...
دراسات سياسيةنظرية العلاقات الدولية

المحاورات الكبرى بين نظريات العلاقات الدولية

تعتبر المحاورات الكبرى بين النظريات في العلاقات الدولية أحد أهم إفرازات الإحداث العالمية (الحرب العالميتين الأولى والثانية، نهاية الحرب الباردة) كما هو الشأن بالنسبة للتحولات البنيوية الحاصلة في شكل العلاقات الدولية عقب تلك الإحداث.

فمع بداية فترة الثلاثينيات القرن الماضي أدرك الباحثون في العلاقات الدولية أن ثمة فجوة بين منظري هذا الميدان. بين أصحاب النظرة الميثالية (الذين يعتمدون مبدأ كيف يجب أن تكون العلاقات الدولية)، والنظرة الواقعية (التي تعتمد مبدأ ما هو الواقع الدولي ). والجانب من هذا الخلاف يمكن إيعازه إلى كون المثالية قد تأثرت بالواقع الأمريكي الانعزالي في تلك الفترة، والواقعية(ممثلة بمورغينتو) تأثرت بالواقع الأوروبي المتسم بالحروب. فكان الحوار الأول بين الاتجاهين ، حول أنجع السبل لضمان السلام الدولي.

لم يتم الحسم في الموضوع، وكانت الحرب العالمية الثانية، وشعر أصحاب الطرح الواقعي أن تفسيراتهم كانت أقرب لتفسير الواقع.كما أنتاب بعض علماء الفيزياء والصناعة الحربية شعور بتوبيخ الضمير، نتيجة للدمار الذي أحدثه الاستعمال غير العقلاني للسلاح(القنبلة الذرية). تم التوجه نحو محاولة إضفاء المنهج العلمي( المعتمد في العلوم الطبيعية والمتسم بالدقة) على دراسة ميدان العلاقات الدولية، فكان الحوار الثاني بين النظريات المصنفة أنها تقليدية(المثالية والواقعية) والنظريات المصنفة أنها علمية(السلوكية).

بالرغم من التنقيحات المهمة التي أفرزها الحوار الثاني والذي أنتج النظريتين (الواقعية الجديدة) و(الليبرالية الجديدة) والمصنفة ضمن التيار (العقلاني)، في ظل هيمنة الواقعية على الدراسات الأكاديمية للعلاقات الدولية في فترة الحرب الباردة، إلا إن إخفاق الواقعية في التنبؤ بنهاية الحرب الياردة وسقوط المعسكر الشيوعي، أعاد النقاش إلى نقطة البدء حول مدى قدرة النظريات على التفسير والتنبؤ. فجاء الحوار الثالث، بين النظريات التفسيرية القائمة على إبيستمولوجيا “وضعية” ومنهجية “تجريبية”،والنظريات التكوينية التي تتبنى إبيستمولوجيا “بعد-وضعية” ومنهجية “بعد-تجريبية”. وهو بمثابة ثورة في مجال التنظير يقوض ما سبق ويحاول التأسيس لمنظورات جديدة تعيد النظر في المنطلقات الابيستمولوجية و الانطولوجية للمعرفة بشكل عام وفي المواضيع ذات الصلة بالعلاقات الدولية بشكل خاص.

الإشكالية: فهل تنطوي المحاورات الثلاثة الكبرى المتعاقبة على التراكم المعرفي، أم القطيعة المعرفية ؟

الفرضية الاولى: تعتبر المحاورات الكبرى فضاء لمراجعة القصور، وردم الفجوة التي كانت تعاني منها النظريات السائدة في حقل العلاقات الدولية.كما هيأت فرصا للتخفيف من حدة التعصب.

الفرضية الثانية: إن المحاورة الثالثة المتميزة بالتوجه الذي يعيد النظر في كل شيء، أوجدت نوعا من عدم الجزم في الحكم بين التراكمية والقطيعة المعرفية في مجال التنظير.

لقد تم فحص الفرضيتين من خلال الفصول الثلاثة للبحث، وذلك برصد أهم افتراضات كلا من الواقعية والمثالية في الفصل الأول في شكل مقابلة. والحوار الواقعي / السلوكي في الفصل الثاني المقسم إلى مبحثين: الأول، حيث تم التطرق فيه إلى إعتماد الواقعية على المنهج الاستنباطي في محاولة التنظير للعلاقات الدولية من خلال دراسة الأحداث التاريخية. والثاني، تضمن التوجه السلوكي الذي يعتمد المنهج الاستقرائي في دراسته للظواهر المرتبطة بالسياسة الدولية.أما الفصل الثالث من البحث فقد خصص لرصد أهم النقاط التي كانت محل نقاش بين التوجهين التفسيري (العقلاني) ، والتكويني (ما بعد الوضعي).

خطـة البحـث

المقدمة

الفصل الاول : الحوار (الانطولوجي) الأول : المثالية مقابل الواقعية

الفصل الثاني: الحوار (المنهجي) الثاني – التقليدية مقابل السلوكية

المبحث الأول: مورقنتو ودروس التاريخ

المبحث الثاني: النزعة العلمية والبحث عن نظرية عامة

الفصل الثالث: الحوار(الابيستمولوجي) الثالث:التفسيرية (العقلانية) مقابل التكوينية (التأملية)

المبحث الأول: تحديات الوضعية

المبحث الثاني: ما بعد الوضعيين وتفكيك الخطاب

الخاتمة

الفصل الأول: الحوار (الانطولوجي) الأول: المثالية مقابل الواقعية

تميز الحوار الأول بين الواقعية والمثالية، بالتركيز على المستوى الانطلوجي الذي يبحث في الوجود (الوضع الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى). أي البحث في طبيعة وحدة التحليل ، أو مرجعية التحليل( ما هو الذي نحاول معرفته؟) .

فهو حوار بين الواقعية التي تنطلق في تفسيرها للعلاقات الدولية، من مبدأ “ما هو كائن”، والمثالية التي تعتمد في دراستها للظواهر السياسية في حقل العلاقات الدولية على مبدأ ” ما يجب أن يكون” وإذا كانت نتائج الحرب العالمية الأولى قد تركت أثرها في أفكار النخب السياسية والعلمية، فإن تجلياتها برزت أكثر في هذا الحوار. فما هي أهم الافتراضات التي كانت محل نقاش؟

المثالية في مقابل الواقعية

إن تبني المثالية للنظرة التفاؤلية لواقع دولي خال من الحروب، المستندة إلى الطبيعة الخيرة في الإنسان، يقابله الطرح الواقعي الذي يفترض أن طبيعة الدولة من نفس طبيعة الفرد(شريرة) تسعى لتعظيم قوتها من أجل البقاء، وهي بذلك تحمل نظرة تشاؤمية حول آفاق تقليص النزاعات والحروب.

فإذا كانت الواقعية تنطلق انطولوجيا، من تبنى الطرح “الدولاتي” المهيمن القائم على الدور المركزي للدولة باعتبارها منشئة المجتمع المدني على المستوى الداخلي والوسيط الوحيد لهذا المجتمع على المستوى الخارجي. في ظل نظام فوضوي(لا توجد فيه سلطة عليا ذات سيادة)، فالدولة لا تسعى لتحقيق الرفاه بل يقتصر دورها في مواجهة الفوضى . فإن المثالية تنطلق من كون أن العالم تعددي تعاوني في إطار مؤسسات دولية راعية له، ومحققة للأمن الجماعي ، ونظم ديمقراطية يدعمها رأي عام متنور، والدولة تلعب دور الخادم الذي يسعى لتحقيق الرفاه.

وفي الوقت الذي اعتمدت المثالية المقترب (الأخلاقي- القانوني) من أجل بناء عالم أفضل خال من النزاعات، ومنطلقة من مسلمات فلسفية تفاؤلية حول الطبيعة البشرية ودور التعليم والمعرفة والعقلانية ووجود انسجام في المصالح، وكذلك إمكانية إقامة معايير قيمية مطلقة .

جاءت الواقعية لتدرس وتحلل ما هو قائم في العلاقات الدولية، وتحديدا سياسة القوة والحرب والنزاعات.

وإذا كانت المثالية تنطلق من الطبيعة البشرية الخيرة (أو القابلة لأن تكون كذلك)، لتفترض أن المصالح الدولية هي مصالح متناسقة ومتناغمة ، وأن المصلحة العليا للفرد والمصلحة العليا للجماعة متوافقة طبيعيا بحسب مسلمة انسجام المصالح(Harmony of Interests) فالفرد عندما يعمل لمصلحته الذاتية يعمل لمصلحة الجماعة. وعندما يدعم مصلحة الجماعة فهو يدعم مصلحته.

فإنه وبالمقابل، نجد أن الواقعية تفترض أن الطبيعة البشرية ثابتة (أو على الأقل، يصعب تغييرها بسهولة)، وأن الإنسان ينزع للشر والخطيئة وامتلاك القوة، وبالتالي فإن العالم ما هو إلا عالم المصالح المتناقضة، وأن السياسة الدولية (هي صراع من أجل السلطة). أي أنها عبارة عن صراع بين دول تسعى لتعزيز مصالحها بشكل منفرد. فالاهتمام الأقصى للدول هو البقاء، وهو شرط مسبق لتحقيق الأهداف الأخرى.وبالتالي، فالأخلاق بالنسبة للمثالية تحضى بالأولوية في تحديد السياسة، سواء كان ذلك في إطار المجتمع الوطني أو الإطار الدولي. بينما ترى الواقعية أن المبادئ المعنوية، أو الأخلاق يصعب تطبيقها على الأعمال أو السلوك السياسي.

إن اهتمام الواقعية بتنظيم السلطة داخليا وفق منطق “شرعية استخدام القوة” بالنسبة للسلطة وبالتالي لا يتعين على المواطنين أن يدافعوا عن أنفسهم. ثم التوجه الى تعظيم القوة دوليا في ظل نظام دولي فوضوي (لا توجد سلطة عليا ذات سيادة على الدول)، يقابله تركيز المثالية على إقامة نظم ديمقراطية كخطوة أولى نحو التخلص من النزاعات، كون أن الدول الديمقراطية تتبع سياسات محايدة ومسالمة وتمتنع عن إتباع سياسة القوة، وأن عدو السلام هو ذلك النوع من النظام العسكري، السلطوي، الفردي المناهض للديمقراطية.

بالنسبة للواقعية تعتبر القوة والمصلحة القومية وتوازن القوى هي المفسرات الأساسية للعلاقات الدولية . وأن القضايا الإستراتيجية(الأمن العسكري) تعرف على أنها السياسة العليا بينما القضايا الاقتصادية والاجتماعية ينظر إليها على أساس أنها أقل أهمية أو السياسة الدنيا. بينما نجد أن المثالية تشدد على البعد الاقتصادي من أجل تحقيق دولة الرفاه وطنيا مع تبني مبدأ الاعتماد المتبادل على مستوى السياسة الدولي.

تفترض المثالية أن الأمن يتأتى من خلال نشر المبادئ الديمقراطية(السلام الديمقراطي) مع التركيز على التعاون الاقتصادي من أجل تحقيق التكامل وبالتالي فهي تعتقد بتطوير القانون والمنظمات الدولية لتسهيل التفاعلات الدولية ، فالعلاقات السياسية الدولية لا تكون بين الدول وفقط، وإنما بين الدول وأطراف أخرى فاعلة، كما تكون بين الشعوب. فهي ترى أن الاستقرار العالمي يتحقق من خلال إنشاء هيكل مؤسسي جديد ينظم العلاقات الدولية(عصبة الأمم 1921) مع اعتماد مبدأ (الأمن الجماعي) في حسم النزاعات على المستوى الدولي، وهو مبدأ قائم على فكرة قوامها عدم السماح بالإخلال بالوضع القائم بطريقة غير مشروعة، من خلال تكوين قوى دولية متفوقة تتمكن من إحباط العدوان أو ردعه، وأن إدراك الدولة المعتدية أنها لن تستطيع أن تقاوم قوةً أكبر منها، سيجعلها ترتدع عن تنفيذ مغامرات، تعلم مقدماً أنها لن تعود عليها إلا بهزيمة مؤكدة. وبالمقابل، تفترض الواقعية أن السلم والأمن الدوليين لا يتحققان إلا بالتركيز على نظام توازن القوى في ظل توجه دولاتي يعزز من مركز الدولة بانتهاج سياسة تعظيم القوة بهدف البقاء. فالدولة هي الفاعل العقلاني الأساسي في العلاقات الدولية، فهي باعتبارها منشئة للمجتمع المدني على المستوى الداخلي والوسيط الوحيد لهذا المجتمع على المستوى الخارجي، وبالتالي هي المؤسسة التي تعمل من خلالها جميع الهيئات الأخرى، والتي تنظم هذه الهيئات وتقرر الشروط التي يمكنها أن تتصرف من خلالها.

إن فشل النظرية المثالية في فهم الأسباب التي تدفع بالدول لانتهاج سلوكيات عدوانية أو نزاعية. كما أن التفسير المقدم حول أسباب الحرب العالمية الأولى لم يكن موفقا، فقرار الحرب بالنسبة لهتلر كان مؤيدا من قبل الرأي العام الألماني، وأن ألمانيا كانت وقتها دولة دستورية يحكمها القانون، ولها حكومة مسؤولة أمام البرلمان وأمام الإمبراطور. ومن المؤكد أنها لم تكن ديمقراطية، ولكن لم يكن يوجد أي بلد ديمقراطي عام 1944. فحتى أوسع الأنظمة الانتخابية(في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا) كانت تستبعد النساء من حق الاقتراع . وازدادت الفجوة بين المثالية من جهة والواقع السياسي الدولي من جهة أخرى الذي كان من ابرز مظاهره الغزو الياباني لمنشوريا عام 1931 واحتلال ايطاليا لأثيوبيا عام 1935. فما حصل لم يكن من الممكن رده من زاوية النظرية المثالية إلى فشل الأفراد المسؤولين في القيام بسياسات معينة أو عدم القيام بسياسات معينة ، بل كان نتيجة فشل الفرضيات المثالية، أساسا في استيعاب وفهم ماهية العوامل التي تؤثر وتحدد سلوكيات الدول والأفراد .

يقابله انتقادات عدة وجهت للواقعية، مثل غياب الدقة في تعريف المفاهيم الأساسية كالقوة وميزان القوى والمصلحة القومية، مع التركيز على السببية وإهمال حرية الاختيار والإرادة اللذان تقول بهما المثالية، وكذلك إهمالها لدور الأخلاق في العلاقات الدولية. وبتركيزها الزائد على مفهوم “القوة ” تكاد تكون نظرية دولية قائمة على متغير أحادي .

لقد بدا في مرحلة ما بين الحربين ( مرحلة بروز النقاش بين المثالية والواقعية) أن مهمة علم السياسة قد انحصرت في السعي من أجل إقامة دولة قومية موحدة، تشد دعائمها أمة موحدة تتمتع بالمهارة، وبذلك يتضح أن الحقل المعرفي الناشئ باسم علم السياسة لم يكن هدفه تقديم إطار تحليلي لدراسة الظاهرة السياسية، بل تجسيد أجندة سياسية أيضا.مما مهد الطريق لظهور الحوار المنهجي الثاني بين التيار التقليدي والسلوكي.

الفصل الثاني: الحوار (المنهجي ) الثاني: التقليدية في مقابل السلوكية

إن النقد الجماعي لعلماء الفيزياء الذين شعروا بتوبيخ الضمير جراء الأسلحة المدمرة وما خلفته أثناء الحرب العالمية الثانية ، وكذلك محللي النظم الذين يعملون من أجل تحسين نوعية رسم سياسة الولايات المتحدة ، ولا سيما في مجال الدفاع، وبانضمام أشخاص من العلوم السلوكية التي تحاول دراسة سلوك الفاعلين الواقعي بدلا من المعاني المسندة إلى هذا السلوك. قد أفضى نقدهم الجماعي لـ”العلاقات الدولية” إلى الحوار بين هؤلاء الذين أرادوا توظيف المناهج العلمية (التجريبية) في دراسة السياسة الدولية، والاتجاه التقليدي وهم أصحاب النظرة الواقعية المستندة في فرضياتها على مبادئ تعتقد بعلميتها. فكان الحوار الثاني بين التقليديين والسلوكيين.

ويمكن حصر الخلاف بينهما حسب ما يشير إليه “ديفيد سينغر” في الناحية المنهجية التي يسوقها كل منهما للوصول إلى نظرية عامة، وفي النسبة بين الحالات والمتغيرات المدروسة، فالتقليديون يقللون من عدد الحالات التي يدرسونها ويكثرون من عدد المتغيرات في الوقت الذي ينتهج السلوكيون منهجا معاكسا(بمعنى : هل أن الاهتمام لدى كل من المذهبين هل ينصرف إلى دراسة أكبر عدد من الظواهر أم إلى أكبر عدد من المتغيرات “العوامل” التي تشكل الظواهر)

المبحث الأول: مورقنتو ودروس التاريخ

يرى التقليديون أن العلاقات الدولية هي دراسة أنماط الفعل و رد الفعل فيما بين دول ذات سيادة متمثلة في نخبها الحاكمة، و عليه فإنه على دارس العلاقات الدولية أن يركز على نشاطات الدبلوماسيين و الجنود الذين ينفذون سياسات حكوماتهم. فالعلاقات الدولية بالنسبة إليهم (التقليديون)مرادف لـ” الدبلوماسية و الإستراتيجية” ( strategy/ diplomacy) و كذلك لـ” التعاون و الصراع” (cooperation/ conflict)، فهدف العلاقات الدولية هو دراسة السلم و الحرب. وهذا ما جعل التقليديون يسلمون بوجود مجموعة من المتغيرات التي تؤثر على سلوكات الدبلوماسيين و العسكريين و منها الظروف المناخية، المكان الجغرافي، و الكثافة السكانية، و نسبة التعليم، و التقاليد التاريخية و الثقافية، صور إدراك الآخر، الظروف الاقتصادية، المصالح التجارية، القيم الدينية و الإيديولوجية ، الخرافات…إلخ، و كل محاولة لإدراك أسباب أي فعل حكومي و وضع هذه المتغيرات حسب ترتيب معين تعتبر عملية غير مجدية و كل ما يمكن أن تقدمه هو مجرد فرضيات هزيلة.

إن كل ما يهم التقليديون من أمثال ( R.Aron ، S.Hoffmann ،Morgenthau) هو ملاحظة سلوكات الحكومات التي يدرسونها باستعمال مصطلحات مثل “ميزان القوة” أو تحقيق المصلحة الوطنية ، أو دبلوماسية الحذر(Prudence). وهذا الاتجاه تمثله مدرسة ” الواقعية السياسية” لـ”مورغينتو” الذي يرى أنه من واجب الباحث الذي يتبنى هذه النظرية، التنبؤ بأن سلوك أي دولة سوف يعكس الأفعال العقلانية للدبلوماسيين و العسكريين الذين يريدون تحقيق أكبر ربح لدولهم في حدود الحذر التي تمليها الحاجة للبقاء، و قد جعل من مصطلح” القوة” التي عرفها على أنها “قدرة أي نخبة في سياستها الخارجية للسيطرة على أفكار و أفعال نخبة أخرى”، محور التحليل.بالرغم من صعوبة تحديد مصطلح “القوة” كونه يتضمن “التأثير” (Influence ) و هو علاقة سيكولوجية تحتوي على السيطرة و ترتكز على عوامل متعددة تبدأ من القدرة على الإقناع وصولا إلى القدرات النووية. ونفس الإشكالية تنجر على مصطلحات أخرى تستعملها النظرية التقليدية مثل” المصلحة الوطنية” “ميزان القوى”، و التوازن(Equilibrium ). فميزان القوى قد يعني المحافظة على الوضع الدولي الراهن ( status quo) لبعض الدول، كما قد يعني محاولة النظر فيه من طرف دول لا يخدمها الوضع الحالي. فما هو أحسن ميزان، هل هو الحالي أو المستقبلي؟ إن الإجابة مرهونة بالمكانة التي تحتلها كل دولة.لقد أسبغ مورغنتو على الاتجاه التقليدي(الواقعية) الطابع المنهجي، فكتابه “السياسة بين الأمم: النضال من أجل القوة والسلام” مليء بالقوائم مثل المبادئ الستة للواقعية السياسية والاستراتيجيات الثلاثة للسياسة الخارجية المتاحة للدول، الى غير ذلك .لكن وعند الاطلاع على كتابات التقليديين و خاصةR.Aron و S.Hoffmann فإنه يمكن التوصل الى أنه “لا شيء مؤكد” (uncertainty). بالرغم من مساهمتهما في إثراء العلاقات الدولية بتأكيدهما على عدم إمكانية عزل محددات خيارات السياسة الخارجية، مما يدفع برجال السياسة إلى التأكد من الوسائل التي يملكونها في مقابل الحاجات الفيزيائية و السياسة و الثقافية التي تطلبها مجتمعاتهم، في عالم فوضوي.

لقد ساهمت المدرسة التقليدية في اعتبار أن العلاقات الدولية هي “دراسة العلاقات التي تكاد أن تكون فوضوية بين الوحدات السياسية ذات السيادة” وكون أن هذه الوحدات لا تعترف بأية سلطة فوقها و لهذا تلجأ إلى التهديد باستعمال القوة، أو إلى شن الحرب من أجل حماية أو تدعيم ما تعتبره مصالحها الحيوية. فرواد المدرسة التقليدية يرون أن هدف علم السياسة هو دراسة” النظام” ( Order ) في توزيع الثروات السياسية داخل أنظمة سياسية تتسم بالاستقرار النسبي، أما علم العلاقات الدولية فهو دراسة “اللانظام” (Disorder ) داخل نظام سياسي دولي بدائي تنعدم فيه المساواة.

المبحث الثاني: النزعة العلمية والبحث عن نظرية عامة

يمكن تعريف “السلوكية” باعتبارها: تركيز البحث على “السلوك السياسي”، ومرافعة منهجية لصالح “النزعة العلمية”، ورسالة سياسية فحواها تشجيع “النزعة العلمية”، وتصور تنظيمي لـ”النظام السياسي”،كما تركز السلوكية على الفرد باعتباره وحدة للتحليل . وتعتقد أنه حتى تكون الشروحات ذات صفة علمية ، فإنها يجب أن تكون في صيغة استنتاجات .

لقد رأت السلوكية أن” النظريات” التقليدية غير واضحة (vague ) و شاملة ( inclusive ) و لهذا لا تستطيع تقديم تحليل واضح للسلوك السياسي الدولي، ولا تحتمل الثبات أمام التحقق العلمي،كونها تعتمد في بنائها النظري للعلاقات الدولية على التاريخ الدبلوماسي والأحداث التاريخية، وهو منهج يوصف بالإعاقة(عدم القدرة) على فحص الوقائع المعاصرة قياسا بأرشيف الاحداث . فأصحاب المدرسة السلوكية يؤمنون بالطريقة التجريبية، و المنهج الاستقرائي(inductive) و اختبار الفرضيات، و التأكد من القواعد أو المبادئ بواسطة الملاحظة المتكررة، و الاختبار، و كذلك بعملية تطبيق المصطلحات على الواقع أي بتلك العملية التي يمكن بواسطتها تحويل الأحداث إلى بيانات و معطيات (data) مما يسمح لباحثين آخرين من القيام بالملاحظة من جديد و التأكد من نتائجها و هذا ما يتطلب حسب وجهة نظر السلوكيين التمرن الجيد على تقنيات الإحصاء و علوم الكمبيوتر.

كان هدف السلوكيين استبدال “أدبيات الحكمة” والاستخدام “القصصي” للتاريخ المتمثل بمورغانتو والواقعيين التقليديين، مستخدمين في ذلك تفكيرا ومفاهيم علمية دقيقة ومنهجية . وبالتالي فهم يعتبرون أن المدرسة التقليدية لا تقدم الشيء الكثير منهجيا بل و لا تعدو أن تكون مجرد مقاربة تعتمد على الحكمة ( wisdom approach ) .

ففي محاولتهم لدراسة العلاقات الدولية بطريقة تجريدية غير محدودة في الزمن، فقد بنى السلوكيون نماذج للنظام الدولي و جمعوا المعطيات المرتبطة بتلك النماذج و ذلك من أجل التأكد من صحة أو عدم صحة الفرضيات الأولية التي وضعوها و منها دراسات Kaplan في كتابه”النظام والعملية في السياسة الدولية” ،و j.d.singer في مشروعه “متلازمات الحرب” … لكن معظمهم ركزوا على مواضيع دقيقة و محصورة جدا مما فتح المجال أمام الانتقادات التي تقول أنهم اهتموا بمسائل جزئية. فأصحاب الاتجاه السلوكي حاولوا الجمع بين استخدام الأدوات الذهنية والبحثية بدرجات متفاوتة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، فهم يربطون بين بناء النظرية (العلمية) والبحث الاختباري، ففروض النظرية بالنسبة للسلوكيين يجب أن توضع على أساس الاتساق فيما بينها إلى جانب أن تكون قابلة للاختبار .

إن الاتجاه السلوكي حاول التصدي للإتجاه التقليدي في الدراسات السياسية، وذلك بمحاكاة مناهج العلوم الطبيعية في مواجهة التحليل النمطي التقليدي لعالم السياسة، ويخالفه في المادة والمنهج وأدوات التحليل، فمادة التحليل السياسي لدى أصحاب الاتجاه السلوكي هي النشاط السياسي وذلك في مواجهة المعرفة السياسية التقليدية والتي تتمثل في المؤسسات السياسية الرسمية في كيانها المحدد لها في الدساتير (كنظرة قانونية). ومنهج تحليل علمي( تجريبي/ سلوكي) في مواجهة المنهج (الفلسفي/ القانوني) .

إن مساهمة المدرسة السلوكية الأساسية لا تتمثل في النتائج التي توصلت إليها، بل في الثورة المنهجية التي أحدثتها في حقل العلاقات الدولية في الخمسينيات، بحيث أن تطبيق المنهج العلمي في العلاقات الدولية قد ساهم في تطوير المصطلحات و أدوات البحث التي تم استقدامها من العلوم الاجتماعية. و بالرغم من أن محاولات السلوكيين هي أقرب إلى ” الوعود” (promise) منها إلى ” الإنجاز” (performance) كما قال “دفيدسينغر” غير أنهم قد حادوا عن شعارهم الذي رفعوه وهو شعار “التزاوج بين التنظير والبحث” حيث اتجهوا إلى الاهتمام بأدوات البحث أكثر من اهتمامهم بهدف تنظير عالم السياسة، مما أدى بهم في النهاية إلى إضفاء المزيد من الغموض على تحليلاتهم لعالم السياسة .

وإذا كان أصحاب الاتجاه السلوكي يرون في التحليل التقليدي تحليلا ساكنا يفترض ثبات الطبيعة الإنسانية ، وأن الاتجاه السلوكي يفترض تباين سلوك الأفراد ومن ثم يهتم بالجانب الديناميكي وليس الاستاتيكي، إلا أن أصحاب السلوكية قد انتهى بهم الأمر إلى وضع أنماط السلوك في قوالب جامدة يفترض أنها ثابتة مما يمهد الطريق إلى التنبؤ بها، ومن ثم الانتهاء إلى التحليل الساكن .

كما أن السلوكية تهتم فقط بدراسة وفهم ووصف الظاهرة السياسية دون تجاوز هذه الحدود إلى إيجاد حلول للمشاكل التي تعاني منها الإنسانية وهو ما عبر عنه ديفيد ايستون( الذي يعتبر من أبرز رواد مدرسة ما بعد السلوكية) بقوله “إن مسؤولية مدرسة ما بعد السلوكية تكمن في محاولتها كسر حواجز الصمت التي أقامتها المدرسة السلوكية، ودفع العلوم السياسية لمعالجة الحاجات الحقيقية للبشرية في فترات الأزمات ”

الفصل الثالث: الحوار(الابيستمولوجي) الثالث: التفسيرية في مقابل التكوينية

إن جوهر النقاش الثالث هو بين النظريات التي ترى العالم الاجتماعي شبيها بالعالم الطبيعي(وأن النظريات التي تستعملها لتحليله هي مجرد نظريات تصف الحوادث بدلا من أن تبني تلك الحقيقة). والنظريات التي تنظر إلى لغتنا ومفاهيمنا كعوامل تساعدنا على إيجاد تلك الحقيقة. فالحوار لم يكن داخل نموذج واحد، ولم يكن سطحيا. بل كان ابيستمولوجيا ، يناقش الأسس التي يرتكز عليها بالبناء المعرفي لهذه النماذج النظرية سواء السائدة منها من قبل(الوضعية) أم المعاصرة منها (ما بعد الوضعية). ولو سئل معظم علماء العلاقات الدولية عن أكثر قضايا العلاقات الدولية أهمية لكانت إجابتهم بأنها قضايا الابيستمولوجيا وليس الانطولوجيا (كيف نعرف في مقابل ما هو الذي نحاول معرفته) .من هذا المنطلق يمكن إضفاء نوعا من الأهمية على هذا الحوار مقارنة بالحوارات السابقة.

المبحث الأول: تحديات الوضعيين

حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي كان علماء الاجتماع المختصين بالعلاقات الدولية يميلون إلى أ ن يكونوا من أنصار الفلسفة الوضعية والتي تعتبر أنها وجهة نظر تحدد كيفية إنشاء معرفة بالاعتماد على الفرضيات الأربعة الرئيسية :

• الاعتقاد بوحدة العلم أي أن المنهجيات نفسها يمكن تطبيقها في كل من العوالم العلمية وغير العلمية.

• أن هناك فرقا بين الحقائق والقيم. فالحقائق حيادية بين النظريات المختلفة.

• أن العالم الاجتماعي، شأنه في ذلك شأن العالم الطبيعي، يحتوي على أنماط منتظمة يمكن اكتشافها بواسطة نظرياتنا بطريقة العالم نفها في بحثه عن الأنماط المنتظمة في الطبيعة.

• إن تحديد حقيقة المقولات يتم عن طريق العودة إلى هذه الحقائق.

رغم الاختلاف الموجود بين البراديمات الثلاث: الواقعية، التعددية والشمولية غير أنها تلتقي حول أو تشترك في عدة افتراضات أساسية من بينها: أنها تتبنى النزعة الموضوعية العلمية المعتمدة على فكرة الحيادية أي تناول الواقع بعيدا عن التأثيرات الذاتية للباحث ومحاولة تفسيره بناء على مبدأ السببية في إطار فلسفي وضعي، إلى جانب اعتماد التجريبية كاختيار منهجي وبالتالي يمكن تصنيفها ضمن النظرية التفسيرية، التي تنظر إلى العالم بوصفه شيئا يقع خارج نظرياتنا عنه. وتهتم هذه النظريات بكشف الأنماط المنتظمة في السلوك الإنساني، وبذلك تفسر العالم الاجتماعي كما قد يفسر عالم الطبيعة العالم الفيزيائي.

إن تشكل التيار العقلاني (المصنف ضمن النظريات التفسيرية) ، من “التوليفة الجديدة –الجديدة” حسب وصف آوول وايفر (يقصد: الواقعية الجديدة /الليبرالية الجديدة). أدى ذلك إلى التركيز على مجموعة مشتركة من المسائل، بالرغم من الاختلاف بينهما.

إن التباين في وجهات النظر بينهما بخصوص مواضيع مركزية كدور المؤسسات والأنظمة الدولية ومدى قدرتها على التخفيف من الآثار المتناقضة للفوضى الدولية، وكذلك أيهما أولى بالاهتمام في مجال العلاقات الدولية القدرات(بالنسبة للواقعية الجديدة) أم النوايا (بالنسبة لليبرالية الجديدة)، وبين النظرة للقوة كوسيلة (حسب الواقعية) وبالتالي التركيز على المكاسب النسبية، أم الاهتمام بالمكاسب المطلقة (حسب الليبرالية) فهي تنظر بذلك للقوة كغاية. بالرغم من ذلك، إلا أنهما يسلمان بالطابع الفوضوي للنظام الدولي كمعطى مسبق فهي حتمية ودائمة.

وإن تركيز النظريات التفسيرية في نقاشاتها على الدول فهي تتجاهل تلقائيا معالم أخرى، أي أنها تتحاشى القضايا الأخلاقية و تستبعد مواضيع ذات أهمية كالهوية والقومية والاقتصاد والجنس والدين.كما أنها ترى أن مهمة النظرية هي وصف العالم الخارجي، وتهتم بكشف الأنماط المنتظمة في السلوك الإنساني، وبذلك تفسر العالم الاجتماعي كما قد يفسر عالم الطبيعة العالم الفيزيائي .

أما التحدي الذي يواجه الوضعيين هو في الإجابة عن السؤال المتعلق بموقع الإنسان من المعرفة؟

وإذا كانت النظرية التفسيرية تسلم بأن الواقع يوجد بشكل مستقل عن البشر ، وبأن هناك تمييزا بين الذات والموضوع، أي التسليم بوجود معايير مستقلة عن إدراك الباحث يمكن من خلالها قياس المعرفة( فائدتها أو عقمها، والأدوات الموصلة إليها…)، الأمر الذي يسمح بالتوصل إلى نظرية عامة تتصف بالحيادية والموضوعية العلمية. فإنها تواجه انتقادا ابيستمولوجيا ينطلق من التشكيك في صيغة رئيسية وهي:إن الامبرقيين يؤكدون أننا لا نستطيع أن نعرف ما لا يمكن ملاحظته لأننا لا نستطيع أن نراه، ولذلك ليس هناك مسوغ لافتراض أو زعم أن هذه الكيانات موجودة فعلا.وهذا تأكيد للمستوى الابيستمولوجي للنقاش. وهو موقف يؤثر بشكل كبير في دراسة العلاقات الدولية، لأننا لا نستطيع أن نرى (نلاحظ) كلا من الدولة ومنظومة البنية الدولية، وبالتالي فإن أقصى ما يمكن قوله، هو أن مفاهيم الدولة، ومنظومة الدول ما هي إلا أدوات مفيدة لتنظيم خبراتنا وأفكارنا، وليس القول أنها تحيل إلى أبنية حقيقية.

المبحث الثاني: ما بعد الوضعيين وتفكيك الخطاب

تنزع النظريات التكوينية نحو عدم اعتبار الواقع الاجتماعي/الدولي شيئا طبيعيا/معطى، بل تعتبره ذلك العالم الذي يبنى باستمرار بفضل الإرادة الإنسانية، ولا يمكن فهمه وتفسيره بناء على نظرة موضوعية Objective بحتة، وإنما يتطلب الأمر نظرة تاذاتانية Inter-Subjective للواقع. وبذلك فهي تتبنى نزعة مابعد وضعية post-positivist كخيار ابتسمولوجي، مبني على فلسفة النفي حسب ما جاء به باشلار حيث يرى ” أن المهم في العلم ليس الصورة الحسية المتخيلة التي يقدمها العالم عن أشياء الطبيعة. إن المهم هو الانتقادات وأنواع الرفض التي تلاقيها هذه الصورة من طرف علماء آخرين”. من هذا المنطلق نجد أن ما بعد الوضعية تنظر للحقيقة كونها ليست شيئا خارجا عن الأوضاع الاجتماعية بل هي جزءا منها،وأن الشيء المركزي الذي يجب ملاحظته هو أن هذا التحدي مطروح وفق قواعد توليد المعرفة التي يقبلها العقلانيون ولكن لا يقبلها التأمليون . وكون أن الحقائق هي حصيلة لأطر اجتماعية وتاريخية محددة، وأن النظريات مغروسة في هذه الأطر مما يتيح لأصحابها أن يفكروا مليا بالمصالح التي تخدمها أي نظرية معينة، وهو ما عبر عنه روبرت كوكس ” أن النظرية وجدت إما لخدمة شخص ما، أو هدف معين”، وهذا يعني أنه من الصعب المحافظة على التمييز بين الموضوع والذات، لأن البشر هم الذين يوجدون الأشياء التي تطمح نظرياتهم لشرحها.وأن الهدف من النظرية هو التقدم في موضوع تحرير الإنسان ، فهي نظرية معيارية صريحة لها دور تلعبه في النقاش السياسي.كونها تبحث عن كيفية نشوء التوزيع الحالي للسلطة، أي لا تعتبر الدولة من المسلمات في السياسة العالمية.

من أهم النظريات ما بعد الوضعية، النظريات الراديكالية كنظرية المساواة بين الجنسين التي تدعي من حيث الأساس بأن العالم كان يحكمه الرجال وما يحملونه من أفكار وتبعا لذلك فقد أشارت النظرية إلى إهمال تجارب المرأة. والهدف إذن هو إعادة وصفه للحقيقة من وجهة نظر نسائية. فهي محاولة تطوير نسخة عن الحقيقة وبما أن المعرفة كانت حتى هذا التاريخ معرفة ذكورية فإن النتيجة لم تكن تتعدى كونها فهما جزئيا للعالم.وإذا كانت النظرية النسوية متعددة ومتنوعة التيارات الفكرية، فهي تتقاسم فيما بينها افتراضا أساسيا يتصل بمنحها بؤرة الاهتمام للجنس/النوع (Gender) لاستيعاب وتفسير العلاقات الدولية المعاصرة. وفي تبنيها لمواقف نظرية فلسفية نقدية، تسعى النظرية النسوية – خلافا للواقعية- إلى تحقيق علاقات قائمة على التعاون والاعتماد المتبادل وأقل صراعا إذا تمكنت النساء من الوصول إلى مراكز صنع القرار.

والنظرية النقدية التي ترجع أصولها إلى الماركسية وقد انبثقت من مدرسة فرانكفورت، ويعتبر هوركهايمر أحد مؤسسيها حيث يرى أن هناك ارتباطا وثيقا بين المعرفة والسلطة ويعتقد أن أهم القوى القادرة على التغيير في العلاقات الاجتماعية هي القوى الاجتماعية وليس المنطق المستقل للأشياء التي يتم تفسيرها . و هذا خلافا لنظرة أصحاب النظرة الوضعية الذين يعتقدون أن تأثير البنى الاجتماعية لا يمكن أن يلمس بشكل مباشر. إلى جانب ذلك نجد مابعد الحداثة(التفكيكية) التي وإن تعذر لدى أصحابها الوصول إلى تعريف متفق حوله إلا أنها نظرية تقوم أساسا بتفكيك ورفض الوثوق بأي وصف للحياة الإنسانية يدعي أنه يصل مباشرة إلى الحقيقة. ومن أهم إسهامات ما بعد الحداثة هو اهتمامها بما يسمى بالأصوات “المهمشة”، “الصامتة” و”المنسية” وهي الأصوات التي أغفلتها أو تجاهلتها الاتجاهات النظرية التقليدية. وباهتمام ما بعد الحداثة بهذه الأصوات تكون قد تحدت تلك الاتجاهات النظرية التفسيرية .

إن الموضوع محل النقاش، هو علاقة القوة بالمعرفة. فالمفهوم السائد لدى الاتجاه العقلاني هو أن المعرفة محصنة إزاء عمليات القوة وهو افتراض أساسي لدى الوضعية. بينما يجادل أصحاب ما بعد الوضعية بأن القوة تنتج المعرفة في واقع الأمر، وهكذا لا يوجد شيء اسمه “الحقيقة”. وقد تم طرح التساؤل: كيف يمكن أن تكون له حقيقة إذا كان للحقيقة تاريخ؟ فالحقيقة ليست شيئا خارجا عن الأوضاع الاجتماعية، بل هي جزء منها . إلى جانب ذلك يناقش التفكيكيون استراتيجيات النصوص التي يستخدمونها، فحسب دريدا ” أن العالم يتم إنشاؤه مثل نص من النصوص” بمعنى أن تفسير العالم يعكس مفاهيم اللغة ومبانيها، وهو ما يسمى بعملية تفاعل النصوص، وكانت لدريدا طريقتان لكشف هذه التفاعلات النصية وهما: التفكيك، والقراءة المزدوجة. أما التفكيك فهو أسلوب يبين كيف أن جميع النظريات والخطابات تعتمد على حالات استقرار مصطنعة تنتج عن استخدام تضادات تبدو موضوعية وطبيعية ظاهريا في اللغة(غني/فقير، جيد/سيء، قوي/ضعيف،صحيح/خطأ). والقراءة المزدوجة هي تكرار القراءة للوقوف على حالة التوتر الداخلية ضمن النصوص والناجمة عن استخدام ما يبدو أنه استقرار، وليس المقصود الوصول إلى قراء صحيحة أو حتى واحدة لنص من النصوص، بل لإظهار كيف أنه يوجد دائما أكثر من قراءة واحدة لأي نص .هذه القراء “الدريدية” يمكن توظيفها لدى قراءة الافتراضات التقليدية حول الفوضى والسيادة.

ومن أهم النظريات التي يأتي ظهورها كبديل عن الاتجاهات النظرية التقليدية الوضعية لمرحلة الحرب الباردة، النظرية البنائية، والتي تعتبر أيضا حلقة وصل بين العقلانية (التفسيرية) والتكوينية كونها تستند على مبادئ ما بعد الوضعية إنطلوجيا وتتخندق مع الوضعية ابيستمولوجيا. وهي تحاول أن تربط بين الأبعاد المادية، الذاتية والتذاتانية في العلاقات الدولية .

الخاتمة

تعتبر الحوارات الكبرى بين الاتجاهات المختلفة مدخلا لمعالجة فعالة لأنواع الأسئلة التي يمكن طرحها حول السياسة الدولية، ووسيلة لتأكيد افتراضات وتفنيد أخرى، من حيث قدرتها على بلورة تصور متناسق ومقرب من الحقيقة، وفهم متكامل للظاهرة الدولة ذات التركيبة المعقدة والمتغيرات المتداخلة. ومن خلال ما تم عرضه في الحوارات الثلاثة، يمكن التأكيد على أن هناك تأثير تبادلي بين الواقع والنظرية، وهو ما يظهر جليا في دور رواد هذه النظريات انطلاقا من المواقع التي شغلوها، أو المراكز البحثية التي عملوا فيها.كما أن ظهور النظريات مرتبط بالسياق العام والتحولات التي شهدها العالم، ويتجلى ذلك في الانتصار المؤقت للنظرية الواقعية على النظرية المثالية في الحوار الأول (والذي كان أنطلوجيا في الأساس)، كونها الأقدر في حينها على تقديم رؤية واضحة حول نوعية العلاقات التي تحكم النظام الدولي رغم ما كان ينتابها من القصور في تقديم تفسير محكم لكيفية تحقيق الأمن وتفادي الحرب. وهو الأمر الذي استندت عليه السلوكية لتبين أنها الأكفأ في مجال التنظير محدثة ثورة منهجية في حقل العلاقات الدولية بالاعتماد على المنهج الاستقرائي التجريبي محاكاة للمناهج المعتمدة في العلوم الطبيعية، لتركز جهودها في بلورة نظرية علمية دقيقة عامة في العلاقات الدولية كتلك المتوصل إليها في العلوم المادية.

وقد التفاعل بين التيارات المختلفة في حقل العلاقات الدولية إلى تنقيحات جوهرية ظهرت في شكل الواقعية الجديدة والليبرالية الجديدة وهو ما يؤكد صحة الفرضية القائلة بدور الحوارات السابقة في تقليص الهوة بين الاتجاهات النظرية في مجال التنظير للعلاقات الدولية والتخفيف من حدة التصعب لدى رواد هذه الاتجاهات.

وبنهاية الحرب الباردة التي لم تتنبأ بها الواقعية كتيار مهيمن في حينها، ومع ظهور الاتجاه الجديد (ما بعد الوضعية) ليطرح فكرة إعادة النظر في الأسس الابستمولوجية التي كانت تستند عليها الوضعية العقلانية، جاء النقاش بين النظريات التفسيرية ذات المنطلقات الوضعية، والنظريات التكوينية التي ترتكز على ابيستمولوجية ما بعد الوضعية. وإذا كان الحوار الثالث بين التفسيريين والتكوينيين يبدو لدى الكثيرين من أنه بمثابة القطيعة في مجال التنظير، إلا أن تدخل النظرية البنائية لتكون الخيط الرفيع بين الاتجاهين ، جعل من مسار التنظير للعلاقات الدولية عملية متراكمة مما ينبئ بإمكانية بروز نظرية كوسموبوليتية للعلاقات الدولية تجمع كل الاتجاهات النظرية الوضعية و الما بعد الوضعية حسب ما ذهب اليه الدكتور جندلي في أطروحته.

الملحق رقم 1: جدول يلخص أهم الافتراضات التي تناولها الحوار الأول بين الواقعية والمثالية

المثالية الواقعية

البعد الأنطلوجي – الانسان بطبيعته عقلاني خير. أفعاله محكومة بالمثل والمعايير الأخلاقية.

– المجتمع العالمي عبارة عن مجموعة موحدة – الانسان شرير بطبعه، يعيش حالة صراع مستمر بين القيمة والواقع مما يولد لديه الشعور بالخوف.

– الدولة الفاعل العقلاني الموحد

– النظام الدولي فوضوي، ومجزأ إلى مجموعة دول مستقلة تفتقد إلى سلطة مركزية

الاهتمامات التي تحكم الدراسة – تحقيق السلام العالمي واللمحافظة عليه عبر إزالة المنافسة بين الدول.

– يمكن بناء السم والاستقرار على المستوى العالمي بالاعتماد على القانون الدولي والمنظمات الدولية. – تحقيق السلام الدولي والمحافظة عليه بالإستفادة من دروس الماضي في معالجعة المشاكل الراهنة.

– لا يمكن بناء السلم على المستوى الدولي إلا بالإعتماد على مبدأ “توازن القوى”

الإشكالية – ما هي المعايير التي يجب صياغتها من أجل توجيه الفعل السياسي والمجتمعي لتحقيق:

1 -السلام العالمي.

2- المجتمع العالمي.

أو: كيف يجب أن تكون العلاقات الدولية؟ – ما هي الشروط والاشكال والقوى التي تحدد العلاقات بين الدول و / أو المنظمات الدولية الحكومية (مثل الاحلاف)؟

أو: ما هو الواقع الدولي الذي تراه الواقعية؟

الفاعلون الأساسيون في السياسة الدولية – الافراد والارتباطات المجتمعية بينهم.

– المنظمات غير الحكومية.

– تعدد الفاعلين إلى جانب الدولة. – الدول الوطنية ذات سيادة.

– المنظمات الدولية الحكومية.

الهدف المركزي للفاعلين – تحقيق نظام عالمي سلمي والمحافظة عليه. – حماية أمن وبقاء الدولة.

– الصراع من أجل القوة بين دول تسعى لتعزيز مصالحها بشكل منفرد.

الوسائل والأدوات النموذجية لتحقيق الأهداف – الاحتكام إلى العقل.

– التنوير بالمصالح المشتركة للجنس البشري.

– التعليم وفق القيم والمثل.

– دمقرطة أنظمة الحكم ، وحكم القانون.

– إنشاء اتصالات ذات طابع شبكي بين المنظمات الدولية والارتباطات المجتمعية للأفراد على المستوى العالمي. – القوة بإكتسابها والمحافظة عليها واستعراضها وزيادتها.

– إعتماد سياسة توازن القوى.

– تبني سياسة الردع المبنية على مبدإ سباق التسلح.

المصدر: من إعداد الطالب

الملحق رقم 2: جدول يلخص أهم الافتراضات التي تناولها الحوار الثالث بين التفسيرية والتكوينية

الوضعية (التفسيرية) ما بعد الوضعية (التكوينية)

أنطولوجيا – طبيعة الواقع الدولي مادية والتطور طبيعي.

– البنية الدولية فوضوية وهي معطى مسبق فهي حتمية ودائمة. – طبيعة النظام الدولي مبنية اجتماعيا ويمكن إعادة بناؤها وفقا للتفاعلات بين البنية والعضو.

– فوضوية البنية الدولية ليست معطى مسبق، بل هي ما صنعته الدول.

إبيستمولوجيا – تعتقد الحيادية والموضوعية العلمية في إنتاج المعرفة.

– تفترض وجود معايير مستقلة عن إدراك الباحث يمكن من خلالها قياس المعرفة(فائدتها، عمقها، الأدوات الموصلة اليها،…).

– إمكانية التوصل إلى نظرية عامة – مناهضة لإرساء أسس حيادية وموضوعية ومستقلة لقياس المعرفة.

– لايمكن الفصل بين الباحث وموضوع البحث،مما يتيح لأصحاب النظرية التفكير مليا في المصالح التي تخدمها أي نظرية معينة.

– الايمان بالتوصل إلى نظرية سياقية (لكل نظرية سياقها الزماني والمكاني)

الهدف من النظرية – التمتع بالحيادية والاهتمام بكشف الحقائق والأنماط الموجودة سلفا ضمن عالم مستقل خارجي.

– العمل على تفسير الواقع وجعل التوزيع الحالي للسلطة يبدو طبيعيا، فهي نظرية محافظة.

– تنظر للعالم الاجتماعي، أنه منطقة للسيطرة والهيمنة تماما كالطبيعة. – تهدف إلى بناء العالم

– التقدم في موضوع تحرير الإنسان فهي نظرية معيارية.

– تبحث في كيفية نشوء التوزيع الحالي للسلطة، أي لا تعتبر الدولة من المسلمات السياسية العالمية، فهي نظرية تغييرية.

أهم النظريات الواقعية والواقعية الجديدة

الليبرالية والليبرالية الجديدة

الماركسية والماركسية الجديدة

السلوكية وما بعد السلوكية التفكيكية

الجندر

النقدية

ما بعد الحداثة

المصدر: من إعداد الطالب

المراجع:

أولا: الكتب

باللغة العربية:

1- الجابري (محمد عابد)، مدخل إلى فلسفة العلوم(العقلانية المعاصرة تطور الفكر العلمي)،(لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية،ط6،2002).

2- بالستغراف (روبرت)، دورتي (جيمس)، النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية ، (ترجمة: وليد عبد الحي، (الكويت:كاظمة للنشر، 1985).

3- براون (كريس)، فهم العلاقات الدولية، (الإمارات العربية المتحدة: مركز الخليج للأبحاث،2004).

4- بيليس (جون ) و سميث (ستيف)، عولمة السياسة العالمية (ترجمة: مركز الخليج للأبحاث)، (الامارت العربية المتحدة: مركز الخليج للأبحاث،ط 1 ، 2004).

5- ثابت (عادل فتحي)، النظرية السياسية المعاصرة، (مصر: دار الجامعة الجديدة للنشر، 1997).

6- حتى (ناصيف يوسف)، النظرية في العلاقات الدولية، (لبنان:دار الكتاب العربي،1985).

7- غضبان (مبروك)، المدخل للعلاقات الدولية، (الجزائر:شركة باتنيت، 2005).

8- ووندت (الكسندر)، النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية، (ترجمة، عبد الله صالح العتيبي)، (السعودية: النشر العلمي والمطابع، 2006).

باللغات الاجنبية:

• Roche (Jean-Jacques), Théories des Relations Internationales (Paris: Editions Montchrestein, 5th Edition, 2004).

• Andre Kukla, Social Constructivism and the Philosophy of Science (UK : Routledge, 2003).

• Peter F. Murphy, Feminism and Masculinities (UK : Oxford University Press, 2004).

• John Vasquez, The Power of Power Politics: From Classical Realism to Neotraditionalism (UK : Cambrdige University Press, 1998).

ثانيا: البحوث غير المنشورة:

9- جندلي (عبد الناصر)، إنعكاسات تحولات النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة على الاتجاهات النظرية الكبرى للعلاقات الدولية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية، جامعة الجزائر، 2004/2005.

10- حجار (عمار)، السياسة المتوسطية الجديدة للاتحاد الأوروبي، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في العلاقات الدولية، جامعة باتنة، 2002/2003.

روابط أنترنيت:

11-عبد المالك (محزم): حوار المنظورات في العلاقات الدولية. <http://malektheorist.maktoobblog.com>

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى