دراسات سياسية

المعركة العميقة: التجفيف الناعم لمياه السمك

عامر مصباح
جامعة الجزائر3
اسفرت العملية العسكرية السريعة التي قام بها حزب الله اللبناني في منطقة عرسال في الأسبوعين الماضيين على الحدود اللبنانية-السورية ضد جبهة فتح الشام (جبه النصرة سابقا)، عن اتفاق سياسي يقضي بتبادل جثث القتلى، تسليم أسرى من أفراد حزب الله، مقابل تأمين خروج مقاتلي فتح الشام وعائلاتهم من عرسال نحو إدلب شمال سوريا التي تسيطر عليها فتح الشام. الجانب المثير للاهتمام الاستراتيجي في هذا الاتفاق أن عدد المسجلين للخروج مع مقاتلي النصرة ارتفع بشكل سريع، من بضعة مئات من المقاتلين وعائلاتهم إلى أكثر من عشرة آلاف من السوريين الذين كانوا يعيشون في المخيمات فوق الأراضي اللبنانية؛ وهذا يعني بطريقة أخرى أن هؤلاء الذين فضلوا الخروج من عرسال يثقون في جبهة النصرة وبالتالي كلهم إما مقاتلين فعليين أو محتملين، سواء في الحاضر أو في المستقبل (الأطفال)؛ وهي الوضعية الاستراتيجية المنتجة لمشكلة عميقة أمام تثبيت السلم الأهلي في سوريا في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية. تتحدد هذه المشكلة في انعدام الثقة بين الدولة السورية ومؤسساتها ومواطنيها الفارين من الحرب، والناجمة عن توقع الانتقام الحكومي بواسطة الاعتقال، التعذيب، القتل، أو على الأقل تصنيفهم ضمن قائمة الإرهاب لدى مؤسسات الدولة.
وجه التعقيد الآخر في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية في البيئة الاستراتيجية السورية، هو ميل الجماعات المسلحة إلى ممارسة العنف العشوائي والأنشطة الانتقائية كنتيجة لحالة اليأس من كسب النصر الشامل على القوات الحكومة، وبالتالي أصبحت بلا هدف سياسي قريب المدى؛ خاصة وأن معظمها لا تؤمن بالحل السياسي، أو الديمقراطية، أو الأحزاب السياسية.
طُرحت فكرة “تجفيف مياه السمك” من قبل المنظرين الاستراتيجيين في مواجهة التمرد المسلح بواسطة القضاء على مصادر التمويل، خطوط الإمداد، الملاذات الآمنة، خلق الفجوة بين المتمردين والمواطنين وخاصة القرويين وغيرها من الإجراءات التي تساهم في عزل جماعات التمرد عن الشعب وحرمانها من مصادر التمويل ودعم الأنشطة العسكرية. إنه تكتيك مبني على افتراض أن السمك لا يستطيع البقاء على قيد الحياة بدون الماء، كما لا يستطيع أن يصمد التمرد المسلح بدون محيط اجتماعي مؤيد. لكن ليس “تجفيف مياه السمك” المادي هو المقصود بالدرجة الأولى في مفهوم المعركة العميقة للتعامل بفعالية مع الآثار الأمنية والاستراتيجية في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية؛ وإنما المقصود هو “التجفيف الناعم لمياه السمك” والذي يعني: بناء الثقة بين مؤسسات الدولة والمواطنين العاديين في المخيمات خارج الحدود بالدرجة الأولى، وداخل مخيمات المهجرين داخليا في الدرجة الثانية؛ وذلك من خلال القيام بمجموعة من الإجراءات المحددة في النقاط التالية:
1) تشكيل منظمات أمنية متخصصة في العلاقات الإنسانية وحقوق الإنسان والمعاملة الإنسانية
2) تهيئة الريف لعودة الناس والانخراط في الأنشطة الاقتصادية
3) تبديد المخاوف حول الانتقام الحكومي من اللاجئين
4) التركيز على تلميع عناصر التحول في سياسة الحكومة
5) إشراك المواطنين في معرفة الطرق الجيدة لعودة النازحين
6) الاطلاع على المخاوف الحقيقية للنازحين
7) خلق فرص اختبار النازحين لنيات الحكومة حول السلم الأهلي والعفو العام
تشكل هذه العناصر وأخرى مضمون استراتيجية المعركة العميقة في استعادة السلم الأهلي، صحيح أنها لا تهمل الأبعاد المادية للأمن، ولكن تعطي الأولوية للبعد السيكولوجي، تكوين الإدراكات السياسية الإيجابية، تصحيح الصور الذهنية الخاطئة، بناء التفكير الإيجابي نحو العيش المشترك، تبديد المخاوف حول كل أشكال الانتقام، الفوبيا الحكومية. إنها المعركة العميقة من أجل استعادة السلم الأهلي والأمن المجتمعي.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى