دراسات سياسية

النخبة المثقفة والازمة العالمية المعاصرة

أن تفكر يعني ان تفشل، هكذا يصف ”سام سمث” في إعلانه”سقوط الانتلجنتسيا الأمريكية” واقع المثقف في أتون عالم تزدهر فيه التناقضات، وتهيمن فيه الصورة على التصور، وتغيب امكانيات التمييز والتمايز، حيث تتساوى الحقائق واللاحقائق، عندما تغدو مجرد فقرات في شريط اخباري ممل.”اننا نعيش دائما عملية قراءة لانهاية لها سواء كنا نشاهد اونقرا عن مذبحة في بلد من بلدان العالم الثالث او مباراة لكرة السلة، كلاهما نص بلا معنى ثابت” كما يقول حيدر آيد مستعرضا المأزق المعاصر، ففي عالم الرقميات وفيض المعلومات وطغيان الصورة”وانفتاح الوعي” تنغلق إمكانيات التأمل السليم، وتغدو قدرات الفهم والتفهم اكثر ضيقا، ويتم اختزال الحياة والوجود الى متواليات سردية، لا تعبر الا عن القصة كما ترى، لا كما تحدث، وما يحدث لا يعبر عن نفسه الا في شكل دلالات متناثرة حيث الاشياء ليست الا انعكاس لما نرى، ولا وجود لها خارج حدود رؤيتنا.

أن رؤيتنا اليوم، في عالم الجغرافيا المنكمشة، والفضاءات المزدحمة، لا تعرف حدودا الا حدود الوعي الذي يأسرها، والوعي الذي تأسره علاقتنا المتلاعب بها مع ادوات البث، انه وعي يخادع نفسه بادعاء قدرته على الادراك، وهو نتاج لادراك مستعار تبنيه لنا محطات البث وأجهزة الأعلام وعالم الصورة المنتقاة.
يشتكي مثقفو اليوم من غياب القضية، وتلك بذاتها قضية، طغيان النسبية وانهيار المعارف الشاملة والنكوص عن”المثال” إلى محاكاة الواقع الذي يتم تبضيعه ليكون جزءا من ثقافة الاستهلاك، هي ظواهر العصر الذي يغدو”كل شيء فيه ثقافيا” لان الثقافة تسلعت هي الاخرى في الراسمالية ما بعد الانتاجية، وبات اعتناق”القضية” جزءا من الموضة، وحيث ان الموضة اخذت مع ردم الفجوة بين الثقافتين العليا والشعبية، تعتمد اكثر على محاكاة ودغدغة احتياجات الطبقة الشعبية، فان اعتناق قضايا المهمشين، في اطار السوق الايديولوجي الجديد، بات موضى اخرى، يحكمها التزييف الذي يحكم اشكال التعاطي الدعائي المعاصر، حيث يتم اختزال شعوب وجماعات الى اشكال من الممارسات الفلكلورية وتصبح معاناة افرادها طرحا انثروبولوجيا في استكشاف اللامبالاة بالأخر، ويغدو الألم والإجحاف والظلم في علاقاتها الداخلية، او في علاقاتها مع الخارج، اقرار شرعي باختلافها، وبحقها في ان تستلب وتنتهك نفسها، وباسم”الخصوصية” التي يراد لها اليوم ان تبرر التعاطي السطحي مع حقيقة وجود الاخر ونظام كينونته، فليس مهما ان نفهم مكنون ونظام العلاقات لدى تلك الجماعات والشعوب فهي لا تعني شيئا الا بقدر ما تضفيه من رصيد الى خيال منتجي الموضة، ثقافية كانت ام مادية، طالما ان الثقافة اليوم تعامل كما المادة.

لم تعد هناك قضية، لانه لم يعد هناك ثمة معنا للعدالة، والاقرار بالوجود المختلف قد يكون عادلا في جانبه الظاهر، لكنه ينطوي على اقرار بان العدالة موضوع لخصوصيات الجماعات، حيث يمكن للملوك والاقطاعيين في ثقافات ما قبل الحداثة ان يواصلوا ادعاء الربوبية، وان يسوموا”عبيدهم” العذاب تحت ذريعة التباين الثقافي، وحق كل”مجتمع” أن يجد طريقة الى اليسار الجديد، وفي وسطه نخبة الثقافة والفكر المعاصرين، يؤكد مأزقه، ولا يقدم سوى رد فعل متطرف لتطرف اليمين الجديد، والايغال في اللامبالاة بحجة الاعتراف بالأخر و حقوقه، والتظاهر بقبول الاخر كما هو لتغطية السعي الحثيث لشرعنة الظلم في بعض مناطق العالم، ليس بأقل خطرا أو إجحافا من أقصائية اليمين، وسعيه الى بناء الحواجز، وخلق جزيرتين كونيتين للشمال المزدهر الامن، والجنوب المتخلف المضطرب.

ان الانتلجنتسيا الغربية تعيش اليوم ازمة مستعصية كما العالم كله، وكما انتلجنتسيا الشرق، والمثقفون في الغرب، المنقسمون بحسب نعوم تشو مسكي الى التكنوقراط او اصحاب التوجه السياسي”الأولاد الطيبون الذين يجعلون النظام يعمل ولا يطرحون اسئلة مزعجة”، والمثقفون القيمون الذين قد يعيقون طريقة الحياة الامريكية ويتحدون الاشكال والقيم السائدة لدى السلطة، لا يمتلكون اليوم سوى وعيا مشتتا تاسره هو الاخر الماكنة الإعلامية وما تتسم به من انتقائية،المثقف الغربي ما عاد اليوم، بحسب ”مواري بوكين” سوى سلعة، ”هيئة مثقفين” تقوم بوظيفة مدفوعة الاجر، يفكر ضمن ايدولوجيا النظام، وعندما يكون خارجها، يفكر بايدولوجية الضد،وفي اطار تمركز على الذات يصبح فيه الاخر مجرد استكمال لحجج القبول او الرفض، ويتجه مثقفوا اليمين في الغرب الى احياء ضمني لنظريات التفوق العرقي ونقاء السلالة البيضاء، وبالحديث عن التحدي الذي يواجه العالم الحر، يتم في الحال بناء سياج فكري وعقائدي يعزلهم عن ”العالم غير الحر”، ومرة أخرى الأنا لا يؤكدها الا الاعلان بوجود اخر يهددها، والتحشد العقائدي خلف انماط معاصرة للخلاص يحققها مزيج من التبجح بالثراء الاقتصادي والتحرر الفكري والتقدم العلمي، يتم تعويض العزلة عن عالم الارض المتخلف، بالصعود الى الفضاء، نوع من التاكيد الرمزي على التفوق والتسامي الذي هو استحقاق الاعراق المتفوقة التي تمسك بزمام القيادة الانسانية، حيث البشرية لا تعني سوى ال” نحن”، أما الآخرين فما زال عليهم يثبتوا بشريتهم. هذا الخطاب اليميني الصريح منه او الضمني لا تخفف منه الاحاديث الوعظية والمقتبسات العصرية من العهد القديم، والدين اليميني الجديد هو دين تاكيد التفوق، وعاء روحي يتم انتقاءه لرفد مزيج الثراء والحرية والتقدم، الجانب الايديولوجي الموجه نحو الاكثرية المنقادة والطبقات الشعبية التي تعوض عن تهميشها السياسي والاقتصادي بالانجرار وراء”أساطير” التفوق والإغراق فيها إلى حد إعطاءها طابعا”فاشيا”، والفاشيون هم الوجه المتعري لمثقفي اليمين الذي يجسدون ببدائية عقيدة اليمين المعروضة بحبكة سياسية اكثر مراوغة واقل صدامية.

أما على اليسار، فقد تغدو الازمة اكثر استعصاء ليس بفعل الهجوم غير المحسوب للراسمالية المعلوماتية والتداعي المتتالي لبعض الفروض الماركسية عن البروليتاريا فقط، بل وبفعل الشعور المزدوج تجاه الماكنة المتسارعة للنظام، والرغبة المتعارضة في ابطائها واللحاق بها في نفس الوقت، فمثقفوا البيئة وهم ينادون بوقف التلوث واغلاق الصناعات القديمة ذات المداخن والحد من فجوة الاوزون وابقاء الكوكب اخضرا، غير قادرين في المقابل على مواجهة اعتراضات الفقراء والعاطلين عن العمل الذين قد لا تشغلهم هذه القضايا ولا يستطيعون ان يدركوا حياتهم بمعزل عن حركة النظام، ومازالوا يذهبون الى صناديق الاقتراع لتاكيد انتماءهم إلى”الأمة” والتشبث بخلاص لا يحتمل حدوثه، ووسط انجرار التفكيكيين والعدميين المعاصرين الى التبرؤ من الايديولوجيا، بما فيها ايديولوجيا النظام، فانهم يخلقون”فراغا من العدمية الشاملة، والرفض العام، وعدم التماسك، والمعارضة الكونية للنظرية، والمعارضة النظرية حتى للتطبيق الواضح” كما يرى”مواري بوكين” متابعا القول”انه تطرف يتجاوز كل الحدود بسخف، عدمية تتضمن رفضا شاملا، فراغا يمكن ان يدخله اي شيء…. تقتصر على العدمية، يعني ان تاخذ فراغا يمكن ان يدخله اي شيء، حتى الفاشية، وهو ما يحصل اليوم، وان تقتصر على الروحانية المجردة بلا عقل، يعني ان تظل بلا تماسك”.

مثقفوا اليسار اليوم اكثر تفككا واقل وحدة من اي وقت مضى، واليسار ما عاد سوى تعبير نتشبث به، بقدر من الافتعال ربما، لنصنف تحته تيارات واتجاهات لا تساير ماكنة النظام ودعايتها، وان كانت معظم هذه التيارات غير متحررة من هذه الدعاية، والمشكلة تتمثل مرة اخرى بالأحادية التي يتسم بها التفكير الانساني، فاعتراض المثقفين اليساريين علىاتجاهات الراسمالية تتبعه عادة تفسيرات احادية واطلاقيات تعيد انتاج نفس المنطق الاقصائي، والاعتراض على هيمنة الشركات متعددة الجنسيات واتجاهها للتحكم بمصير بعض بلدان العالم الثالث قد ينتج مثقفين يساريين يدعمون بعض الطغاة والزعماء المجانين باسم وحدة القضية، ويصبح بقاء الديكتاتور في السلطة تعبيرا عن قضية المهمشين في عالم الراسمالية الجامحة، لكن مثقفوا اليسار هؤلاء وسط اندفاعهم هذا يتجاهلون ويضاعفون من تهميش من همشهم الطغيان في المجتمعات المحلية، ومجددا لا يخرج اليسار عن طوق ازدواجيته، ويعيد تاسيس مواقف تذكرنا بمواقف بعض الاشتراكيين الغربيين في السيتينات والسبعينات عندما كانوا يجدون في الاتحاد السوفيتي مثالا ينبغي احتذاءه، الملايين الذي ذبحتهم وشردتهم الستالينية لم تكن ارقاما حقيقية، بل كبش فداء في عملية التحول الثورية نحو”العدالة الاجتماعية” ، فوسط الجيشان الايديولوجي يتنكر الانسان لادميته احيانا و ينفعل لتبريراو اغماض العين عن المحارق الكبرى للقول بانها ضرورات مرحلية باتجاه الهدف الاسمي، ولقد تنكر اليساريون لانفسهم طويلا، وما زال الكثير من يساريي الغرب يفعلون ذلك اليوم ايضا.

هناك ثمة مثقف اليوم في الغرب بعيدا جدا عن اصحاب الصرعات واولئك الذين يريدون ان يفعلوا اي شيء غريب ليثبتوا وجودهم، وفي عالم الصورة والاضواء اصبح مثقفوا اليسار شغوفين ايضا بلعب ذات اللعبة الانتقائية الاعلامية، ان حقائق اليوم واحداثه لا تطرح نفسها بحسب جسامتها، بل بحسب جداول المؤسسات الاعلامية واجنداتها حيث يتم تسليط الضوء على بعض القضايا”التافهة” بالحسابات القيمية التقليدية وتجاهل الاحداث الجسام، تشغل الماكنة الاعلامية باصرار واندفاع لمناقشة موت الاميرة ديانا، ونعلم بعد حين ان مليوني انسان لقوا حتفهم في مذابح كانت تقع في راوندة دون ان ندري، انه تحول في المفاهيم القيمية نحو تاكيد القيمة الاستهلاكية للاشياء، فالبضاعة الخبرية صارت تجاري ما يريده الجمهور ولم تعد الاخبار تستمد قيمتها، من قيمتها، بل من مدى جذبها لشغف واهتمام المشاهد والمستمع، الذي يتحول في النهاية الى ارقام اضافية في ارباح المؤسسات الاعلامية وامهاتها من المؤسسات الراسمالية المشغلة للنظام، نوع من اعادة تشكيل الوعي، كما تشكيل كل شيء، لينسجم مع مصفوفة الاشياء التي تبنيها ثورة الاتصالات.

وفي ظل هذه الحقيقة، يقول سام سمث”أن الانحطاط والتدهور في فكر المثقفين بات مشكلة عالمية”، كما يكشف عن ذلك البيان المتعدد الجنسيات الذي اصدره اشخاص مثل غابريل غارسيا ماركيز، ديزموند توتو، وليام ستايرون، لورين بيكال، جاك دريدا، صوفيا لورين، كارلوس فيونتس، فينيسيا رودغريف، وارثر تشليزنجر عام 1998، الذي كتب نات هينتوف عنه معلقا”قد نتصور انهم سيوجهون نداءا لانهاء التطهير العرقي في كوسوفو او اسعاف مئات الالاف من المسيحيين السود في جنوب السودان، كلا هؤلاء النجوم منخرطين بحرب صليبية اكثر حيوية، انهم في الحقيقة يتناولون علاقة الرئيس كلنتون بمونيكا لونيسكي، ليعلنوا”ان رجل الدولة غير مسؤول امام الراي العام والقانون الا عن اعماله العامة”.
لقد فقد مثقفوا اليسار، مع ثوريتهم القديمة، وحدتهم العالمية بفعل تمركزهم على الذات، وادراكهم الاحادي، وانسجامهم مع لعبة النظام رغم زعمهم عكس ذلك، وهي صفقة اخرى للساعين الى الخلاص في العالم غير الغربي الذين باتوا لفرط ياسهم من التغيير وامكانياته، يجدون في ايديولوجيات وشعارات اليمين الغربي ملاذا في مفارقة لا يعادلها في قسوتها سوى قسوة الواقع العالمي الذي لا تلوكه السنة المذيعين، والانكار الدائم لبؤس الملايين ممن لا يحظى بؤسهم بشعبية في الCNN وBBC والجزيرة.

انجرار بعض مثقفي الشرق وراء طروحات اليمين الغربي موقف بائس يحكمه شعور بالدونية والياس من الذات ومن المجتمع، ورغبة بصدمة لا تتحقق الا بحدث متطرف يهز اركان مجتمعاتهم ويحقق قدرا من الفوضى تنهي الوضع القائم وتفتح بابا لاعادة المساءلة، القول بتفوق الغربي كحقيقة كونية مطلقة ليس انسلاخاً عن الذات، بل جلد لها، تذكرها الدائم بانها لا شيء في عالم اشيائه غربية، وانها لا تكون شيئا الا بمقدار ما تكون من الاشياء الغربية، لقد ادى ذلك، بحسب” اويكين باهاراتا” إلى”إفلاس فكري في اسيا حيث اصبح المفكرون الاسيويون يعتقدون ان من الأفضل لهم ان يحاكوا بشكل اعمق الاتجاهات الاخيرة في الفكر اليساري الغربي، فالانتلجنتسيا المتغربة في الهند خصوصا، تفتخر بكونها اكثر يسارية من الاكاديميين الغربيين، واقل اهتماما بالتقاليدالاصلية في اسيا”.
رد الفعل هذا تجاه التقاليد ليس منفصلا عن حقيقتين، الاولى أن الرؤية الغربية لهذه التقاليد، واندفاع بعض مثقفي ومهووسي الغرب إلى تبني الطقوس التقليدية لبعض المجتمعات العالم ثالثية، كان نوعا من الخروج عن المالوف، وسد الفراغ الروحي او الفكري ومواجهة حالة”السأم” في المجتمع الصناعي، لم يكن الامر اكثر من صرعة لم تؤكد في الحقيقة نبوغ هذه التقاليد وازليتها، ولم تعطها اي تعريف خارج اطار علاقاتها المستحدثة مع الغرب الذي يجعل كل شيء اخر في الشرق، اراضيه وافكاره وجباله وحيواناته ومجتمعاته واديانه، موضوعا للاستكشاف، ولطرحه كجديد، حتى لو كان قديما باليا الا انه جديد بالنسبة للغرب وحده، ولذلك حتى عندما يقوم مثقفوا او مقلدوا الشرق بالعودة الى التقاليد، فان ذلك يحصل بنفس طريقة الاستكشاف الغربية لهذه التقاليد، والقاعدة القائلة”أن الإغراق في الاصالة هو الطريق الى العالمية” لا تعني سوى السعي الى ابهار المتابع الغربي الذي يشعر بالسأم المتواصل، ببعض الاشكال الفولكلورية التي لا يعرفها عن المجتمعات الاخرى، ويصبح بعض الشرقيين في علاقاتهم مع أشيائهم الماضية، كمن يبحث عن طريقة الى عالم الغرب المتقدم عن طريق اخر، ولا يعدو الامر ان يكون جزءا من طغيان الثقافة الشعبية في اطار التبضيع المتواصل لثقافة ضمن قواعد السوق الجديدة.

والثانية، ان مثقفي الشرق ما زالوا اسرى فرضيات الحداثة، ولا يريدون التنكر، كبعض مثقفي الغرب، الى فكرة التقدم، الحديث عن نهاية عصر الحداثة بالنسبة لهم لا يعدو أن يكون خدعة وتبرير لا نجرار مجتمعاتهم، متخلفة عرجاء قديمة، إلى العالم الرأسمالي الجديد ليظلوا يمارسوا دورا تقليدياً يعاد إنتاجه، أن يوفروا المواد الخام من السلع المادية، ويضاف لذلك اليوم، ان يوفروا المواد الخام من السلع الثقافية.
ما زال التطلع الى الحداثة بوصفها طريقا إلى التقدم والى اللحاق بالغرب لا مجرد محاكاته، يطبع هذه الفئة من المثقفين الساعين لتجاوز الاطر التقليدية الكابحة لمجتمعاتهم في الوقت الذي تسعى الرأسمالية المعاصرة، ومنطقها الثقافي الجديد الى تكريس هذه الاطر واعادة انتاجها، غير ان الحداثيين التقليديون، يواجهون مثقفين حداثيين بأنماط جديدة، يتحدثون هم ايضا عن مواجهة الراسمالية، ولكن ايضا، العودة الى الاصول، خلق ذات جديدة واعية بنفسها على اسس قومية او دينية او ثقافية او حتى اثنية، ودخول العالم كذات لا كموضوع، يستحدث هؤلاء الحداثيون الجدد تعريفا ايديولوجيا يسعى الى مقاربة”مستقلة” تحشد المهمشين وراء معايير للهوية تحاول تعريف علاقة مجتمعاتهم بالعالم انفكاكا من علاقات الحداثة التقليدية، وتجنبا للسقوط في علاقات ما بعد الحداثة الجديدة التي تحول الذوات الى خصوصيات مبعثرة في عالم بلا غاية، ولكن الادلجة المفرطة لمثل هذا التوجه تزيفه وتلقيه هو الاخر في عتمة الانسدادات الناتجة عن عقم الخطاب في مواجهة زحف القوة الرأسمالية وعلاقات السلطة المستحدثة.

ولا تكمن ازمة المثقف الشرقي فقط في البحث عن الهوية في مواجهة اليمين الغربي الذي يعلن نهاية التاريخ، واليسار الغربي الذي يشرع للامبالاة تحت ستار من العدمية شبه المقنعة، بل وفي مواجهة مجتمعاته التي لما تزل، غالبا، تدخل في علاقة توجس معه اما لادراكها المثقفين كجزء من تركيبة السلطة القمعية التي بناها الاندفاع نحو التحديث القسري منذ منتصف القرن العشرين، او لشعورها بغياب الوسيط الثقافي او اللغوي او المعياري مع المثقف الذي عادة مايزدري، حتى وهو ينفتح على مجتمعه، تخلف المجتمع، المثقفون اشرقيون افراد انقذوا انفسهم من التخلف واصبحوا اسرى الوقوف على الارضية الهشة بين مجتمعاتهم المتخلفة العالم الخارجي الذي لا زال هو الغرب، وما زالوا اسرى البحث عن شكل من اشكال العلاقة”القديمة” بين الجانبين لا تؤدي الى اندراج الاولى قسريا في معادلات الهيمنة للاخير، ولا الى مزيد من اللامبالاة من الاخير تجاه عزلة وتخلف الاولى.
ولذلك نراهم مبعثرين لا في شكل الانقسام التقليدي بين اليمين واليسار، بل في شكل تجمعات تبني كل منها رؤى معيارية مختلفة حد التناقض، وفي ظل النقص الذي تعاني منه هذه المجتمعات تتحدد المواقف بحسب الاولويات المعيارية، وتاخذ غالبا اشكالا متطرفة من الإقصاء بسبب العجز عن اقامة اسس حوارية مشتركة وحيث يدخل النظام طرفا في معادلة الإقصاء ليوجه الحوار ويهيمن عليه لا بفعل تفوقه المنطقي، بل بفعل امتلاكه لعناصر القوة والاجبار، قد تكون هذه هي الحال في كل مكان من العالم، نعم، لكن في مجتمعات العالم الثالث الاقل نضجا من الناحية التاريخية، تكون الاساطير الشاملة والمؤسسة غير مكتملة، ولذلك يتم فرضها من قبل النظام في عملية تنطوي على الاقصاء عادة، ويصبح الرفض والاعتراض ليس مجرد عناد فكري، بل مقاومة للنظام ولقدرته على تاسيس نفسه واحتواء المجتمع.

وهذه العملية تسلم تلك المجتمعات الى مازقها، وتحدث القطيعة المستمرة مع الماضي بفعل الانقلابات المتوالية التي تعيدها الى نقطة الصفر، وتكون النتيجة انقطاعا بين النخبة السياسية وبين المجتمع يكرس تيهان النخبة المثقفة التي تنقسم بين من يختار اعتناق مواقف السلطة، وحتى براغماتيتها، عندما يصبح مجرد البقاء في السلطة مبداء تعبويا ومبررا، وبين من يعتنق الوظيفة الاصعب في توعية المهمشين وتنشئة تمردهم لثورة عادة مالا تكتمل لان السلطة السياسية تلجا الى القمع المفرط لهؤلاء المحرضين، بينما يلجا المجتمع إلى تجاهلهم بعد حين بفعل ثقافة الخوف المتفشية، اما القسم الثالث، الاخذ بالازدياد ربما، فهو الذي يختار الغربة بمعانها المجرد أو الرمزي نائيا بنفسه عن سلطة لا يسمح له بتكوينه العقائدي ، الذي مازال متأثراً بالجنوح الأيديولوجي لأواسط القرن العشرين ، بالانجرار وراءها في لعبة الانسلاخ الفكري المتواصل والمتهافت ، وعن مجتمع مازال يبحث عن وعاظه في المباني الاكليركية القديمة ويعبر عن تيهانه في اعتناقه المستميت للفعل الغريزي وأخلاقيات القطيع وتأييده لفكر المحارق ، ممارساً الانتقام من ذاته ومن خضوعه لمزيد من الإنكار لهذه الذات والتكريس لهذا الخضوع .

أن أزمة المثقف المعاصر هي أزمة عالمية وان تعددت وتنوعت أشكالها ، أنها أزمة العالم المعاصر نفسه في تخبطه وفقدانه للاتجاه ، وفي جيشان واحتدام علاقاته الداخلية التي يصبح فيها التعايش البشري في موضع المساءلة ، كما يصبح مجرد الوجود البشري في موضع التهديد ، والمثقفون يواجهون ، بقدر ما يخلقون ، طوفانات متعارضة من العدمية أو البحث عن المعنى ، غير أن التحدي الثقافي الذي يواجه من يتعاطى مع التفكير ، سيظل جزءاً من التحدي الأوسع أمام الإنسان ، في سعيه الدائم لجعل حياته أفضل ، وتحديد معنى للأفضل .
*******
حارث محمد حسن
باحث اكاديمي

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى