتماعي وتدهور العلاقة بينهما. والحاصل في رأي مالك أن السياسة الغربية لا تقوم على الأخلاق أو العقيدة ولذلك فإن الدول الغربية مهدَّدة بعدم الاستقرار في الداخل من جهة وتُهدِّدُ العالم بسياستها اللاإنسانية من جهة أخرى
تصوُر مالك بن نبي للبديل السياسي الإسلامي

يبدأ مالك بن نبي في تصور هذا البديل بالإشارة إلى أن الإسلام يُقرِّر في المجال السياسي خضوعَ الانسان إلى سلطة الله في هذا النظام أو في غيره، ما يعني أن سلطة الأمة في النظام السياسي الإسلامي مقيدة بالشريعة..
لذا فالعقيدة تدعِّم التعاوُن بين الفرد والدولة وتمكِّنُ من تحقيق إنجازات ترتكزُ على الثقة في الأساس الأول ومبادئ وشروط الثقة التي من شأنها تمتين العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي: حسن المُعاملة والطاعة والنزاهة والحنكة والكفاءة السياسية والنقد الذاتي وأخير التواضع السياسي.
يرى بأن السؤال المعهودَ عمَّ إذا كانت توجد ديمقراطية في الاسلام، لا يتعلَّق ضرورة بنصٍّ فقهي مُستنبَط من القرآن والسنة بل يتعلَّق بروح الاسلام وجوهره بصفة عامة، لذا يتطلبُ الحديثُ عن الإسلام والديمقراطية في نظر بن نبي الإجابة عن سؤالين شبيهين بمثيليهما المطروحين عند الحديث عن الديمقراطية الغربية.
أولهما هو: هل يكفل الإسلام عند الممارسة الشروط الذاتية التي من شأنها تحقيق الشعور الديمقراطي نحو الأنا ونحو الآخرين؟ الإجابة نعم. لأنه عمد إلى تدعيم مشروعه الديمقراطي بمقدِّمات تساهم في تحقيقه وإنجاحه منها: مبدأ تحرير الرقيق والتصريح بحقوق الإنسان.
السؤال الثاني وهو هل يكفل الإسلام (عند الممارسة) الشروطَ الموضوعيةَ التي من شأنها أن توفِّر للفرد الحقوقَ والحريات السياسية والضمانات الاجتماعية؟ الإجابة ستكون هنا أيضا نعم، نظرا لأن الإسلام يوفِّر:
أ ـ بالنسبة للحقوق والحريات السياسية، شروطا هي: حرية الضمير والعقيدة وحرية التعبير أو الرأي ومبدأ حصانة المنزل أو حرية المأوى،
ب ـ بالنسبة للضمانات الاجتماعية: أي المجال الاقتصادي وما يتعلَّق به من آثار. نجد هنا الزكاة وتحريم الربا ومقاومة الاحتكار. وكل الأمثلة عن هذه المبادئ والشروط وتطبيقاتها العملية مستقاة من القرآن والسنة وتاريخ الحكم الإسلامي سيما في عهد الرسول (ص) أو عهد خلفائه الراشدين أو في عهود إسلامية أخرى.

مشروع بناء وحدة إسلامية في تصور مالك بن نبي

تتمثل في مُقترَح مالك بن نبي على العالم الإسلامي إنشاء مشروع كومنولث إسلامي وهي الفكرة التي استوحاها من الكومنولث البريطاني بعدما هذَّبه بما يتماشى والواقعَ الإسلامي الذي يتوفَّر حسبه على دعامة هامة لا تتوفَّر حتى للنموذج المَقلَّد..
وهذا المبدأ هو «الوحدة الروحية» للعالم الإسلامي ومنه يوضِّح الكيفيات والرؤى التي ستنشأ عن هيئة من هذا القبيل في مختلف المجالات سياسيا اقتصاديا فكريا واجتماعيا. من ذلك مثلا إعادة النظر في مسألة الخلافة وتحديدها تحديدا جديدا يتماشى مع التنوع الإسلامي سياسة وجغرافيا وأعراقا، ليمارِس كلُّ شعب سيادتَه في مختلف المجالات..
وأولى خطوات هذه الوحدة ينبغي أن تكون في رأي بن نبي: توحيد الأعياد الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وإسناد الإشراف على كل طبعة للقرآن الكريم إلى الأزهر الشريف حتى نقطع الطريق على الطبعات المُحرَّفَة من إسرائيل وغيرها..ويختم المؤلِّف كتابه بمطلب رابع للمبحث الثاني من الفصل الثاني ضمَّنه توجيهات سياسية من مالك بن نبي للحكومات الإسلامية منها: التزام مبدإ التبادل ويتعلَّق الأمر هنا باقتضاء الإسلام سلوكا معيَّنا من أفراده إذا انحرفوا عنه أُرغِموا على الاستقامة عليه والالتزام به، أي أنهم يُخضِعون المجتمع في الحكم وإدارة شؤون البلاد والعباد إلى النقد.
ومن التوجيهات أيضا إقرار وظيفة الحسبة، الوظيفة السياسية الإدارية التي كان مطلوبا منها المحافظة على النظام والآداب في المجتمع، ومراقبة الأسواق وأهلها وبضائعها ومكاييلها..الخ. ومنها التزام الشورى في الحكم وتولية الأصلح وضرورة العمل على كسب ثقة الشعب وضرورة التخلي عن «البوليتيك» أي الدجل والنفاق السياسي الذي لا يمكنه الاستمرار حسب قول الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن في منتصف القرن التاسع عشر، وهو قول استشهد به مالك بن نبي: قد يُخدَعُ رجل كلَّ يوم، ويُخدَعُ شعبٌ بعض الأيام، إلا أنه لا يُخدَعُ شعبٌ كلَّ الأيام.

التنوير والتغيير في فكر مالك بن نبي

يبرز في فكر مالك بن نبي النظام النسقي وثورة المعرفة بالذات وبالغرب ومن ثم إسهامه في بناء فكر إسلامي وعالمي جديد،والثورة التي أسس لها ابن نبي من خلال استقلالية منهجه وتجربته الشخصية تكوينا والتزاما، تمحورت على ثلاثية الدين ـ الإنسان ـ التاريخ• وتشكل هذه الثلاثية، علاوة على مفاهيم أخرى أساسية وفرعية كالزمن والتراب والثقافة والاقتصاد والمجتمع والأفكار والقابلية للاستعمار•• إلخ، مدار مشروعه الحضاري البديل •
فالدين عند الأستاذ مالك بن نبي ليس في العقيدة بحد ذاتها إنما في صقلها وتفعيلها إيجابيا•• بمعنى تحويل قيم الدين ـ وهو مشحذ الحضارة عنده ـ إلى منظومات اجتماعية ومؤسساتية ـ فالقرآن من خلال قراءته المتجددة غير التقليدية ليس وعاء لثقافة التبرير باسم العقيدة والمقدس، إنما منهج مفتوح يستدعي باستمرار تطور آليات الحضارة والخلافة في الأرض• أما الإنسان، فقبل أن يكون عضلة وجهدا فهو فكرة وعقل وذهنية وهدفا، بمعنى أنه إما أن يكون فاعلا في التاريخ محوريا في معادلة الحضارة أو كمّا ماديا مستهلكا للحضارة وعبئا عليها.
إن المعادلة عند مالك بن نبي ثنائية تمتد من القابلية للاستعمار إلى الاستعمار ذاته، ونضيف إليها إنسان ما بعد الاستعمار في العالم الإسلامي الذي يشكل حالة جديرة بالدراسة •
وبعيدا عن مفاهيم عصري النهضة والأنوار في أوروبا، فإن فلسفة التنوير عند مالك بن نبي لا تعني أبدا ذاكرتنا الحضارية الإسلامية التي تعرف بالعصر الذهبي وحضارة الأندلس، بل إن التنوير عنده فعل تاريخي مستمر وليس حقبة بعينها، وعليه، فالتنوير معرفة بالمرض والأدوات والأهداف وليس فقط شعارا فكريا أو سياسيا باسم الحداثة أو مناهضة الجمود والرجعية•• إنه حراك وتفاعل وتغيير قبل أن يكون مفاهيما أكاديمية يتداولها الدراسون بمعزل عن المجتمع والتاريخ••• فلكل أمة مناهج تنويرها ورسالتها ومنطلقاتها •
والتنوير عند الأستاذ مالك بن نبي يعني الثقافة والتربية والدين والفعالية الاقتصادية لأن الغالب على مشكلاتنا بتعبيره ذو طابع سياسي واجتماعي واقتصادي •
إن هدف التنوير بهذا المعنى هو التغيير الاجتماعي والتاريخي•• ومعادلة >التغيير< عند مالك بن نبي بسيطة لكنها حتمية وحاسمة كما جاء في وصيته:
إننا في فترة خطيرة تقتضي تغيرات ثورية: فإما أن نقوم نحن المسلمون بالتغيير في مجتمعاتنا وإما طبيعة العصر تفرض علينا تغييرات من الخارج•• لأن هذه هي روح العصر• فالذي يجب أن نؤكد عليه أولا وأن نتذكره دائما: أننا إذا لم نقم نحن بثورتنا فإن التغيير سوف يأتي من الخارج ويفرض علينا فرضا.

نقد مالك بن نبي للفكر السياسي الغربي الحديث

صدر حديثا في الجزائر كتاب للدكتور يوسف حسين بعنوان نقد مالك بن نبي للفكر السياسي الغربي الحديث
ومن المعروف أن المفكِّر الجزائري مالك بن نبي كان ـ ومازال ـ ظاهرة فكرية فريدة من نوعها في العالمين العربي والإسلامي في القرن العشرين. أتاح له اطلاعُه الواسع على الثقافة الغربية (الفرنسية خصوصا) إضافة إلى ثقافته الأصل، إدراكا عميقا للأوضاع في العالم الإسلامي وفي الغرب، ما مكَّنه من إنجاز قراءاتٍ واعيةٍ قدمت نظراتٍ ورؤى ومقترحات ذات قيمة وبإمكانها الإصلاح.. ولأن جوانب فكرِ مالك بن نبي عديدة ومتشعِّبة، اختار د. يوسف حسين أستاذ الفكر الإسلامي المعاصر ورئيس قسم العقائد والأديان في كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر، أن يتناول أحدَها وهو «نقدُ مالك بن نبي للفكر الغربي الحديث». يقع الكتابُ في مقدمة قصيرة وفصلين . خصَّص المؤلِّفُ الأولَ منهما وعبر ثلاثة مباحث استعرضَ في الأولِ منها ترجمة حياة مالك بن نبي الذي وُلِد في مدينة قسنطينة شرق الجزائر سنة 1905م لأسرة متواضِعة، تنقَّل كثيرا فيما بين الجزائر وفرنسا وفيما بينهما وبين أنحاء كثيرة من العالم العربي والاسلامي، كما تنقَّل بين وظائف عِدَّة.
منها الإشرافُ في أواخر حياته على إدارة التعليم العالي في الوزارة المختصَّة ورئاسةُ جامعة الجزائر لفترة قصيرة قبل استقالته بغية التفرغ للعمل الفكري. وافته المنية يوم 31 اكتوبر 1973 في الجزائر العاصمة ولمَّا يبلغ السبعين. ثمَّ تحدَّث في المبحثين الثاني والثالث من الفصل، عن دراسة ومؤلفات ومصادر فكر بن نبي ومكوِّنات شخصيته والدراسات حول فكره.. لذا فالفصلُ جمعي توثيقي.
لفصل الثاني تناول الموضوع الذي يُفتَرَضُ أنه ألِّف من أجله. حمل عنوانَ: البديل الاسلامي للفكر السياسي الغربي. وتضمَّن فصلين. استعرضَ الأولُ موقف مالك بن نبي من الفكر السياسي الغربي. يبدأه بالإشارة إلى ملاحظته أن الفكر الإسلامي الحديث في العالم الإسلامي هو في ذاته عنصر متنافر لأنه اقتباس لا يتفق وحالة ذلك العالم، ذلك أن المسلمين في هذا الميدان أو في غيره لم يبحثوا عن وسائل لنهضتهم بل اكتفوا بحاجات قلَّدوا فيها غيرهم..
ثم ينطلق في عرض رؤيته للمفاهيم السياسية الغربية وأهمها الديمقراطية وما تعلَّق بها، انطلاقا من اليونان القدماء وديمقراطيتهم في أثينا التي كانت تعني الحرية والمساواة إلا أنها تستثني الأجانب والأرقاء الذين لم تكن لهم حقوق كالمواطنين الأحرار أهل البلد..أما فيما يتعلَّق بالديمقراطية كمفهوم شامل يعني سلطة الإنسان فهو مناقِض لفكرة خضوع الإنسان إلى سلطة الله، لأن سلطان الأمة أو الإنسان في الديمقراطية الغربية سلطة مطلقة لذا تصبح قراراتُها قوانين واجبة التنفيذ حتى وإن كانت مُخالِفة للقانون الأخلاقي ومتعارضة مع المصالح الإنسانية العامة.
ومن هنا آثارها السيئة التي تُحدِث ضررا للآخرين.. ثم يتابع بحثه بالنظر في مدى تحقُّق الديمقراطية وتجسُّدها في الواقع الأوروبي فيضع لذلك شروطا ذاتية وأخرى موضوعية. الذاتية ولها وجهان: الشعورُ الديمقراطي نحو الأنا أو النفس والشعورُ نفسُه نحو الغير أو الآخرين، وهنا يُعرِّف الشعورَ الديمقراطي بشقيه الإيجابي والسلبي. الايجابي هو الحدُّ الايجابي بين نافيتين..نافية العبودية ونافية الاستعباد..أما السلبي فهو الحد الوسط بين طرفين كلُّ واحد منهما يمثِّل نقيضا بالنسبة للآخر: النقيض المعبِّر عن نفسية وشعور العبد المسكين من ناحية، والنقيض الذي يُعبِّر عن نفسية وشعور المُستعبِد المُستبِد.
سوق إثرها ثلاثة نماذج نافية للشعور الديمقراطي هي: نموذج نفسية العبد، نموذج نفسية المُستعبِد، والنموذج الثالث الذي يجمع النفسيتين..لينتهي إلى نتيجة مفادها أن الديمقراطية الغربية لا تكفل الشروط الذاتية لكونها تفتقر إلى الحواجز والمقدِّمات المدعِّمة للشعور الديمقراطي ليتساءل بعدها عما إذا كانت تكفل الشروط الموضوعية..التي تتمثل في الحقوق والحريات السياسية والضمانات الاجتماعية، التي هي ضعيفة نظرا لأنها لا تحمي الأفراد من الربا والاحتكار..
والنتيجة في نظر مالك بن نبي أن المجتمعات الغربية رغم اتخاذها الديمقراطية نظاما للحكم فإنها لم تحقِّق في الواقع الاجتماعي ما تتضمنُه الديمقراطيةُ وتنصُّ عليه من مساواة وعدالة وحقوق وحريات وضمانات اجتماعية، إذ لم تحقِّق الشروط المشار إليها ذاتية وموضوعية.
ينتقِل إثرها إلى توضيح العلاقة بين السياسة والدين والأخلاق، عبر تساؤل مفاده: هل تتوفَّر السياسة الغربية على الشروط الكفيلة بتحقيق التجانس والتعاون بين عمل الدولة وعمل الفرد؟ يبادر بالإشارة إلى أن التعاون لا يتم إلا إذا توفَّر عاملٌ أساسي هو عامل العقيدة التي تستطيع وحدها جعلَ ثمن الجُهد مُحتملا مهما كانت قيمته لدى صاحبه..
ومنه فإن الفصل بين الدين والدولة (أو العلمانية) لن يكون سياسة ناجِحة لأنها لا تستند إلى ما من شأنه أن يغرس في نفسية الفرد والمواطن القابلية والاستعداد للتضحية والبطولة والايثار. كما يقرِّر مالك بن نبي أن التجانسَّ بين عمل الدولة وعمل الفرد ينبغي أن يقوم وجوبا على عامل أخلاقي لأن السياسة بلا أخلاق خرابٌ للأمة.
ومنه وبما أن السياسة الغربية تقوم على مصالح عاجلة لا تعرفُ الثباتَ والاستقرارَ ولا تستند إلى قيم أخلاقية ثابتة فليس بإمكانها تحقيق التجانس المشار إليه، ما يؤدِّي إلى خلل ظاهر في صِلة الدولة بالوسط الاجتماعي وتدهور العلاقة بينهما. والحاصل في رأي مالك أن السياسة الغربية لا تقوم على الأخلاق أو العقيدة ولذلك فإن الدول الغربية مهدَّدة بعدم الاستقرار في الداخل من جهة وتُهدِّدُ العالم بسياستها اللاإنسانية من جهة أخرى.
المبحث الثاني من الفصل الثاني من الكتاب، خصَّصه المؤلِّف لعرض تصوُر بن نبي للبديل السياسي الإسلامي. يبدأه بالإشارة إلى أن الإسلام يُقرِّر في المجال السياسي خضوعَ الانسان إلى سلطة الله في هذا النظام أو في غيره، ما يعني أن سلطة الأمة في النظام السياسي الإسلامي مقيدة بالشريعة..
لذا فالعقيدة تدعِّم التعاوُن بين الفرد والدولة وتمكِّنُ من تحقيق إنجازات ترتكزُ على الثقة في الأساس الأول ومبادئ وشروط الثقة التي من شأنها تمتين العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي: حسن المُعاملة والطاعة والنزاهة والحنكة والكفاءة السياسية والنقد الذاتي وأخير التواضع السياسي.
يواصل المؤلِّف في المطلب الثاني من هذا المبحث عرض رؤية مالك بن نبي الذي يرى بأن السؤال المعهودَ عمَّ إذا كانت توجد ديمقراطية في الاسلام، لا يتعلَّق ضرورة بنصٍّ فقهي مُستنبَط من القرآن والسنة بل يتعلَّق بروح الاسلام وجوهره بصفة عامة..لذا يتطلبُ الحديثُ عن الإسلام والديمقراطية في نظر بن نبي الإجابة عن سؤالين شبيهين بمثيليهما المطروحين عند الحديث عن الديمقراطية الغربية.
أولهما هو: هل يكفل الإسلام عند الممارسة الشروط الذاتية التي من شأنها تحقيق الشعور الديمقراطي نحو الأنا ونحو الآخرين؟ الإجابة نعم. لأنه عمد إلى تدعيم مشروعه الديمقراطي بمقدِّمات تساهم في نحقيقه وإنجاحه منها: مبدأ تحرير الرقيق والتصريح بحقوق الإنسان.
السؤال الثاني وهو هل يكفل الإسلام (عند الممارسة) الشروطَ الموضوعيةَ التي من شأنها أن توفِّر للفرد الحقوقَ والحريات السياسية والضمانات الاجتماعية؟ الإجابة ستكون هنا أيضا نعم، نظرا لأن الإسلام يوفِّر:
أ ـ بالنسبة للحقوق والحريات السياسية، شروطا هي: حرية الضمير والعقيدة وحرية التعبير أو الرأي ومبدأ حصانة المنزل أو حرية المأوى،
ب ـ بالنسبة للضمانات الاجتماعية: أي المجال الاقتصادي وما يتعلَّق به من آثار. نجد هنا الزكاة وتحريم الربا ومقاومة الاحتكار. وكل الأمثلة عن هذه المبادئ والشروط وتطبيقاتها العملية مستقاة من القرآن والسنة وتاريخ الحكم الإسلامي سيما في عهد الرسول (ص) أو عهد خلفائه الراشدين أو في عهود إسلامية أخرى.
المطلب الثالث من المبحث الثاني عنونه المؤلِّف ب: نحو بناء وحدة إسلامية، تتمثل في مُقترَح مالك بن نبي على العالم الإسلامي إنشاء مشروع كومنولث إسلامي وهي الفكرة التي استوحاها من الكومنولث البريطاني بعدما هذَّبه بما يتماشى والواقعَ الإسلامي الذي يتوفَّر حسبه على دعامة هامة لا تتوفَّر حتى للنموذج المَقلَّد..
وهذا المبدأ هو «الوحدة الروحية» للعالم الإسلامي ومنه يوضِّح الكيفيات والرؤى التي ستنشأ عن هيئة من هذا القبيل في مختلف المجالات سياسيا اقتصاديا فكريا واجتماعيا. من ذلك مثلا إعادة النظر في مسألة الخلافة وتحديدها تحديدا جديدا يتماشى مع التنوع الإسلامي سياسة وجغرافيا وأعراقا، ليمارِس كلُّ شعب سيادتَه في مختلف المجالات..
وأولى خطوات هذه الوحدة ينبغي أن تكون في رأي بن نبي: توحيد الأعياد الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وإسناد الإشراف على كل طبعة للقرآن الكريم إلى الأزهر الشريف حتى نقطع الطريق على الطبعات المُحرَّفَة من إسرائيل وغيرها..ويختم المؤلِّف كتابه بمطلب رابع للمبحث الثاني من الفصل الثاني ضمَّنه توجيهات سياسية من مالك بن نبي للحكومات الإسلامية منها: التزام مبدإ التبادل ويتعلَّق الأمر هنا باقتضاء الإسلام سلوكا معيَّنا من أفراده إذا انحرفوا عنه أُرغِموا على الاستقامة عليه والالتزام به، أي أنهم يُخضِعون المجتمع في الحكم وإدارة شؤون البلاد والعباد إلى النقد.
ومن التوجيهات أيضا إقرار وظيفة الحسبة، الوظيفة السياسية الإدارية التي كان مطلوبا منها المحافظة على النظام والآداب في المجتمع، ومراقبة الأسواق وأهلها وبضائعها ومكاييلها..الخ. ومنها التزام الشورى في الحكم وتولية الأصلح وضرورة العمل على كسب ثقة الشعب وضرورة التخلي عن «البوليتيك» أي الدجل والنفاق السياسي الذي لا يمكنه الاستمرار حسب قول الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن في منتصف القرن التاسع عشر، وهو قول استشهد به مالك بن نبي: «قد يُخدَعُ رجل كلَّ يوم، ويُخدَعُ شعبٌ بعض الأيام، إلا أنه لا يُخدَعُ شعبٌ كلَّ الأيام».
الكتاب رغم اختصاره عرضٌ عام لا يخلو من متعة وتشويق للرؤى والنظرات السياسية لمالك بن نبي، استقاها المؤلِّف من مصادرها أي المؤلفات الكثيرة للمفكِّر وهي مؤلَّفات فاق عددها ال20 كتابا مطبوعا ومثلها من المخطوطات والتسجيلات السمعية..اُلِّف معظمُها بالفرنسية لكنها تُرجِمت كلُّها إلى العربية، لذا يمكن القول باطمئنان أن الكتاب كتاب مدرسي بامتياز.
يمكن لنقد مالك بن نبي للفكر السياسي الغربي أن يُشكِّل في رأينا، إطارا عاما لنظرية سياسية عربية إسلامية كفيلة بتجاوز الإشكالية الديمقراطية المزدوجة الجانب في العالم العربي: من جهة الكلام الفضفاض العام عن الديمقراطية، الخالي من المقترحات الملموسة القابلة للتطبيق في عالم اليوم.
التي تحافِظ على الأصول وتُعطي للعصر حقَّه، وهو ما نجده للأسف الشديد عند كثير من التيارات الإسلامية متطرِّفها ومعتدِلها والمدارس الفكرية الإسلامية الحديثة المعاصرة والدعاة والمحلِّلين وغيرهم الذين ما إن يخرجوا من الفقهيات والأخلاقيات ويصلوا إلى الديمقراطية وغيرُها من قضايا السياسة والاقتصاد حتى تتلعثم كلماتُهم وتتراوح بين الرفض المطلَق أو نعم ولكن..أو أو أو.. دون أن يظفرَ المستمٍعُ إليهم بما يشفي غليلَه في الموضوع..ومن جهة أخرى العمومية نفسُها والغلو عند الطرف المقابل: التغريبيون والعلمانيون ومن إليهم من التيارات التي يدعمها الغرب بشكل جلي وخفي وسعيها الدءوب لفرض ما تراه مناسبا..
تكمن مصداقيةُ فكرِ بن نبي في سعة اطلاعه وتمكنه من الفكر الغربي، ما مكَّنه من النقد الواعي لهذا الفكر ومقابلته بما يمكن أن يكون بديلا.. هنا تكمنُ الأهميةُ الكبرى التي اتخذها بن نبي وفكرُه طيلة الثلاثين سنة المنقضية على وفاته، إذ لم يتوقف الباحثون عن دراسته وشرحه ونشره وإعادة نشره.
التنوير والتغيير في فكر مالك بن نبي فضيل بومالة
رة هي الأقلام التي تردد التاريخ وتجتر >التراكم< ولا تتوقف عندهما إلا كمسارات وأحداث، لكن ما أقلها تلك التي تفكر التاريخ بغرض صناعته وفهم سيرورته•• وذلك هو الفرق بين المثقف والمفكر وبين مروضي الذاكرة ومحركي العقل، إن جرأة التفكير هي ذاتها لحظة القطيعة والطفرة وميلاد الإقلاع، وسر تلك الجرأة وكل ما يتلوها من دينامية وبناء يكمن في كيمياء الفكرة الحية الجديدة وقدرتها على تحرير الإرادة والعقل وتغيير الواقع وتصور الذات والمستقبل والعالم بشكل مختلف
مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ (5091 ـ 3791) واحدة من تلك الصفوة إن لم يكن أبرزها على الإطلاق•• ليس شهرة عند الجمهور أو زعامة في هذا التيار الفكري والسياسي أو ذاك•• إنما بما أبدعه من رؤية ومنهج ونسق معرفي•• مما صعب من مهمة قرائه ونقاده، وهم في الغالب تصنيفيون مؤدلجون في أحكامهم، سواء من حيث الفهم العميق لأطروحاته أو معرفة اتجاهه المعرفي• فهو عند الماركسيين إسلامي وعند الإسلاميين علماني وعند القادة والحكام فيلسوف مثالي
لقد كانت تلك التصانيف ـ ولاتزال على كل حال ـ مَرضية ومناهضة لكل اجتهاد ولأنه تحنيط وتنميط بل وتنظيم للمجتمع عقائديا مما سهل على دوائر السلطة اختلاق النزاعات وتوزيع الأدوار والتلاعب والتواطؤ بعيدا عن كل تفكير جدي في مشروع مجتمع حقيقي • لقد ولدت تلك الأمراض وترعرت في مراحل الاستقلال الوطني وما بعدها•• وها هو العالم الإسلامي، بلدا بلدا، يدفع أثمان تلك المراحل باهضة أصبحت تمس حتى كياناته وتهدد وجوده •
حينما أقارب فكر مالك بن نبي ـ أو لنقل كما أفهمه ـ إنما أرى فيه النظام النسقي وثورة المعرفة بالذات وبالغرب ومن ثم إسهامه في بناء فكر إسلامي وعالمي جديد•• والثورة التي أسس لها ابن نبي من خلال استقلالية منهجه وتجربته الشخصية تكوينا والتزاما، تمحورت على ثلاثية الدين ـ الإنسان ـ التاريخ• وتشكل هذه الثلاثية، علاوة على مفاهيم أخرى أساسية وفرعية كالزمن والتراب والثقافة والاقتصاد والمجتمع والأفكار والقابلية للاستعمار•• إلخ، مدار مشروعه الحضاري البديل •
فالدين عند الأستاذ مالك بن نبي ليس في العقيدة بحد ذاتها إنما في صقلها وتفعيلها إيجابيا•• بمعنى تحويل قيم الدين ـ وهو مشحذ الحضارة عنده ـ إلى منظومات اجتماعية ومؤسساتية ـ فالقرآن من خلال قراءته المتجددة غير التقليدية ليس وعاء لثقافة التبرير باسم العقيدة والمقدس، إنما منهج مفتوح يستدعي باستمرار تطور آليات الحضارة والخلافة في الأرض• أما الإنسان، فقبل أن يكون عضلة وجهدا فهو فكرة وعقل وذهنية وهدفا•• بمعنى أنه إما أن يكون فاعلا في التاريخ محوريا في معادلة الحضارة أو كمّا ماديا مستهلكا للحضارة وعبئا عليها• فإنسان ما بعد الموحدين، مثلا، لم يتراجع فقط عن سننية >ولقد كرمنا بني آدم< بل صنع ثقافيا قابليته للاستعمار•• تلك القابلية كشروط ذهنية وجغرافيا ثقافية وسياسية واقتصادية التي لم يفهمها حتى اليوم بعض ممن ينعتون إجحافا بـ >مفكرين< أمثال غازي التوبة في معظم كتاباته الهشة عن المرحوم مالك بن نبي •
إن المعادلة عنده، رحمه الله، ثنائية تمتد من القابلية للاستعمار إلى الاستعمار ذاته•• ونضيف إليها إنسان ما بعد الاستعمار في العالم الإسلامي الذي يشكل حالة جديرة بالدراسة •
إن >إنسان< مالك بن نبي جزء أساسي من >الظاهرة القرآنية< أي غاية من غايات الوحي كما أن >الله< عنده ليس عدوا للحضارة بل ملهما لها• والصورة تكاد تكون عكسية ومنافية لما هي عليه الفلسفة والكنيسة في الغرب• فالأولى قتلت >الإله< والثانية أجهزت على >الإنسان<•• مما جعل مالك بن نبي ـ على شاكلة غوته ـ يأمل في حضارة إنسانية قوامها روح الإسلام وفعالية الغرب• وهنا يمكن للإسلام المشاركة والإسهام في ظل الصراع الفكري القائم بين اتجاهات الفكر المادي والديانات السماوية والوضعية الاجتماعية في حلبة تديرها الصهيوينة بدون منازع >تحت غطاء الديمقراطية والإنسانية والعدالة <•
وبعيدا عن مفاهيم عصري النهضة والأنوار في أوروبا، فإن فلسفة التنوير عند مالك بن نبي لا تعني أبدا ذاكرتنا الحضارية الإسلامية التي تعرف بالعصر الذهبي وحضارة الأندلس• إن التنوير عنده فعل تاريخي مستمر وليس حقبة بعينها، وهو، كما يتضح لي، تطبيب سوسيو ـ نفسي للإنسان المسلم وتخليص له من >عقده< سواء في عقيدته وطرق تدينه وفي تفكيره وسلوكه مع نفسه والعالم المحيط به• فتخلصه من تلك العقد والمفارقات يؤهله لتجاوز مشكلاته الحضارية من جهة ويسهل عليه الخوص في ايديولوجيا الصراع والتدافع والمغالبة من جهة أخرى •
وعليه، فالتنوير معرفة بالمرض والأدوات والأهداف وليس فقط شعارا فكريا أو سياسيا باسم الحداثة أو مناهضة الجمود والرجعية•• إنه حراك وتفاعل وتغيير قبل أن يكون مفاهيما أكاديمية يتداولها الدراسون بمعزل عن المجتمع والتاريخ••• فلكل أمة مناهج تنويرها ورسالتها ومنطلقاتها •
والتنوير عند الأستاذ مالك بن نبي يعني الثقافة والتربية والدين والفعالية الاقتصادية لأن الغالب على مشكلاتنا بتعبيره ذو طابع سياسي واجتماعي واقتصادي •
إن هدف التنوير بهذا المعنى هو التغيير الاجتماعي والتاريخي•• ومعادلة >التغيير< عند مالك بن نبي بسيطة لكنها حتمية وحاسمة كما جاء (ت) في وصيته: >••• إننا في فترة خطيرة تقتضي تغيرات ثورية: فإما أن نقوم نحن المسلمون بالتغيير في مجتمعاتنا وإما طبيعة العصر تفرض علينا تغييرات من الخارج•• لأن هذه هي روح العصر• فالذي يجب أن نؤكد عليه أولا وأن نتذكره دائما: أننا إذا لم نقم نحن بثورتنا فإن التغيير سوف يأتي من الخارج ويفرض علينا فرضا• أعيد هنا•• لأنه أمر أساسي <•
وخلاصة المقال أن مالكا ليس فقط فيلسوفا للحضارة بل مهندسا اجتماعيا صاحب منهج متكامل في البناء والتغيير، بيد أنه يحتاج، ككل فكر خلاق، إلى مراجعات نقدية وإضافات عملية تتماشى والمجتمع العربي الإسلامي في الألفية الثالثة• وتلك وظيفة كل مثقف مستنير وكل سياسي ملتزم بقضايا وطنه وأمته في زمن تشتد فيه ضرورة تحرير العقل والدين والأوطان من الشعوذة والتطرف والفساد وكل أشكال الاستعمار الجديد •
1/ مالك بن نبي و الحركة الوطنية :

قادت مالك بن نبي الصدفة في نفس فترة دراسته العليا بباريس الانضمام إلى جمعية إتحاد الشباب المسيحي الواقعة في شارع تريفيز (Trèves) في الحي التاسع من باريس التي تضم شبابا مهمتهم القيام بالتبشير المسيحي و كان بن نبي العضو المسلم الوحيد فيها و قد قبلت الجمعية عضويته معتقدة أنها بالإمكان جلبه إلى الدين المسيحي، لكن ما حدث هو العكس فقد استطاع بن نبي إقناع الكثير من أعضائها بالإسلام و منهم الكثير من الجزائريين الذين ارتدوا عن دينهم و دخلوا في المسيحية.[1]

حيث ألقى أول محاضرة له في ديسمبر 1931 تحت عنوان “لماذا نحن مسلمون؟” فكانت مفتاح شهرة له في الوسط الثقافي الطلابي في باريس، و اكتشفه المستشرق الكبير لويس ماسيينون و قدم له دعوة ليتناقش معه في بعض القضايا الإسلامية.[2]

أضحى في أعقابها نائب الرئيس لجمعية الطلاب المسلمين لشمال إفريقيا[3] لأن مالك أعجب بالأساليب العلمية و الحضارية الفعالة التي تستعملها جمعية إتحاد الشباب المسيحي بهدف نشر دينها و أفكارها عكس المسلمين الذين ما زلوا يستعملون أساليب تقليدية و عتيقة و يكثرون من الخطب و الكلام بدل العمل الجاد و الفعال.
فأراد نقل تجربة و طرق و أساليب عمل الجمعية إلى زملائه الطلبة في جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا.[4]

فتنشط تنظيم طلابي إلى جانب أحمد بومنجل، و هادي نويرة، و محمد شريف ساحلي، و صالح بن يوسف، محمد الفاسي و الحبيب تامر، و على أعقباه أستدعى بعد أيام ليستجوب من البوليس، ثم إنه في مدى العالم العربي انضم إلى “جمعية الوحدة العربية” السرية متأثرا بأفكار الزعيم القومي الإسلامي شكيب أرسلان الذي كان يدعو إلى توحيد الأمة العربية الإسلامية و تحريرها من براثن الاستعمار و انسحب بن نبي من هذه الجمعية لأنه يفضل العمل الجاد و الفعال و المؤثر المبني على أسس علمية بدل الكلام الفارغ و الخطب الحماسية الرنانة[5]

في بداية عام 1933 قررت الإدارة الاستعمارية منع العلماء من الوعظ و التدريس في المساجد الجزائرية فأرسل الشيخ العقبي إليه عريضة احتجاج قام بن نبي بسحب ألاف النسخ منها ووزعها في الأوساط السياسية و الثقافية الفرنسيـــة.
بعد فترة وجيزة قام مصالي الحاج بالاتصال بـ “بن نبي” بهدف إعادة إحياء نجم شمال إفريقيا و قد نظم اجتماعات في نزل الهقار في الحي اللاتيني تم على إثره اتخاذ قرار بتنظيم سهرة رسمية يعلن فيها أمام الملأ إعادة إحياء نجم شمال افريقيا عميد الأحزاب السياسية الجزائرية و كلف بن نبي بكتابة مسرحية تقدم في تلك الســـهرة تتناول قضية الإجحاف و الظلم الاستعماري[6] غير أنه لم يرض بحب الظهور و الإقتتان بالزعامة لدى مصالي الحاج[7] فسرعان ما تحول ضده بسبب اعتباره نفسه بمثابة الزعيم[8] و يظهر ذلك جاليا من خلال موقف مالك بن نبي السياسي من مصالي الحاج.

فما رآه من طمع للزعامة لدى مصالي الحاج و بداية المرض الجديد الذي سيجتاح الجزائر و يبدد طاقاتها في الظهور و التظاهر و المظاهرات الصاخبة[9] التي لم تكن لتغوي مالك بن نبي بل على العكس كان يظنها عقيمة و مضرة عندما تعطي لعقول غير مهيئة الفرصة لمعارك وهمية و بطولات تمثيلية.[10]

كل هذا أحدث في أعماق لا شعوره -كما يقول- التمزق الأول بينه و بين الحزب الوطني.[11]

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى