النشاط الجهادي في إفريقيا: اتجاهات وآفاق

بقلم علاء عادل

تهدف الدراسة إلى تحليل اتجاهات النشاط الجهادي في إفريقيا، مرورًا برصد التطورات الرئيسية التي شهدتها الهجمات المسلحة المرتبطة بالمجموعات الإسلامية خلال السنوات الأخيرة، تمهيدًا لاستشراف مستقبل الصراع في أنحاء القارة. ولأن جذور هذا الصراع المسلح ودوافعه لا يمكن اختزالها في “أيديولوجية متطرفة مستوردة من بلاد النفط، دخيلة على المجتمع الإفريقيّ المسالِم”- حسبما تذهب الأطروحات الغربية- أو حتى هشاشة الحكم وتفشي الفساد في جنبات القارة- وهو عامل رئيس لا يمكن إغفاله- فإن تحليل اتجاهات الحاضر وآفاق المستقبل لا يكتمل إلا باستحضار الدور الاستعماري في ثوبَيْه التقليدي والحديث، وهو ما يقود بالضرورة إلى رصد النشاط الجهادي الذي يستهدف المصالح الغربية في إفريقيا.

Table of Contents

أولا: خريطة المجموعات الإسلامية المسلحة النشطة في إفريقيا

تضم القائمة التالية أبرز المجموعات الإسلامية المسلحة التي تنشط في القارة، وتقع في دائرة اهتمام المؤسسات العسكرية الغربية وأبرزها البنتاجون، إلى جانب مجموعات تعمل في سياق محلي أو انبثقت عن تنظيمات أخرى. مع الوضع في الاعتبار أن النشاط المسلح في القارة لا يقتصر على المجموعات الإسلامية، بل توجد إلى جانب ذلك – وأحيانا على الساحة ذاتها- مليشيات مسلحة مسيحية تهدف إلى “تطبيق شريعة الرب” وفق تفسيرها اللاهوتي.

– تونس:

(1) كتيبة عقبة بن نافع.

(2) شباب التوحيد (معروفة أيضًا باسم: أنصار الشريعة في تونس).

(3) جند الخلافة (تستهدف تونس والجزائر).

– الجزائر:

(1) القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

– مالي/بوكينا فاسو:

(1) جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (تشكلت باندماج أربع مجموعات تابعة للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي:

– إمارة منطقة الصحراء.

– المرابطون.

– أنصار الدين.

– جبهة تحرير ماسينا.

(2) حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا.

(3) الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى.

– ليبيا:

(1) أنصار الشريعة في ليبيا.

(2) المرابطون (تستهدف مصر أساسًا)

(3) ولاية برقة (عرفت سابقًا باسم: مجلس شورى شباب الإسلام)

(4) ولاية فزان.

(5) ولاية طرابلس.

– مصر:

(1) أنصار الإسلام.

(2) جند الإسلام.

(3) أنصار بيت المقدس (معروفة أيضًا باسم: ولاية سيناء).

(4) الدولة الإسلامية في مصر (ولاية مصر).

– الصومال:

(1) حركة الشباب المجاهدين.

(2) الدولة الإسلامية في الصومال.

– نيجيريا:

(1) بوكو حرام.

(2) ولاية غرب إفريقيا (معروفة أيضًا باسم: الدولة الإسلامية في شرق إفريقيا).

– كينيا:

(1) الهجرة (عرفت سابقًا باسم: مركز الشباب الإسلامي)

(2) المهاجرون (معروفة أيضًا باسم: المهاجرون في شرق إفريقيا)

(3) جبهة شرق إفريقيا.[1]

المجموعات الإسلامية المسلحة النشطة في إفريقيا
(المصدر: مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية )

إلى جانب المجموعات السابقة التي رصدها مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية في أحدث تقاريره (2018)، تنشط مجموعات مسلحة أخرى في القارة؛

بعضها إسلامية، مثل:

(1) مجلس شورى مجاهدي درنة في ليبيا،

(2) حركة أزواد الإسلامية في مالي،

(3) كتيبة الموقعون بالدماء (تأسست بعد انفصال كتيبة الملثمون عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي)،

(4) جماعة سيليكا في إفريقيا الوسطى.

وبعضها مسيحية، مثل:

(1) جماعة أنتي بالاكا في إفريقيا الوسطى،

(2) جيش الرب للمقاومة في أوغندا،

(3) جيش نظام الهوتو (المعروف بــ”أنتيرا هاموي”) في رواندا،

(4) الجبهة الثورية المتحدة في سيراليون.

يؤكد المحللون والمسؤولون العسكريون منذ سنوات وجود تعاون عميق بين الجماعات الإسلامية المسلحة، يتجاوز الولاء التنظيمي لصالح تحقيق الأهداف المشتركة، باستخدام وسائل اتصالات حديثة ونظام متطور من المدربين المتجولين لتبادل التكتيكات العسكرية والاستراتيجيات الإعلامية وطرق تحويل الأموال[2].

ثانيًا: نشاط الجماعات الإسلامية المسلحة في إفريقيا

يركز هذا المحور على التطورات الرئيسية التي شهدتها الهجمات المسلحة المرتبطة بالمجموعات الإسلامية في إفريقيا خلال العقد الماضي، مع وضعها في السياق العام للنشاط الجهادي حول العالم خلال الخمسين عامًا الأخيرة:

1- قبل عقدين من الزمان، في تسعينات القرن الماضي، كانت الهجمات المسلحة في إفريقيا عَرَضِيّة إلى حدٍ ما، ومُقتَصِرَة على سياقاتٍ محليةٍ مُحَدَّدة (في الجزائر وليبيريا وسيراليون وأوغندا، على سبيل المثال). لكن ظهور جماعات مثل بوكو حرام في نيجيريا، ووصول هجمات حركة الشباب في الصومال إلى كينيا وأوغندا؛ جذب الأنظار الدولية إلى تهديدٍ أمنيّ متصاعد في القارة[3].

2- قبل عقدٍ، كانت حصيلة نشاط حركة الشباب وبوكو حرام (في إفريقيا)، إلى جانب تنظيم الدولة وحركة طالبان، لا تتجاوز ستة في المائة فقط من إجمالي عدد الوفيات الناجمة عن النشاط المسلح، لكن نصيبها ارتفع في عام 2012، قبل الطفرة التي شهدتها العمليات الجهادية، إلى 32 في المائة من إجمالي الوفيات[4].

3- خلال العقد الحالي، بين عامي 2010 و 2017، ارتفع عدد الهجمات المرتبطة بالجماعات المسلحة الإسلامية في إفريقيا بأكثر من 300٪، وتضاعف عدد الدول الإفريقية التي تشهد نشاطًا مسلحًا ليشمل 12 دولة خلال الفترة ذاتها[5].

4- شهد العقد الماضي أكبر زيادة في النشاط المسلح على مستوى العالم، خلال الخمسين سنة الماضية. وخلال هذه السنوات العشر، كانت المجموعات الأربع (الشباب، بوكو حرام، الدولة، طالبان) مسؤولة عن 44 في المائة من إجمالي الوفيات[6].

5- منذ عام 2002، شهدت منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 40,601 حالة وفاة ناتجة عن العمليات المسلحة. وعلى الرغم من أن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت انخفاضًا كبيرًا في إجمالي الوفيات سنويًا، فقد كان ذلك يرجع أساسًا إلى تراجع نشاط بوكو حرام.

6- استنادًا إلى قاعدة بيانات الإرهاب العالمي التي تضم أكثر من 170 ألف حادث تصنف على أنها “إرهابية” خلال الفترة ما بين 1970 إلى 2017، يتضح أن تأثير النشاط المسلح في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء كان أكبر من بقية المناطق حول العالم، بموازاة ارتفاع التأثير بشكل عام في كافة المناطق خلال عام 2017 عن عام 2002.[7]

7- خلال العامين الماضيين، شهدت منطقتَي المغرب والساحل في شمال إفريقيا عودة للنشاط المسلح، على الأخص من تنظيم القاعدة. وبحلول مارس 2018، كان هناك أكثر من تسعة آلاف عضو في المنطقة، يتركز معظمهم في ليبيا والجزائر.[8]

8- كانت حركة الشباب وبوكو حرام (إفريقيا) مسؤولتان، إلى جانب تنظيم الدولة وحركة طالبان، عن معظم الوفيات الناتجة عن النشاط الإسلامي المسلح حول العالم في عام 2017، بواقع 10632 حالة تمثل 56,5 في المائة من إجمالي الوفيات في ذلك العام.[9]

9- في عام 2017، تفوقت حركة الشباب على بوكو حرام من حيث عدد ضحايا النشاط المسلح لأول مرة منذ عام 2010 في إفريقيا جنوب الصحراء، مع ارتفاع إجمالي عدد الوفيات بنسبة 93 في المائة من عام 2016 إلى عام 2017، رغم أن الزيادة في عدد الهجمات لم تتجاوز العشرة.[10]

10- شهدت الصومال أكبر زيادة في الهجمات المسلحة على مستوى العالم في عام 2017؛ حيث ارتفعت معدلات الوفيات بنسبة 93 في المائة تقريبًا، لتزيد من 762 في عام 2016 إلى 1470 في عام 2017، بموازاة ارتفاع الحوادث المسلحة بشكل ملحوظ من 248 إلى 369، بزيادة نسبتها 49 في المائة.[11]

11- بشكل عام، ازدادت أحداث العنف المرتبطة بالمجموعات الإسلامية المسلحة في إفريقيا بنسبة 38 في المائة خلال العام الماضي (حتى 31 مارس) مقارنة بفترة الـ12 شهرًا التي سبقتها (2933 مقابل 2117). هذا الاتجاه التصاعدي الذي لوحظ في عام 2017 بعد تراجع قصير في عام 2016، لم يكن نتيجة نشاط فاعلٍ واحد، بل يعكس زيادة في أنشطة كافة الجماعات الإسلامية المسلحة الرئيسية في القارة، وهي: الشباب – بوكو حرام – تنظيم الدولة – القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

12- ارتفع متوسط تأثير النشاط المسلح في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في عام 2017، رغم التراجع في 20 من أصل 44 دولة، وعدم حدوث تغيير في عشرة بلدان. وعلى مدى العام الماضي، ارتفع مجموع الوفيات الناتجة بنسبة 5 في المائة، بواقع 4999 حالة وفاة نتيجة 1371 حادثًا.[12]

13- كانت لحركة الشباب يدٌ في 58 في المائة من مجمل أحداث العنف المرتبطة بالجماعات الإسلامية المسلحة في إفريقيا (1749 من أصل 2933) خلال العام الماضي. كما ارتبط نشاط الحركة بأكبر عدد من الوفيات المبلغ عنها (4834 من أصل 10535)، أي ما يعادل 46 في المائة من الإجمالي.

14- ارتفعت الوفيات المُبلَغ عنها المرتبطة بنشاط المجموعات الإسلامية المسلحة في إفريقيا خلال العام الماضي بنسبة 9 في المائة، على عكس الاتجاه التنازليّ الذي لوحظ منذ عام 2015. ومع ذلك، فإن حالات الوفيات المُبلَغ عنها، والبالغة 10535 حالة خلال الـ12شهرا السابقة، لا تزال أقل بكثير من مستوى الذروة الذي بلغته الحالات في عام 2015 حين وصلت إلى سقف 18728.

15- ارتفعت الأحداث العنيفة المبلغ عنها والمرتبطة بالقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والفروع التابعة لها ارتفاعًا كبيرًا، من 79 في 2017 إلى 212 في 2018. وتزامنت هذه القفزة إلى حد كبير مع تشكيل ائتلاف جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” في مارس عام 2017.

16- لا يزال تنظيم الدولة هو الأكثر نشاطًا في مصر، التي شهدت 305 من أصل 426 حادثة مرتبطة بالتنظيم في إفريقيا خلال العام الماضي. وبالمثل، وصل نصيب مصر من إجمالي الوفيات المبلغ عنها المرتبطة بالتنظيم في إفريقيا إلى 77 في المائة خلال هذه الفترة (1340 من أصل 1734). [13]

17- نظرًا لنقص البيانات مفتوحة المصدر أو عدم موثوقيتها، فإن هذه المعلومات يجب التعامل معها باعتبارها إرشادية وليست نهائية، وبالتالي فإن الحصيلة الفعلية للخسائر البشرية ربما تكون أكبر في الواقع.[14]

18- بينما ازداد نشاط المجموعات المسلحة الرئيسية، إلا أنها لا تزال مُرَكَّزَة جغرافيًا (في الصومال وحوض بحيرة تشاد ووسط مالي)؛ ما يشير إلى “تجانس التهديد برغم تباين العوامل المحلية المرتبطة بكل سياق”.

19- على الرغم من أن حركة الشباب لم تشن أي هجوم خارج الصومال وشمال شرق كينيا في عام 2017، حذر تقرير الخارجية الأمريكية عن الإرهاب الصادر خلال الربع الأخير من العام الجاري من أن “المجموعة تشكل تهديدًا لأمن المنطقة برمتها”.[15]

20- صحيحٌ أن الهجمات المرتبطة بـتنظيم الدولة انخفضت على مستوى إفريقيا بنسبة 17 في المائة، مع بلوغ عدد الحوادث العنيفة 281 حادثًا وعدد الضحايا 1371.[16] إلا أن التنظيم لا يزال قويًا في عام 2018 مثلما كان في عام 2015 عندما وصل إلى أوجه، بل ارتفع نشاط مسلحي تنظيم الدولة بشكل ملحوظ في أنحاء شمال وغرب وشرق إفريقيا، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه، بحسب توقعات مشروع بيانات أحداث ومواقع النزاعات المسلحة.[17]

ثالثًا: استهداف المصالح الغربية في إفريقيا

تختزل معظم الأطروحات الغربية جذور هذا الصراع المسلح ودوافعه في رافدَيْن رئيسيين:

أ. أيديولوجيا دخيلة:

يُقصَد بها تصدير “السلفية المتشددة” المستوردة من شبه الجزيرة العربية إلى المجتمعات الإفريقية المسالمة؛ عبر التمويل الخيريّ ووسائل الإعلام المتنوعة والتعليم بمختلف مراحله واحتكاك الأفارقة بالمجتمعات الخليجية المحافظة وغيرها.

ب. مظالم محلية:

ناجمة عن هشاشة الحكم وتفشي الفساد وعدم تكافؤ الفرص، والأكثر ارتباطًا بموضوع الدراسة هو فشل الحكومات المحلية في التعامل باحترافية مع المسلحين دون استعداء المجتمعات المسلمة خاصة الشباب.

والتقارير الغربية، سواء الصادرة عن مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الأمريكية أو التقارير الدورية التي تعدها وزارة الخارجية الأمريكية أو المكتب الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في إفريقيا أو وسائل الإعلام الغربية على اختلاف مشاربها، تكاد تتفق على رد هذه الظاهرة إلى هذين الرافدين. لكن تناول العامل الأول (الأيديولوجيا الدخيلة) بالتحليل، يستلزم أولا تحرير مفهوم التطرف- لأنه كثيرًا ما يكون مرادفًا للإسلام ذاته في نظر كثيرين- ثم تتبُّع هذا التأثير الفكريّ بموضوعية متحررة من ربقة التحيُّز والأحكام المسبقة.

أما الرافد الثاني فعاملٌ رئيس لا يمكن إغفاله، وأخطر ما يندرج تحته مسألتين:

1- الإجراءات الحكومية الاستعدائية

في السنوات الأخيرة، اتخذت حكومات دول شرق إفريقيا إجراءات صارمة ضد القيادات الإسلامية في محاولة لعزل المشتبه فيهم، شملت الاعتقال بدون تهمة والإخفاء القسري وعمليات الاغتيال التي تنفذها فرق الموت السرية، كمحاولةٍ للتحايل على فشل الجهود القضائية، لكن ذلك جاء بنتيجة عكسية وعزز شكوك المسلمين تجاه القادة السياسيين ومؤسسات الدولة[18].

ولا غروَ أن يجد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن 71٪ من الأشخاص الذين انضموا إلى الجماعات الجهادية في إفريقيا فعلوا ذلك ردًا على “إجراء حكومي” مثل: قتل أحد أفراد العائلة أو اعتقال قريب أو صديق[19].

2- مظالم اجتماعية واقتصادية

– تزيد نسبة البطالة بين الشباب في مقاطعات الساحل والشمال الشرقي ذات الأغلبية المسلمة بنسبة 40 -50 في المائة عن المعدل الوطني في كينيا. وتوجد أنماط مماثلة في تنزانيا؛ حيث بلغ معدل بطالة الشباب في جزيرة زنجبار ذات الأغلبية المسلمة حوالي 17 في المائة خلال السنوات الأخيرة، ما يقارب ضعف المعدل الوطني الذي يبلغ 9 في المائة.

– تنخفض معدلات الحضور والتخرج في المدارس الابتدائية والثانوية في المقاطعات الإسلامية؛ ربما بسبب انخفاض أعدد المدارس والمدرسين لكل طالب في المقاطعتين الساحليتين مقارنة بأجزاء أخرى من كينيا.

– حقوق الملكية في المناطق الساحلية المسلمة غير محددة بوضوح؛ ما يعيق الفرص الاقتصادية ويتيح للحكومة أو حتى الشركات الكبرى غير المحلية مصادرة الأراضي من حين لآخر.

– وبناء عليه، أصبح الشعور بأن المسلمين محرومون عمدًا اقتصاديا وتعليميا ومستهدفون بعدم تكافؤ الفرص مقارنة بغير المسلمين شائعًا في صفوف المجتمعات المسلمة في المنطقة، سواء كانت مؤيدة أو رافضة للعنف[20].

انطلاقًا من هذه الرؤية، يُلَخِّص الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش رؤيته للحل في: “خلق مجتمعات تتسم بالانفتاح والمساواة والمشاركة والاحترام الكامل لحقوق الإنسان وإتاحة الفرص الاقتصادية للجميع”.

لكن هذا الطرح “الغربي” يتجاهل دور التدخل “الغربي” ذاته في تعزيز ظاهرة العنف، لصالح التركيز على: إلقاء المسؤولية على عاتق القوى الإقليمية الغنية التي تحاول امتلاك نفوذ في القارة عبر الوسائل الناعمة، والحكومات المحلية العاجزة عن حماية مجتمعاتها وإدارة مواردها. ووفق هذا التفسير، يصبح التدخل الغربي جزء من الحل لا المشكلة. أو بكلماتٍ أخرى: “نحن هنا لنساعدكم على الخروج من المستنقع الذي أغرقتم فيه أنفسكم؛ بأيديولوجيتكم المتطرفة وسوء إدارتكم لبلادكم، وأيضًا لتدريب قواتكم كي تقوم بالدور الذي ينبغي عليها أن تقوم به، طبعًا وفق ما نراه نحن صوابًا”.

في مقابل هذا السرد، تسلط الدراسة الضوء على العامل الآخر الغائب عن الطرح الغربي: الدور الاستعماري في ثوبَيْه التقليدي والحديث. إذ لا يكتمل تحليل اتجاهات العنف المسلح في حاضر القارة ولا يتأتى استشراف آفاق مستقبلها إلا باستحضار هذا العامل، الذي يقود الدراسة بحكم الأمر الواقع إلى: رصد وتحليل اتجاهات النشاط الجهادي ضد المصالح الغربية في إفريقيا.

(1) إجهاض مسيرة التحرُّر

تدافعت القوى الأوروبية التي يسيل لعابها على الموارد الطبيعية الوفيرة على القارة لاستلاب خيراتها، وتحويلها إلى مستعمرات محاطة بحدود تتجاهل الامتداد الطبيعي للمجتمعات القائمة، حتى بات الأفارقة يعيشون في قارةٍ مقسمة إلى 54 دولة.[21]

حتى بعدما انطلقت مسيرة الانعتاق الإفريقي من ربقة الاستعمار في أواخر الحرب العالمية الثانية، لم يستحي بعض القادة الأفارقة الجدد من التواطؤ مع القوى الأجنبية على استمرار الهيمنة الثقافية والسياسية الغربية ومواصلة السيطرة على الموارد الاقتصادية. ورغم النجاح المتفاوت الذي حققته معظم دول القارة، بقيت بصمة الهيمنة الغربية واضحة على الحدود الوطنية والهياكل السياسية وأنظمة التعليم واللغات الوطنية والاقتصادات والشبكات التجارية.

صحيحٌ أن المحاولات الإفريقية المرهقة والمُشَرِّفة لإنهاء الاستعمار مرَّت بمحطات ثريّة من الإلهام والآمال، إلا أنها فشلت في إحداث تحوُّل جذريّ على صعيد الهياكل الاقتصادية والسياسية بما يحقق الاستقلال والتنمية الحقيقيين.[22]

(2) ثروات إفريقيا لغير أهلها

إذا كانت إفريقيا تمتلك حوالي 30 في المائة من الموارد المعدنية المتبقية على ظهر الكوكب، فلا غروَ أن تحتل مكانة استراتيجية على الخريطة العالمية، وتصبح المنطقة الأكثر جذبًا في العالم للاستثمار الأجنبي المباشر.[23]

المفترض أن تكون الشعوب هي الأكثر استفادة من الموارد الوفيرة الموجودة في أراضيها، بيدَ أن الوضع يختلف في إفريقيا؛ حيث يذهب النصيب الأوفر من هذه الثروات الطبيعية إلى أطراف أخرى حول العالم.[24]

في هذه الأثناء، تواجه إفريقيا تسونامي ديموجرافي؛ فبحلول عام 2050، سوف يتضاعف عدد سكانها إلى 2.5 مليار شخص تقريبًا، 50٪ منهم سيكونون تحت سن 24.[25] وهي ثروة بشرية هائلة، تضاف إلى الموارد الطبيعية الوفيرة، لكنهما كانا ولا يزالان أصولا غير مستغلة في قارةٍ منكوبة رغم كثرة خيراتها.

توزيع ثروات افريقيا
(المصدر: الجزيرة الإنجليزية)

(3) استعمار القرن الحادي والعشرين

رغم الموارد الهائلة التي تتمتع بها إفريقيا، لا تزال القارة تعاني من مشكلات عميقة على مستويات البنية التحتية والفساد والعنف، بموازاة احتدام المنافسة الدولية على بسط النفوذ في القارة اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا. وإن كان التنافس العالمي على التجارة مع الدول الإفريقية يوفر فرصًا واعدة للقارة،[26] أو هكذا يُفتَرَض، فإنه في المقابل يفسر السبب الحقيق للاهتمام الغربي بتأمين إفريقيا تحت شعار “مكافحة الإرهاب”.

التجارة العالمية مع دول إفريقيا جنوب الصحراء
(المصدر: بروكنجز، فاينانشيال تايمز)

من الطريف أن بعض صُنَّاع السياسة الغربيين حين يدافع عن خفض سقف الاهتمام ببعض مناطق إفريقيا لا يجد أفضل من التركيز على افتقارها إلى المصالح السياسية والاقتصادية الغربية الهامة. وفي المقابل تستند المؤسسات البحثية المختصة بمكافحة الإرهاب في معارضتها إلى تفنيد هذا الطرح بالتأكيد- مثلا- على وجود عمليات حفر معتدلة على مدى العقد الماضي في منطقة الساحل للتنقيب عن النفط والغاز بالإضافة إلى أعمال البحث عن المعادن في ذلك الذهب واليورانيوم.[27] وهكذا “يبدو أن التدخل العسكري الغربي في القارة الإفريقية خلال السنوات الأخيرة لا يمكن فهمه وتبريره إلا في سياق محاولة الدول الغربية لإعادة سيطرتها على دول كانت تحتلها في السابق واشتدت المنافسة على خيراتها في القرن الواحد والعشرين بعد دخول منافسين جدد مثل تركيا وإيران الصين والهند والبرازيل”.[28]

(4) إعلان حرب على التواجد الغربي

في خضم هذه المنافسة المسلحة، أصدر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في مايو الماضي بيان “منابذة لكل الشركات والمؤسسات الغربية- وبدرجة أولى الفرنسية منها- العاملة في المغرب الإسلامي (من ليبيا إلى موريتانيا) ومنطقة الساحل وإخطار لها بأنها هدف مشروع للمجاهدين.” متوعدًا بـ “ضرب العمق الذي يحافظ على استمرارية هذه الحكومات العميلة، ويُمَكِّن المحتل الفرنسي من توفير رغد العيش والرخاء لشعبه.”[29] وخلف هذا التهديد يوجد عشرة آلاف مقاتل ينتمون لتنظيمَي الدولة والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي يتواجدون بالفعل في إفريقيا، حسبما أعلن وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة عقب بيان القاعدة بشهر.[30]

ورغم أن تهديد القاعدة اختصّ فرنسا بالذكر، إلا أن القوى الأجنبية، خاصة الولايات المتحدة، تنسق بنشاط مع قوات الأمن المحلية لمواجهة النشاط المسلح الإسلامي؛ ما يضعها في مهب الوعيد الجهادي. إذ لا تكتفي قوات العمليات الخاصة الأمريكية بالعمل كمستشارين في الخطوط الأمامية مثلما تفعل مع القوات الصومالية المشاركة في القتال ضد مسلحي حركة الشباب، بل ينخرط الجيش الأمريكي في القتال الفعليّ، ويبني قاعدة جديدة للطائرات بدون طيار في النيجر؛ لتحسين مهام مراقبة الجماعات المسلحة. [31] وما يخفيه البنتاجون عن حقيقة التواجد الأمريكي في إفريقيا أعظم.

(5) الهجمات الجهادية ضد المصالح الغربية

بالاعتماد على التحليل الكميّ والنوعيّ للعمليات الجهادية التي استهدفت المصالح الغربية في إفريقيا، خلُصَت دراسة نشرتها مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات FDD (فبراير 2018) إلى تزايُد وتيرة وتعقيد هذه الهجمات على مدى العقد الفائت.

شنَّت الجماعات الإسلامية المسلحة 132 هجومًا ضد المصالح الغربية في إفريقيا، بين يناير 2007 وديسمبر 2011، نجح بعضها وأُحبِط البعض وفشل البعض الآخر. ثم تضاعف عدد الهجمات ضد المصالح الغربية في إفريقيا ثلاث أضعاف تقريبًا ما بين يناير 2012 وأكتوبر 2017، ليصل إلى 358 هجومًا. ويزداد العدد الذي رصدته دراسة FDD إلى 490 هجومًا. [32]

– ركزت دراسة مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات على خمس أنواع من الأهداف:

1- المنشآت التي يشتهر ارتياد الأجانب لها.

مثل: المطاعم والفنادق والمقاهي والنوادي الليلية والحانات والمتاجر المحلية والأسواق والمناطق التجارية ومراكز التسوق وأماكن الترفيه كدور السينما والساحات الرياضية.

حظيت هذه الأهداف بنصيب الأسد من الهجمات التي أصبحت تستخدم تكتيكات معقدة وأسلحة متنوعة، وإن كان بعضها يركز على اجتماعات الحكومة المحلية التي تعقد داخل الفنادق، وبالتالي لا يعتبر الأجانب هم أهدافها الرئيسية.

2- المرافق والبنى التحتية التابعة لقطاع الطاقة والموارد المعدنية.

تركزت الهجمات أساسًا على المنشآت ضعيفة الحراسة، مثل: أنابيب الغاز، على عكس مرافق الطاقة التي تحظى بحراسة جيدة. لكن على الرغم من أن الهجمات ضد النوع الأخير كانت أقل عددًا، إلا أنها استخدمت موارد أكثر وأسفرت عن عدد أكبر من الضحايا. وفي سيناء تحديدًا، لا يمكن الجزم بنسبة الهجوم على أنابيب الغاز إلى البدو أو الجهاديين، وقد يكون عدد الهجمات في النهاية مبالغ فيه، وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على ليبيا.

3- السائحون غير الأفارقة والمغتربون والعاملون في المنظمات غير الحكومية.

صحيح أن اختطاف الأجانب ليس تكتيكًا جديدًا في مناطق إفريقية، مثل: الصومال، لكن المجموعات الجهادية في منطقة الساحل وسَّعت مؤخرًا نطاق عملياتها إلى مناطق غير نمطية، مثل: شمال بوركينا فاسو والكاميرون. ويختلف هذا التكتيك عن بقية الأنواع الخمسة بتركيزه على الأشخاص أكثر من المنشآت أو البنى التحتية.

4- المنشآت الحكومية الوطنية والدولية، مثل: السفارات والمجمعات الأممية.

بين عامَي 2012 و2017، أصبحت الهجمات الجهادية ضد السفارات والقنصليات والمجمعات الإنسانية الأممية أكثر تعقيدًا، مع تطوير مجموعات مثل حركة الشباب طرقًا لاختراق المرافق شديدة الحراسة من خلال الجمع بين المركبات المفخخة والهجمات المسلحة؛ ما أسفر عن عدد أكبر من الضحايا، وإن ظل هذا النوع نادرًا نسبيًا، لصالح شيوع استخدام التفجيرات البسيطة. وكان لافتًا أن دراسة FDD استثنت هنا الأهداف العسكرية مثل قوافل حفظ السلام والقواعد والمعسكرات في مناطق النزاع وكذلك المركبات الدبلوماسية.

5- صناعة الطيران.

تشمل:

– هجمات أرض-أرض ضد المطارات الدولية، على: نقاط التفتيش الأمنية ومناطق الأمتعة ومدارج الطائرات،

– هجمات أرض-جو ضد الطائرات، وشملت: إطلاق النار على الطائرات أثناء الإقلاع أو الهبوط،

– هجمات على متن الطائرات، وشملت: زرع القنابل والاختطاف.

خلال السنوات الأخيرة، أظهرت الجماعات الجهادية في إفريقيا اهتماما أكبر بشن هجمات متطورة ضد صناعة الطيران، باستخدام أساليب، شملت: ابتكار إجراءات للتهرب من أمن المطارات، عن طريق إخفاء المتفجرات في الأجهزة الإلكترونية، واعتماد المهاجمين على موظفين متواطئين داخل المطارات.[33]

كان لحركة الشباب نصيب الأسد من هذه الهجمات بواقع 44 هجومًا خلال العقد الفائت، مقابل خمسة هجمات شنتها جماعة أنصار الشريعة في ليبيا، وأربعة شنها تنظيم الدولة في برقة وطرابلس وسيناء، وهجوم واحد لكل من: بوكو حرام ومجلس شورى ثوار بنغازي.[34]

ملاحظات:

1- رغم اختلاف هذه العمليات في النوع والتكتيك، إلا أنها عكست تطوُّرًا عامًا في العمليات الجهادية. ففي بعض الحالات، طوَّرت المنظمات الجهادية تكتيكات جديدة لاختراق منشآت شديدة الحراسة، وهو ما سمح لحركة الشباب على سبيل المثال بالوصول إلى قلب المطارات ومجمعات الأمم المتحدة.[35]

2- طوَّرت الجماعات الجهادية في إفريقيا طرقًا مبتكرة لاختراق تدابير تأمين صناعة الطيران في القارة؛ مثل: لجوء حركة الشباب إلى تفخيخ حاسوب محمول أو طابعة وتفجيرها عن طريق انتحاري. وهو التطور الذي لا يؤكد فقط حجم التهديد المتصاعد لقطاع الطيران في إفريقيا، ولكنه يعكس أيضًا كيف تتعلم الجماعات الجهادية الإفريقية وتبتكر، وهو الاتجاه الذي ينذر بمزيد من المخاطر في المستقبل.[36]

3- القدرة على الابتكار والتعلُّم “ضرورة تنظيمية أساسية” للجماعات الجهادية وليست رفاهية، كما يقول الباحث بروس هوفمان. في مواجهة مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية، إما أن تتكيف هذه المجموعات بسرعة وإبداع وإما ستعاني من العواقب. “والجماعات المسلحة التي تفشل في معالجة نقاط ضعفها في مواجهة العمليات الهجومية المضادة سوف تتدهور في نهاية المطاف إلى درجة عدم الأهمية الاستراتيجية. بالمثل، فإن المنظمات التي لا تستطيع التغلب على التدابير الدفاعية المضادة- السياسات التي تهدف إلى منع الهجمات- سيتجاوزها الزمن مع استغلال المنافسين- الأكثر قدرة على التكيف- نقاط الضعف في البنى الأمنية للدول”.[37]

4- السهولة النسبية في حصول حركات مثل الشباب على الزي الرسمي وغيرها من الأدوات الرسمية، وتكرار حالات تواطؤ الموظفين في تسهيل الهجمات، يشير إلى عمق التهديدات الداخلية التي تواجهها الدول الإفريقية ويصعب اكتشافها وبالتالي معالجتها.[38]

5- أكثر الهجمات التي استهدفت الطائرات في إفريقيا مؤخرًا شهرة كان حادث تفجير طائرة الركاب الروسية وهي في طريقها من شرم الشيخ إلى سان بطرسبورج عام 2015، الذي تبناه تنظيم الدولة وأسفر عن مقتل 224 راكبًا وأفراد الطاقم. لكن الجهود التي تبذلها حركة الشباب لتطوير استهداف الطائرات لافتة للانتباه أيضًا رغم أنها أقل شهرة، وتُظهِر بوضوح نمطا من التعلم والتكيُّف في صفوف الجماعات الجهادية الإفريقية خلال السنوات القليلة الماضية. [39]

6- بالنظر إلى قرب تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وعلاقته الوطيدة مع حركة الشباب، من المرجح أن تكون هناك شراكة في تبادل الخبرات والابتكارات بين المجموعتين. كما أن المجموعات المسلحة الإفريقية في وضع جيد لاختبار تكتيكات جديدة ضد أهداف الطيران، ويمكن تصدير ابتكاراتها الوليدة إلى مسارح أخرى.[40]

7- على امتداد هذه الاستنتاجات، من المرجح أن يبقى قطاع الطيران هدفا للمجموعات الجهادية الإفريقية بسبب أهمية استراتيجيته في الاقتصاد العالمي، والصعوبة اللوجستية في تأمين مواقع الطيران بالكامل.[41]

(المصدر: مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات FDD)

 

لكن دراسة مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية لم تسلط الضوء على أهدافٍ أخرى، ربما تكون أكثر خطورة من قطاع الطيران وأسهل استهدافًا، مثل:

(6) السفن والموانئ.

على الرغم من مليارات الدولار ات التي أنفقت منذ هجمات 11 سبتمبر لتأمين الطيران التجاري، يقول الخبراء الأمنيون إن هذه الجهود ذاتها خلقت نقطة ضعف جديدة تتمثل في: آلاف الموانئ حول العالم.

ولمَّا أدرك الجهاديون مدى ضعف الموانئ البحرية وقطاع الشحن، مستفيدين من بؤر الخطر ونطاق الاختناق، فقد تحوَّلت أنظارهم إلى هذه الأهداف البحرية الأقل صعوبة مقارنة بقطاع الطيران.

وأكدت عملية ميناء أشدود الإسرائيلي (2014) قلق الخبراء الأمنيين بشأن حاويات البضائع التي تستخدم كـ”أحصنة طروادة”، وتعتبر أحد التهديدات المحدقة بـ361 ميناءً أمريكيًا رئيسيًا تمثل شرايين حيوية لاقتصاد الولايات المتحدة[42]. ويؤكد مجلس العلاقات الخارجية صعوبة حماية هذه الموانئ؛ لأنها غالبا ما تكون كبيرة ومزدحمة ما يوفر فرصا متعددة للدخول والهجوم. على سبيل المثال: يبلغ طول ميناء هيوستن 26 ميلا، وتدخل آلاف الشاحنات إليه وتخرج منه كل يوم. علاوة على ذلك، غالبا ما تعبر السفن قنوات ضيقة، ويمكن لسفينة غارقة واحدة في مثل هذه القنوات أن تغلق الميناء لأسابيع أو شهور وتتسبب في فوضى اقتصادية.[43]

رابعًا: مستقبل النشاط الجهادي في إفريقيا.

بناء على ما تقدّم، يمكن الآن تحديد أبرز ملامح المستقبل على النحو التالي:

1- حتى إذا كان المسلحون الإسلاميون في إفريقيا لا يمتلكون قوة عسكرية كبيرة- على الرغم من هذه الاختراقات- فإنهم في المقابل لا يسعون إلى الحكم على مستوى الدولة، بل يميلون إلى خلق ظاهرة وطنية، تركز على الاهتمامات المحلية.[44] ويبدو أن قوتهم الحالية رغم محدوديتها- بحسب المركز البحثي التابع للبنتاجون- تكفي للقيام بهذه المهمة والتسبب في صداع للحكومات المحلية والقوى الغربية.

2- النظر إلى التراجع في عدد الهجمات المسلحة، أو الوفيات الناتجة عنها، لا ينبغي أن يحدث بمعزل عن الأسباب المسؤولة عن ذلك، والتي تكون في معظم الأحيان نتيجة تراجع نشاط مجموعة بعينها، دون أن تعكس انحسارا عاما في النشاط المسلح على مستوى القارة. وبالتالي فإن أكثر الإحصائيات تفاؤلا خلال العامين الماضيين، لا تكفي لرسم صورة أكثر هدوءًا لمستقبل القارة.

3- تراجُع تنظيم الدولة في سوريا والعراق لا ينبغي أن يغطي على حقيقة أن عدد أعضائه لم يتغير كثيرًا منذ تشكيله في عام 2014، مع تراوح التقديرات بين 20-30 ألف مقاتل يتبعون التنظيم الذي لا يزال بإمكانه تنفيذ هجمات من خلال خلاياه النائمة ويحتفظ بتواجد قوى على الإنترنت[45].

4- بدأ تنظيم الدولة يوجه موارده بنشاط بعيدا عن الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا بعد خسارة معظم أراضيه وموارده في العراق وسوريا. ومع التركيز أكثر على الملاذات الجديدة، يرجح أن تكون التحديات التي تنتظر القارة أكبر في المستقبل[46].

5- رغم أن تنظيم القاعدة تاريخيًا كان أكثر نشاطًا في الشرق الأوسط، فقد تحوَّل تركيزه مؤخرًا نحو إفريقيا. وكان التنظيم هو المسؤول عن 69 في المائة من الوفيات المرتبطة بالنشاط الإسلامي المسلح في إفريقيا جنوب الصحراء، ما بين عامي 2015 و 2017.[47] ومع حشد المزيد من الموارد الجهادية في إفريقيا، لن يكون مفاجئًا أن يزداد النشاط الإسلامي المسلح خلال السنوات القادمة.

6- صحيحٌ أن صدى تنظيم القاعدة تراجع في الشرق الأوسط على مدى السنوات الخمس الماضية لصالح تنظيم الدولة الذي نجح في خطف الأضواء والسيطرة على المشهد الجهادي، لكن المجموعة التي يقودها أيمن الظواهري لم تُنفِق هذه السنوات في النوم بل كانت مستغرقة في وضع الخطط وإعادة البناء، ما يجعلها رقمًا لا يمكن تجاوزه في معادلة المواجهة المسلحة مع الجيوش المحلية والقوات الأجنبية.

7- مع الوضع في الاعتبار ما يزيد عن 30000 مقاتل نشط يتبعون القاعدة، وينتشرون في أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وينشطون في ما لا يقل عن 17 دولة؛ [48] يدرك المتابعون أن تنظيم القاعدة، الذي يتمتع بقدرٍ من الصبر أكبر من منافسه الأبرز تنظيم الدولة، يجب أن يُحسَب له ألف حساب.

8- بالعود إلى الهجمات التي شهدتها بوركينا فاسو أوائل 2016، نلاحظ ظهور نمط جديد من المهاجمين: ليس لديهم قاعدة أو شبكة دعم واضحة داخل البلد، ولا أهداف استراتيجية محلية محددة، بل جاءوا من أماكن أخرى واستهدفوا مناطق الجذب السياحي المتميزة التي ليس لها أي ارتباطات معروفة بالحكومة أو الجيش.[49] وعلى هذا النسق، يُتَوَقَّع ظهور أنماط جديدة من الهجمات؛ ما يجعل التحدي الذي تواجهه الحكومات الإفريقية والغربية أكثر خطورة في المستقبل.

9- لمَّا كانت الجماعات المسلحة الإسلامية تدرك أهمية التعاون فيما بينها من أجل تحقيق أهداف أكبر؛[50] وفي ظل التحوُّل الجهادي إلى إفريقيا، يُتوَقَّع أن يشهد المستقبل المزيد من التنسيق بين الجماعات المسلحة الإسلامية. وقد تستخدم المجموعات الجهادية أجزاء من القارة كمختبرات للهجمات، مستفيدة من كونها بعيدة عن الأضواء. وقد تُصَدِّر هذه الابتكارات إلى مسارح جهادية أخرى حول العالم[51].

10- طالما استمرّ الفراغ الذي خلَّفه الربيع العربي، وتواصلت سيطرة قوى الثورة المضادة على مقاليد الأمور في بلدان الثورات غير المكتملة؛ يرجح أن تواصل الجماعات الإسلامية المسلحة استثمار مشاعر السخط الشعبية، التي أصبح يتعذر تصريفها عبر قنوات سياسية أو حتى احتجاجات لا عنيفة، في ظل قبضة حكومية حديدية لا تُفَرِّق بين المسلح والأعزل.

11- الوصول المتزايد إلى مناطق شهدت سابقًا الحد الأدنى من العمليات الجهادية، مثل بوركينا فاسو وساحل العاج، يلفت النظر إلى التحوُّل الجغرافي في نطاق الهجمات[52]. وتوفر إفريقيا تربة خصبة للمجموعات المسلحة؛ نظرًا لتوافر مزيج من الحكومات المركزية الضعيفة، والحدود سهلة الاختراق، والأراضي المفتوحة الواسعة بما يتيح للجماعات المسلحة الإسلامية العمل بقيود أقل.[53]

خاتمة:

1- حتى الآن، فشلت محاولات الجيوش الإفريقية، المدعومة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في إلحاق الهزيمة بالمجموعات المسلحة الإسلامية.[54] ولو كانت الخطط المتفائلة والشعارات البراقة تكفي وحدها لعكس هذا الاتجاه؛ لكانت خطة مفوضية الاتحاد الإفريقي الاستراتيجية (2014-2017) كفيلة بذلك، إذ كان هدفها الرئيس هو: “تسريع التقدم نحو إفريقيا متكاملة ومزدهرة واحتوائية، وتنعم بالسلام مع نفسها، وتلعب دورًا حيويًا على الساحتين القارية والعالمية”،[55] بيدَ أن المطاف انتهى بالقارة وهي تخوض حربًا يبدو أن الجهاديين يفوزون بها” على حد قول الإيكونوميست.[56]

2- رغم الانقسامات والاندماجات والتفرُّعات وتحوُّل الولاءات التي تحدث باستمرار في بيئة العمل الجهادي، وعلى عكس ما قد توحي به خريطة الجماعات الإسلامية المسلحة في القارة، يوجد نوع من التعاون بين هذه المجموعات لتبادل التكتيكات والاستراتيجيات، ومحاولة جادة للتركيز على الأهداف المشتركة.

3- تصاعُد النشاط الجهادي في إفريقيا لم يكن نتيجة جهد مجموعة بعينها- رغم تباين كثافة النشاط- بل يعكس زيادة أنشطة كافة المجموعات المسلحة الإسلامية في القارة؛ وهي ملاحظة ترسم صورة أكثر سخونة لواقع القارة ومستقبلها. حتى وإن كان النشاط الجهادي لا يزال مُرَكَّزًا جغرافيًا، إلا أنه يتمتع بنوع من التجانس يؤهله لتجاوز الحواجز المكانية.

4- تتبُّع نشاط الجماعات الإسلامية المسلحة في إفريقيا يكشف أن التحولات العميقة التي كانت تستغرق عقودًا في الماضي، أصبحت تحدث مؤخرًا في غضون عام إلى ثلاثة أعوام، ليس فقط على مستوى عدد الهجمات ولكن أيضًا الرقعة الجغرافية، وعلى امتداد هذا التطوُّر قد يحمل المستقبل المزيد من الطفرات.

5- الاتجاه التنازلي الذي قد يشهده النشاط الجهادي في بعض الأعوام قد يتبعه اتجاه تصاعدي في الأعوام التالية، والهزيمة التي تمنى بها بعض المجموعات المسلحة الإسلامية في بعض الساحات قد تعقبها أو حتى تواكبها اختراقات تحرزها مجموعة أخرى في ميدان مختلف، بل إن بعض الهزائم نفسها قد تشكل انطلاقة جديدة إلى آفاق أوسع. هذا الواقع يفند التوقعات المتعجلة التي يسوقها بعض المحللين[57]، في أعقاب هزيمةٍ في جولةٍ أو تراجعٍ على ساحةٍ، بأن معركةً ما هي نهاية الحرب.

6- رغم أن الصبغة المحلية لا تزال تهيمن على نشاط الحركات الإسلامية المسلحة في إفريقيا، إلا أن التغييرات التي شهدتها ساحات القتال الأخرى، وما نتج عنها من تحويل الموارد الجهادية والأنظار الغربية إلى القارة؛ قد ينذر بانتقال النشاط الجهادي إلى آفاق أوسع تتجاوز الحدود الضيقة، أو على الأقل هذا ما تستعد له القوى الغربية، ويُطِلّ أيضًا من بين سطور تحذير الخارجية الأمريكية (2018).

7- بالنظر إلى هذه الاتجاهات، وفي ظل استمرار الاستقطاب الديني وعدم الاستقرار السياسي وهشاشة الدول وسوء الإدارة وانتشار الفساد وتدخل القوى الخارجية لتأمين أكبر قدر من المصادر وحشد أكبر حجم من النفوذ، يُتَوَقّع أن يكون الصراع جزءًا من مستقبل إفريقيا مثلما كان في الماضي.[58]

8- هل تكون إفريقيا هي “الموطن الجديد للجهاد” على حد وصف مجلة ذا ويك.[59] أم أن هذا الذي تبشر به الأبواق الغربية على مدى السنوات الأخيرة ليس سوى موجز خطة المستقبل: دفع الخطر بعيدًا أكثر نحو الجنوب، وإشعال محرقةٍ جديدةٍ تستهلك الطاقة الجهادية المستعرة، وتحويل بعض العبء إلى القوى المحلية العاملة بالوكالة نيابة عن الرعاة الدوليين؟ [60].


الهامش

[1] The Africa Center for Strategic Studies (April 27, 2018) “African Militant Islamist Groups Again on the Rise.”.

[2] Gall, Carlotta (Jan. 1, 2016) “Jihadists Deepen Collaboration in North Africa.” The New York Times.

[3] Gberie, Lansana (April 2016) “Terrorism overshadows internal conflicts.” United Nations Africa Renewal.

[4] The Institute for Economics and Peace: P. 15 (December 2018) “Global Terrorism Index 2018.“.

[5]The fight.” Economist (2018).

[6]Global Terrorism.” p. 15 (2018).

[7] Global Terrorism.” p. 4 (2018).

[8]Global Terrorism.” p. 5 (2018).

[9]Global Terrorism.” p. 15 (2018).

[10] “Global Terrorism.” p. 16-17 (2018).

[11]Global Terrorism.” p. 24 (2018).

[12]Global Terrorism.” p. 37 (2018).

[13]African Militant.” (The Africa Center, 2018).

[14] Campbell, John (February 2, 2018) “Mapping Islamist Terrorist Incidents in Africa for 2017.” Council on Foreign Relations.

[15] Ahmed, Ibrahim (October 02, 2018) “Report: African Countries Struggle to Contain Terror Groups.” Voice of America.

[16] VANDIVER, JOHN (November 1, 2018) “Islamic militant attacks up overall, but ISIS incidents down in Africa.” STARS AND STRIPES.

[17] Pinaud, Margaux. “REGIONAL OVERVIEW – AFRICA. ” The Armed Conflict Location & Event Data Project (DECEMBER 11, 2018).

[18] M. Ali, Abdisaid, “Islamist Extremism in East Africa“, The Africa Center for Strategic Studies (August 9, 2016).

[19]JOURNEY TO EXTREMISM IN AFRICA: DRIVERS, INCENTIVES AND THE TIPPING POINT FOR RECRUITMENT.” The United Nations Development Programme- Regional Bureau for Africa (2017).

[20] Abdisaid. “Islamist Extremism.” Africa Center (2016).

[21] Minority rights Group. Overview of Africa.

[22] Talton, Benjamin– Temple University. “The Challenge of Decolonization in Africa.” Schomburg Center for Research in Black Culture.

[23] AlJazeera (February 2, 2018) “Mapping Africa’s natural resources.”.

[24] EUROPA TAYLOR, MILDRED (May 23, 2018) 6 African resources enriching the world but Africa, Face2Face Africa.

[25] P. Nagy, Tibor- Testimony (December 12, 2018) “Development, Diplomacy, and Defense: Promoting U.S. Interests in Africa”, the U.S. State Department.

[26] Pilling, David. (SEPTEMBER 24, 2018) “The scramble for business in Africa.” The Financial Times.

[27] L. ARONSON, SAMUEL (APRIL 2014) “AQIM’s Threat to Western Interests in the Sahel.” COMBATING TERRORISM CENTER, VOLUME 7, ISSUE 4.

[28] ميدل إيست أونلاين (مارس 28، 2018). “الحركات الجهادية في إفريقيا.. النشأة والمصير.”

[29] رويترز (9 مايو 2018) “القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي تهدد بمهاجمة شركات غربية في أفريقيا.”

[30] سكاي نيوز (يونيو 27، 2018) بوريطة: أكثر من 10 آلاف إرهابي ينتشرون في أفريقيا.

[31] VANDIVER, JOHN (November 1, 2018) “Islamic militant attacks up overall, but ISIS incidents down in Africa.” STARS AND STRIPES.

[32] Gartenstein-Ross, Daveed & Zenn, Jacob & Sheafer, Sarah & Bejdic, Sandro & Bejdic, Sandro. (February 25, 2018) “Evolving Terror: The Development of Jihadist Operations Targeting Western Interests in Africa“. Foundation for Defense of Democracies: P6.

[33] “Evolving Terror” (2018) FDD Ps: 8, 9, 21.

[34] “Evolving Terror” (2018) FDD P: 25.

[35] Gartenstein-Ross Daveed & Zenn, Jacob & Sheafer, Sarah & Bejdic, Sandro & Bejdic, Sandro. (February 25, 2018) “Evolving Terror: The Development of Jihadist Operations Targeting Western Interests in Africa“. Foundation for Defense of Democracies: P6.

[36] Gartenstein-Ross Daveed & Zenn, Jacob & Sheafer, Sarah & Bejdic, Sandro & Bejdic, Sandro. (February 25, 2018) “Evolving Terror: The Development of Jihadist Operations Targeting Western Interests in Africa“. Foundation for Defense of Democracies: P6.

[37] GARTENSTEIN-ROSS, DAVEED. “SPIKE IN AFRICAN TERRORISM HIGHLIGHTS THE IMPORTANCE OF JIHADIST INNOVATION.” War on the Rocks (FEBRUARY 26, 2018).

[38] Evolving Terror” (2018) FDD P: 25.

[39] “Evolving Terror” (2018) FDD P: 25.

[40] GARTENSTEIN-ROSS, DAVEED (FEBRUARY 26, 2018) “SPIKE IN AFRICAN TERRORISM HIGHLIGHTS THE IMPORTANCE OF JIHADIST INNOVATION.” War on the Rocks.

[41] Evolving Terror” (2018) FDD P: 25.

[42] W. Schoen, John. (June 21, 2014). “Ships and ports are terrorism’s new frontier.” NBC NEWS.

[43] Council on Foreign Relations. (January 1, 2006) “Targets for Terrorism: Ports.”.

[44] Østebø, Terje (April 27, 2018) “Islamic Militancy in Africa.” The Africa Center for Strategic Studies.

[45]Global Terrorism.” p. 51 (2018).

[46]Global Terrorism.” p. 2 (2018).

[47]Global Terrorism.” p. 50 (2018).

[48]Global Terrorism.” p. 50 (2018).

[49] Gberie. “Terrorism overshadows.” Africa Renewal (2016).

[50] CENTRO STUDI INTERNAZIONALI (MARZO 18, 2016) “Africa Under The Banner Of Jihad”.

[51] Evolving Terror” (2018) FDD P: 25.

[52] Evolving Terror” (2018) FDD P: 25.

[53] L. ARONSON, SAMUEL. “AQIM’s Threat to Western Interests in the Sahel.” COMBATING TERRORISM CENTER. (APRIL 2014, VOLUME 7, ISSUE 4).

[54] Ellis, Sam (Jun 21, 2018) “How Islamist militant groups are gaining strength in Africa.” Vox.

[55]Strategic Plan 2014:2017.” The African Union Commission.

[56]The Economist (Jul 14, 2018)”The fight against Islamic State is moving to Africa.”.

[57] العالم بالعربية (9 فبراير 2016) أي مستقبل ينتظر داعش والقاعدة؟ ولماذا أخطأت التوقعات السابقة؟

[58] TAYLOR KING, MATTHEW (June 27, 2017) “All That Africa Could Be.” The American Interest- Volume 13, Number 2.

[59] The Week (January 6, 2018) “Jihad’s new home.“.

[60] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button