المقاربات الأمنية في النظرية النسوية: الاستراتيجية الأمريكية عن المرأة والسلام والأمن أنموذجاً

د.طارق محمد ذنون الطائی

مدرس/ کلیة العلوم السیاسیة/ جامعة الموصل

abdulwahhab_thanon@uomosul.edu.iq

مجلة دراسات اقلیمیة, السنة ١٤, العدد ٤٤, الصفحة ١٧٣-٢٠٤

مقدمة

ترافق مع التغیّر فی انماط التفکیر ظهور طروحات ومقتربات فکریة تحاول تلمس دور ومکانة المرأة فی التفاعلات السیاسیة وعملیة صنع القرار فی مختلف جوانبها، لا بل تحاول وضع مجموعة من الفرضیات والرؤى حول حجم الدور الذی تؤدیه المرأة فی عملیة تشیید السلام والامن، ومدى تقبل وتبنی الطروحات التی قدمتها وتقدمها سواء فی القرون الماضیة أم فی القرن الحالی.

      تکثیفاً لما تقدم، الامن مبتغى الانسان، ولم یتجسد فی الرجال دون النساء، لذلک یروم البحث دراسة مسألة مدى تعاطی المقاربات الفکریة فی العالم مع المرأة، مع الترکیز على دراسة وتحلیل الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والسلام والامن. المقاربات التی یتم استنباتها فی عقول الجماعات الاجتماعیة لا سیما المتعلقة بدور المرأة هی نتاج المفاهیم الواقعیة، والمفاهیم اللیبرالیة، ومفاهیم ما بعد الحداثة.

أهمیة البحث:تنبثق من استجلاء مکانة المرأة بوصفها مرتکزاً من مرتکزات تحقیق الامن والسلام فی العالم وفق الرؤى الدولیة من خلال تتبع مسارات المقاربات الفکریة للنظریة النسویة التی ترى بأن النساء أکثر میلاً الى اتخاذ قرارات السلام من قرارات الحرب؛ لأن أغلب قرارات الحرب فی السیاسة الدولیة اتخذها الرجال ولیس النساء، فضلا عن تقدیم رؤى تحلیلیة فی الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والسلام والامن لعام ٢٠١٩، بوصفها تطبیقاً عملیاً للمقاربات الفکریة للنظریة النسویة.

اشکالیة البحث:ترتکز على النظرة أحادیة الجانب والمتمثلة فی “الرجال هم الاقدر على صناعة السلام والامن لأنهم یمتلکون الرؤیة الواسعة، وعادة ما تکون القرارات التی تتخذها المرأة عاطفیة أکثر من العقلانیة” بدأت بالتراجع، وبالمقابل یرى دعاة النوع الاجتماعی بان “الرجال استأثروا بصناعة القرارات التی تقرر حالة الامن والسلام فی ادارة الحکم والشؤون الدولیة وتم استبعاد رؤیة النساء لمدة طویلة من الزمن، بینما هُن أکثر میلاً الى السلام، کل ما تقدم یُمثل اشکالیة تحتم الضرورة العلمیة معالجتها فی متن البحث.

      ومن هنا، یرد التساؤل الآتی: ما مدى تعاظم الرؤیة الدولیة التی ترى بأن النساء عامل من عوامل تحقیق الامن والسلام فی العالم؟ وعلیه تنبثق الاسئلة الفرعیة الآتیة: ماهو جوهر النظریة النسویة؟ ماهی مکانة الأمن فی النظریة النسویة؟ بماذا تتجسد مظاهر تبنی المقاربات الفکریة للنظریة النسویة؟ کیف تجسدت رؤیة الولایات المتحدة الامریکیة لدور النساء فی عملیة السلام والامن العالمی؟ ومن هذا المنطلق تم وضع مجموعة من التساؤلات الفرعیة لعل من أهمها: هل ان أحد الاسباب الرئیسة لانتشار النزاعات وتعاظمها فی العالم یعود الى استبعاد النساء من المشارکة السیاسیة وعملیات صناعة القرار وممارسة دورهن فی تشخیص ومعالجة التحدیات العالمیة المختلفة واقتصار ذلک على الرجال ؟، هل أن النساء أکثر میلاً الى الحلول السلمیة منها الى الحلول غیر السلمیة؟

    هل یمکن لزیادة اشراک المرأة فی العملیات المجتمعیة وفق المقاربات الفکریة للنظریة النسویة أن یؤدی الى تعزیز دورها فی السلام والعملیات الأمنیة؟ هل العادات والتقالید والموروثات العقائدیة اضفت سمة الثبات على مکانة المرأة لمدة طویلة من الزمن؟ ماهی الادوات التی یمکن من خلالها تجذیر السلام والأمن فی عقول النساء، وتجذیر فکرة ان السلام والامن کلٌ لا یتجزأ؟

فرضیة البحث: تنطلق من فکرة مفادها تعاظم الرؤیة الدولیة التی ترى: أدى استبعاد النساء لمدة طویلة من الزمن الى تفرد الرجال فی صیاغة الشؤون الدولیة، لذلک کلما زاد تفعیل دور النساء فی الشؤون العامة والمشارکة السیاسیة، قاد ذلک الى تحقیق السلام والامن فی العالم.

هدف البحث:یکمن فی توضیح العلاقة بین النظریة النسویة ومدى الایغال فی وضع الالیات والاستراتیجیات من قبل الدول والمنظمات الدولیة ومؤسسات المجتمع المدنی العالمیة، التی تهدف الى استتباب الامن والسلام فی العالم، لا بل تعکس مدى تبنی افکار النظریة النسویة وتطبیقها عبر تبنی رؤیتها للأمن العالمی، والترکیز على الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والسلام والامن بوصفها أنموذجاً للدولة التی تعمل على توظیف التکامل بین النظریة والتطبیق.

منهج البحث:بهدف الاستکشاف العلمی للظاهرة موضوع البحث تم استخدام منهجین اساسیین هما: المنهج الوصفی الذی یصف الظاهرة بکل متغیراتها، ومنهج التحلیل النظمی الذی یعتمد بشکل کبیر على المدخلات والمخرجات.

هیکلیة البحث:أقتضى البحث تقسیمه على ثلاثة مباحث، فضلاً عن المقدمة والخاتمة التی ذُکر فیها أهم النتائج، یتناول الاول: المقاربات الفکریة العالمیة للنظریة النسویة، اذ تم تقسیمة على ثلاثة فروع: درس الاول ماهیة النظریة النسویة، بینما تناول الثانی النوع الاجتماعی. وأما الثالث فکشف المقاربات الامنیة فی النظریة النسویة.  بینما تناول المبحث الثانی: مداخل تجذیر المقاربات الفکریة الامنیة للنظریة النسویة، وتم تقسیمه على ثلاثة مطالب، الاول درس البرامج العالمیة للمنظمات الدولیة، والثانی تناول الرؤى العالمیة لمؤسسات المجتمع المدنی الدولیة، ورکز الثالث على رؤیة الفاعل الرئیس “الدولة” لماهیة تمکین المرأة فی العالم. وحاول المبحث الثالث التعامل مع مقاربات الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والسلام الامن، اذ تم تقسیمة على مطلبین، تناول الاول المقاربات الفکریة للاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والامن والسلام، بینما تمثل الثانی فی دلالات تطبیق مقاربات الاستراتیجیة الامریکیة المرأة والسلام والأمن.

المبحث الاول: المقاربات الفکریة للنظریة النسویة

       تمکنت الدراسات الامنیة من تحقیق التحول فی المفاهیم والمسلمات لموضوعة الأمن، واستطاعت المقاربات الامنیة الواقعیة واللیبرالیة وما بعد الحداثة ومدرسة کوبنهاغن تجذیر ماهیة الأمن، وابتکار مداخل جدیدة تتناسب مع متغیرات القرن الواحد والعشرین. والى جانب ما تقدم، تحاول النظریة النسویة بوصفها نتاجاً ومزیجاً لما تقدم من مقاربات نظریة تجذیر مقترباتها الفکریة فی البیئة الدولیة، ومداخلها فی التطبیق تبنی مفاهیمها من قبل الدول العظمى والکبرى فی النظام الدولی. واستناداً الى ما تقدم، تحتم الضرورة العلمیة تأصیل ماهیة وجوهر النظریة النسویة وفق المطالب الآتیة: 

المطلب الاول: ماهیة النظریة النسویة

     یمکن تجذیر ماهیة النظریة النسویة بوصفها مجموعة من المقاربات الفکریة التی تحاول الترکیز على المرأة بوصفها فاعلاً اجتماعیاً قادراً على القیام بدور رئیس فی ادارة الشؤون العامة، وتنطلق من فرضیة رئیسة مفادها کلما زاد عدد النساء فی ادارة الشؤون العامة المحلیة والاقلیمیة والدولیة قاد ذلک الى استتباب الامن والسلام فی العالم.

       ومن هنا، “اطلق اصطلاح المذهب النسوی(Feminism) على الفکر المؤید لحقوق النساء والداعی لتحریرهن من القمع الذی تمارسه السلطة الذکوریة ضدهن”([١]). وتکمن “الدوافع الرئیسة لظهور الطروحات الفکریة للنظریة النسویة حسب وجهة منظریها فی مجموعة من الرکائز المترابطة مع بعضها المتمثلة فی العنف ضد المرأة وعدم المساواة فی عملیة السیطرة على الموارد وعدم المساواة فی تسنم السلطة والمشارکة فی عملیة صنع القرار وغیاب حقوق المرأة، کما ان الرجل والمرأة کلاهما فاعلین ولیس أحدهما ضحیة للآخر”([٢]).

     وبناءً على ما تقدم، تؤکد الحقائق التاریخیة على ان هناک ثلاث طروحات فکریة تمثل الفکر النسوی: اولهما: النسویة اللیبرالیة، وترى بان الناس خُلقوا متساویین ولا ینبغی حرمانهم بسب التمییز بین النوع الاجتماعی، ویتصفون بالعقلانیة والملکیات العقلانیة الرشیدة نفسها، وان التعلیم هو المعیار الاساس لتغییر مدرکات المجتمع، لذلک ینبغی عدم حرمان النساء من بعض الحقوق واقتصارها على الرجال مثل المشارکة السیاسیة، ثانیهما: النسویة المارکسیة، وترى بان هنالک فروقات فی القیمة والمکانة الاجتماعیة للأفراد، انطلاقاً من الافتراض الاساسی المتمثل بأن الزواج البرجوازی یُعاد إنتاجه فی شکل صراعات وتناقضات المجتمع البرجوازی الاکبر، فالزوجات یُمثلن الطبقة المُضطَهدة أو حتى العبید، بینما تُمثل السلطة الابویة فی هذه الطبقة دور أصحاب الاعمال والمُلاک، ومن ثم فإن الرجال هم سبب النظام الاستغلالی الشامل”. ثالثهما: النسویة الرادیکالیة جاء هذا الاتجاه کرد فعل ویطالب بمکانة متساویة مع الرجل، وینظر الى المرأة بوصفها أحد الاولویات السامیة”([٣]).

      بمعنى أن عدداً کبیراً من التوجهات الفکریة، حاولت ان تفرد جزءً من نتاجها عن النوع الاجتماعی، واختلفت فیما بینها لمدة طویلة من الزمن، فالواقعیة رکزت جُلّ تفکیرها فی عملیة بحث الافراد سواء عن مصلحتهم الذاتیة أم مصالح دولهم. وخاطبت الرجال بوصفهم حکاماً، وکیف ینبغی ان یعملوا على تحقیق مصالحهم ودولهم، بالمقابل اعتمدت اللیبرالیة سیما فی ما حاولت من تقدیمه من مقاربات تتعلق بالنوع الاجتماعی على التعددیة، ورکزت على الحریة والمساواة بین الرجال والنساء، ولأنها تمکنت من التقدم فی مستویات المقاربات العالمیة فی القرن الواحد والعشرین، اقرت حقیقة مفادها بأن کلا الجنسین الرجال والنساء یتحملون عبء تشیید الامن والسلام فی العالم، وبذلک کانت اسهاماتها تتمثل فی عدّ النساء عاملاً مهماً من عوامل صناعة السیاسة الدولیة عن طریق حریة التعبیر عما یجول فی عقولهن من افکار تتعلق بتجذیر السلام والامن فی العالم.

      ولکن تراجع المقاربات الفکریة غیر اللیبرالیة بفعل تراجع الدول التی تدعمها وتؤیدها، قاد الى تقدم المقاربات الفکریة النسویة وفق التوجهات اللیبرالیة فی العقد الاخیر من القرن العشرین وبدایة القرن الواحد والعشرین. وتعتمد فی ذلک على تغییر انماط التفکیر لدى الرجال وجعلهم یؤیدون الدور الایجابی للنساء بوصفهن فاعلاً قادراً على تحقیق الأمن، لان آثار قرارات الحرب تمسهُن، لا بل ان آثار الحرب تکون على النساء، فمن الضروری ان یکون لهن دوراً فی قرار الحرب والسلم.

       اذ اثبتت التجربة الآتی: “اهملت الاطراف المتحاربة فی الغالب المعاناة التی اثرت فی النساء بسبب الحروب، ویقدم مؤیدو هذه الرؤیة المثال الآتی: ادت العقوبات الاقتصادیة على العراق الى وفاة ما یقارب ملیون انسان، وشکلت نسبة النساء منهم ٣٠%”([٤]).

     وفق ما تقدم، یتم العمل على تثقیف النساء فی مختلف دول العالم بهدف تغییر عقولهن باتجاه استنبات المفاهیم التی ترتکز على الفکرة الآتیة: للنساء دور اجتماعی وسیاسی واقتصادی وثقافی یجب تأصیله وتفعیله لکی یصبح حقیقة من حقائق السلوک المجتمعی. بمعنى “بما أن الرجال والنساء یتمتعون بالمساواة فی العقل والذکاء، فانه ینبغی أن یتساویان فی القانون”([٥]).   

     وترکیزاً لما تقدم، وبفعل هیمنة القیم اللیبرالیة، وامتلاکها الامکانیات ووسائل تغییر انماط التفکیر فی العالم، عملت على تحشید الجهود بهدف تعزیز المشارکة الفاعلة للنساء فی عملیة صناعة القرار وتنفیذه فی مختلف مستویات قیادة الدول والمنظمات الدولیة، وکانت ادواتها فی ذلک، مقاربات ما بعد الحداثة الفکریة للأمن، التی ترى بأنه فعل خطابی، یجسده رؤساء الدول والحکومات، ومتى ما تم الاعلان عنه، فإنه یتضمن تخصیص الموارد، والتزامات مادیة ومعنویة، من هنا فإن مناقشة قضایا النوع الاجتماعی وإعلان تبنیها وعقد المؤتمرات والندوات وتحویلها الى مضامین فی برامج العمل الدولیة یُمثل رکیزة اساسیة من رکائز توظیف النظریة النسویة عالمیاً.

المطلب الثانی: النوع الاجتماعی

        نتیجة تجذر مفاهیم اللیبرالیة بشکل عام، والنظریة النسویة بشکل خاص، فی القرن الواحد والعشرین، بدأت مراکز الدراسات والبحوث الغربیة فی استخدام مصطلح النوع الاجتماعی(Gender)، بهدف التأکید على المساواة بین الرجل والمرأة فی الشؤون العامة، بوصفه مدخلاً من مداخل تحقیق الأمن والسلام فی العالم. وبدأت تغذی المنظمات المحلیة والاقلیمیة والدولیة بهذه المفاهیم وجدوى هذه الطروحات بوصفها جزءً من نظریة ما بعد الحداثة التی تؤکد على أن الأمن هو فعل خطابی. 

      تعرف الباحثة الفرنسیة انطوانیت فوکی(Antoinette Fouqué) النوع الاجتماعی بأنه “ممیزات الرجل والمرأة التی تتصل بعلاقاتهم الاجتماعیة تحت تأثیر عوامل اقتصادیة وثقافیة وایدیولوجیة، والتی تحدد أدوار الرجل والمرأة”. بینما یعرفه جیرد لینر(Gerd Lener) بأنه “القناع أو الهیئة التی یتخذها الرجال والنساء عندما یعزفون على وتر المساواة”. أما ألان ولف(Alan Walf) فیعرفه بأنه “طریقة تعبیر تستخدمها المجموعات النسویة للتعبیر عن رفضها لحالة التبعیة الدائمة للرجل”([٦]).

        و”اکتسبت هذه المعالجة الحدیثة لمفهوم النوع الاجتماعی والتمییز بین الجنسین مکانة مهمة فی القرن الواحد والعشرین بفعل إشکالیتین: أولهما: إشکالیة التنمیة الاجتماعیة، وقد تطورت المفاهیم المعتمدة فیها إلى التنمیة المستدامة. ثانیهما: إشکالیة حقوق الإنسان، فحقوق المرأة هی حقوق المرأة الإنسان، ومن ثم فإن أیة معالجة لها یجب أن تشمل مؤشرات حول مدى استفادة المرأة من هذه الحقوق. اذ تعد الدولة متقدمة فی هذا المجال عندما تمتع المرأة فی هذه الدولة، فعلیاً، بمختلف حقوق الإنسان دون استثناء”([٧]).

       بناءً على ما تقدم، بدأت عملیة تجذیر المقاربات الفکریة للنوع الاجتماعی بوصفها تعبیراً عن مدرسة ما بعد الحداثة، والتی ترتکز على الفعل الخطابی(Act of Speech)*، فأخذت الدول والمنظمات الدولیة، ومؤسسات المجتمع المدنی المحلیة والاقلیمیة والدولیة تقدم ذاتها وتبنیها للمقاربات النسویة من خلال الفعل الخطابی المتکامل، ویجری العمل على استنبات هذه الافکار من خلال تکرار هذا الفعل الخطابی بوساطة القادة واصحاب الرأی ورؤساء الدول والحکومات، بمعنى یتم تبنیها على أنها حقیقة لأنها تؤدی الى تحقیق الامن والسلام فی العالم، ویجب ان تشرع بها جمیع الفواعل فی التفاعلات الدولیة. تکثیفاً لما تقدم، ماهی المقاربات الفکریة الامنیة للنظریة النسویة، وهذا ما سیتم دراسته فی المطلب الثالث.

المطلب الثالث: المقاربات الأمنیة فی النظریة النسویة

       تنطلق النظریة النسویة فی رؤیتها لجوهر الأمن من انه کُلما تعاظمت نسبة النساء فی المشارکة السیاسیة وادارة مؤسسات الدولة وتقبل والاستماع الى وجهات نظرهن على صعید التنظیر والتطبیق للفکر السیاسی بمستویاته المختلفة المحلی والاقلیمی والدولی أصبح العالم أکثر أمناً ویتمتع بالاستقرار والازدهار، ومن ثم تکون له القدرة على مواجهة التحدیات الامنیة العالمیة غیر التقلیدیة.

       بمعنى تتم عملیة صناعة الأمن الدولی ومواجهة تحدیاته غیر التقلیدیة عبر تعظیم مشارکة الرجال والنساء على حدٍ سواء استناداً الى فکرة جوهریة مفادها بالمساواة والمشارکة یتحقق الامن الشامل.

      وعلیه یتثمل “الجانب المهم للنظریة النسویة فی أن السیاسة العالمیة ستکون اقل تنافسیة، وأقل عنفا اذا ما تمکنت النساء من الوصول أو السیطرة على مواقع السلطة والقوة، سیما قوة الدولة المرتبطة بالمعرفة”([٨]). فضلاً عن “ضرورة ان یُشکل الرجال والنساء جوهر السیاسات المحلیة والدولیة فکراً وتنفیذاً، موجِهاً ومُستقبِلاً لکلا الفئتین”([٩]).

      و”عززت هذه الاتجاهات والتصورات مکانة التیارات النسویة التی تتعرض للفروق بین الرجل والمرأة، ویکمن جوهر رؤیتها فی ان نظرة المرأة تُعلی من شأن الروابط ما یجعلها اقرب الى الرؤیة اللیبرالیة فی تدعیم السلام ونبذ الحرب، على عکس نظرة الرجل الاستقلالیة الأقرب الى النظریة الواقعیة والمیل الى الحروب”([١٠]).

     بمعنى “یکمن القاسم المشترک فیما بینها فی انتقادها لعملیة التنظیر فی مجال التفاعلات الدولیة نتیجة الترکیز المبالغ فیه على العنصر الذکوری وهو ما یوضح قصور رؤیتها. وتجلى ذلک فی الانتقادات التی وجهها مُفکروها ومنهم سینثا اینلو(Cynthia Enlie)، وعملت على صیاغتها حسب وجهة النظر النسویة، وهی وفق الآتی: أولهما: الموضوعیة مرتبطة بالذکوریة، ومن ثم فإن القوانین الموضوعیة هی بالضرورة جزئیة. ثانیهما: المصلحة الوطنیة هی مفهوم متعدد الابعاد، ومن ثم لا یمکن تعریفها فقط بمفهوم القوة. ثالثهما: تعریف القوة بالهیمنة والمراقبة هو تعریف محدود وذکوری. رابعهما: من الاستحالة بمکان فصل الاخلاق عن الممارسات والسلوکیات السیاسیة. خامسهما: الهدف هو الترکیز على القواسم المشترکة للطموحات الانسانیة المتعلقة بتخفیف حدة الصراع وتعزیز الروح الجماعیة. سادسهما: اذا کان للتحلیل النسائی تأثیر بسیط على السیاسة الدولیة لاسیما الجوانب الامنیة والاستراتیجیة فإن ذلک یرجع الى إغفال متغیر النوع فی هذه الدراسات”([١١]).

      وعلیه یُمکن تلمس الابعاد الأمنیة غیر التقلیدیة فی النظریة النسویة من خلال الدعوة الى إشراک النساء فی عملیة تشخیص التحدیات التی تواجه العالم لاسیما التحدیات الامنیة غیر التقلیدیة والدعوة الى إشراکهن فی عملیة صناعة القرار وتنفیذه، وعدم الاقتصار فی ذلک على الرجال الذین استبعدوهن من عملیة صناعة القرار الدولی لمدة طویلة من الزمن.

       اذ أن “تحقیق الامن والسلام لا یمکن فصلة عن التغلب على العلاقات الاجتماعیة غیر العادلة، بما فی ذلک العلاقات غیر المتکافئة بین النوع الاجتماعی فی مجالات عملیة صنع القرار وتنفیذه”([١٢]).

      کما ان الاستمرار فی تبنی الرؤى لاسیما النظریة الواقعیة ذات الطابع الذکوری واستبعاد الرؤى والافکار السیاسیة والأمنیة النسویة وفق النظریة النسویة أدى وسیؤدی وفق وجهة نظر مُریدیها الى تقویض الأمن الدولی، وعلیه لابد من تغییر المدرکات بالشکل الذی یتلاءم مع طبیعة التحدیات الأمنیة العالمیة غیر التقلیدیة فی القرن الواحد والعشرین.

المبحث الثانی: مداخل تجذیر المقاربات الفکریة الأمنیة للنظریة النسویة

     قاد تغییر البیئة الدولیة الى تغیّر المفاهیم والمدرکات لدى الشعوب سواء أکان ذلک بالترغیب أم الترهیب. إذ أن تفکک المنظومة الشیوعیة دفع المنظومة اللیبرالیة الغربیة للهیمنة على عقول وتفکیر الشعوب الأخرى نتیجة مدیات الحریة التی تکتنفها بفعل فقدانها فی الکثیر من المقاربات الفکریة الأخرى، من هنا أصبحت مسألة تمکین المرأة وتعزیز دور النساء فی الشؤون العامة وتفعیل دورهن فی السیاسة أحد ملامح القرن الواحد والعشرین.

      وبما ان الأمن یتسم بالتغییر، فإن ادراکه یتبدل بتبدل البیئة والفواعل المتفاعلة فیها. لم یعد الامن التقلیدی هو الحاکم للعملیات الامنیة للمجتمعات. والأمن المجتمعی أدخل مقاربات متعددة أهمها دور الفرد فی الأمن. من هنا تمثل النساء فاعلاً من الفواعل التی یُعتمد علیها فی عملیة تجذیر الأمن فی المجتمعات، ولکن تختلف باختلاف المجتمعات والدول والانماط الفکریة السائدة فیها.

     هل المقاربات الدینیة عامل تراجع أم عامل تحفیز؟ هل التیارات والحرکات الاجتماعیة تدرک اهمیة المرأة فی المقاربات والآلیات الامنیة؟ أم انها شکلیة؟ هل ان تعزیز دور المرأة فی المجتمع یقود الى تعزیز الأمن فیه؟ هل تغییر المفاهیم یؤدی الى تغییر مکانة المرأة فی المجتمع ومن ثم یؤدی الى تعزیز الامن کما هو الحال فی الدول الغربیة؟

     ونتیجة هذه الطروحات الفکریة بدأت عملیة انغماس النساء فی السیاسة مع انبلاج فجر القرن الواحد والعشرین، بل هناک ثورة بهدف إشراکهن فی عملیات صنع القرار بمستویاته المختلفة، فضلاً عن تفعیل دور المنظمات والمؤسسات الاقلیمیة والدولیة ومؤسسات المجتمع المدنی.

       من خلال ما تقدم، یمکن تحدید مداخل تجذیر المقاربات الفکریة الامنیة للنظریة النسویة فی المطالب الآتیة:

المطلب الاول: البرامج العالمیة للمنظمات الدولیة

       تعتمد فاعلیة الفکر على مدى قدرته على النفاذ الى الفکر الاستراتیجی للدول والمنظمات الدولیة، فالأفکار التی تؤیدها الدول ذات التأثیر الفاعل فی المجتمع الدولی تأخذ طریقها الى التطبیق، وتوفر لها الموارد والامکانیات اللازمة التی تنتقل بها من حیز الفکر الى مجال التطبیق.

       وانطلاقاً من أن الافکار تحتاج الى الیات لتطبیقها، فان المنظمات الاقلیمیة والدولیة أبتکرت مجموعة من البرامج والآلیات واتخذت مجموعة من القرارات التی تهدف الى تجذیر واستنبات مقتربات النظریة النسویة والعمل على تمکین النساء فی الشؤون العامة على المستوى المحلی والاقلیمی والدولی، وفی مختلف الجوانب.      

       وبهدف ترسیخ ذلک، تبنت الامم المتحدة عولمة قضایا النوع الاجتماعی فی أجندتها، وأصدرت العدید من القرارات سواء أکانت من الجمعیة العامة أم مجلس الامن* التی تؤکد على دور النوع الاجتماعی فی استنبات الامن من خلال ربط  المتغیرات الثلاث: المرأة والامن والسلام لاسیما فی القرار ذی الرقم ١٣٢٥ فی٣٠/١٠/٢٠٠٠([١٣])، وتم تشکیل لجان وتبنی الاعلانات وعقد المؤتمرات. لعل من أهمها على سبیل المثال لا الحصر “اعلان الجمعیة العامة للأمم المتحدة حول ازالة العنف ضد المرأة“([١٤])، لا بل ان مجلس الامن أصدر العدید من القرارات المتعلقة بهذا الشأن.

      فضلاً عن صدور “اتفاقیة الأمم المتحدة المعنیة بإزالة جمیع اشکال التمییز ضد المرأة، دخلت حیز التطبیق بتاریخ ٣/٩/١٩٨١ بعد أن أقرتها الجمعیة العامة للأمم المتحدة بتاریخ: ١٨/١١/١٩٧٩، وحددت بشکل دقیق المجالات العلمیة للحقوق السیاسیة للمرأة ونادت بضرورة کفالة المساواة مع الرجل فی المجالات الآتیة: أولاً: التصویت فی الانتخابات والاستفتاءات العامة، ثانیاً: المشارکة فی صیاغة السیاسات وتنفیذها، ثالثاً: الاهلیة للترشح، رابعاً: شغل الوظائف العامة على جمیع المستویات الحکومیة، خامساً: المشارکة فی المنظمات والجمعیات الحکومیة، سادساً: تمثیل الحکومة على المستوى الدولی، سابعاً: المشارکة فی المنظمات الدولیة”([١٥]).

       کما “ظهرت مجموعة من المفاهیم المتعلقة بتعزیز دور المرأة وتم تضمینها فی الوثائق والصکوک الدولیة لعل من أهمها “التمکین” الذی یعنی مزیداً من القوة للمرأة وایصال صوتها”([١٦])، والقدرة على “اتخاذ القرارات فی المستویات جمیعها، والحصول على الاعتراف الکامل، وتمکینها من القیام بنشاطات مشترکة مع الآخرین لإحداث التغییر، وکل ذلک یتم من خلال ازالة العملیات کافة والاتجاهات والسلوکیات النمطیة فی المجتمع والمؤسسات التی تعمل على تنمیط سلوک الفئات المهمشة لاسیما النساء والفقراء والاقلیات”([١٧])

      تکثیفاً لما تقدم من تأصیل، تعد المنظمات الدولیة والبرامج التی تقدمها فی مجال تطبیق مقاربات النوع الاجتماعی أحد المداخل التی تسهم فی نشرها فی مختلف قارات العالم، لا بل تعظیم ایغال النساء فی مراکز صنع القرار سواء على المستوى المجتمعات المحلیة والوحدات الاداریة، أم فی مستویات صنع القرار فی المجالات المختلفة، والامر ذاته ینطبق على مستویات صنع القرار الدولی ومراکز القیادة فی المؤسسات والمنظمات الدولیة.

المطلب الثانی: الرؤیة العالمیة لمؤسسات المجتمع المدنی الدولیة

       تعد مؤسسات المجتمع المدنی سواء أکانت محلیة أم اقلیمیة أم دولیة، أم تخصصیة فی مجالات حقوق الانسان، البیئة، أحد مداخل تجذیر المقاربات الفکریة للنظریة النسویة، اذ تمارس دوراً فاعلاً فی عملیة تغییر الانماط الفکریة للمجتمعات، وهذا متأتی من ان انشطتها تُقدم للأفراد فی إطار الاقناع العقلی والمنطقی.

اذ شهد العالم مع تغییر البیئة الدولیة وزیادة التواصل بین دول العالم تشکیل العدید من مؤسسات المجتمع المدنی التی لها فروع فی دول عدیدة. ومن الادلة على ذلک” یُشیر مرکز المجتمع المدنی التابع لکلیة لندن للاقتصاد إلى أن عدد المنظمات غیر الحکومیة المُسجلة رسمیاً فقط حول العالم قد ازداد من (٦٠٠٠) عام١٩٩٠ الى ما یزید على (٥٠٠٠٠) عام ٢٠٠٦، و(٩٠٠٠٠٠) بحلول عام ٢٠١٢”([١٨]). بمعنى ان هنالک ثورة باتجاه ایجابیة تشکیل هذه المؤسسات التی تعمل على تغییر الوعی الجمعی فی المجتمعات التی ترغب هذه المؤسسات فی تغییر سلوکیاتها.  

       کما انها تعمل على التعرف على المجتمعات بمختلف تفاصیلها من حیث العادات والتقالید والمستویات الثقافیة والفکریة ومعاییر ومستویات المعیشة والدیانة، والتعرف على العوائق التی تواجه عملیة تفعیل دور النوع الاجتماعی، ومن ثم الایغال فی عملیة تشیید البیئة الاستراتیجیة المستقبلیة وفق مفاهیم النظریة النسویة.

      فضلاً عن ذلک، استنبات المفاهیم التی ترى بأن النساء لدیهن القدرة على استئصال النزاعات من خلال استخدام معاییر ما بعد الحداثة، اذ تعمل منظمات المجتمع المدنی ذات الامتداد متعدد المستویات على تغییر الانماط الفکریة لمختلف الفئات العمریة، واعادة تشکیل البنیة المجتمعیة وجعلها تتقبل هذه الافکار وتعمل على تطبیقها.

      ویتجسد الدور الفاعل لمؤسسات المجتمع المدنی فی اشتغالها على تغییر الانماط الفکریة فی مرحلة ما بعد الصراعات. فکلما زادت مشارکة النساء فی وضع الحلول السابقة واللاحقة للصراعات کان ذلک أکثر فاعلیة على تحقیق السلام والاستقرار فی العالم.

      من هنا بدأت عملیة تشیید البیئة العالمیة وفق وجهة نظر مریدیها، وتتمثل قدراتها بأن لدیها البنى الفکریة والمادیة التی تسهل عملها فی المجتمعات ومخاطبة العقول، فضلاً عن الدول الداعمة لها، وبذلک أصبحت عملیة تمکین المرأة أحد المداخل والادوات التی تُسهم فی غرس مفاهیم النظریة النسویة.

المطلب الثالث: رؤیة الفاعل الرئیس “الدولة” لماهیة تکمین المرأة فی العالم

        لم یکن علم الدولة یساوی بین الرجال والنساء لمدة طویلة من الزمن. وکما ان تشکل الدولة وصیرورتها یختلف باختلاف المجتمعات المُشکلة لها، فان الرؤیة تجاه النساء ومکانتها فی المجتمع تختلف باختلاف الدول. وعملیة اشراک النساء فی إدارة الشؤون العامة، وعملیات صنع القرار الخارجی والداخلی تختلف باختلاف المنظومات القیمیة التی تؤمن بها غالبیة المجتمع.

       مما لا شک فیه، فان المُدد الزمنیة التی مرت بها عملیة صیرورة “تمکین المرأة” فی صناعة القرار تختلف باختلاف المجتمعات والدول، لا بل حتى فی المناطق الجغرافیة. فالدول التی فی اوروبا وامریکا الشمالیة تختلف عن الدول فی آسیا، وافریقیا وامریکا اللاتینیة. کما ان المجتمعات التی تبنت المذهب اللیبرالی تختلف عن المجتمعات التی تبنت المذهب الاشتراکی سیما المفاهیم والمسلمات الاساسیة فی دور الدولة وحریة الافراد وغیرها.

      وبما ان اللیبرالیة هی المذهب الذی ساد بعد الحرب الباردة والقرن الواحد والعشرین، فإنها بدأت فی ایغال مفاهیمها سیما مکانة المرأة فی الفکر اللیبرالی. اذ تعد مساواة المرأة مع الرجل فی جمیع النواحی أحد رکائز هذا الفکر.

      من هنا بدأت الدول الغربیة فی العمل على فتح المجال أمام المرأة واصدار التشریعات اللازمة بهدف تحقیق المشارکة الفعالة للنساء فی ادارة الشؤون العامة. وأصبحت النساء فی العالم الغربی تتقلد مناصب علیا فی الدول فی مختلف المجالات السیاسیة والدفاعیة والاقتصادیة، وأصبحت مسألة تمکین المرأة أحد المسلمات فی إدارة الدول والمؤسسات فی العالم الغربی.

      بالمقابل، لم تعد هذه الدول تکتفی بتجذیر دور المرأة فی مجتمعاتها، وانما تعمل بفعل خبرتها ورؤیتها لما ینبغی ان یکون علیه العالم بالعمل على زیادة عدد النساء فی مراکز اصدار التشریعات والقوانین فی الدول الاخرى، ومن ثم إصدار العدید من التقاریر التی تقیم عملیة مشارکة النساء فی عملیة صنع القرارات وتنفیذها انطلاقاً من مبدأ یتمثل فی ان القرارات العقلانیة لا تقتصر على الرجال دون النساء، وهی مسألة لا تخضع للانطباعات وانما تخضع للتحلیل العلمی والموضوعی سیما أغلب قرارات الحرب فی التفاعل الدولی اتخذها الرجال ولیس النساء.

      وبفعل التحولات التی شهدتها الانظمة السیاسیة فی العالم سیما فی اوروبا الشرقیة بعد تفکک الاتحاد السوفیتی، والعالم العربی فی القرن الواحد والعشرین، ونتیجة الفراغ الذی تجسد بعد ذلک، شهدت عملیة فرض الانموذج الغربی بوصفها الانموذج الامثل للحکم؛ لأنها تعتمد على قاعدة مساواة بین الرجل والمرأة، زیادة کبیرة فی عملیة ایغال النساء فی ادارة الصراعات لأنهن یمُلنّ الى السلام أکثر من الرجال وفق فهم وادارک الفلسفة الغربیة.

المبحث الثالث: مقاربات الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والسلام والأمن

       جاءت النظریة النسویة لتقدم تصوراً لمتغیر فاعل فی تشیید البیئة الامنیة للمجتمعات، وافتراضاتها القائلة بأن النساء أکثر میلاً الى السلام وتحقیق الأمن من الرجل، وإذا کان الرجال قد عملوا على استبعاد النساء من المقاربات الامنیة، فانه اصبحت الحاجة حتمیة فی تمکین النساء فی عملیة صیاغة المقاربات الامنیة، ولا جدال فی إن الذی یضع الافکار سیعمل على تنفیذها، وسیکون هنالک تکامل فی الافکار والتطبیق لما ینبغی أن یکون علیة عالم یسوده الاستقرار والأمن.   

    إنّ الدول التی عملت على مأسسة عملها، تعمل على جذب الافکار التی تعزز من قدراتها ذاتیاً وموضوعیاً فی البیئة الاستراتیجیة الدولیة، ویُجهد مفکروها ومؤسساتها على إعداد الاستراتیجیات التی تتضمن هذه الافکار، والعمل على ابتکار الآلیات المرنة التی تضمن تطبیق الافکار الواردة فی الاستراتیجیة وفق مدد زمنیة محددة. من هنا عملت الولایات المتحدة الامریکیة على تبنیالاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والسلام والامن فی عام ٢٠١٩، بوصفها عاملاً من عوامل تحقیق الامن والاستقرار فی العالم. ونبین ذلک عبر المطالب الآتیة:

المطلب الاول: المقاربات الفکریة للاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والسلام والامن

      لقد تبنت الولایات المتحدة الامریکیةفی(حزیران/٢٠١٩) استراتیجیة وسمت بـ (الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والسلام والامن).

        تکونت الاستراتیجیة المذکورة من المقدمة، والتحدی الاستراتیجی، ونظریة التغییر: الاستراتیجیة القومیة عن المرأة والسلام والامن، والمصفوفات والاهداف، والتمویل وتقدیم التقاریر.

      ترتکز ماهیة المقدمة للاستراتیجیة على الآتی: “هذا هو التشریع الأول من نوعه على مستوى العالم، والذی یجعل الولایات المتحدة أول دولة فی العالم لدیها قانون شامل بشأن هذه الاستراتیجیة. تُقر الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والسلام والامن بالأدوار المتنوعة التی تؤدیها النساء کفواعل للتغییر فی منع وحل النزاعات، ومکافحة الإرهاب والتطرف العنیف، وبناء السلام والاستقرار بعد الصراع. تسعى هذه الاستراتیجیة إلى زیادة القیادة الهادفة للمرأة فی الحیاة السیاسیة والمدنیة من خلال المساعدة على ضمان تمکینها لکی تکون قادرة على القیادة والمساهمة، وتزویدها بالمهارات والدعم اللازمین لتحقیق النجاح، ودعمها للمشارکة من خلال الوصول إلى الفرص والموارد”([١٩]).

      بعد ذلک تنتقل مکنونة الوثیقة حول المرأة الى ” التحدی الاستراتیجی” وتبدأ بوصف البیئة الاستراتیجیة. وتتضمن الآتی: “تؤثر النزاعات والکوارث فی جمیع أنحاء العالم تأثیراً سلبیاً وغیر ملائم على النساء والفتیات، ومع ذلک یبقى تمثیل النساء ضعیفاً فی الجهود المبذولة لمنع نشوب النزاعات وحلها، وفی جهود بناء السلام أو الانتعاش بعد انتهاء الصراع. أظهرت الأبحاث بأنه من المحتمل أن تنجح مفاوضات السلام، وتؤدی إلى الاستقرار الدائم، عند مشارکة المرأة. إن العوائق التی تحول دون مشارکة المرأة عدّة، وتشمل التمثیل الضعیف فی القیادة السیاسیة، والعنف السائد ضد النساء والفتیات، وعدم المساواة المستمرة فی العدید من المجتمعات”([٢٠]).

      وفی جوهرها، “تقر الاستراتیجیة القومیة عن المرأة والسلام والامن المزایا الناشئة من خلق الفرص للنساء والفتیات للعمل کعناصر للسلام من خلال التمکین السیاسی والاقتصادی والاجتماعی. لذلک تهدف الاستراتیجیة إلى إحراز تقدم ملموس فی جمیع أنحاء العالم لتمکین المرأة فی منع الصراع وبناء السلام، مع السعی إلى تصحیح الآثار السیئة غیر المتناسبة للنزاع المسلح على النساء والفتیات. تتبنى الولایات المتحدة هذه المفاهیم وتعترف بالدور القوی الذی یمکن أن تؤدیه المرأة بوصفها صانعة للسلام وفاعلاً سیاسیاً فی المجتمعات التی تمر بمرحلة انتقالیة من الصراع وباتجاه تحقیق السلام؛ لذلک من الأهمیة بمکان أن تشکل الجهود المستمرة التی تبذلها الولایات المتحدة للانخراط فی منع وتخفیف حدة الصراع فی جمیع أنحاء العالم عاملاً استراتیجیاً فی مشارکة النساء ووجهات نظرهن ومصالحهن، بما فی ذلک النساء المنتمیات إلى المجموعات التی لیس لها تمثیل کافی”([٢١]).

        تعرف الاستراتیجیة الامریکیة حول المرأة والأمن والسلام تمکین المرأة بانه: “یمکن للمرأة أن تشارک بشکل هادف فی منع، والتوسط، وحل الصراعات، ومکافحة الإرهاب، بالشکل الذی یسهم فی تعزیز الاستقرار والسلام الدائم، بما فی ذلک فی المناطق المتأثرة بالصراع. للعمل على تحقیق هذه الغایة النهائیة، تحدد الاستراتیجیة الامریکیة حول المرأة والسلام والامن ثلاثة أهداف استراتیجیة منفصلة من حیث التقسیم ولکنها مترابطة من حیث الافکار، یجب العمل على تحقیقها. تبغی هذه الأهداف الاستراتیجیة إلى إحراز تقدم ملموس بحلول عام ٢٠٢٣، وتتمثل هذه الاهداف فی الآتی”([٢٢]):

١-  النساء أکثر استعدادًا وقدرة على المشارکة بشکل متزاید فی الجهود التی تعزز الاستقرار والسلام الدائم.

٢-  نساء وفتیات أکثر أمناً وحمایة أفضل ویتمتعن بالمساواة فی الوصول إلى برامج المساعدة الحکومیة والخاصة، سیما من الولایات المتحدة والشرکاء الدولیین والدول المضیفة.

٣-  تعمل الولایات المتحدة والحکومات الشریکة على تحسین الطابع المؤسسی والقدرة على ضمان أن تکون جهود الاستراتیجیة الامریکیة حول المرأة والامن والسلام مستدامة وطویلة الأمد.

      تحدد الاستراتیجیة الامریکیة حول المرأة والسلام والأمن أیضًا أربع مسارات للجهد، وهی الطرق المنفصلة والمترابطة فکریاً لمزامنة إجراءات الولایات المتحدة وتحدید أولویاتها لتحقیق الأهداف الاستراتیجیة. والأهم من ذلک سترکز الإجراءات(المهام) المنجزة فی کل مجال من مجالات الجهد على تحسین تمکین المرأة ومساواتها فی مرحلة أو أکثر من مراحل الصراع: منع الصراع والاستعداد للکوارث، إدارة وتخفیف وحل النزاعات والأزمات؛ وجهود ما بعد الصراع والأزمة سیما فی جهود الإغاثة والإنعاش. یمکن ترکیز هذه المسارات فی الآتی([٢٣]):

مسار الجهد رقم (١): البحث عن، ودعم الإعداد والمشارکة الفعالة للمرأة فی جمیع أنحاء العالم فی عملیات صنع القرار المتعلقة بالصراع والأزمات. ویکمن هدفه فی: زیادة المشارکة الحقیقیة للمرأة فی العملیات السیاسیة والمدنیة والعسکریة لمنع نشوب النزاعات وحلها، والاستعداد للکوارث، وتهیئة الظروف للاستقرار من خلال جهود ما بعد الصراع، وما بعد الأزمة. یمکن أن تشمل الأنشطة التوضیحیة الداعمة للهدف أعلاه ما یأتی: (اولاً: تشجیع المشارکة المتزایدة والهادفة للمرأة فی مبادرات قطاع الأمن التی تمولها حکومة الولایات المتحدة، بما فی ذلک البرامج التی توفر التدریب للمواطنین الأجانب فیما یتعلق بإنفاذ القانون وسیادة القانون والتعلیم العسکری المهنی. ویجب على الدورات التعلیمیة التی تجتذب تاریخیا الطلاب الدولیین من الذکور فقط من بعض البلدان أو المناطق النظر فی طرق لتحفیز إدراج النساء أیضًا، ثانیاً: دمج رؤى ومصالح المرأة فی أنشطة واستراتیجیات منع نشوب الصراعات وحلها وانشطة بناء السلام فی مرحلة ما بعد الصراع، بما فی ذلک النساء من المجموعات التی لیس لها تمثیل حقیقی، من خلال التشاور مع القیادات النسائیة المحلیة بخصوص تصمیم مبادرات الولایات المتحدة وتنفیذها وتقییمها، ثالثاً: تشجیع إشراک القیادات النسائیة والمنظمات النسائیة فی منع نشوب الصراعات وحلها، وفی جهود بناء السلام بعد انتهاء الصراع. بما فی ذلک من خلال الدعم الذی یعزز مشارکتهن السیاسیة وتمکینهن وقدراتهن ومصداقیتهن. رابعاً: استخدام التحلیلات والمؤشرات ذات الصلة، بما فی ذلک جمع البیانات المصنفة حسب النوع الاجتماعی، لتحدید ومعالجة العوائق التی تحول دون المشارکة الفعالة للمرأة فی منع نشوب النزاعات وحلها، وفی جهود وبرامج بناء السلام بعد انتهاء الصراع، بما فی ذلک نظم الإنذار المبکر المتعلقة بالصراع والعنف.

مسار الجهد رقم(٢): تعزیز حمایة حقوق الإنسان للنساء والفتیات؛ والحصول على المساعدة الإنسانیة؛ والسلامة من العنف والإیذاء والاستغلال فی جمیع أنحاء العالم. ویکمن هدفه فی الآتی: تتم حمایة أمن النساء والفتیات وحقوقهن واحتیاجاتهن من قبل حکوماتهن، مع توسیع قوات قطاع الأمن الاقلیمی او الأخرى، یتمکن من المساهمة بشکل مفید محلیاً ووطنیاً وعالمیاً. یمکن أن تشمل الأنشطة التوضیحیة الداعمة للهدف أعلاه فی الآتی: (اولاً: تحدید وتقلیل العقبات أو الحواجز التی لم یتم تدوینها فی القواعد أو اللوائح الرسمیة،  ولکن مع ذلک تعکس التمییز القائم على الجنس أو التحیز القائم على الجنس أو عدم الاعتراف بحقوق المرأة، ثانیاً: معالجة استخدام العنف أو التخویف أو المضایقة التی تهدف الى منع النساء من المشارکة فی صنع القرار أو العملیات السیاسیة أو الدبلوماسیة أو العسکریة ذات الصلة، ثالثاً: تشجیع أنظمة إنفاذ القانون والقضاء المحلی فی الدول على معالجة العنف ضد النساء والفتیات بشکل مناسب، لأنه جزء من عملیات ومبادرات العدالة الانتقالیة.

مسار الجهد رقم(٣): تعدیل البرامج الدولیة للولایات المتحدة لتحسین النتائج فی مجال المساواة للمرأة وتمکینها. ویکمن هدفه فی الآتی: تحتفظ الولایات المتحدة بوصفها رائداً على الساحة العالمیة فی تعزیز المشارکة الفعالة للمرأة فی منع وإدارة وحل النزاعات، والجهود المبذولة فی مجال الإغاثة والإنعاش بعد انتهاء الصراع. یمکن أن تشمل الأنشطة التوضیحیة الداعمة للهدف أعلاه فی الآتی: (اولاً: تدریب موظفی الولایات المتحدة الدبلوماسیین والعسکریین والإنمائیین، على احتیاجات ووجهات نظر النساء فی منع الصراع والتوسط فیه وحله. ثانیاً: دعم البحث وتقییم الاستراتیجیات الفعالة وتطویر وتبادل أفضل الممارسات لضمان المشارکة الفعالة للمرأة، بما فی ذلک التبادلات مع الشرکاء الدولیین. ثالثاً: توسیع وتطبیق التحلیل القائم على اساس النوع الاجتماعی، لتحسین تصمیم برامج حکومة الولایات المتحدة. رابعاً: إجراء تقییمات للمبادرات الجدیدة، بما فی ذلک وجهات نظر النساء المتضررات، سیما النساء من المجموعات التی لیس لدیها تمثیل حقیقی.

مسار الجهد رقم(٤): تشجیع الحکومات الشریکة على تبنی سیاسات وخطط وقدرة على تحسین المشارکة الفعالة للمرأة فی العملیات المرتبطة بالسلام والأمن ومؤسسات صنع القرار. ویکمن هدفه فی الآتی: تقوم الحکومات الشریکة بإصلاح السیاسات والبرامج والخطط الرامیة إلى زیادة مشارکة المرأة الفعالة فی العملیات المرتبطة بالسلام والأمن ومؤسسات صنع القرار. یمکن أن تشمل الأنشطة التوضیحیة الداعمة للهدف أعلاه فی الآتی: (اولاً: معالجة حواجز الدولة المضیفة التی تمارس التمییز ضد المشارکة الفعالة للمرأة. ویشمل ذلک تشجیع الحکومات الشریکة على مراجعة القوانین والقواعد واللوائح الرسمیة التی تحرم المرأة من المشارکة المتساویة فی جمیع مراحل النزاع وحل الأزمات، ودعم التنفیذ الفعال للقوانین والقواعد واللوائح التی تشجع المرأة على المشارکة على قدم المساواة فی جمیع مراحل حل النزاعات والأزمات والتصدی لها، واعتماد خطط لتحسین المشارکة الفعالة للمرأة فی العملیات المرتبطة بمؤسسات السلام والأمن وصنع القرار. ثانیاً: مساعدة الحکومات الشریکة على زیادة فرصة المرأة للعمل فی قوات قطاع الأمن، بما فی ذلک حفظ السلام والمنظمات العسکریة وإنفاذ القانون. ثالثاً: الدعم والتنسیق مع البلدان الأخرى لتحسین المشارکة الفعالة للمرأة فی العملیات المرتبطة بالسلام والأمن، وقبل النزاع، وبناء السلام، والعدالة الانتقالیة، ومؤسسات صنع القرار. رابعاً: التشاور مع الحکومات المضیفة والمنظمات غیر الحکومیة لتقلیل الحواجز التی تعترض المرأة وتعزیز مشارکتها الفعالة فی المجالات الاقتصادیة والسیاسیة والأمنیة، بما فی ذلک إشراک الرجال والفتیان فی دعم المساواة للمرأة. خامساً: تعزیز القیم الأمریکیة للحریة الفردیة والحریة الدینیة والمساواة فی المعاملة بموجب القانون فی مشارکتنا مع الدول الأخرى لتنفیذ هذه الاستراتیجیة.

      تجذیراً لما تقدم، یؤکد الاستکشاف الشامل لماهیة مضامین الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والامن والسلام بأن هنالک مجموعة من الرؤى بعیدة الامد، تسعى هذه الرؤى الى تحقیق الاهداف الاستراتیجیة العلیا فی مجال العلاقة ثلاثیة الابعاد: المرأة والسلام والامن.

      تتمثل أولى هذه المرتکزات فی تقدیم رؤى عالمیة لما ینبغی ان یکون علیه دور المرأة فی العالم، وجعل الدول الاخرى راغبةً أم مُکرهة على تبنی هذه الافکار، فالدول التی ستعمل على وفق هذا السیاق الفکری ستنال الدعم المادی والمعنوی، وفی حالة العکس، تتعرض لمجموعة من الاجراءات التی تشکل عبءً على ممارستها وادائها فی المجتمع الدولی.

    بینما تتمثل ثانیهما فی العمل على تشکیل مجموعة من الآلیات العالمیة بالصورة التی تسهم فی تجذیر مقارباتها الفکریة المتضمنة فی هذه الاستراتیجیة، منها البرامج التی تؤسسها المنظمات الدولیة ومنظمات المجتمع المدنی ذات التوجهات التی تماثل جوهر الاستراتیجیة.

      وتتجسد الثالثة فی ان المقاربات الفکریة للنظریة النسویة والرؤى الناتجة عنها سیما المتمثلة فی العلاقة بین المرأة والامن والسلام، أحد الحقائق الثابتة فی القرن الواحد والعشرین، وتحتم الضرورات العمل على توفیر الدعم المادی والمعنوی لها، وعلى القیادات فی مختلف الدول تبنی هذه التوجهات، وتحویلها من مصلحة علیا الى أهداف علیا من خلال غرس ایجابیات هذه الماهیات فی عقولهم.

     ویتجذر المرتکز الرابع فی حتمیة العمل على إعادة هیکلة بناء السلام والامن العالمی وفق رؤیة النوع الاجتماعی، وان المقاربات الفکریة التی ترى بان الرجال اکثر قدرة على ادارة الشؤون الدولیة تراجعت نتیجة تغییر وتغیّر الانماط الفکریة السائدة فی المجتمع الدولی.

المطلب الثانی: دلالات تطبیق مقاربات الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والسلام والامن

       الدول التی لدیها رؤیة عالمیة لما ینبغی ان یکون علیه العالم، تعمل على استجلاب الافکار من مختلف المشارب المجتمعیة، وتخضعها للتحلیل والتجریب والمقارنة، وتوظیف ما تراه یخدم مصالحها الاستراتیجیة العلیا.

       وفق ما تقدم، عملت الولایات المتحدة على توظیف المقاربات الفکریة الامنیة للنظریات النسویة فی وثائق ذات صیغة استراتیجیة، واصدرتها على شکل وثیقة رسمیة تضمنت رؤیتها لعلاقة الارتباط بین المرأة والسلام والامن.

       وتوظیفاً لما ورد من مقاربات تم تضمینها، واستراتیجیة تم تبنیها، عملت على ابتکار مجموعة من الآلیات الى تعمل على استنبات ماهیتها فی المجتمعات الاخرى بهدف تحقیق الامن والسلام العالمی وفق المنطق الامریکی. وهذه الدلالات هی:

اولاً: زیادة نسبة مشارکة النساء فی ادارة الشؤون العامة فی الدول الاخرى

      لم تکن المرأة ذات وجود فی الشؤون العامة لمدة طویلة من الزمن، والسبب فی ذلک ذاتی وموضوعی. ذاتی بفعل غیاب الوعی السیاسی والبقاء فی حالة الانکفاء على الذات، وموضوعی نتیجة البیئة غیر المؤاتیة لذلک.

      ولکن تغییر الانماط الفکریة لدى الشعوب نتیجة التقدم فی تکنولوجیا المعلومات والاتصالات ووسائل التواصل المجتمعی، وایصال الافکار الى المجتمعات التی لا تتفاعل معها وتقدیم الحجج والبراهین التی تخضع لمنطق العقل وفق وجهة نظر مؤیدیها، قاد الى التفاعل مع مقاربات النظریة النسویة، وبدأ المفکرون والمثقفون وقادة الرأی بمناقشة هذه الافکار والتفاعل معها ایجاباً وسلباً.

        لم تکن هذه الافکار فی حدود الاطر الثقافیة العامة، وانما بدأت الانظمة السیاسیة فی مختلف دول العالم العمل على تحقیقها بوصفها حقیقة ینبغی العمل على تنفیذها. قاد ذلک الى سنّ مجموعة من التشریعات التی تحاکی مقتربات النظریة النسویة، وأصبحت المشارکة السیاسیة للنساء فی العملیة الانتخابیة أحد رکائز تقدم وحداثة الانظمة السیاسیة فی القرن الواحد والعشرین.

     فبدأت الدول فی عملیة الایغال فی هذا المسار، وأصبحت ترتکز على مقاربة مهمة تتمثل فی انه کلما زاد عدد النساء فی عملیة المشارکة فی صنع القرارات وتنفیذها فی النظام السیاسی القائم، قاد ذلک الى زیادة مصداقیته أمام الرأی العام العالمی، والدول ذات التأثیر الدولی والتی تتبنى هذه التوجهات بوصفها جزءً من رسالتها وقیمها العالمیة. وخیر دلیل على ما تقدم، بدأت الانظمة السیاسیة فی مراحل التحول السیاسی بوضع نسبة للنساء من عدد المقاعد فی السلطة التشریعیة والمجالس المحلیة.

      لم تعد عملیة تجذیر هذه المفاهیم الفکریة سطحیة، وانما اخذت الجانب الإحصائی. وبدأت مراکز الدراسات والبحوث العالمیة تجری دراسات علمیة عن مستویات مشارکة النساء فی مؤسسات الانظمة السیاسیة فی مختلف دول العالم، وتعمل على اصدار تقاریر دوریة عن مدى تقدم وتراجع نسبة مشارکة النساء فی النظم السیاسیة فی مختلف قارات العالم، لا بل اصبحت معاییر زیادة نسبة اعداد النساء فی المؤسسات التشریعیة والتنفیذیة عامل فاعلیة للنظام السیاسی للدولة.

 ثانیاً: البرامج الدولیة لتمکین المرأة

     لم تعد المقاربات الفکریة للنوع الاجتماعی ذات إطار نظری فقط، وانما انتقلت بها الدول التی تؤمن بها والمنظمات الدولیة ومنظمات المجتمع المدنی الى مرحلة أُخرى هی وضع الآلیات سیما تشیید مجموعة من البرامج التی تحاکی التغییر فی المفاهیم والمسلمات الاساسیة، والمتصلة بدور النوع الاجتماعی فی کل جانب من جوانب الأمن غیر التقلیدی.

      ورغم ان اختلاف المجتمعات یؤدی الى اختلاف السلوکیات، واختلاف الرؤیة حول دور الدین وما یترتب على ذلک من سلوکیات تدعم او تحد من دور النساء، فضلاً عن البیئة التی تنشا فیها النساء، والتکوین الجسدی، کل ما تقدم هو موضع مناقشة وتحلیل من قبل مریدی النظریة النسویة عبر البرامج التی تستهدف تمکین المرأة.

       ومن هذه البرامج برنامج الامم المتحدة للمرأة، برامج تمکین المرأة، وبرامج حریة المرأة، وبرامج قیادة النساء. وتهدف هذه البرامج الى العمل على تغییر العقول لدى الرجال والنساء بمختلف فئاتهم العمریة من خلال ادخالهم فی مجموعة من الدورات وورش العمل وتغذیتهم فکریاً على ان العالم سیکون أکثر امناً ویسوده السلام کلما زادت مشارکة النساء فی معالجة التحدیات الامنیة العالمیة.

ثالثاً: التثقیف الاعلامی والجماهیری لدور النساء فی المجتمع

      یعد الاعلام وحریته نتاج الثورة الفکریة السائدة وانماطها المعبرة عن اللیبرالیة بوصفها الشکل الذی هیمن على عقول الشعوب فی القرن الواحد والعشرین نتیجة امتلاکها مقومات القوة الشاملة واهمها القوة التکنو-معلوماتیة. وبما ان الاعلام هو أحد ادوات اللیبرالیة، فانه عمل على تجذیر المقاربات الفکریة للیبرالیة بشکل عام، والنظریة النسویة التی تستند الى دور المرأة فی المجتمع بشکل خاص. فأصبحت محطات الاذاعة والتلفزة تغذی عقول المجتمعات بالأفکار التی تعمل على تقدیم النساء على انهن یمتلکن من الامکانیات والقدرات القیادیة التی تماثل او تعادل قدرات الرجال فی الحکم، لا بل تتجاوز امکانیات الرجال سیما فی انهن أکثر میلاً إلى تحقیق السلام فی العالم.

رابعاً: تقدیم النساء الرائدات بوصفهن انموذجاً فاعلاً فی القیادة

      عملت المراکز البحثیة والجامعات والمؤسسات التعلیمیة على استکشاف المواهب والشخصیات النسائیة القیادیة ودعمها من خلال تغذیتهن بالأفکار التی تتناسب مع البیئة الدولیة الجدیدة سیما فی مجالات تعزیز دور النوع الاجتماعی فی ادارة الصراع فی جمیع مراحله وعدم اقتصار ذلک على الرجال، وتعزیز الرؤیة العامة من ان النساء إحدى الرکائز الفاعلة فی تشیید البیئة الامنیة فی العالم، وتشجیع دورهن فی جمیع الدول.

      بمعنى العمل على صناعة قیادات نسائیة یمتلکن المؤهلات والخبرات اللازمة وتقدیم الدعم المادی من خلال الدورات وورش العمل والدورات التدریبیة، والمعنویة من خلال حملات التشجیع والتغطیة الاعلامیة بهدف تعظیم الثقة لدیهن وتحویلهن الى موضع استلهام من قبل جمیع النساء فی مختلف المجتمعات سواء أکانت تلک التی لا تؤمن بدور المرأة أم تلک التی ترى ان دورها ضرورة حتمیة.

      تکثیفاً لما تقدم، ومن خلال تتبع السیاقات الفکریة للنظریة النسویة، ودلالاتها التطبیقیة، والاستراتیجیات التی وضعت لتطبیق مضامینها فی العالم، ثبت مدى صحة الفرضیة التی سیقت فی إطار البحث من تعاظم الرؤیة الدولیة التی ترى بان اشراک النساء فی صیاغة الشؤون الدولیة صنعاً وتنفیذاً أحد عوامل تحقیق الامن والسلام فی البیئة الاستراتیجیة الدولیة.

     بمعنى أصبح هناک تبنی عالمی من المنظمات والمؤسسات الدولیة والدول والفواعل من غیر الدول ومؤسسات المجتمع المدنی المحلیة والاقلیمیة والدولیة التخصصیة وغیر التخصصیة لعملیة تعزیز واشراک النساء فی صناعة القرار سیما فی المناطق التی تشهد عملیات تحول فی الصراع، بوصفهن یملکن العقل والمعرفة والقدرة على ابتکار الآلیات التی تؤدی الى استتباب الامن والسلام فی العالم.

الخاتمة

    لم تکن مقاربات النظریة النسویة نتاج فکر دون آخر. فقد تجذرت فی مختلف مشارب الفکر الانسانی، بعضها حاول ان یحد من فاعلیة المرأة نتیجة عدم قبوله لدورها، وبعضها حاول اعطائها مکانة خاصة لتفعیل دورها مع بعض المحددات التی یُختلف فی تفسیرها بجوانبها الایجابیة والسلبیة باختلاف المفکرین ورؤاهم الفکریة، والبعض الاخر حاول اعطائها الحریة فی مختلف جوانب الحیاة، وعمل على مساواتها مع الرجل، ووضع علیها واجبات واعطاها الحقوق استناداً الى المساواة فی العقل، وهذا ما اعتمدت علیه وأقرته اللیبرالیة فی جوانبها السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة. من خلال ما تقدم یمکن التوصل الى النتائج الآتیة:

١-     بما ان النظریة النسویة السائدة هی نتاج تجذر الفکر اللیبرالی فی القرن الواحد والعشرین، فإنها بدأت فی استنبات مقاربتها الفکریة الامنیة التی ترى بان النساء عامل من عوامل تحقیق الامن والسلام فی العالم لأنهُنّ أکثر میلاً الى السلام من الرجال، لا بل ان معظم قرارات الحرب فی العالم اتخذها الرجال.

٢-     لم تعد هذه الافکار مجرد إطار نظری، لا بل تم تبنیها من المنظمات الدولیة والمؤسسات الدولیة، وقد انعکس ذلک فی الآلیات والبرامج التی تستهدف تجذیر دور المرأة فی عقول مختلف الفئات العمریة، لیس فی المجتمعات التی تؤمن بما ینتجه الفکر اللیبرالی فحسب، بل فی المجتمعات التی تتبنى مقاربات فکریة مغایره له سواء أکانت دینیة أم قومیة وغیر ذلک.

٣-     وبما ان الولایات المتحدة تتبنى عملیة الدفاع عن المنظومة اللیبرالیة، فإنها تعمل على وضع الاستراتیجیات التی تؤمن بتثبیت افکارها، لعل من اهمها الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والسلام والامن. وهی نتاج افکار النظریة النسویة التی ترى بأن النساء یمکن ان یؤدینّ دوراً مهماً فی عملیة الامن والسلام. فالولایات المتحدة وفق منطق هذه الاستراتیجیة شرعت بدور عالمی یهدف الى تمکین النساء فی مختلف مستویات صنع القرار، واشراکهن فی کل مراحل الصراع.

٤-     عملت الولایات المتحدة وفق مضامین الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والأمن والسلام على ترسیخ هذه المفاهیم سواء بالترغیب أم بالترهیب. اذ عملت على ادخال عدد کبیر من الفئات العمریة من الرجال والنساء وتدریبهم على هذه المفاهیم، لا بل جعلها نسقا عقیدیا لسکان العالم، وایصال فکرة أنها أحدى المقاربات الایجابیة التی ینبغی تنفیذها. بالمقابل مراقبة عملیات التشریع والتنفیذ فی مختلف دول العالم، واصدار التقاریر التی تراقب مدى التقدم الذی تحققه الدول، واصدار التصریحات والقرارات التی تحذر من مدى تراجع وضع النساء فی ایة دولة، وتقدیم الرؤى التی تسهم فی عملیة فرض معاییر النوع الاجتماعی فی ادارة الشؤون العامة.

        تعد الاستراتیجیة الامریکیة عن المرأة والامن والسلام تصورا استراتیجیا لما ینبغی أن یکون علیه دور المرأة فیما یتعلق بالأمن والسلام فی العالم. وأصبحت الحقیقة متجذرة فی العالم الغربی بان المرأة إحدى ادوات ترسیخ الأمن والسلام، وینبغی زیادة المشارکة السیاسیة للنساء فی مختلف الانظمة السیاسیة فی العالم، والدولة التی لا تتجاوب مع هذه الرؤیة تعد دولة غیر دیمقراطیة وتمارس الاستبداد وتشهد عملیات تراجع لکرامة الانسان.  

الهوامش والمصادر


[١]- خدیجة العزیزی، الأسس الفلسفیة للفکر النسوی الغربی، دار بیسان للنشر والتوزیع، بیروت، ٢٠٠٥، ص١٧.

[٢]- For more information see: Susan McKay, Women, Human Security, and Peace-building: A Feminist Analysis, in Conflict and Human Security: A Search for New Approaches of Peace-building, IPSHU English Research Report Series, No,١٩, ٢٠٠٤, p١٥٤.

[٣]- ینظر: بحری دلال، النظریة النسویة فی التنمیة، مجلة الفکر، العدد١١، جامعة محمد خیضر بسکرة، کلیة الحقوق والعلوم السیاسیة، الجزائر، ٢٠١٤، ص ص٧٣-٧٥.

[٤]- تیم دان وآخرون، نظریات العلاقات الدولیة: التخصص والتنوع، ترجمة دیما الخضرا، المرکز العربی للابحاث ودراسة السیاسات، بیروت، ٢٠١٦، ص٤٩٠ و٤٩٥.

[٥] – نرجس رودکر، الحرکة النسویة: مفهومها وأصولها النظریة وتیاراتها الاجتماعیة، تعریب هبة ضافر، المرکز الاسلامی للدراسات الاستراتیجیة، بیروت، ص٢٠١٩.

[٦]- نقلاً عن:عصام بن الشیخ، مقاربة الجندر وانعکاساتها على الوضع السیاسی للمرأة المغاربیة، اطروحة دکتوراه غیر منشورة، جامعة باتنة، کلیة الحقوق والعلوم السیاسیة، قسم العلوم السیاسیة، الجزائر، ٢٠١٥، ص١٦.

[٧]- ینظر: فادیا کیوان، النوع الاجتماعی والمواطنة ودور المنظمات غیر الحکومیة فی بلدان الإسکوا المتأثرة بالنزاعات: دراسة حالة لبنان، سلسلة دراسات عن المرأة العربیة فی التنمیة، العدد٢٨،اللجنة الاقتصادیة والاجتماعیة لغربی آسیا، الامم المتحدة، الاسکوا، ٢٠٠٠، ص٥.

* – یقصد بالفعل الخطابی هو الخطاب الذی یتم تبنیه من الرؤساء والمسؤولون فی العالم، والذی یتضمن التزامات وتخصیص موارد لانه صادر من شخص یتقلد مسؤولیة ولیس فرداً عادیاً.

[٨] – قسوم سلیم، الاتجاهات الجدیدة فی الدراسات الأمنیة: دراسة فی تطور مفهوم الامن عبر منظارات العلاقات الدولیة، رسالة ماجستیر غیر منشورة، جامعة الجزائر، کلیة العلوم السیاسیة والاعلام، الجزائر، ٢٠١٠، ص ١٥٦-١٥٧.

[٩]-For more information see: Carol Bacchi, GenderingImpact Assessment: Can it be made to work?, in Mainstreaming Politics: Gendering Practices and Feminist Theory, Edited by Carol Bacchi and Joan Eveline, University of Adelaide Press, South Australia, ٢٠١٠, p٢٠.

[١٠] – See: Emily S. Rosenberg, Gender in International Relation Feminist Perspective on Achieving Global Security by J.Ann Tickner, the Journal of American History Vol,٨٠, No.٣ Organization of  American Historian, ١٩٩٣, P ٤٣.

[١١]- عبد الناصر جندلی، أثر الحرب الباردة على الاتجاهات الکبرى والنظام الدولی، مکتبة مدبولی، القاهرة، ٢٠١١، ص ص٦٢٧-٦٢٩.

[١٢]- مصطفى دلة أمینة، الدراسات الامنیة النقدیة، رسالة ماجستیر غیر منشورة، جامعة الجزائر(٣)، کلیة العلوم السیاسیة والاعلام، ٢٠١٣، ص١٦٢.

* لقد “اصدر مجلس الامن خلال المدة الممتدة من عام٢٠٠٨حتى عام٢٠١٠ اربعة قرارات تتعلق بالعلاقة بین المرأة والسلام والامن، وهذه القرارات هی: القرار المرقم١٨٢٠ فی عام٢٠٠٨، و١٨٨٨ فی عام٢٠٠٩، و١٨٨٩ فی عام٢٠٠٩، وأخیراً ولیس آخراً  القرار المرقم١٩٦٠ فی عام٢٠١٠، وکل هذه القرارات تؤکد على ضرورة تحسین وضع المرأة فی البلدان المتأثرة بالصراعات”.

 See: Definitions of Key Gender Terms: Gender and Equality:       http://ochanet.unocha.org/TI/Gender/  http://gender.humanitarianresponse

[١٣]-Siv Mjaaland, United Nations Security Council Resolution ١٣٢٥ on Women, Peace, and Security: How does women’s groups and activist in Uganda engage in the implementation of UN SCR ١٣٢٥ on Women, Peace, and Security?, A Thesis Presented to the Faculty of Social Science, University of Oslo, Norway, ٢٠٠٦, p٩.

[١٤]-جان جیندی بیتمان، قضایا النوع، فی کتاب عولمة السیاسات العالمیة، جون بیلیس وستیف سمث، ترجمة مرکز الخلیج للأبحاث، الامارات، ٢٠٠٤، ص١٠٢٤.

[١٥]- ینظر: عبد القادر لشقر، الانتخابات التشریعیة المغربیة لسنة ٢٠٠٧: أیة مکانة للمرأة فی المجالس المنتخبة؟، المجلة العربیة للعلوم السیاسیة، العدد٢١، مرکز دراسات الوحدة العربیة، بیروت، ٢٠٠٩، ص١٤٦.

[١٦]-For more information see: Eileen Mc Donagh, The American Political Science  Review, Vol,٩٦, No.٣, American Political Science Association, ٢٠٠٢, p٥٣٦.

[١٧]- بورغدة وحیدة، المشارکة السیاسیة والتمکین السیاسی للمرأة: حالة الجزائر، المجلة العربیة للعلوم السیاسیة، العدد ٣٦، مرکز دراسات الوحدة العربیة، بیروت، ٢٠١٢، ص ص١٣٧-١٣٨.

[١٨] – سرمد زکی الجادر، التوظیف الامریکی لمنظمات المجتمع المدنی، مجلة حمورابی للدراسات، العدد٣، مرکز حمورابی للبحوث والدراسات الاستراتیجیة، بغداد، ٢٠١٢، ص٩٣.

[١٩]-United States Strategy on Women, Peace, and Security, ٢٠١٩, p,٢.

[٢٠]-Ibid, p,٤.

[٢١]-Ibid, p,٥

[٢٢]-Ibid, p,٥.

[٢٣]-Ibid, p,٦.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button