دراسات سياسيةدراسات قانونية

المنظــّر الأول لنظرية “سيادة القانون” – جان لوك

إن ما يميز العصر الحديث والمعاصر في حقل الأفكار السياسية في الغرب هو ظهور الفلسفة السياسية والنظريات الدستورية والتي أسست لوجود الدولة الديمقراطية الليبرالية . ولكن في الواقع إن الأفكار الأساسية هذه التي أسست ” لدولة الحق ” كانت قد شكلت بواسطة المفكرين في العصور القديمة والوسطى . ضمن هذا السياق لا بد من طرح السؤال التالي : لماذا إذا هذه الدولة وهذا المجتمع المتطور لم يزدهر بشكل حقيقي في العصر الحديث والمعاصر ؟ الإجابة السريعة تقول : لأن القرون الأخيرة اكتملت بشكل عميق وكبير ومتقدم فكريا بالمقارنة مع العصور القديمة والوسطى . إن المفكرين في هذه العصور أسسوا نموذجا جديدا للنظام الاجتماعي ، والذي نستطيع أن نصنفه على أنه نموذج أو ” براديغم ” التنظيم من خلال التعددية . لقد علموا أن الحرية الفردية والتعددية وهما متلازمان ونتاجات طبيعية ، لم تكن عنصرا أو سببا للتفجر الاجتماعي و الفوضى ، بل شكلا راقيا وساميا لتنظيم العلاقات بين البشر . هذه الأسس الفكرية للنظام الاجتماعي هي التي سمحت لهم بإنتاج وتشييد مؤسسات الدولة ” دولة الحق والقانون ” والنظام التعددي. أم أهم الأفكار فكانت [ حقوق الإنسان ، السوق ، الديمقراطية ، المؤسسات الأكاديمية الحرة ، الصحافة الحرة ..]
فيما بعد ، ومن خلال صيرورة التقوية والدعم والسمو الممنوح من خلال هذه المؤسسات للمجتمعات الغربية والأفضلية على جميع أشكال التنظيمات المعروفة ، تأمنت عملية البقاء والخلود للنموذج الديمقراطي والليبرالي . هذا النوع والنهج من التطور الاجتماعي وتطور تنظيم الدولة وبناء المؤسسات انتصر بشكل ساحق على الأشكال المرضية والتخريبية لبناء المؤسسات والفرد وأهمها الفاشية والشيوعية.
من خلال هذه ” الإشكالية ” ، إشكالية العلاقة بين بنية هذه الأنظمة المتعاقبة وتداخلاتها ، ونظرتها للدولة والمجتمع والفرد والمؤسسات والحرية ، نستطيع أن نضع الأساس الذي سننطلق منه في هذه المقالات المتعددة حول الفكر السياسي في العصر الحديث والمعاصر .
في بداية هذه الرحلة الطويلة مع قراءة الفكر السياسي الديمقراطي والليبرالي ، لا بد من إيضاح وتعريف عدة مناهج تساعد على القراءة الدقيقة للإشكالية المطروحة أعلاه .

1- براديغمات متعددة للنظام الاجتماعي :
أولا : مفهوم البراديغم ” Paradigme ” :
ماذا يقصد بالبراديغم أو ” النموذج ” في الفكر السياسي و الاجتماعي ؟
بشكل عام ، البراديغم : هو نموذج يشكل البناء ” التحتي ” لفكر ما ، والذي يحدد بنيته ، والذي يطرح أسئلة محددة ، والذي ينظم ” المعطيات ” ،أو ” المعطى ” وفق بنى أو ” محيطات ” متعددة .
” البراديغم ” في الفكر السياسي والاجتماعي ، هو نطاق أو محيط في داخله نفكر بالمشاكل المتعلقة بالمجتمع والدولة . وكل “براديغم ” يرتكز على استيفاء أو الحصول على شكل ما للتنظيم أو الفوضى الاجتماعية ، وهذا يعني ، ما يحدد بدقة ” واحترام ” الازدهار ، السلام ، السعادة للمجتمع ، أو بالعكس ، الذي يحدث اضطرابات وبلبلة وعدم استقرار وسقوط وانهيار .
هذا المفهوم ” للتنظيم ” سيحدد كل شيء على سلم أو مقياس للقيم بما يتعلق بالسياسة والاقتصاد والاجتماع ، ومن خلاله نحدد معيار أو معايير ما نفضل ، والأعمال التي سنقوم بها ، والبرامج التي سنعدها .

ثانيا : ” البراديغمات ” الثلاث للفكر السياسي والاجتماعي الحديث :
في الفكر السياسي الغربي الحديث نميز ثلاث عائلات من النظريات : اليمين ، اليسار ، والديمقراطية الليبرالية . ونستطيع الاعتبار أن كل واحدة من بينها ” تقاد ” بشكل عميق من خلال ” براديغم ” أساسي ، أو رؤية للنظام الاجتماعي . وبشكل عام أكثر تبسيطا ، الفكر اليميني يظهر كأنه يقاد من خلال النظام الفطري أو الطبيعي ، أم اليسار من خلال نظام مصطنع ، والتقليد الديمقراطي والليبرالي من خلال نظام عفوي ، تعددي ، ثقافي ، متداخل ومتعدد التنظيم .

ثالثا : النظام المقدس :
في المجتمعات البدائية يوجد نظام مقدس وهو الذي أقيم بواسطة الآلهة . هذا النظام المقدس كان في الكثير من الأحيان متعذر
مسّه ، حيث أعطته الآلهة و أعطت المجتمع بنى متعددة وفرضت عليه القيام بأشياء عدة . بالنتيجة ، إنسان المجتمعات الابتدائية سيكون خطرا على النظام الاجتماعي القائم ، أما الإنسان الحديث فقد طمح وعمل على التحرر من القوانين الطبيعية والميتافيزيقية . النظام المقدس يستبعد عملية التغيير الاجتماعي ومن ثم يعطل التقدم . فالمجتمع الكهنوتي هو مجتمع ” بلا تاريخ ” ، والتقدم العلمي والتقني لم يحدث غلا عندما قام المجتمع بتحطيم كل قيود الشعائر والطقوس والأساطير .

رابعا : الأنظمة ” الوسطى ” ما بين الطبيعي والمصطنع :
القارئ لتطور الفكر السياسي يتوصل على معرفة وجود نوع من ” الأنظمة ” التي تشكل حقائق داخل المجتمع والتي لا تنتمي لا للنظام الطبيعي ولا للنظام المصطنع . و إذا قمنا باختبار وتحليل ” الأخلاق ” أو ” القانون / الحق ” وهي من ” الأنظمة ” الجوهرية للفكر السياسي / اجتماعي ، فإننا سنعرف تماما ماذا نعني بالأنظمة الوسطى . فهي ” الأخلاق والقانون ” ليست من الأنظمة الطبيعية حيث أنها تتغير وفق الزمان والمكان . وهي ليست اصطناعية ، حيث لا يستطيع أي كان أن يصمم أو يخلق ” أخلاقا ” أو نظاما قانونيا على طريقة مهندس يصمم آلة أو أي شيء آخر مصطنع . ولكن فقط في العصر الحديث والمعاصر حتى تيقن المفكرون بكثير من الوعي والتيقظ ، على أهمية ونوعية هذه الأنظمة المذكورة و أنها كوّنت بشكل واضح وعلمي مفاهيمها الخاصة بها .
الاقتصاديون ” التوماسيون ” thomistes ، في القرن السادس عشر سيقولون أن الأسعار أقيمت وكونت بواسطة ” الله ” ، وهذا ما يشير إلى مسؤول آخر في العملية الاقتصادية خارج عن طبيعة الإنسان .
” هيوم ” hume ، سوف يشرح بوضوح فيما بعد كيف أن ” التعاقدات أو الاتفاقات ” التي تعرف العدالة هي من أعمال البشر من غير أن تكون من صياغة ” العقل الإنساني ” . ” آدم فيرغوسون ” ، سيتحدث عن “أنظمة ” ناتجة عن أفعال الإنسان ولكن من غير قصدهم أو نيتهم ، ” آدم سميث ” ، يضع ” اليد الخفية ” الشهيرة
للسوق ، وهي ليست يد الله ولا يد الإنسان ، ولكن هو المجتمع الذي ينظم من خلال ذاته وهنا ” سميث ” لا يحدد ” المفردة ” الدالة على هذا التنظيم والتي يمكن أن تكون auto-organise .
المشكلة السياسية أيضا وضعت تحت نوع آخر من الأضواء . فهدف مؤسسات الدولة والنظام القانوني لم تكن نهائيا التقرب من النظام الطبيعي ، المصدر الوحيد لكل شيء ” عادل ” ، ” قابل للحياة ” ، ” خصب ” . كما لم تكن الأهداف هي إقامة نظام اجتماعي مثالي أو طوباوي ، بل كان الهدف هو تصور أو إدراك المؤسسات الأكثر ” مقبولية ” من أجل انبثاق نظام اجتماعي ” عفوي ” ينتج عن أفعال إنسانية تعددية تهدف للتوافق أو التلاؤم بين البشر ، ثم إنتاج حقائق اجتماعية واقعية وسامية : قوانين مجردة عن أي شيء غير الإنسان تسمح بالسوق أي التنافس الاقتصادي الذي لم يسبق حصوله ، مؤسسات برلمانية وديمقراطية والتي تقلل بشكل كبير خطورة بقاء مجموعة من المتسلطين في أماكنهم بشكل دائم ، وحرية صحافة تسمح بظهور حقائق اجتماعية وسياسية أكثر موضوعية ، الحرية الأكاديمية والتي تسمح بالانبثاق السريع للعلوم . هذه التغيرات الجوهرية و الأساسية للمجتمع الغربي جعلت بالإمكان لتاريخ فكري أن يمتد هذه القرون ، و أن يكون نظريات حديثة للدولة الديمقراطية والليبرالية .
إن تاريخ الفكر السياسي الحديث والمعاصر تمازج مع هذه التكوينات السابقة للمجتمع ، ولكن وجد من يقاوم هذا الفكر الحديث ويعارضه وخاصة من خلال المفكرين التابعين لنماذج فكرية رجعية . من هنا يمكن تصنيف دراسة تطور الفكر الليبرالي والديمقراطي وتمييز ثلاثة محاور أساسية فيها :
– اتجاه من الفكر يصنف ب” التقليد الديمقراطي والليبرالي ” ، والذي ينطلق من نموذج غير طبيعي أو مصطنع في النظام الاجتماعي .
– عائلة من التفكير ” اليميني ” المعتمدة في أساسها على النظام ” الطبيعي ” .
– عائلة من التفكير ” اليساري ” القائمة على نموذج ” منظّم ” .

2- السؤالان الأساسيان للنظرية السياسية وفق ” لورد أكتون ” [ 1834 – 1902 ]
تختص النظريات السياسية في الرد على سؤالين كبيرين :
أ‌- من يجب أن يأخذ السلطة السياسية ؟
ب‌- ما هي الحدود التي يجب أن تكون للسلطة السياسية ، مع وجود أي كان فيها ؟
من الواضح هنا أن النظرية السياسية تبحث على حل : إما لمسألة السلطة داخل الدولة ، أو لمسألة سلطة الدولة . من المهم والجوهري الفهم أن هذين السؤالين الكبيرين يعودان إلى إشكالية مهمة في تاريخ البشر وهي ” إشكالية الخضوع والتبعية ” . يمكن اعتبار الإجابات على السؤال الأول تتدرج ما بين القطبين المتضادين أو النقيضين : حكومة تسلطية / الديمقراطية . يوجد حكومة تسلطية والتي تأخذ شكل ” الملكية ، أو الديكتاتورية ، أو أرستقراطية مغلقة …..” هنا الفرد الحاكم أو المجموعة الحاكمة تأخذ وحدها القرارات وتحتفظ لوحدها
بالسلطة . ويوجد ديمقراطية حيث الحاكمين يكونون في السلطة وفق إجراءات قانونية سلمية ، مع تعددية للمرشحين ، وحرية التعبير ، والنقاشات العلنية ، انتخابات . من جهة أخرى يمكن تغيير الحاكمين بشكل سلمي على السلطة .
أما الإجابة على السؤال الثاني تترتب حول قطبين متناقضين آخرين :
التوتاليتارية / الليبرالية .
يوجد ” توتاليتارية ” عندما الدولة تدير أو تقود ” كل شيء ” في المجتمع ، لديها سلطات غير محددة ، تسيطر على الفكر والتعبير، الحياة الاجتماعية و الاقتصادية ، لا تعترف بحقوق الأفراد ، أو الجماعات الخاصة ، ولا بحقوق الأقليات ، كما لا تعترف ولا تقوم بأي شيء يؤدي لقيام المجتمع المدني .
ويوجد ” ليبرالية ” حيث سيادة الدولة تكون محدودة ، وتكون مضطرة للاعتراف بالقانون أو ما يتفرع عنه من تشريعات دولية [ مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، أو الأحكام الدستورية الأساسية ] . والدولة تحترم هنا بشكل عملي المبدأ الذي وفقه سلطتها التنفيذية والتشريعية لا تعيق أي حق من الحقوق أو الحريات ” الدينية ، التفكير ، الملكية ، العمل ، التعاقد … “
ولكن هل من تداخل بين هذه الأنظمة ؟
– يمكن أن يكون لدينا ” انتقال ” ديمقراطي للسلطة السياسية داخل الدولة ، والتي لديها نفوذ أو سلطان محدود على المجتمع ، من خلال الحقوق الأساسية للأفراد . وبالتالي يكون لدينا ديمقراطية ليبرالية .
– يمكن أن يكون لدينا سلطة سياسية ” تسلطية ” ودولة ” شمولية ” . وهذا ما نلحظه داخل ما ندعوه الأنظمة التوتاليتارية [ الفاشية ، الشيوعية ] ، حيث الدولة تفعل كل شيء مع الفرد دون حدود ، وبالإضافة لذلك ، الحكام يحتكرون السلطة ويبعدون المعارضة من خلال البوليس السياسي ، وهؤلاء في هذه الدولة لا يعترفون نهائيا بالانتخابات الحرة .
– ولكن بالإمكان وجود حكومة تسلطية في دولة ليبرالية : حصل هذا في الماضي ، في الإمبراطوريتين الفرنسيتين ، وحصل في تشيلي وكوريا الجنوبية وسنجابور ، وفي حكومة الشاه الأخيرة في إيران ، وقليلا في المغرب .
– إذا الإمكانية النظرية موجودة ، وهناك أمثلة تاريخية لدول وأنظمة مهيمنة وشمولية ، ولكنها في الأساس منتخبة ديمقراطيا . الأنظمة الثورية في أسابيعها الأولى تفعل نفس الشيء ، عندما يأخذون التفويض من الشعب في الوصول على السلطة ولا يحترمون الأشخاص والملكيات ، ومن ثم يعتبرون الشعب عدوهم . هذا الشكل من الأنظمة غير مستقر ، ويقود في النهاية على استبعاد الآخرين ، ويتحول من ثوري إلى تسلطي شمولي .

3- الديمقراطية والليبرالية تفترض ” براديغم ” النظام ” العفوي ” Spontané :
Spontanéisme : نظرية قائمة على العفوية المبدعة في الفرد .
Spontanisme : نظرية تعتمد على التوالد الذاتي ” عفوية التولد ” .
عندما يتلازم وجود الديمقراطية والليبرالية عبر تاريخهما معا ، فهذا لم يأت محض صدفة ، بل لأنهما يملكان نقاطا مشتركة في تأسيسهما للأنظمة التعددية ” العفوية ” أو الأنظمة ” المنظمة ” ذاتيا من نفسها .
الأنظمة المؤسساتية الديمقراطية تستند على النقاش أو الجدال المتناقض والمتعارض ، وحرية الترشيح والتصويت ، وفي الغالب تعتمد على حكومات تأخذ بالإدارة الجماعية [ Direction collégiaux ] ، إذا هي تتطلب الفصل ” séparation ” ، وبالتالي التوزيع أو التقسيم ” répartition ” بين أيد متعددة للسلطة أو السلطات . أنصار الديمقراطية يعتبرون هذا كله لبلوغ فعل سياسي متلاحم وقوي ، ولتعريف وتنفيذ لسياسية تتم متابعتها ، وتكوين تشريع مستمر .
والليبرالية أيضا ، ليس فقط هي حرية السوق والمبادرات الفردية ، إنها تعددية الصحافة والعلوم ، تفتح الحقيقة ونموها ، فالتعددية تولد شكلا ساميا للنظام . لهذا السبب في العصر الحديث والمعاصر مذاهب الديمقراطية والليبرالية تطورت إلى هذا الحد . وتاريخ الفكر السياسي في هذه الفترة يستطيع أن يكون متصفا أو مطبوعا كتاريخ يرتقي أو يدور في داخل ” براديغم ” التعددية ، وفي داخل كل سؤال من الأسئلة الأساسية للسياسة والتي وردت سابقا . ومن جهة أخرى يدور بنفس التناسق في صراع ضد نموذج من التفكير يقام بواسطة مفكري ” اليمين ” المرتبطين في ” براديغم ” النظام الطبيعي ، ومفكري ” اليسار ” المرتبطين في ” براديغم ” العقل البنائي ” Constructiviste .
Constructivisme : نظرية تعنى بالجمال ظهرت عام 1920 ، جاءت في مكان النحت التقليدي ، وتؤسس نحتا مفرغا متعدد التشابكات والخطوط والسطوح ، وهي تعدّ كل موضوع للفكر ” مبنيّا ” .
وبهذا تكون الليبرالية قد حاربت على جبهتين : ضد هذه الأنواع من الفكر ، وفي سبيل صياغة نظرية للتعددية .
في الأجزاء التالية أو القادمة سنحاول قراءة تطور الفكر السياسي الحديث والمعاصر فيما يتعلق :
– بالتقليد الديمقراطي والليبرالي .
– خصوم التقليد الديمقراطي والليبرالي من اليسار .
– خصوم التقليد الديمقراطي والليبرالي من اليمين .
– تجديد التقليد الديمقراطي والليبرالي ما بعد عصر ” التوتاليتارية ” .

[2]

مذهب أو نظرية ” سيادة القانون ” Rule of law
يعتبر جان لوك [ 1632- ـ1704] المنظر الأساسي لهذا المذهب أو لما يسمى ” الثورة المجيدة ” في إنجلترا عام 1688. هذه الثورة أسست الملكية الدستورية والليبرالية الاقتصادية. ولكن قبل الحديث عن هذه النظرية لابد من الاطلاع على الواقع التاريخي الذي كان قبلها والذي رافقها.
في عام 1685 شقيق شارل الثاني، الدوق ” ليورك ” ، خلف شقيقه بإسم جاك الثاني. وبما أنه كاثوليكي فقد عمد فورا لإقامة الحكم
المطلق إلى جانب الكاثوليكية. وبما أن طابع حكمه كان سلطويا وتعسفيا، فكر الكثير من البريطانيين بإزاحته. ففي عام 1688 عمد بعضهم إلى ” غليوم ” ، أحد قادة المقاطعات المتحدة والذي أساسا هو متزوج من ابنة ” جاك الثاني ” ماري. حاصر غليوم بجيشه جاك الثاني، وهذا الأخير من غير قتال أعلن التنازل عن العرش. وقد أصبح غليوم وماري ملكين، أو حسب ماسميت آنذاك ملكية برأسين. وبعد حصول تصويت لغرفتي البرلمان 13 شباط 1689، صدق البرلمان على نص أساسي سمى :
أو شرعة الحقوق، أو ميثاق الحقوق والذي يؤكد مبادئ النظام الجديد: الاعتراف بالحقوق الأساسية Bill of rights
وبالطابع الدستوري للنظام القائم. إذا هي عقد حقيقي بين البرلمان والملك الجديد وقد اعتمد العقد على مبادئ هوبز. وبالتالي يصبح الشعب الإنكليزي ممثلا من خلال البرلمان المنتخب.
الفلسفة السياسية لهذا النظام تمت صياغتها وتشكيلها بواسطة ” جون لوك ” ، والذي نشر منذ عام 1680 في أوساط ما يسمى بالإنكليزية “Whigs ” [ أعضاء بحزب الأحرار ] أو [ مؤيدي التغيير في إنكلترا ] معالجته المؤلفة من جزأين حول الحكومة المدنية . ومنذ عام 1667 كان جون لوك قد بدأ ينشر مؤلفاته والتي نذكر منها : [ محاولة حول التسامح 1667 ] ، [ حول الاختلاف ما بين السلطة الكهنوتية والسلطة المدنية 1674 ] ، [ تفكير حول التعليم 1693 ] ، [ مؤلف حول النقد والضريبة 1692 ] ، [ نصوص حول التوافق بين المسيحية والعقل 1695 – 1697 ] . لوك هو أحد رجال القانون ، أنها دراسته حول الأدب ومن ثم الطب في جامعة أكسفورد حيث سيعلم فيما بعد اليونانية . عاش في فرنسا فترة طويلة [ 1672 – 1679 ] حيث كان يتعامل بشكل دائم مع كلية الطب المشهورة في جامعة مونبلييه . ثم يغادر فيما بعد إلى هولندا [ 1683 ] ويبقى فيها حتى [ 1689 ] ، التقى هناك ملك إنكلترا ” غليوم ” ، ثم أصبح بعد دعوة الملك وزيرا للتجارة في إنكلترا ، لكن ما لبس أن انسحب من منصبه فورا ليكمل مؤلفاته الفكرية .
في محاولته [ حول الإدراك الإنساني ] ينتقد لوك نظرية ديكارت أو مذهب الأفكار الفطرية Innéisme ، ويطرح مشكلة حدود المعرفة . يظهر لوك على أنه ” تجريبي ” دون الذهاب إلى القول ب ” Sensualisme ” [ مذهب يقول بأن الأحاسيس أساس الفكر ] . إذا هناك توازن عند لوك ما بين ” التجريبية ” Empirisme ، و ” العقلانية ” Rationalisme ، ويمكن العثور على هذا التوازن في أعمال جون لوك السياسية . الأعمال السياسية لدى لوك تتألف من جزأين رئيسين : [ الكتابات حول التسامح ] و [ معالجة الحكومة المدنية ] . لوك في بحثه الأول حول الحكومة المدنية يرفض طروحات الملكيين القائلة أن السلطة السياسية لا يمكن أن تكون إلا ملكية و أن ” السلطة الأبوية ” للملوك مؤسسة في نفس الوقت وفق الثورة ، وأن الملوك هم ورثة آدم . ومن أجل هذا عمد لوك لإيجاد نظريته حول الحكم .

أولا – حالة الطبيعة :
حالة الانسان الطبيعية عند لوك ، هي حالة من الحرية والمساواة ، حيث لا يوجد الخضوع بين الناس والذين هم من ” نفس النوع أو الصنف ” ، ” ولدوا من غير تمييز ” ، ” لديهم نفس الحقوق ” . هذه
الأطروحة لم يأت بها لوك من عنده ، بل كانت من عصور سبقته وبالتحديد من قبل Grotius ، وقد شرحت بأشكال مختلفة أثناء الثورة الإنكليزية . لكن الحرية الطبيعية محددة عند لوك بواسطة القانون الطبيعي ذاته ، وهذا القانون يمتزج مع الحق : ” الذي يعلّم للناس جميعهم وهم متساوون ومستقلون ، ولا أحد يستطيع إنكار شيء على الآخرين ، حقهم في الحياة والصحة والحرية ”
. يرى لوك أنه سيكون من العبث أن نقول بأن الإنسان سيحاكم نفسه من خلال القانون فيما يتعلق بمصالحه الخاصة لأن حب الذات ” self-love ” سيجعل الإنسان متحيزا لنفسه ولأصدقائه . من هنا إذا لابد من الخروج من ” حالة الطبيعة ” إلى دولة نستطيع أن نشيد فيها محاكم وقضاة غير منحازين . ولكن لن يكون كافيا أن يرتبط الناس بدولة يخلقونها : ” لأن الملكية المطلقة أو الحكم المطلق يتألف من بشر ، وبالتالي ماذا سيكون نوع الحكومة التي يتحكم بها شخص واحد ، و الذي سيقود وسيكون له الحرية بأن يقضي في قضاياها هو نفسه ، وهنا يفعل ما يشاء وعلى هواه دون أدنى مساءلة أو مراقبة ؟ ” .
عند لوك ” الحالة الطبيعية ” هي أساسا ” حالة اجتماعية ” ، حتى ولو لم تكن حالة مدنية أو سياسية . مع هذا في ” حالة الطبيعية ” الناس مجبورون لعمل أو لعدم عمل الكثير من الأشياء ، حتى بعدم وجود أي اتفاق معلن فيما بينهم : ” الانسان في هذه الحالة هو كائن اجتماعي ، يكوّن مجتمعا وحيدا لكل البشر . تأسيس الجسم السياسي هنا المنفصل ، يجب أن يكون معللا أو مشروحا كشكل أو جسم غير [ مشترك ] بقدر ما هو مشترك ، حيث أن تأسيس الدولة يؤدي إلى تقطيع أو تجزئة المجتمع الإنساني الأصلي . مجتمع سياسي أو ” تجمع ” ، هو مجتمع ” منشق ” Dissidente بالنسبة للمجتمع الطبيعي الشامل لكل الناس . وهذا ما يجعلنا نفكر بنظرة جديدة تفتح الأفق لخلق مجتمع سياسي شامل ” عام ” أكثر كمالا من المجتمع الطبيعي الشامل ” . وبالفعل هذا ما سنراه مع Kant بعد قرن من الزمان ، والذي يعمد إلى سبر وتحري هذا الموضوع .

ثانيا – الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة السياسية :
أ‌- الصعوبات الملازمة لحالة الطبيعة :
يجب القول هنا أن ملكية الإنسان في حالة الطبيعة تعرضت لحالة من الهشاشة يرى لوك : ” إذا كان الإنسان تماما ” حر ” كما هو عليه الحال في حالة الطبيعة ، إذا كان هو السيد المطلق لشخصه و أملاكه [ ….] فلن يكون لديه سوى تمتع هش بأملاكه وستكون معرضة للاغتصاب من الآخر ” . فقوانين حالة الطبيعة لن تكون مصانة كفاية بسبب قوة المصالح ، وبسبب حالة الجهل السائد لعدم توفر العلم أو الدراسة .

ب – لا نستطيع أن نترك حالة الطبيعة من أجل حالة ربما تكون أسوأ منها :
حالة الطبيعة حتى ولو كانت هشة ، فإنها عند لوك ليست كما عند هوبز ” قاتلة ” . عند هوبز ، الإنسان كان في هذه الحالة مستعدا للتضحية بحريته من أجل حماية حياته ، أما عند لوك : ” فالإنسان ما يهمه هو الحديث ليس عن حياته بل عن السعادة والازدهار . ولكن نحن لسنا مستعدين لدفع نفس الثمن للمضي إلى الحالة السياسية ” . إننا لن نغير إلى الحالة السياسية إذا لم تكن الشروط في هذه الحالة ، على الأقل ، تكون بمستوى الحالة السابقة .
إننا نستطيع في حالة اللزوم قطع الصلات التي تعود أو تتصل بحالة الطبيعة ، خاصة أننا نعرف أن هذه الحالة من الصعوبة بمكان أن تعيش ، على الأقل في الوقت الضروري لتجديد بناء مجتمع مدني يرضي ما نريد . في هذه الحالة لن يكون هناك حق لانشقاق الفرد . هذه النظرة لم يكن مفكر بها عند هوبز ، حيث العقد الاجتماعي كان مدركا ” كحركة من الرعب والهلع ” ربما تبلغ أو تصبح حالة في اتجاه واحد . أما العقد الاجتماعي عند لوك سيكون قرارا مفكرا فيه وإرادي وخاضع للنقد في أي لحظة .
من أجل وضع نهاية لهشاشة الحياة الطبيعية ، الإنسان ” يحض ويوافق من أجل الارتباط بالآخرين ، الجاهزين للارتباط معه أصلا لأجل الحماية المتبادلة للحياة والحرية والأملاك ، يوافق على الأخذ من الملكية ” . ومن أجل أن يكون هذا ممكنا ، من الواجب ، وسيكون كافيا ، لأي فرد من الناس أن يتخلى بنفسه عن ممارسة حقه الطبيعي في العقوبة والقصاص ، ويتنازل عنها للجماعة . هنا سيكون من الواجب على الجماعة حيازة القوانين التي تحكم عملية مقاضاتها وحكمها وتنفيذ أحكامها ، في هذه الحالة الحق الطبيعي في العقوبة والقصاص سيكون مكفولا للجماعة في محل حق كل فرد أن يقوم بهذا بنفسه أو مكان الآخرين .
ومن هنا تستنبط السمات الثلاث الجوهرية للتجمع السياسي :
– القوانين : ” توضع وتعرف وتستقبل ويصدق عليها بالتوافق ” ، وسيكون ممكنا من خلالها وفق المقاييس التي تنتج بها ، إعادة إنتاج العدالة الطبيعية .
– حكم يطبق القوانين بشكل منصف وموضوعي ، وسيكون بعيدا عن شخصنة التطبيق ، وبالتالي سكون معصوما من الأهواء والمصالح التي تضر بالحكم والقضاء في حالة الطبيعية .
– سلطة قادرة على تنفيذ الأحكام لهذا ” القاضي/الحكم ” ، وسيكون هذا ممكنا حيث أن السلطة لديها قوة تحالف كل الجسم الاجتماعي .
ومع العقد الاجتماعي لن نفقد شيئا من عملية التغيير لأن : الملكية ستكون محفوظة وهذا هو جوهر الحقوق الطبيعية ، سيتم التنازل عن الحقوق التي لا تأتي في مقدمة ممارسة الإنسان لحريته ، والتي ستمارس من قبل الدولة .
إن تحليل لوك الذي استنبط بدقة وقوة وظائف الدولة ، إضافة لوجود عدة حقوق طبيعية للإنسان [ مثل الملكية ] والتي ستحفظ من قبل الإنسان عندما يعبر إلى الحالة السياسية ، وأخرى [ حق محاكمة الأخطاء للآخر ] والتي يتم التنازل عنها للدولة . هذا التحليل يسمح بإعطاء تأسيس عقلاني للانشقاق التقليدي لسلطات الدولة في أجزائها الثلاث : التشريعية ، القضائية ، التنفيذية .

ج- الاجتماع السياسي وحماية الملكية :
كما رأينا سابقا ، الخروج من حالة الطبيعة لن يكون له معنى إذا لم يعمل بشكل أفضل لحماية الملكية التي يتمتع بها الإنسان في حالة الطبيعة . إن الدولة لن يكون لديها سبب بالوجود سوى حماية الملكية : ” الدولة بالتالي ليس من واجبها استخدام القوة ضد المجتمع في الداخل
من أجل تطبيق القوانين ، وفي الخارج من أجل الاعتداء أو التدخل بشؤون الآخرين ” .
د – حدود السيادة :
إذا كانت حماية ” المجال الخاص ” هي الغاية الأساسية للمجتمع السياسي ، وهذا ما ينتج عنه مسألة أخرى غاية في الأهمية وهي ” حدود السلطة السياسية “
:” بما أن المواطنين ليس لديهم نية أخرى ، إلا في سلطة تحمي شخصهم وحريتهم وممتلكاتهم [ ….] ، فالسلطة في المجتمع ، أو سلطة التشريع التي أقيمت من قبلهم لا تستطيع نهائيا أن تكون ” مزوّرة ” بكسر الواو لواجبها ، أو تذهب بعيد أكثر مما تطلب منها العامة أو الناس . هذه السلطة يجب ان تختزل إلى وضع : ” المجالات الخاصة ” للناس في حالة أمن ” .
من هنا السلطة التشريعية في أعلى مستوياتها في الدولة لا يمكن أن تكون مطلقة ، إنها محدودة ، كالدولة ذاتها ، ومن خلال الحقوق الطبيعية : ” إنها سلطة ليس لها غاية سوى [ المحافظة ] ، وهي بالتالي لن يكون لديها الحق في ” التدمير ” أو أن تعود ” عبودية ” [ ….] . قانون الطبيعية يبقى دائما كمقياس أو قاعدة أبدية لكل البشر ، عند المشرعين وعند غيرهم ، وقوانين المشرعين يجب أن تتطابق مع قوانين الحالة الطبيعية ” . ومن غير هذا ، فإن الناس يفقدون عندما يتعاقدون ، ما أرادوا التعاقد من أجله . الدولة : ” ومهما كان الشخص الذي كانت بيده ” ، لا تعط إلا ” للموثوق به تحت شروط ولغاية واضحة ومحددة ، وهي معرفة أن الناس يستطيعون الحفاظ و أسياد على ممتلكاتهم وفي حالة أمنية تامة ” . هنا يؤسس جون لوك جوهر ما يمكن أن نسميه مذهب أو نظرية ” حقوق الإنسان ” ، والتي تعترف بها كل الديمقراطيات الليبرالية كأساس لها ، حيث أنها تمتلك كل الدساتير التي تعتمد هذه المبادئ السامية لسلطة القانون ذاتها .

ثالثا – شروط التأسيس ، وإعادة تجديد العقد الاجتماعي :
إن المفهوم الذي يحدثه لوك للعقد الاجتماعي ليس طوباويا . وهو لا يتصور أن الناس يجتمعون في يوم جميل ويخلقون الدولة من خلال اقتراع شكلي . إنه يدرك العقد الاجتماعي بأن يكون بشكل متعاقب وضمني . لقد دفع هذا الموضوع إلى الأمام أكثر بكثير من هوبز ، وأكثر من جان جاك روسو فيما يتعلق بالعقد الاجتماعي .
شروط تأسيس العقد الاجتماعي عند لوك :
1- ضرورة الانتماء الإرادي :
الإرادة هنا مطلوبة وفي كل الحالات حتى يكون العقد الاجتماعي صالحا : ” لا أحد يستطيع الانسحاب من حالة الطبيعية ويخضع للسلطة السياسية للآخرين دون رضاء أو قبول ” . ولكن الإرادة يمكن أن تكون ، إما شكليا معبر عنها ، أو متنازل عنها لعدة سلوكيات أو تصرفات لا تحتوي غموضا . ” على عدد أعضاء المجتمع السياسي ، أن يكون موضوعا ، ليس فقط لمختلف الأشخاص الذين كانوا في حالة الطبيعة ، و أرادوا الدخول في مجتمع لتأليف ” شعب ” وجسم سياسي ، تحت حكومة سيادية ، ولكن أيضا للذين انضموا في ” الحال ” لهؤلاء ، والذين اندمجوا في نفس المجتمع وخضعوا لحكومة موجودة سابقا ” .

2 – يوجد اعتراضين على فكرة العقد الاجتماعي الإرادي :
أ‌- لا يوجد مثال تاريخي لمجتمع سياسي كان فعليا ، أو بالعقد .
ب‌- ولكن هذا غير ممكن من جهة أخرى ، باعتبار أن كل إنسان ولد في دولة ، ومن هنا ، حريته تكون سابقا متنازل عنها ، وهو ليس حرا بفك اتصاله حيث وجد والانضمام ثم ينضم مع جهة أخرى .
فيما يتعلق بغياب المثال التاريخي ، لوك يعترف بالعقبة ، حيث أننا لا نعرف إلا المجتمعات التي كتبت تاريخها ، وقد فعلوا هذا بعد زمن طويل من تكوينهم الجسم السياسي . الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة الاجتماعية ضاع أو فقد في ضباب الماضي . رغم ذلك ، لوك يعتبر أن الحكومات الملكية الأولى هي ثمرة لعقد ما أو لاتفاق ، حتى ولو كان هذا ضمنيا في أغلب الأحيان . إذا الملكية أو فكرة الملكية المطلقة والسلطوية التي حكمت ضد رغبة الناس و رأيهم هي شيء جديد في التاريخ. أما فيما يتعلق بالاعتراض الثاني : لوك يرى أنه يدمر نفسه بنفسه . لأنه إذا كان صحيحا أنه لا نستطيع الإنفكاك من الاتصال حيث وجدنا أو أخذنا ولادتنا ، إذا الدول الملكية نفسها لم تكن لتستطيع أن تقام . باختصار ، الدول أسست بعقد اجتماعي إرادي جتى ولو كان غالبا عقدا ضمنيا . ولابد من الختام هنا ، أنه يمكن القول أن إنسانا ما يرتبط بمجتمع سياسي بالانتماء الإرادي لا يستطيع ربط أطفاله أو سلالته لنفس المجتمع . فهؤلاء ببلوغهم يملكون حريتهم الطبيعية للعودة إلى الحالة الطبيعية أو إعادة إنشاء روابط وصلات اجتماعية أخرى .

رابعا – مذهب ” الحرية تحت سيادة القانون ” Rule of law
لقد رأينا مع لوك أن داخل المجتمع السياسي ، القوانين من الحالة الطبيعية تتجسد داخل القوانين المدنية .وعلى هذه القوانين يستند القضاء والقضاة. إذا ” دولة ” لوك هي : ” حكومة من القوانين وليس من الأشخاص ” ، حالة من حالات حكم القانون Rule of law . من هذا المفهوم والذي ظهر قبل لوك وكما رأيناه عند الكثيرين من الإنكليز في القرن السابع عشر ، لوك يعطي تحليلا خاصا وواضحا وعميقا . إنه يعتبر أن سيادة القانون والحرية هما الأكثر ضرورة من الشروط الأخرى لبناء المجتمع السياسي . هذا المذهب الذي أعطاه لوك شكله النظري سيصبح قلب أو جوهر الليبرالية الحديثة .

أ‌- جوهر القانون :
الحرية عند لوك ليس أن نفعل كل ما نريد وكل ما يرضينا . إنها شيء آخر تماما ، وهي بلوغ حالة لا نخضع فيها لسلطة تعسفية لأي ” آخر ” : ” الحرية الطبيعية للإنسان تؤكد عدم خضوعه لي سلطة علة الأرض […] . الحرية للإنسان داخل المجتمع تؤكد عدم خضوعه لهيمنة أية إرادة ” . بمعنى آخر ، الحرية ليست سلطة ، ولكنها علاقة اجتماعية ، والمناقض أو عكس الحرية ليس الضرورة وإنما القهر أو الإكراه ” Coercition ” .
حالة الحرية توجد في ” الحالة الطبيعية ” ، حيث لا أحد يخضع لآخر ، و إذا الحقوق الطبيعية يجب أن تكون محفوظة في ” الحالة السياسية ” ، فإن حالة من الحرية يجب أن توجد في هذه
الحالة الثانية . ربما نكون في المجتمع معرضين دائما للقهر والتعسف من قبل الآخر ، لذلك فرص الصراع هي متعددة . لوك يرى أن حدود ” المجالات الخاصة ” لكل شخص ستعطي فرصة أفضل لتجنب ذلك الصراع .

ب – جوهر القانون :
يتطرق لوك لهذا الموضوع بدقة . يبين أنه إذا كان القانون يستطيع لعب هذا الدور ، هذا لأن لديه بشكل جوهري قيمة إدراكية / معرفية Cognitive ” إنه المعرفة لما يجب أن نفعله أو لا نفعله فيما يتعلق بمضايقة خصوصيات أو ملكيات الآخرين . هذا المفهوم للقانون كما يبدو في تعريف لوك له ، يظهر على نقيض من تعريف ” بودان ” أو ” هوبز ” ومن مدرسة ” الحكم المطلق ” التي لا ترى في القانون سوى جانبه الإجباري والقهري . فالقانون هنا ليس معرفة و إنما قوة . إنه يلامس الإنسان ليس بواسطة العقل بل بالخوف الذي يحدثه . عند لوك وكل أتباع مدرسة ” سيادة القانون ” ، القانون يمكن أن يكون قوة ، ولكن لا يكون كذلك إلا استثناءا ضد الجانحين وهو دائما فئة قليلة . المواطنون الآخرون ينظرون للقانون بشكل عفوي / طبيعي حيث يتفهمون دوره ، ولهم معه علاقة جوهرية وعقلانية .

ج – العلاقة بين القانون والحرية :

من المهم أن نعرف أن القانون يدرك كإمكانية للوصول إلى الحرية : ” إذا لم يوجد القانون لا توجد الحرية ” . تحت حكم القانون سلطتنا بالتصرف والفعل ستكون محددة ، في المقابل حريتنا تكون غير محددة في أشياء فيها أسباب من الحق والتي لا تعرض أو تحد من حرية الآخرين ، أو تؤدي لقسرهم أو قهرهم : ” نحن نمتلك أو ننعم بحرية حقيقة عندما نتصرف بحرية وكما نريد ، متبعين القوانين التي نعيش في ظلها ، وعندما لا نعتدي على إرادة الآخرين ” .
إن قوة الدولة في حكومة ” من القوانين لا الأشخاص ” لا يمكن أن تطبق إلى في ظل عمل القانون ، القاضي لا يستطيع أن يقضي إلا وفق القانون . لا يمكن القول هنا أن في دولة لوك الناتجة عن العقد الاجتماعي ، القهر الناتج عن الدولة قد تقلص إلى أدنى حد ، لأن بعضه سيكون ضروريا لتحقيق أعلى حد ممكن من الحرية .
ومن الضروري القول هنا وفق لوك ، أن المواطن هو حر بالكامل دون الخوف من أي قهر ، ولا يخضع لأية حالة من الخوف إلا عندما يخالف أو يخرج عن القانون . ولا يمكن أن أكون معرضا لهذا الخوف من القسر ” الدولتي ” إلا عندما استخدم بكامل الوعي والعلم حريتي بطريقة غير صحيحة ، فالدولة وجودها ليس للحد من الحرية الشخصية أو غيرها من الحريات . وهذا كله لا يمكن تحقيقه إلا في شروط يكون فيها القانون يتمتع بعدة صفات جوهرية :

1- وفق لوك القوانين يجب أن تكون موضوعة ” مكتوبة ” ، معروفة ويراها الجميع ، مبرهنة بشكل يوافق عليه الجميع ، وحرية الناس في داخل المجتمع حيث يوجد دولة ” Freedom of men under gouvernment ” تكون
في الحصول على قوانين مستقرة : ” لا بد من قوانين مستقرة من خلالها الملكيات الخاصة تكون محددة ، وكل شخص يعترف بما لغيره ، وليس قوانين متبدلة تتبع الظروف والأهواء الشخصية ” . وهذه القوانين ستكون مشتركة بين جميع الأفراد في المجتمع ، لا تطبق على الفقراء من غير الأغنياء.
2 – الوضوح : يكون القانون غير مؤكد إذا كان غامضا . ونجن نعلم منذ أيام الرومان ، كل تقدم القوانين يسعى للبحث عن أدوات فكرية تسمح بإزالة الغموض عن القوانين .
3 – الشمولية : شمولية القانون تنتج مباشرة من مفهومه . القانون لا يصدر عن شخص ولا يشير إلى شخص بعينه . القانون المدني يجب أن يكون عاما كما هي ” الحالة الطبيعية ” .
4 – العلنية : لا يكفي القانون أن يكون معروفا ، بل يجب أن يكون عاما . بمعنى أن يعرف الجميع أن الجميع يعرفون القانون . و يجب أن أعرف ما هي الأشياء التي يفرضها القانون عليّ تجاه الآخرين . فالقانون يشكل بين جميع المواطنين ” وسيطا ” من الاتصال والذي يسمح لهم بالتكيف وبالتبادل مع تصرفاتهم وسلوكهم .
5 -الرجعية ” المفعول الرجعي ” Non-rétroactivité ” : هذه السمة للقانون تنتج عما قبلها . إذا قانون ما له مفعولا رجعيا ، فهذا يعني انه سيكون له وقتا من خلاله أو ضمنه لن يكون عاما ، وضمن هذا الوقت لا أحد من المواطنين سيستطيع معرفة إذا كان قد حصل عليه . إذا هذا يعتبر ” فعلا ” خارج القانون.
6 – الاستقرار : عندما يصبح القانون عاما ، فهذا يجبر على عدم تطوير التشريع إلا بهدوء وبطئ . فالتشريع الذي يتغير باستمرار ليس لديه الوقت كي يصبح عاما ، ولا يستطيع أن يشكل أو يؤسس قاعدة ، ولا يضمن تعاون المواطنين فيما بينهم ولا يمكن المواطنين من مراقبة حرياتهم بالنسبة للسلطة .
7 – المساواة : فكرة المساواة أمام القانون ليست من اختراع لوك ، فهي تمتد منذ العصر اليوناني القديم ، لكن مذهب لوك حول القانون يضيف أشياء جديدة . السبب الذي من أجله القانون يجب ان يكون ” عادلا ” أو ” مساويا ” لكل الناس هو إدراكي /معرفي
8- وليس أخلاقي : فإذا كان من الواجب أن تكون القوانين ” مساوية ” للجميع فهذا لأنه الوسيلة الوحيدة ليعرف كل شخص على ماذا ” يحصل ” مهما كان الشخص الذي يتفاعل معه . فإذا الآخر ليس لديه ما أملك من الحقوق ، فإنه لن يكون لدي ما أحصل عليه ، وما سأحصل عليه في عملية التعامل أو التفاعل معه . سأجهل الالتزامات التي تجعله مقتنع أنه يخضع بالنسبة لي ، وهي نفسها تجعله يظن أنني خاضع بالنسبة له . من غير معرفة الالتزامات فهناك خطر بعدمية العلاقات بيننا أو بضعفها . المساواة أمام القانون قاعدة جوهرية للحياة الاجتماعية والاقتصادية للأمة أو الدولة ، حيث الجميع سيكون باستطاعته المشاركة في نفس ” اللعبة ” .
إذا كان على القانون أن يحصل على هذه السمات المختلفة ، فهذا يعود لإدانة جميع السياسات التي تستخدم المراسيم ، وقوانين الطوارئ ، والقوانين المقترع عليها من خلال الأغلبية والتي سوف لن تعني سولا الأقلية .
في الحقيقة ، جون لوك أسس نظرية ليبرالية ديمقراطية كاملة ، عرفتها أولا الثورة الإنكليزية 1688 ، ومن ثم الأمريكية والفرنسية . وقد استندت نظرية لوك إلى حجج قديمة للملكيات نفسها وللنظرية التوماسية Thomiste حول صراع الطاغية ” لدينا الحق في مقاومة وبالقوة السلطة السياسية الطاغية ” . لكن أصالة لوك تكون في تقديم القانون في المقاومة للاضطهاد كمبدأ دستوري متجانس عضويا . ” هذا المذهب في السلطة يعطي الشعب تشييدا لأمنه من خلاله تشريع آخر ، عندما التشريعات القائمة تؤدي بالضرر على خاصياته وتعاكس أعماله ومهماته . وهذا التشريع الآخر يؤسس سياجا أو سورا ضد التمرد والفتنة ، وهو الوسيلة الأكثر تأثيرا في منعهما […..] ، ولأن الوسيلة لاستدراك الشر هي في توضيح وتبيين الخطر والظلم لهؤلاء الأكثر تعرضا لتجريبه ” .

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى