دراسات جيوسياسيةدراسات شرق أوسطية

النظرية الجيوبوليتيكية

يأتي تحليل الجيوبوليتيكي كأحد المداخل النظرية التي تسلك منحى خاص في تحليلها لسلوك الدولة النزاعي، وظاهرة النزاع الدولي عموما، ويتخذ المدخل الجيوبوليتيكي من الدولة “الأرض” مستوى أساسي للتحليل، كما يحظى هذا التحليل بخاصية فريدة جعلته موضع جذب واهتمام، سواء من قبل القادة السياسيين والعسكريين وصناع القرار.
حيث يمكن الإفادة من التحليل الجيوبوليتيكي لأغراض عسكرية وسياسية، وهو يساعد القادة السياسيين والعسكريين على اتخاذ قراراتهم بشأن إقحام القوة أو التراجع عنه بالانسحاب، كما يسهل هذا التحليل على تقدير المناطق التي يحتمل جدا أن يحدث فيها تصادم المصالح الدولية، وفي ضوء التحليل الجيوبوليتيكي أيضا يمكن إعداد السياسات والخطط والمناهج الذي ينطوي عليها السوق الأكبر أو الإستراتيجية العليا.
بالإضافة إلى ذلك يبدو دور التحليل الجيوبوليتيكي أكثر حضورا على الصعيد الاجتماعي الواسع، فلو استخدمنا مثلا الشبكة الجيوبوليتيكية الأقرب إلى البساطة “قلب الأرض “Heartland”، حافة الأرض “Rimland”، جزيرة العالم”World Island” فيتفسير أي مادة إعلامية تتعلق بالأحداث العالمية لا ترسم أمامنا على التو الأنموذج الموضح الذي لا يطلب بكميات إضافية من المعارف المتخصصة الضيقة، “توسع الناتو نحو الشرق” يعني من هذا المنطلق “توسيع مساحة الـ Rimland لصالح التالاسوكراتيا “قوى البحر”-“الاتفاق بين ألمانيا وفرنسا على إنشاء قوات مسلحة خاصة أوروبية صرفة”-“خطوة في اتجاه إنشاء بنية تيلوروكراتية قارية”، “النزاع بين العراق والكويت”-“سعي دولة قارية إلى إزاحة تشكيل تالاسوكراتي مفتعل يحول دون السيطرة المباشرة على منطقة ساحلية” ،”تقارب موسكو مع واشنطن”،”يعني الخضوع للخط التالاسوكراتي ما ينجر وراءه وبطريقة محتومة”،” تعزيز مواقف “أساطين السوق”، وهلم جًرا.
وكما هو معروفا، تختص النظرية الجيوبوليتيكة بدراسة الدولة من وجهة النظر السياسية في إطار واقعها الجغرافي، وترى أن تطور الدولة ونموها وارتقائها يرتبط ارتباطا وثيقا بالعوامل الجغرافية، مضافا إليها فتراتها المادية والمعنوية، والمهم هنا أن الدراسات الجيوبوليتيكية -حسب أوتومول- تهتم بالدولة لا على أساس مفهوم جامد، بل باعتبارها كائنا حيا ينمو ويتحرك، ولا ينبغي أن تكون هذه الحركة عشوائية، أو تفتقر إلى وضوح الرؤية والهدف، إنما ترتبط هذه الحركة بأهداف ومقاصد سياسية معلومة ومحددة، وتأتي في مقدمة هذه الأهداف ما يعرف بـالمجال الحيوي، والمجال الحيوي وفق التصور الجيوبوليتيكي، هو الإطار المكاني أو الحيز الجغرافي الذي تعتقد الدولة أن التحرك باتجاهه يعد ضروريا لتحقيق أهداف سياستها العليا.

ومن هنا تنطلق النظريات الجيوبوليتيكية في تفسيرها للنزاع الدولي، وفي تسليطها الضوء على الأسباب التي تدفع بالدول إلى التوسع والدخول في نزاعات مع غيرها.
وقد داع صيت هذه النظريات مع بروز المدرسة الألمانية في مطلع القرن 19م، وذلك عندما أرسى المفكرون الألمان أحد الركائز الأساسية في علم الجيوبوليتيكا وهي أن الدولة-ككائن حي- له أهداف يتطلع إلى تحقيقها، وذلك من خلال توظيف الحتمية الجغرافية التي تحكم وجوده، فالدولة ليست حقيقة جغرافية، ثابتة، بل هي كائن حي يتحرك نحو مجالات حيوية تعد ضرورة لبقائه واستمراره.
وابتداء من المدرسة الألمانية عرفت الأفكار الجيوبوليتيكية رواجًا كبيرا، حيث أبدع الباحثون في صياغة قوالب نظرية ذات قدرة تفسيرية هائلة لمسألة الفراغ الدولي، تحلل وتشرح الأسباب الكامنة وراء اندفاع الدول إلى التوسع والانغماس في نزاعات حادة مع غيرها، وعرفت الساحة الأكاديمية منذ ذلك الحين مدارس عدة ذات توجهات مختلفة، نذكر منها المدرسة الانجليزية، المدرسة السوفياتية، المدرسة الأمريكية والمدرسة الفرنسية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، ظهرت لدى الفرنسيين آراء علمية في هذا العلم، معارضة لمطروحات الألمان في زعمهم أن “الدولة كائن حي ذو حدود ديناميكية تتحرك بنمو الدولة، وأنها يجب أن تقوي نفسها بتوسيع رقعتها لكي تستطيع البقاء”، ويقول الفرنسيون أن “الدولة” هي ما استقرت بسكانها في داخل حدود ثابتة مستقرة، وتقوم بين سكنها “وحدة قومية” ثقافية حيث يرتبطون بروابط عرقية ولغوية ودينية وتاريخية واحدة، ويرون أيضا أن الدولة لكي تحيا وتستمر لابد لها من العمل على توسيع مجالها “مجال نفوذها خارج رقعتها الأصلية”، ليس من الضروري أن يكون ذلك على حساب جيرانها.
فلا يربط علماء الجيوبوليتيك الفرنسيون “رفاهية الدولة” بتوسيع تحققه في رقعتها الأصلية –تحريك حدودها- ودللوا ذلك بدول أوروبية صغيرة “كالسويد والدانمارك” حققت أشياء كبيرة دون أن توسع من رقعتها ودون أن يكون لها مجال سياسي كبير خارج حدودها،حيث بنو آراءهم في استراتيجية الدولة على أنه يمكن أن توسع من مجالها –خارج رقعتها- دون الاحتكاك بالجيران، ويمكن أن يتم ذلك خارج أوروبا، ومن ثم كان الاهتمام بالتوجه إلى الاستعمار.
وعلى العموم، سنورد فيما يأتي شيء من التفصيل أتهم النظريات والأفكار الجيوبوليتيكية لأبرز المفكرين والباحثين الذين اهتموا بتفسير ظاهرة النزاع الدولي، محاولين الإجابة على السؤال التالي: لماذا تسلك الدول –الدول الكبرى بالأخص- سلوكا توسعيا نزاعيا؟ وكيف يؤثر التفاعل المتبادل بين المعطيات الجغرافية والعمليات السياسية على توجه الدول في مسار التوسع والبحث عن مناطق نفوذ جديدة “مجال حيوي”؟
فريدريك راتزل : 1844- 1904
آمن راتزيل بأفكار داورين في التطور البيولوجي التي كانت سائدة في نهاية القرن التاسع عشر، وضع راتزل صياغته لتحليل قوة الدولة لديه أشبه الداروينية حيث يؤكد أن الدولة لا تثبت حدودها السياسية، وكانت الدولة لديه أشبه بإنسان ينمو فتضيق عليه ملابسه عامًا بعد عام، فيضطر إلى توسيعها، وكذلك ستضطر الدولة إلى زحزحة حدودها السياسية كلما زاد عدد سكاها وتعاظمت مطامحها.
لذلك فعلى الدولة أن لا تعتد بالهدوء، بل لابد أن تنظر إليها إلى حدود زئبقية تتجاوزها وتخترقها كلما اقتضت مصلحتها التوسع، وإن هذه الحدود ظلت وستظل مصدرا للنزاعات والحروب.
فبانطلاقه من فكرة الدولة ككائن حيّ أرسى راتزل الأساس النظري لما عرف بالجيوبوليتيكا العضوية، وهي التي تبرز الصراع والتوسع في إطار من مقولة: “البقاء للأقوى”، فالسياسية الدولية من وجهة نظرها ما هي إلا صراع بين وحدات وكيانات لا يصلح للبقاء منها إلا من قوي فيها.
فالدولة كائن حي عند راتزل، وطالما أن الكائن الحي ينمو ويكبر، فإن الدولة هي الأخرى تنمو وتتوسع، بعبارة أخرى، طالما أن النمو هو ظاهرة طبيعية بالنسبة للكائن الحي، فلا يجوز اعتراض عملية نمو الدولة، فالدولة لا تتقيد بالقيود الجغرافية، وهذه العملية لا تكتمل إلا بتأمين قدر مقبول من القوة، فالقوة عامل محفز للنمو.
وفي هذا يكتب راتزل قائلا: “ينظر إلى الدول خلال كل مراحل تطورها على أنها كائنات عضوية تحافظ بفعل الضرورة على علاقتها بتربة أرضها، ولهذا يجب أن تدرس من وجهة النظر الجغرافية… ولها فإن الدول تبدو ظواهر مكانية يوجهها هذا المكان ويجب أن تقوم الجغرافيا بوصفها ومقارنتها وقياسها، وتدخل الدول في سلسلة ظواهر تطور الحياة لتغذوا الذروة العليا لهذه الظواهر”. -الجغرافيا السياسية-
والدولة –عنده- تتحرك في ديناميكية مستمرة حتى تحقق لنفسها متطلبات وجودها، وتضيف إلى قاعدتها الأرضية ما تراه لازما لنموها حتى تختفي من الخريطة السياسية الوحدات غير القادرة على الصراع أو الاستمرار ولا يبقى سوى الأقوى والأكثر قدرة على البقاء والالتهام، وبعد ذلك تبدأ هذه الدول الكبرى في التوسع على حساب بعضها حتى لا تبقى منها سوى دولة كبرى واحدة، فالأرض –عند راتزل-لا تكفي سوى دولة عظمى واحدة.
ويرى راتزل أن عملية التوسع هي استجابة ضرورية لدوافع النمو الاقتصادي للدولة وحاجة سكانها إلى مجالات تنقل عناصر ثقافتهم المتقدمة، وتتداخل مع هذه المقتضيات القوة العسكرية لتلبية ما تتطلبه الحركة من تغير مستمر في حدود الدولة، فكلما نمت قوة الدولة كان ذلك مدعاة لنموها الأرضي.
وقرر راتزل أن أي توقف في الحركة، أو وهن في مرحلة من مراحلها، يعني على الفور أن الدولة لم تعد قادرة على المنافسة، وأنها قد تحولت من الهجوم إلى الدفاع، ومن التوسع إلى الانكماش، وهي بذلك تكون هدفا لدولة أخرى، أكثر قدرة على النمو للاقتراب منها، وبالتالي اختراقها والتهامها بعد ذلك، ومن هذا فإن الوحدات الصغيرة لا تملك خيارات في العيش إلا أن تواجه حتمية الابتلاع.
وبناءًا على ذلك فإن توسع الدولة وتقلصها المكاني عمليتان طبيعيتان مرتبطتان بدورتها الحياتية الداخلية، حيث يحدد راتزل في كتابه “حول قوانين تطور الدولة في المجال” 1901 سبعة قوانين للتوسع نوردها تباعا فيما يلي:
1/. امتداد الدول يتسع وفقا لتطور ثقافتها، فكلما انتشر السكان ومعهم ثقافتهم الخاصة زادت رقعة الأرض الجديدة التي ينتشرون فيها في مساحة الدولة.
2/. إن نمو الدولة يظل مستمرا حتى تصل إلى مرحلة الضم أو الاندماج، وذلك بإضافة أقاليم صغرى إلى رقعتها الأصلية، ويجب أن يتم امتزاج الأرض بمن عليها من السكان إذا ما أريد إتمام عملية هضم واستيعاب المناطق الجديدة.
3/. أن حدود أية دولة هي العضو المغلق لها أو المحيط بها وهذه الحدود لا تحدد مدى ضمانة ولا سلامة الدولة وسيادتها فحسب بل إنها تحدد مدى نموها.
4/. إن الدولة في نموها تسعى إلى امتصاص الأقاليم ذات القيمة السياسية، وهذه قد تكون سهولا وأنهارا أو مناطق غنية بثرواتها المعدنية أو ذات أهمية في إنتاج الغذاء.
5/. إن نماء الدولة عملية لاحقة لنمو سكانها وانتشارهم، هذا النمو والانتشار الذي يجب أن يتم قبل أن تشرع الدولة في التوسع.
6/. إن التوسع الأرضي يأتي للدولة البدائية من الخارج، فالدول ذات المستوى التقدمي الرفيع تحس برغبتها في التوسع لزيادة سكانها ذوي الحالة الطيبة لذلك فهي تغزوا المناطق البدائية وتنقل إليها أفكارها.
7/. إن الاتجاه العام للتوسع ينتقل من دولة لأخرى ثم يتزايد ويشتد.
وقد قال راتزل أن كوكبنا الصغير فيه مساحة كافية لدولة عظمى واحدة فقط، وأكد أن تاريخ العالم ستتحكم فيه الدول الكبيرة التي تشغل مناطق قارية.
وبناءا على هذه القوانين السبع، لاحظ راتزل أن الدول الكبرى تعيش خلال تطورها إحساسا بالميل إلى التوسع الجغرافي في حدود القصوى، والذي يبلغ تدريجيا مستوى الكرة الأرضية.
بالإضافة إلى ما سبق، فقد أشار راتزل إلى ضرورة أن تقوم كل دولة بتطوير قواتها البحرية، فالبحر أهمية كبيرة في نظره وهذا بالذات ما عبر عنه عنوان كتابه ” البحر، مصدر قوة الشعوب”، الذي صاغه سنة 1900، حيث يرى أن تطوير الأسطول هو الشرط اللازم للاقتراب من وضع “الدولة العظمى العالمية” “Weltmacht” .
لقد كانت أعمال راتزل بمثابة القاعدة الضرورية لجميع الدراسات الجيوبوليتيكية، فهذه الأعمال تعرض وبصورة مفتوحة من الناحية العلمية، كل المنطلقات التي سترسخ في صلب هذا العلم.

* فريديريك راتزيل : أهم أقطاب الجيوبوليتيكا الألمانية، يعد بمثابة “أب الجيوبوليتيكيا” على الرغم من أنه لم يستخدم ذلك المصطلح في أعماله، وقد سميت دراسة الأهم، والتي رأت النور عام 1897 بـ Politoshegéographie وقد اكمل دراسته في هايد لبرج حيث تتلمذ على يد البروفيسور ايرنست غيكل “الذي كان أول من استخدم مصطلح علم البيئة”، وقد بنيت الرؤية الفكرية لراتزل على التطورية والداروينية، واصطبغت باهتمامه المعبر عنه بوضوح نحو علم الحياة
رودولف كيلين: 1864-1922
يرى كيلين أن هناك تماثلا بين البناء العضوي للدولة والبناء العضوي للكائن الحي فالأرض أو الرقعة بالنسبة للدولة هي الجسد، وعاصمتها بمثابة قلب الكائن الحي ورئتاه، أما الأنهار والطرق وسكك الحديد، فهي جميعا بمثابة الأوردة والشرايين، أما المناطق التي تمدها بالمعادن والموارد الأولية اللازمة لنموها، فكلها أطراف لهذا الجسد، أما الأفراد داخل الدولة فهم بمثابة الخلايا عند الكائن الحيّ، فهم العامل المحرك للدولة.
كما اتفق كيلين مع راتزل في أن الهدف النهائي من نمو الدولة أنها تسعى لتحقيق القوة، وأنها في سعيها لتحقيق القوة عليها أن تستعين بالتقدم الحضاري والتقني وأساليبه لتحقيق هذا الهدف، وقرر أن الدولة تتكون من خمسة أعضاء هي: الحكومة، السكان، الأحوال الاجتماعية، المركب الاقتصادي والمركب الطبيعي، وأن أهم عنصر فيها هو القوة، بل ذهب إلى القول بأن القوة أفضل من القانون والأخلاق.
فالقوة تعبير عن قوانين الطبيعة أما القانون فهو من صنع البشر وقوانين الطبيعة –كما يرى كيلين- تتميز بحتمية الظاهرة، لذا ينبغي مراعاتها وعدم الخروج عن إرادتها، فهي تتمتع بسلطة وسطان لا يستطيع البشر إلا التسليم بها، ذلك أن صياغتها تخرج عن إرادته.
من بين المبادئ التي يستند إليها القانون الطبيعي، الذي يعلو في إرادته على إرادة البشر، هو “حتمية النمو البيولوجي للدولة ” هذا النمو بطبيعة الحال سوف يؤدي إلى احتكاك الدولة مع غيرها، مما يولد النزاع، الذي لا ينتهي إلا بإنتهاء الدولة الأضعف وتلاشي حدودها لصالح الدولة الأقوى.

– رودولف كيلين: سويدي المولد ألماني الهوى يعتبر أول من استخدم مصطلح “الجيوبوليتيكا” وقد كان أستاذا للتاريخ والعلوم السياسية في جامعتي أوبسالا غيتيبورغ، وقد عرف بتوجه يفيض بالحب لألمانيا،
=وقد كتب كيلين كتابين أولهما نشر في ميونيخ 1917 باسم الدولة كمظهر من مظاهر الحياة، والثاني نشر في 1920، باسم الأسس اللازمة لقيام نظام سياسي، وفي الكتابين نجد كيلين يستخدم خلفية كبيرة من 1- الفلسفة العضوية، 2- فلسفة هيغل 3- الكثير من الآراء المتعارضة التي تظهر من كتابات راتزل وماكيندر.
كارل هاوسهوفر : 1869-1946
لقد جاءت أهم أفكار ونظريات هاوسهرفر الجيوبوليتيكية في المجلة الجيوبوليتيكية المعروفة “Zeitschrift fur. Géeopolitick”، ولم يبتعد هذه الأفكار عن أفكار ونظريات راتزل و كلين خاصة فيما يتصل بتكوين الدولة العظمى على أساس التوسع في مجالها الحيوي اللازم، ويختلف عنها عندما يقيم اعتراضاته بالتأكيد على نوعية الرابطة الوثيقة في العلاقات القائمة بين عدة مفاهيم مثل: الدولة، السكان، الاكتفاء الذاتي والمجال الحيوي.
وتحتل فكرة المجال الحيوي حيزا واسعا في دراساته النظرية إلى الحد الذي اعتبر فيه المجال الحيوي بمثابة “العامل الذي يتحكم في تاريخ البشرية”، وانطلاقا من فكرة المجال الحيوي تنبثق أفكار هاوسهوفر المفسرة للسلوك النزاعي للدول، والصدام الحاصل بينها –خاصة القوية منها- في مناطق محددة، حيث يرى هاوسهوفر أن عملية التوسع تكون نحو مناطق جديدة غنية بمواردها الطبيعية، وثرواتها المعدنية، والتي يمكن تسخيرها لبناء وزيادة قوة الدولة، وفي تفسيره لسلوك الدولة النزاعي-التوسعي، يربط هاوسهوفر بين فكرة التوسع وزيادة عدد السكان، والمجال الحيوي بفكرة الاكتفاء الذاتي، فتوسع الدولة باتجاه المناطق الحيوية الغنية بمواردها الزراعية وثرواتها المعدنية تؤمن كفاية ذاتية للزيادة الحاصلة في عدد السكان، ذلك أن تنامي عدد السكان يكون بحاجة إلى موارد إضافية تؤمن لهم الكفاية الذاتية، ومثل هذا المطلب لا يتم إلا عن طريق التوسع نحو مجالات حيوية، وهذا ما يؤدي إلى الاحتكاك والقيام بمصالح وأمن الدول الأخرى، فيحدث النزاع.
بعبارة أخرى يرى هاوسهوفر أن تحقيق الاكتفاء الذاتي يتطلب كفاية من الموارد الاقتصادية تتناسب مع الكثافة السكانية، وعندما لا تتوفر الموارد التي تتناسب مع هذه الكثافة السكانية، فإن ذلك سيخلق اختلالا وعجزا واضحا في تحقيق متطلبات الاكتفاء الذاتي، ومعالجة هذا الخلل لا يتم إلا عن طريق المجال الحيوي، أي التوسع باتجاه المناطق الغنية بمواردها الاقتصادية فيحدث النزاع.
فكل الدول –لاسيما القوية منها- تفكر بهذا المنطق، والذي يقود حسبما يرى هاوسهوفر إلى انتهاء نفوذ الدول المتصارعة على السلطة إلى مناطق حساسة هي مناطق الاحتكاك الحقيقي بين نفوذ دولتين، وفي مثل هذه المناطق غالبا ما تبدأ المعارك السياسية أوالعسكرية، وتسمى هذه المناطق عنده بمناطق الصدام.
وليست مناطق الصدام وحدها هي التي تظهر في كتابات هاوسهوفر بل مصطلحات أخرى متعددة مثل “مجالات الدفع” “Zerrungsraeume”، ونطاقات الخطر” “Gefahrenzonen”، و”مناطق الاهتزاز” “Schuetterzonen”….
كما صاغ هاوسهوفر مجموعة من الطروحات الأخرى، التي ترى أن الدول البحرية أكثر توجها إلى التوسع والإبداع، حيث يرى أن هناك فرق بين الحدود القارية والحدود البحرية للدولة، فالأولى تحد من نموها، أما الثانية فتفتح الطريق أمامها إلى مختلف البحار والسواحل.
– تدين الجيوبوليتيكيا كثيرا لهاوسهوفر الذي ولد في ميونيخ، وقرر أن يصبح عسكريا متخصصا، فخدم ضابطا في الجيش نيفا وعشرين عاما، وقد عمل هاوسهوفر في اليابان ومنغوليا بين سنتي 1908-1910 بصفته الملحق العسكري الألماني، وفي سنة 1911 عاد إلى ألمانيا وانشغل بالعلم فحصل على درجة الدكتوراه من جامعة ميونيخ، وأخذ منذ ذلك الحين ينشر كتبه تباعا والمكرسة للجيوبوليتيكا بصفة عامة، وبخاصة جيوبوليتيكا إقليم المحيط الهادي، وكان أول كتبه “دان نيخون” المكرس لجيوبوليتيكا اليابان.
وفي سنة 1923 ألتقى هاوسهوفر بهتلر عندما كان الأخير في السجن منهمكا في تأليف كتابه كفاحي ويتضح في الفصل 14 من كتاب كفاحي أن هتلر استمد نظرية المجال الحيوي من آرائها هاوسهوفر.
وعلى مدى عشرين عاما ومنذ عام 1924 ظل هاوسهوفر مواظبا على نشر مجلته الجيوبوليتيكية البالغة الأهمية والتي حققت شهرة عالمية كبرى، وهي Géopolitick والتي استبدل اسمها فيما بعد “.Zeitshrift fur Geopolitick
كارل شميدت : 1888-1985
توصل شميدت إلى صياغة النظرية الجيوبوليتيكية الأعظم “نظرية المجال الكبير””Grossraum” حيث ينظر هذا التصور إلى عملية تطور الدولة على أنها الطموح إلى اختيار الحجم المكاني الأوسع مدى، ومبدأ التكامل الإمبراطوري هو التعبير المنطقي والطبيعي عن الطموح الإنساني إلى التركيب، وعلى هذا فإن مراحل التوسع المكاني للدولة تتطابق مع مراحل تحرك الروح الإنسانية نحو الشمولية.
هذا القانون الجيوبوليتيكي ينسحب أيضا على المجالات التقنية والاقتصادية، حيث يبين شميدت أنه بدءا من لحظة معينة يأخذ التطور التقني والاقتصادي للدولة بمطالبتها بتضخيم سياستها كما ونوعا، والحديث هنا لا يدور بالضرورة حول الاستعمار والظلم والاختراق العسكري، فإقرار الـ “Grossraum” يمكن أن يجري وفق قوانين أخرى أيضا، على أساس اتخاذ عدة دول أو شعوب صيغة دينية أو ثقافية موحدة.
ويرى شميدت أن تطور نوموس الأرض يجب أن يؤدي إلى ظهور الدولة_ القارة ومراحل التحرك نحو الدولة البرية–القارة ذات الـ”Grossraum” البري- ضرورة تاريخية وجيوبوليتيكية.

– اشتهر الألماني كارل شميدت بكونه محاميا مشهورا وعالما في السياسة وفيلسوفا ومؤرخا، لكن أفكاره ترتبط أوثق الارتباط بالتطورات الجيوبوليتيكية، وأهم أعماله “نموس الأرض” و “الأرض والبحر”، وما إليهما وقد كرست في مجموعها لتفسير العوامل الجيوبوليتيكية وتأثيرها على الحضارة والتأريخ السياسي .
بيوتر نيكولايفيتش سافيتسكي 1895-1968
إن أهم أطروحات سافيتسكي الجيوبوليتيكية المتعلقة بالسلوك الدولي التوسعي، هو ابتكاره لمصطلح جديد في علم الجيوبوليتيكا وهو مصطلح “بؤرة التطور” وهذا المصطلح يمثل الشبه الدقيق لمصطلح “Roum” “المجال” عند شميدت والتي وردت في الأدبيات الألمانية “راتزل، كلين”، وتنعكس في هذا المفهوم عضوانية الأوراسيين التي تتطابق بدقة مع الدراسة العضوية الألمانية.
حيث يكتب سافيتسكي في النص الذي يحمل عنوان: “العرض الجغرافي لروسيا-الأوراسيا”: “الوسط الاجتماعي-السياسي وأرض ينبغي أن يتذاوبا بالنسبة لنا في وحدة متكاملة في شخصية جغرافية أو سطح جغرافي”.
تلك هي حقيقة بؤرة التطور”التي يتذاوب فيها الموضوعي والذاتي في وحدة لا تتجزأ في كل متكامل،وفي النص نفسه يواصل قائلا:”التركيب الضروري لابد من القدرة على الإحاطة بالوسط الإجتماعي_التاريخي وبالأرض التي يشغلها في نظرة واحدة” .
وهنا يرى سافيتسكي أن دولة-منطقة بؤرة التطور لابد وأن تتطابق شخصيتها الجغرافية مع الوسط أو المجال التاريخي-الإثني- الاقتصادي… التي ترى فيه هذه الدولة مجالا ينبغي أن يتطابق مع حدود الأرض التي تشغلها.
ويرى سافيتسكي أن روسيا-الأوراسيا هي تلك “بؤرة التطور” التي تمثل الصيغة التكاملية لوجود كثير من “بؤر التطور” أصغر أحجاما، أنه المجال الكبير لدى شميدت مكونا من منظومة تدريجية لحاملة تتألف من مجالات أصغر حجما.
ويمكن القول انطلاقا من أطروحات سافيتسكي أن فكرة بؤرة التطور تؤدي في حقيقة الأمر إلى خلق بؤر للتوتر، فإذا كانت الدولة ترى في “مجال صغيرما” أنه لابد وأن يدخل في نطاق شخصيتها الجغرافية، فإن ذلك ينطوي على دخول ذلك “المجال أو الحيز/المنطقة”، في نزاع وجودي مع تلك الدولة، ويعزز التميز الإثني أو التاريخي لذلك المجال فرص واحتمالات هذا النزاع.
– يعتبر سافيتسكي الكاتب الروسي الأول الذي يمكن وصفه بالعلم الجيوبوليتيكي بكل ما في الكلمة من معنى، هو اقتصادي من حيث الاختصاص، تتلمذ على يد ف. فرنادسكي و ب. ستروقي، وكان قريبا من حزب الكاديت الروسي، ترأس سنة 1921 الحركة الأوراسية، وكان سافيتسكي الأكثر اهتمام بقضايا الجيوبوليتيكي بين جميع الاوراسيين.
فيدال دي لابلانش 1845-1918
يتجه دي لابلانش اتجاها مغايرا لاتجاه المدرسة الألمانية في تفسيره الجيوبوليتيكي للأسباب الكامنة وراء اندفاع الدول إلى التوسع وبالتالي النزاع، إذ كان يرى أن راتزل وأتباعه يبالغون بشكل واضح في تقييم العامل الطبيعي إذ يعدونه عاملا محددا، ذلك أن الإنسان في رأي دي لا بلانش يعد بدوره عاملا جغرافيا مهما يتميز –فوق ذلك- بالمبادرة فهو ليس جزءا من الديكور، بل هو الممثل الأهم في المسرحية.
هذا ما دفع دي لابلانش إلى طرح نظرية جيوبليتيكية خاصة هي “البوسيبيليزم من كلمة Possible وتعني الممكن”، حيث يرى أن للتاريخ السياسي أفقان، مكاني “جغرافي” وزماني “تاريخي”، وينعكس العامل الجغرافي في الوسط المحيط أما التاريخي فينعكس في الإنسان نفسه “صاحب المبادرة”، فالألمان –في رأيه- أخطئوا في اعتبار السطح الأرضي عاملا حاسما في سلوك الدولة التوسعي، أما هو فيقترح النظر إلى الوضع المكاني الجغرافي على أنه “احتمال” أو “إمكانية”، يمكن أن تفعل لتغذوا عاملا سياسيا حقيقيا، ويمكن أن لا تفعل، وهذا ما يرتبط إلى حد بعيد بالعامل الذاتي، بالإنسان، ساكن ذلك المكان.
فالبوسيبيليزم عند دي لابلانش هي تصحيح للحتمية الجغرافية الصارمة لدى الجيسوبوليتيك الألمان خصوصا، إذ لا يرى دي لابلانش أن العامل الجغرافي للدولة يكفي بمفرده لتفسير سلوكها الخارجي، إنما يجب أن ينضاف إليه دور الإنسان –صانع القرار- الذي يجعل من العامل الجغرافي فعالا أو غير ذلك، إنها البوسيبلزم.

يعد دي لابلانش مؤسس المدرسة الجغرافية الفرنسية، تأثر بأفكار راتزل وكان يبني نظرياته معتمدا عليها.
ألفرد تاير ماهان : 1840-1914
قبل ماهان كانت السيادة العالمية للقوى البرية التي تمتد في مساحات شاسعة مثل الإمبراطورية الرومانية والصينية الروسية، ولكن ماهان قرر في كتبه بأن القوى البحرية هي التي ستسود العالم، وسيطرت على فكر ماهان أربعة مظاهر أساسية ذات مغزى سياسي، وتؤثر على دور القوى البحرية وهي، اتصال جميع البحار والمحيطات الخارجية، ببعضها في صورة بحر عالمي وبالتالي إيجاد نظام موحد للنقل البحري، وجود بعض الدول المحبوسة في قلب الأرض، وجود الدول البحرية في أوروبا والأقطار البحرية في جنوب شرق آسيا حول روسيا الحبيسة، هناك دول جزرية على ضلوع أوراسيا مثل إنجلترا واليابان.
يؤكد ماهان أن أوراسيا هي أهم جزء في العالم الشمالي، وأن روسيا تحتل موقعا أرضيا مسيطرا في آسيا، ذات حضانة منيعة، رغم ذلك تبقى كتلة أرضية حبيسة، كما يصف المناطق الآسيوية بين درجات العرض 30-40 شمالا بأنها نطاق الاحتكاك والصراع بين القوى الأرضية والقوى البحرية، وبما أنه يرى في القوى البحرية “بريطانيا وأمريكا المتحالفين” الحصول على السيادة العالمية باستخدامها “احتلالها” قواعد عسكرية تحيط بأوراسيا نظرا لتفوق الحركة البحرية على الحركة الأرضية.
وبالتالي فإن ماهان يرى بأن وجود دولة بحرية قوية بإمكانها بسط السيطرة على البحار، يعني ذلك حتما أن حظوظها في السيطرة العالمية قوية جدا، لذلك وبناءا على ما سبق فإن الدول البحرية –ذات الحدود البحرية خاصة إذا كانت هذه الحدود واسعة- “أكثر نزوعا للتوسع الذي يستجلب بطبيعة الحال التصادم مع القوى الأخرى لاسيما البرية منها “القارية”.
ويرى ماهان أن تحليل موقف الدولة ووضعها الجيوبوليتيكي يجب أن يتم على أساس بنود ستة، وهي نفس البنود التي تسهم في بناء وتكوين القوة البحرية للدولة وتعمل على تطويرهاوهي:
– الموقع الجغرافي للدولة: من حيث عدد الجبهات التي تطل بها على البحر، وما إذا كانت هناك طرق سهلة، لاتصال هذه الجبهات ببعضها ببعض، كذلك مدى تحكمها في الطرق التجارية الرئيسية والقواعد الإستراتيجية، وقدرتها على تهديد أراضي العدو بأسطولها.
– التكوين الطبيعي للدولة: ويقصد به هنا خطوط الأعماق في المنطقة الساحلية، فالجبهة البحرية للدولة هي احد تخومها، وكلما كانت هذه التخوم متصلة بما ورائها كلما زاد ميل السكان إلى الاختلاط بغيرهم، فلو تصورنا أن هناك دولة لها جبهة ساحلية، ولكن لا يتوفر لها مرفأ، فمثل هذه الدولة لن تكون لها تجارة بحرية، ولا سفن، ولا أساطيل، أما المرافئ المتعددة العميقة فيها مصادر عز وقوة، وتتضاعف قيمتها إن وقعت على مصبات أنهار صالحة للملاحة، لأن مثل هذه الأنهار تيسر حركة التجارة داخل الدولة، وعموما فإن التكوين الطبيعي للدولة من سواحل ممتدة ومرافئ متعددة يقدم للدولة وصيدا دفاعيا ضمن حسابات قوتها الشاملة.
– خصائص الظهير القاري: ويتمثل في أرض الدولة التي تقع خلف خط الساحل، فإذا كان الظهير القاري يتميز بافتقاره إلى الموارد، وأرضه غير صالحة للنشاط الزراعي، كان ذلك عاملا مساعدا على طرد اهتمامات السكان نحو الداخل وتوجيهها نحو البحر، حيث يكون المصدر الأساس لكسب معيشتهم اليومية ونشاطهم التجاري البحري وبالتالي بناء القوة البحرية والعكس صحيح.
– عدد السكان: فالقوى البشرية المتمثلة بعدد السكان يمكن استثمارها في بناء الأساطيل البحرية واستعمالها وصيانتها.
– الصفات والخصائص القومية لشعب الدولة البحرية: وهنا يرى ماهان أن الخصائص والسمات التي تتميز بها شعوب الدول البحرية تختلف عن غيرها من سمات وخصائص الشعوب الأخرى، فهم أكثر ميلا للتعامل مع معطيات واقعهم البحري، حيث يكونوا أكثر حبا للمغامرة وركوب البحر وحياة التجارة والانتقال والكسب المادي.
– طبيعة النظام السياسي وتوجهات السلطة الحاكمة: فالتوجه نحو البحر لخلق وبناء قوة بحرية يعتمد وبالدرجة الأساس على طبيعة النظام السياسي، ورغبة السلطة الحاكمة في استثمار الموقع البحري لتجعل من الدولة قائمة على قاعدة تجارية وعسكرية بحرية متميزة ومتقدمة، فالنظام السياسي هو الذي يخلق الثقافة السياسية الإستراتيجية للتعامل مع المعطى أو المكون الجيوبوليتيكي، وحقيقته التاريخية في أن تكون الدولة البحرية قوية تجاريا وعسكريا أولا تكون.
مما سبق يتبين أن ماهان يقيم نظريته الجيوبوليتيكية إنطلاقا من القوة البحرية ومصالحها، وكانت قرطاج القديمة أنموذج القوة البحرية بالنسبة لماهان.
ومفهوم “القدرة البحرية” يعتمد في نظر ماهان على حرية “التجارة البحرية”، أما الأسطول البحري-الحربي فلا دور له سوى ضمان تحقيق هذه التجارة.
ويمضي ماهان خطوة أبعد من ذلك إذ يعد القوة البحرية نوعا خاصا من الحضارة “فيتجاوز بذلك آراء كارل شهيدت، الحضارة الأسمى والأكثر فعالية فهي إذن المهيأة للسيادة العالمية.
إلا أننا نجد أن القرن العشرين –وما بعده- قد غير الوضع على اليابسة والبحر –وكذلك الجو- في غير صالح القوى البحرية “-بريطانيا على رأسها-” ومن العجيب أن ماهان وأتباع نظريته لم يستشفوا هذه الحقيقة المستقبلية الواضحة إلا أنهم ركزوا على النقاط المهمة التالية في نظريته وهي:
– إن التحكم في البحر ضرورة دولية للسيادة العالمية.
– ما من دولة تستطيع أن تكون قوة برية وقوة عظمى في آن واحد.
– أن تحالف القوى البحرية “بريطانيا والو.م.أ” سوف يمكنها من السيطرة على العالم والتحكم في القواعد الإستراتيجية التي تسيطر على طرق الملاحة الدولية.
– آمن بالإمبراطورية الاقتصادية أي التغلغل الاقتصادي في دول العالم من دون تكوين مستعمرات تقليدية.
وقد حاول ملز “Watten Millis” أن يعيد النظر في مصطلح القوة البحرية على ضوء تطور الحرب الكورية والتسابق بين الدول في التسلح، وأهم النقاط التي وجهها بصدد هذا المصطلح هي:
– في رأي ملز أن استعمال مصطلح القوة البحرية يعد أمرا مغلوطا و أنه تشويه للحقيقة، لأن المحيطات لا تكتسب أهميتها إلا بعلاقتها بالقوة الأرضية.
– رأى ملز أن من الصعوبة السيطرة على البحر بصورة كاملة، بعكس ما جاء في مفهوم ماهان، فقد ثبت صعوبة إصابة الأهداف في كثير من الحالات من قبل أسلحة القوة الجوية.
إلا أنه وبالرغم من الانتقادات الموجهة لنظرية ماهان، تبقى فكرة القوة البحرية مسألة مهمة في التفكير الجيوبوليتيكي والاستراتيجي للدول.
ولعل الدليل القوي الذي يدعم هذا لقول هو تلك المكاسب الكبرى التي جنتها الو.م.أ “القوة البحرية في عرف ماهان” من تجسيدها لأفكار ألفرد ماهان عن القوة البحرية والسيطرة على العالم.

قائد بحري أمريكي ذائع الصيت، نال شهرة واسعة كمؤرخ واستراتيجي بحري ممتاز، فلم يكن ماهان إذن جغرافيا لكنه تعرض في دراساته للموقع الجغرافي وأثره في نمو السيطرة البحرية.
قام ماهان سنة 1885 بتدريس تاريخ الأسطول الحربي في Noval War Collage وفي سنة 1890 نشر كتابه الأول القوى البحرية في التاريخ 1660-1783″ والذي صار تقريبا نصا كلاسيكيا في الإستراتيجية العسكرية، وله أعمال أخرى أهمها:
تأثير القوة البحرية على الثورة الفرنسية والإمبراطورية “1793-1812” اهتمام أمريكا بالقوة البحرية في الحاضر والمستقبل”، “مشكلة آسيا وتأثيرها على السياسة الدولية”، “القوة البحرية وعلاقتها بالحرب”، فقد كرست جميع كتبه تقريبا بالموضوع واحد وهو موضوع القوة البحرية .Sea Power فصار اسم ماهان مرادفا لهذا المصطلح

النظرية الجيوبوليتيكية

مصطلح علم الجيوبوليتيك وأهميته لعلم الجغرافيا السياسية

إن علم الجيوبوليتيك له أهميه كبيرة اهتمت به الدول الأوربية في القرن التاسع عشر ..وكان ذالك سبب في الحروب التي حصلت بينهم إما على المستعمرات أو على أراضي الدول الأوربية نفسها
بحيث تذبذب علم الجيوبولوتيك بين القبول والإهمال ..
وكل هذا يبين الاهميه التي حظي بها علم الجيوبوليتيك
معنى علم الجيوبولوتيك:
في معناه البسيط يعني الجيوبوليتيك: “علم سياسة الأرض”، أي دراسة تأثير السلوك السياسي في تغيير الأبعاد الجغرافية للدولة.

ويتداخل هذا المفهوم مع مضمون علم الجغرافيا السياسية الذي يعنى بدراسة تأثير الجغرافيا (الخصائص الطبيعية والبشرية) في السياسة.

ولدى البعض فإن الجغرافيا السياسية تدرس الإمكانات الجغرافية المتاحة للدولة، بينما الجيوبوليتيك تعنى بالبحث عن الاحتياجات التي تتطلبها هذه الدولة لتنمو حتى ولو كان وراء الحدود.

وبينما تشغل الجغرافيا السياسية نفسها بالواقع فإن الجيوبوليتيك تكرس أهدافها للمستقبل.

من زحزحة الحدود إلى تزييف الخرائط

تنتسب الجذور الأولى لدراسة الجغرافيا السياسية لأرسطو (383-322 ق.م) الذي كان أول من تحدث عن قوة الدولة المستمدة من توازن ثرواتها مع عدد ساكنيها. وترك أرسطو أفكاراً بالغة الأهمية عن وظائف الدولة ومشكلات الحدود السياسية.
وظلت أفكار ربط الممارسات السياسية بالخصائص الجغرافية تتطور بإسهامات فلسفية متعاقبة. واكتسبت هذه الأفكار دفعة قوية بما كتبه عبد الرحمن بن خلدون (1342-1405م) التي ظهرت في مقدمته الشهيرة.

وفضل ابن خلدون يتمثل في تشبيهه الدولة بالإنسان الذي يمر بخمس مراحل حياتية هي الميلاد والصبا والنضج والشيخوخة والموت.

وهذه الدورة الحياتية للدول وارتباطها بمقدرات الدولة أرضاً وسكاناً وموارد.. كانت أبرز ما نقله المفكرون الغربيون فيما بعد حينما تمت بلورة الصياغة العلمية لقيام وسقوط الحضارات.

ومع العقود الأولى للقرن 18 شهدت فرنسا ظهور أفكار جغرافية سياسية رصينة صاغها مونتسكيو (1689-1755) جنباً إلى جنب مع ما قدمه من أفكار اجتماعية وفلسفية وقانونية.

بيد أن اعتقاد مونتسكيو الشديد في الحتمية البيئية نحا به لأن يربط مجمل السلوك السياسي للدولة بالعوامل الطبيعية وعلى رأسها تحكم المناخ والطبوغرافيا مع التقليل من مكانة العوامل السكانية والاقتصادية.

وظل تقييم دور العوامل المكانية (الجغرافية) في تاريخ ومستقبل الدولة السياسي بدون صياغة متكاملة حتى ظهرت في المجتمع الألماني أفكار فردريك راتزل (1844-1904) والذي يرجع إليه الفضل في كتابة أول مؤلف يحمل عنوان “الجغرافيا السياسية” في عام 1897م.

آمن راتزل بأفكار داروين في التطور البيولوجي التي كانت سائدة في نهاية القرن التاسع عشر، وصبغ راتزل صياغته لتحليل قوة الدولة بالأفكار الداروينية التي طبقها الفيلسوف الإنجليزي سبنسر في العلوم الاجتماعية تحت اسم “الداروينية الاجتماعية”.

وأكد راتزل على أن الدولة لا تثبت حدودها السياسية. وكانت الدولة لديه أشبه بإنسان ينمو فتضيق عليه ملابسه عاما بعد عام فيضطر إلى توسيعها، وكذلك ستضطر الدولة إلى زحزحة حدودها السياسية كلما زاد عدد سكانها وتعاظمت مطامحها.
وعلى الجانب الآخر من القارة الأوروبية نجد في هذه الحقبة الجغرافيين اليوغسلاف يطوعون الجغرافيا السياسية لتحقيق أهداف قومية، فلم يتورعوا معها أن يعبثوا بالخرائط السياسية لتحقيق مآربهم.

وكان المثال الأبرز هو الجغرافي اليوغسلافي الشهير يفيجييتش الذي “زيّف” في خرائط الحدود الإثنية للقومية المقدونية -مستغلا شهرته الدولية والثقة الممنوحة له في مؤتمر الصلح في باريس 1919- ليخدم أغراضاً مفادها “سحب” أراض مقدونية وضمها إلى الصرب، وكانت المحصلة إذكاء الروح القومية للصرب وطموحهم للتوسع.
من الجغرافيا السياسية إلى الجيوبوليتيك

في الوقت الذي كان فيه راتزل وسبنسر يتحدثان عن الجغرافيا السياسية كان بعض الجغرافيين الألمان يتحدثون عن علم السياسات الأرضية أو ما اصطلح على تسميته بالجيوبوليتيك.

وقد بدا أنه إذا كانت الجغرافيا السياسية تنظر إلى الدولة كوحدة إستاتيكية فإن الجيوبوليتيك تعدها كائناً عضويا في حركة متطورة.

في هذه الأثناء كانت ألمانيا تعيش بعد الهزيمة التي منيت بها في الحرب العالمية الأولى، في انتكاسة قومية بسبب ما اقتطع منها من أراض كإجراءات عقابية لها من قبل المنتصرين، وتقسيم مستعمراتها بين إنجلترا وفرنسا، كما فرض عليها حصار عسكري ومالي.

وفيما بين الحربين كرَّس الجغرافيون والسياسيون الألمان جهودهم للخروج بوطنهم من محنته، وخرجت لأول مرة دورية علمية تحمل عنوان “المجلة الجيوبوليتيكية” وضمت هجيناً من الفكر الجغرافي والتاريخي والسياسي والقومي والاستعماري.

وقد صيغ هذا الفكر في قوالب علمية رفعت شعار: “لا بد أن يفكر رجل الشارع جغرافياً وأن يفكر الساسة جيوبوليتيكياً”.
وقد جاء هذا الشعار ليبرر الكم الهائل من المعلومات الجغرافية “المغلوطة” التي قدمت للشعب الألماني عن دول شرق أوربا والاتحاد السوفيتي.
كما تم توظيف نتائج بحث الجغرافيا التاريخية والآثار لتقديم معلومات عن أحقية ألمانيا في أراض وبلدان تبعد عنها مئات الأميال شرق أوربا.

وبالرغم مما قد نظنه من مهام علمية بريئة للجمعيات الجغرافية فإن دورها في خدمة التوسع الألماني كان جلياً واضحاً.

وتحت رعاية الجمعية الجغرافية الألمانية أنشئت في ميونخ عام 1924 المدرسة الجيوبوليتيكية التي رأسها الجغرافي السياسي كارل هوسهوفر.

وبجهود هذه المدرسة وبالأعداد المتواترة للدورية الجيوبوليتيكية جهّـز الجغرافيون والسياسيون الفكر الألماني بعضوية الدولة وضرورة زحزحة حدودها لتشمل أراضي تتناسب مع متطلباتها الجغرافية وتحقق ضم الأراضي التي يقطنها الجنس الآري.

وقد جاء ذلك في ظل تنامي أفكار القومية الشيفونية الممزوجة بأغراض التوسع العسكري للحزب النازي.

وقد تلقف هتلر أفكار هوسهوفر وزملائه، كما استعان بأفكار الجغرافي الإنجليزي الشهير ماكندر (الذي كانت مقالاته تترجم إلى الدورية الجيوبوليتيكية)، خاصة تلك الأفكار التي صاغ من خلالها نظريته عن “قلب الأرض”، والتي تقول فحواها: إن من يسيطر على شرق أوربا يسيطر على العالم. وتنبأ فيها بانتقال السيطرة على العالم من القوى البحرية (إنجلترا وفرنسا) إلى القوى البرية (ألمانيا والاتحاد السوفيتي).

وجاءت أفكار هتلر بدءاً من كتاب “حياتي”، ومرورا بخطبه الحماسية، لتكرس مفهوم المجال الحيوي لألمانيا Lebensraum، أي مساحتها الجغرافية اللائقة بها وبالجنس الآري، ولتمثل أبرز مقومات القومية الاشتراكية (النازية) التي تبناها.

وهكذا زاد التداخل في المفاهيم وصار الفصل صعباً بين الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك والإمبريالية.
وصعِدت الجيوبوليتيك إلى مصاف العلوم الكبرى خلال الحرب العالمية الثانية، حتى كتبت هزيمة ألمانيا نهاية لهذه المكانة.
وصار مفهوم الجيوبوليتيك بعد الحرب العالمية الثانية قرين التوظيف السيئ للجغرافيا السياسية، وهو ما أضر بتطوير الجيوبوليتيك والجغرافيا السياسية معاً.

ووصل الأمر في بعض الدول إلى منع تدريس الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك في جامعاتها؛ باعتبارهما علمين مشبوهين يسعيان إلى بذر العداء ويكرسان الأطماع القومية.
من الجيوبوليتيك إلى جغرافية الإمبريالية
دون حاجة لتنظير أكاديمي ومصطلحات ضخمة كانت إمبراطورية روسيا القيصرية ومنذ منتصف القرن السادس عشر تطبق فكرة الدولة العضوية Organic State حتى قبل أن تصاغ في قوالب نظرية.

وأرست روسيا المنهج الذي قامت عليه الأطماع الاستعمارية فيما بعد باعتمادها على الدور المحوري لجمع المعلومات الجغرافية عن الشعوب المجاورة وتدعيم رحلات علمية “بريئة” تقدم أبحاثاً في ميادين شتى لخدمة التوسع فيما بعد، وكان ذلك يجري على قدم وساق حتى أفول شمس الإمبراطورية القيصرية في 1917.

وبعد الحرب العالمية الثانية كان الاتحاد السوفيتي واحداً من تلك الدول التي منعت تدريس الجيوبوليتيك في جامعاتها؛ استناداً إلى أن الجيوبوليتيك والجغرافيا السياسية في ألمانيا جلبَا الكوارث على القارة الأوربية والعالم بأسره.

ولم تظهر كتب في هذين العلمين ذات قيمة إلا في منتصف التسعينيات، هذا بالرغم من أن الاتحاد السوفيتي نفسه كان أكثر النماذج وضوحاً في التطبيق الحرفي لمبادئ الطمع الجغرافي “السمعة السيئة للجيوبوليتيك” لدرجة أن من أكثر النكات شيوعاً في أوروبا في الستينيات كانت تلك التي يسأل فيها مدرس تلميذه سؤالا جغرافياً مباشراً: “من هم جيران الاتحاد السوفيتي؟” وبدلاً من أن يعدد الطالب أسماء الدول المجاورة تأتي إجابته: “جيران الاتحاد السوفيتي هم مَن يرغب هذا الاتحاد في أن يصبحوا جيراناً له”؛ في
دلالة تهكمية على أن هذه الحدود متغيرة، وتعتمد على مستوى التوسع والضم الذي تمليه الأطماع الجغرافية السوفيتية.

وبتفكك الاتحاد السوفيتي مع نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، وبتغير القدرات العسكرية النسبية له انكمشت الحدود، وصارت تطال الحدود الأصلية لروسيا ما قبل السوفيتية.

وقد دعا هذا أحد المفكرين السياسيين صبيحة تفكك الاتحاد السوفيتي إلى أن يعبر درامياً عن هذا بقوله: “يبدو أنه لا مفر من أن نتجرع الكأس حتى الثمالة؛ بالأمس انهدم البيت السوفيتي، واليوم تتهدم روسيا. وما الشيشان إلا مشهد في فصول تهدم البيت. أما بقية المشاهد فستتوالى بخروج مناطق الحكم الذاتي، تعقبها الأقاليم، ثم تتعاقب المشاهد والفصول عبر انفصال وحدات أصغر فأصغر”.

وعلى الجانب الآخر كان قد ظهر على المسرح الجغرافي -مع خروج الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية كأكبر قوة عالمية- مفهوم جديد للجيوبوليتيك وهو “الحدود الشفافة”، التي يقصد بها الهيمنة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية دون حدود خرائطية للدولة. أو ما يسميه تايلور -أشهر باحثي الجغرافيا السياسية في العقدين الأخيرين- بـ”جغرافية السيطرة من دون إمبراطورية”.

والسيطرة من دون إمبراطورية هي أفضل تجسيد لتطوير الأفكار الجيوبوليتيكية، بعيداً عن الأطر التقليدية للنمو العضوي للدولة.

وهذا التطوير يسمح بأن يصبح العالم كله “المجال الحيوي” للولايات المتحدة، بعدما عاشت الأخيرة حتى الحرب العالمية الثانية في عزلة جغرافية ممتعة اختارتها لنفسها.

وأهم سمة في هذا المجال الحيوي هو “اللامواجهة”؛ استناداً إلى مزايا الحرب الإلكترونية، وتوظيف الخصوم المتناحرين في إدارة الحرب بالإنابة، أو التدخل في لحظة محددة باعتباره تدخلاً إنسانيا لصالح العدل والحرية.
وفي نفس الوقت تدفع الولايات المتحدة في هذا المجال الحيوي -دون حاجة لتوسيع الحدود- بمبيعات أسلحتها وتحصل شركاتها على أفضل فرص “إعادة الإعمار” وحقوق التنقيب عن الثروات، ناهيك عن الانفراد بغسل الأدمغة بأفكار جديدة أعد لها سلفاً.
جيوبوليتيكية العالم العربي.. تآكل من الداخل والخارج
يعتري وضع الحدود الدولية للعالم العربي ثلاثة أنماط من المشكلات على الأقل:

(1) مشكلات الحدود الخارجية.

(2) تآكل الأراضي العربية من الداخل عبر الاستيلاء الإسرائيلي التدريجي على الأراضي العربية.

(3) احتمالات البلقنة الداخلية، التي تستهل بالعراق والسودان، ومعروف وجود سيناريوهات مشابهة للمغرب ومصر ولبنان.

وعلى الرغم من أن غزو العراق للكويت قد فسرته نظرية الطمع الجغرافي في الثروة النفطية الكويتية فإن كثيرا من الجغرافيين ما زالوا يؤمنون بأن ضيق النافذة الساحلية المتاحة للعراق على الخليج العربي والتي تزاحمه فيها إيران، لم تكن لتتناسب مع قدرات العراق وطموحاته، وهو ما دفعه لاستخدام فائض القوة في توسيع “ثيابه” على حساب الجيران.

وفي نحو عقد واحد من الزمان يتبدل الوضع الجيوبوليتيكي للعراق ويخضع لطموحات القوى الاستعمارية بتقسيمه إلى ثلاث دول منفصلة:

– دولة كردية في الشمال.

– دولة شيعية في الجنوب.

– دولة سنية في الوسط.

وهو إذا ما تحقق فسيضمن -لعقود متتابعة- انشغال العراق بحرب أهلية لإعادة توحيد أراضيه في أدنى حد لوضعها قبل الثاني من أغسطس 1990 حينما أغرته قوته بأن حدوده العضوية آن لها أن تنمو.

وعلى نفس المنوال تنسج القوى الاستعمارية المتربصة بالعالم العربي خططها لتقسيم السودان.

وإذا ما تحقق السيناريو بقيام دولة (يسمونها “مسيحية”) في جنوب السودان؛ كان ذلك بمثابة دمغ بظلامية مستقبل الدول العربية التي تشهد تنوعاً عرقياً أو دينيا داخل حدود الدولة الواحدة (كسوريا ولبنان ومصر والجزائر وتونس والمغرب، وبعض دول الخليج باختلافاتها المذهبية).

ويأتي هذا التوجه بينما لا تفتأ إسرائيل تناوش مصر وسوريا ولبنان والأردن بالتهديد بتوسيع الحدود الإسرائيلية في أي لحظة وتحت أي ذريعة، وهو ما يؤكد أن الأفكار الجيوبوليتيكية ما زالت حاضرة في العالم العربي، ولكن بصورة يبدو فيها العالم العربي مفعولاً به وليس فاعلاً.

وتجسد حدود إسرائيل نموذجاً مثالياً للحدود العضوية؛ فدولة الاحتلال بدأت بعدة مستوطنات في نهاية القرن التاسع عشر ثم مع ما اكتسبته القوات الإسرائيلية من دعم بريطاني بدا التوسع التدريجي على حساب الأراضي العربية، وظلت متجهة للكسب الجغرافي في صالح إسرائيل حتى عام 1973 حينما تغيرت هذه المعادلة رغم القدرات الإسرائيلية المتزايدة عسكرياً وبشرياً.

وكان منتظراً أن تبقى الحدود واسعة فضفاضة مؤكدةً لإستراتيجية نقل المعارك إلى أرض الأعداء، غير أن العوامل الداخلية الإسرائيلية والسعي إلى إقامة مجتمع مستقر يعيش دولة الرفاهية وليس دولة الحرب دفع إسرائيل إلى القبول –كرهاً- بتضييق حدودها، وهو ما لا يتوقع أن يستمر طويلاً.

فالحدود الإسرائيلية الحالية لا تتفق مع الأفكار الجيوبوليتيكية التي تناسب قدراتها العسكرية، كما لا تتناسب مع أطماعها الجغرافية، في الثروة المائية بخاصة، ولا رؤاها الصهيونية.
أضف إلى ذلك أن العالم العربي يتعرض لتهديد بحبس المياه عنه؛ إذ تنبع أنهاره الكبرى (كالنيل ودجلة والفرات) من أراضٍ أجنبية، وترتبط الأوضاع الجيوبوليتيكية للحدود العربية بما يسمى “حروب المياه” المنتظرة وهو ما يحتاج إلى معالجة مستقلة.
نحو جيوبوليتيكية عربية

لا يمكن القول بأن هناك رؤية جيوبوليتيكية واضحة للعالم العربي المعاصر، فعلى مدى قرون عديدة انشغل العالم العربي “بإزالة عدوان” الأطماع الجيوبوليتيكية للقوى العالمية التي اجتاحت أراضيه واستغلت ثرواته.

ورغم أننا يمكن أن ننظر إلى الفتوحات الإسلامية من زاوية جيوبوليتيكية لنشر أفكار الدين الإسلامي، فإن المنصفين يقرون بأن ذلك الاتساع للدولة الإسلامية لم يقم على أساس استعماري ينكر الآخر ويزدريه وينهب ثرواته ويحطم حضاراته.

ويكفى أن نستدعي إلى الذهن الإسهامات العلمية والأدبية والروحية لمسلمي البلاد التي ضمتها دولة الخلافة العربية؛ كشاهد على التعايش والتفاعل والانتماء، بل ولغير المسلمين الذين شاركوا في النهضة الإسلامية وتم احترام حريتهم الدينية وصونها.

وبالمثل، فإنه إذا ما قدر للعالم العربي أن يُفيق من مشاكله -وهذا آت لا محالة- فإن ما قدمه المفكر الجغرافي المبدع جمال حمدان في تناوله للمصالح الجيوبوليتيكية لمصر (في مؤلفه الفريد عن شخصية مصر) يمكن أن يكون أساساً لنموذج تُحدد فيه الدوائر الجغرافية للمصالح العربية القائمة على التبادل والتكامل مع ما يجاورها من قوى سياسية.

وللعالم العربي رصيد حضاري كبير في الدوائر التي تحيط به: كدائرة البحر المتوسط والدائرة الأفريقية ووسط وشرق آسيا.

غير أن المطلوب -على بساطته- عسير؛ فلا بد مما يلي:
(1) أن ينهي العالم العربي صراعه مع إسرائيل (بصورة أو بأخرى).
(2) أن يفوّت الفرصة على أعدائه الساعين لحبسه في خندق الرجعية والتطرف.

(3) أن يتوحد في صورة من التجمع الإقليمي.

(4) أن يرسي أسساً أكثر فاعلية للديمقراطية.

عندها ستصبح الفرصة سانحة أمام التفاعل والتكامل الحضاري (وليس النمو العضوي) مع جيرانه، القوي منهم والضعيف، وهذا كفيل بأن يجعل العالم العربي -حتى بعد نفاد النفط- قوة لا يستهان بها.

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى