...
قضايا فلسفية

الممارسة التربوية والحاجة إلى النمو المهني للمدرس

الأستاذ ادريس الجامعي أديب

 يقول الدكتور بكار عبد الكريم في كتابه(حول التربية والتعليم)بتعبير جميل: إن قضايا التربية والتعليم هي قضايا أمة،وعلى الأمة جميعها أن تحاول النهوض بمؤسساتها،وحل مشكلاتها،فنحن جميعا نتعرض في كل يوم إلى مواقف نتعلم فيها،ونعلم،ونربي ونتربى،وهذا يفرض علينا أن نتابع بعض المعارف المتعلقة بذلك.[1]

1-أهمية النمو المهني للمدرس :

وإذا كانت إشكالات المنظومات التعليمية العربية بنيوية ومركبة بالأساس،فان أهم هذه الإشكالات هي التغيرات الجذرية التي حدثت في الواقع التربوي بسبب التطور المعلوماتي والمعرفي واتساع نطاق تأثيرهما، و التي انعكست على المجتمع ككل وعلى أحد أهم ركائز العملية التعليمية-التعلمية المتمثلة في المتعلمين كمحور لها والمدرس كفاعل فيها ودورهما في الفعل التربوي . وبالتالي فإرساء آليات التدريس الفعال يتطلب درجة عالية من الوعي بأهمية النمو المهني للمدرس، والذي هو عملية تفاعلية ووسيلة للارتقاء المعرفي و المهاري وزيادة الإنتاجية، و القدرة على الإبداع والتجديد والتفاعل مع الخبرات التعليمية الجديدة، والتعامل مع المتغيرات و المستجدات المطروحة في الساحة التربوية.

وقد طرح عصرنا الحالي مجموعة من العوامل والأسباب،جعلت الاستمرار في التعلم وتثقيف الذات أمرا لا مناص منه لدى الأشخاص والأمم ،والتعلم مدى الحياة هو من يساعدنا على تأهيل أنفسنا وتحسين مستوانا لاستيعاب المستجدات السريعة وقيادتها والتحكم فيها،أما التجاهل ومحاولة الانعزال والركود يؤدي إلى التحلل الذاتي والخروج من حركة التاريخ وبالتالي الضعف والجمود.[2] والنمو المهني للمدرس ينعكس بالضرورة على أساليبه ومنهجياته وطرائقه التعليمية وعلى رغبته في الارتقاء و التطور وتجويد كفاءاته وقدراته التربوية و المعرفية لتحسين أدائه وممارساته المهنية والرفع من جودة مخرجات العملية التعليمية التعلمية استجابة لحاجات التغير.

 إن الصورة التي نكونها عن أنفسنا قد تكون أهم بكثير من حقيقة أنفسنا،لذا يجب ألا تكون على نمط جامد ونهائي،فالصورة الباهتة تقعد صاحبها عن بدل الجهد في سبيل الارتقاء، بل يجب تجديدها على الدوام باعتبارها جوهرا للنمو المهني و التعلم مدى الحياة ،وهو ما أكده عبد الكريم بكار في كتابه: حول التربية و التعليم حيث قال بأن ” جوهر التعلم مدى الحياة،يقوم على إعادة تشكيل صورة كل واحد منا عن نفسة من جديد ،ومحاولة التخلص من كل الصور النمطية المبكرة التي شكلها لنا الاخرون،أو توصلنا لها نتيجة معاناة شخصية.انه تحويل ما كنا نظنه نهائيا إلى شيء قابل للتعديل و التطوير،واستكناه مستمر للذات والإمكانات والفرص،وقراءاة مستمرة لكل ذلك”.[3]

2- دواعي الاهتمام بالنمو المهني:

 ولعل أهمية الوعي بالنمو المهني تعود لأسباب وعوامل متعددة نذكر منها:

– الثورة المعرفية وإيقاعها السريع:

 إن التدفق الهائل للمعلومات وكثافة الإنتاج المعرفي أوجد نوعا من التناسخ بين الجديد والقديم مما أفقد الكثير من المعلومات وظيفتها في الحياة وأصبحت بالتالي متجاوزة . إذ أن المعرفة في معظم حقولها في تغير ونمو مستمر تجاوز الحدود التقليدية تجاوزا مذهلا.فعصرنا عصر  التغيرات الحادة والمشكلات الكبرى المحيرة  وللعلم الأثر الأكبر في حدوث هذه التغيرات ونقل العالم من حال إلى حال أخرى،ومن المألوف أنه كلما حدثت تحديات كبيرة،فان العلم يطلق الاستجابات المناسبة لمواجهتها والتغلب عليها[4]مما يلزم المدرس التمتع بمستوى عال من المهارة والفعالية في شتى المجالات المعرفية، كي يتمكن من مسايرة لغة العصر و كل ما هو مستحدث  من أفكار وخبرات وقدرات. فالأفكار الجديدة والمهارات والعقل الخلاق هي من أهم المعايير التي تحكم على تقدم المجتمع أو تخلفه،كما تحكم على تقدم أو تأزم المنظومات التعليمية أيضا.فارتباط مستوى الثقافة بالثورة العلمية المتصاعدة،طرح مشكلة معرفية جديدة،هي أن الأمر لم يعد أن نتساءل عما تجب معرفته،بل عما لايجوز الجهل به،والذي بدونه لا يستحق المثقف هذا النعت[5]

– التقنيات الجديدة في التربية:

إن التدفق الهائل للمعلومات وتراكم منتجات البحث العلمي وتسارع التطبيقات والتقنيات التكنولوجية كالوسائل سمعية بصرية-مثل السبورة الرقمية وجهاز الإسقاط الرقمي وغيرها-  يزداد اتساعا يوما بعد يوم والنتيجة لذلك هي تقادم ما بحوزتنا من معارف ومعلومات.وليس تقادم المعرفة محصورا فيما يظهر من قصور وخطأ،وإنما يتعدى ذلك إلى قراءتها قراءة جديدة،أي إنتاجها مرة أخرى،على نحو يبعدها عن مضامينها الاولى قليلا اوكثيرا[6] الأمرالذي يفرض على المدرس تجديد وتطوير طرق تدريسه وخططه ومعلوماته لتعزيز فعالية ممارساته التعليمية من جهة ، وكذا الرفع من مؤشر الجودة في العملية التعليمية التعلمية من جهة أخرى .ومن كل ذلك نرى أن االتقنيات  التربوية  المقبولة هى التى تساعدنا على تجديد الأهداف التى نسعى إلى تحقيقها ، وهى فى الوقت ذاته تساعد على وضع الخطة المناسبة لتحقيق هذه الأهداف واختيار الوسائل والأساليب المناسبة .

تحول المعرفة التربوية والطرائق التدريسية :

 ففي أواخر القرن العشرين بدأت تظهر ثورة جديدة في التربية تحاول تغيير المنطلقات السائدة لما يسمى بالتربية الحديثة وبدأ الاهتمام ينصب على دور الوسائل التكنولوجية الحديثة والمطالبة بادخالها في التربية،وكذا الدعوة الى التعلم الذاتي وتتبع كل فئة من فئات المجتمع وتدريب وإعداد الأفراد على طرق النشاط والعمل كما تجلى ذلك في التربية البرغماتية بزعامة جون ديوي والتي دعت الى مشاركة كل من المتعلم و المدرس وكل من له صلة بالعملية التربوية في وضع الخطة التعليمية، بهدف إكساب الفرد عادات ومهارات واتجاهات تناسب المجتمع الذي يعيش فيه من ناحية،والعمل على رفاهيته من ناحية أخرى،ومساعدته على الاستمرار في التعلم والنمو،وتربية ذاته وتكييفه مع بيئته من ناحية ثالثة،والدعوة الى عدم التقيد بطريقة واحدة في التدرس،بل اختيار الطريقة المناسبة التي تلائم بئاء الدرس ومستوى المتعلم وظروفه النفسية،مما أدى الى تواتر البحوث السيكولوجية والسوسيولوجية والابستمولوجية في مجال التربية الى يومنا هذا،[7]امما  يستدعي من المدس التكيف مع كل طارئ وجديد في هذه البحوث و توسيع دائرة المعارف والثقافة،ومواكبة المتغيرات و المستجدات الحاصلة في المشهد التربوي لتحسين جودة التعليم و التعلم .

ان الوعي بأهمية النمو المهني للمدرس يقع على عاتق كل من المدرسين والجهات المتدخلة في قطاع التعليم،فالتغيرات الجذرية التي حدثت في الواقع التربوي تدعوا الى تجديد وتطوير طرق وتقنيات التدريس بشكل يتماشى مع هذا التطور وهذه المتغيرات المطروحة في الساحة التربوية في ظل عصر الثورة المعرفية والمعلوماتية التي نعيش فيها. الشيء الذي يقتضي مراجعة ونقد ذاتي لممارستنا التعليمية بشكل مستمر،والمراجعة تعني تعريض النفس والفعل والموقف لنور البصيرة لكي نقوم أنفسنا ونستدرك ما يمكن استدراكه من القصور،والكف عن المضي في طريق العماية،كما يفعل الطبيب حين يشق ما التأم من الجروح على فساد وزغل من أجل تعريضه للشمس والهواء.وهذه العملية على ما فيها من ألم،هي أول الطريق لإيقاف التدهور.[8]

 وبهذا،فان هذه العوامل تفرض على المدرس الوعي بأهمية النمو المهني وأساليبه سواء النظرية منها كالندوات و البحوث العلمية،أو العملية كالعروض التربوية و الورش و التداريب والزيارات الميدانية المتبادلة بين المدرسين والمدارس، أو الذاتية المتمثلة في التكوين الذاتي وتنمية المستوى المهني باستمرار وغيرها من الأساليب الأخرى.وبالتالي فان النمو المهني ضرورة ملحة،على الأستاذ ايلاء عناية خاصة بها باعتبارها أهم آلية لتدريس فعال وممارسة مهنية متبصرة.

[1] د.بكار عبد الكريم،حول التربية والتعليم،دار القم دمشق،ط.3 2011م،ص:6

[2] د.بكار عبد الكريم،المرجع السابق،ص :140-141

[3]  نفس المرجع،ص:143

[4]  بكار عبد الكريم،المرجع السابق،ص:140

[5] لويس دوللو: الثقافة الفردية وثقافة الجمهور، ترجمة د. عادل العوا،دار عوديات –بيروت-باريس- الطبعة الثانية 1984م،ص:46

[6] بكار عبد الكريم،المرجع السابق،ص:141

[7] د.مصطفى عبد القادر زيادة واخرون:الفكر التربوي مدارسه واتجاهاته،مكتبة الرشد ناشرون 2006م،الطبعة الثالثة،ص:237-241-243

[8] بكار عبد الكريم،المرجع السابق،ص:64

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى