دراسات سياسية

النظرية السياسية الحديثة (بحث شامل) – الجزء الثالث

المبحث الرابع :السلطة الفلسطينية (حالة خاصة)

كما سبقت الإشارة ، فالسلطة السياسية تصاحب غالبا الدولة ، ولكنها توجد أيضا في مجتمعات ما قبل الدولة وفي المجتمعات الخاضعة للاستعمار ، فالاستعمار يغتصب الأرض ويفرض سلطته على الشعب ولكن هذه السلطة تبقى سلطة غير شرعية ، السلطة الحقيقية والشرعية هي التي تعبر عن إرادة الأمة، إنها السلطة الوطنية ،سلطة حركة التحرر .

وفي الحالة الفلسطينية فمنذ توقيع أوسلو والى قيام الدولة الفلسطينية ، هناك واقع يسمى السلطة الفلسطينية ( سلطة حكم ذاتي محدود) حتى وإن ادعت إسرائيل في ظل حكومة شارون أنها لا تعترف بها وبرئيسها ،وسواء، كنا مع اتفاق أوسلو وإفرازا ته أو كنا ضده، فهو يفرض نفسه كجزء من تسوية مفروضة ، انه مفروض على فلسطينيي الضفة والقطاع كما أن الغربة مفروضة على فلسطينيي الشتات 1-. وكما كان النضال الفلسطيني فيما قبل التسوية له محددات لم يضعها الفلسطينيون وحدهم، بل كانت الدول العربية المضيفة والمعنية بالصراع وكذا الوضع الدولي السائد آنذاك لهم الدور الأكبر في وضع هذه المحددات وضبط العملية الثورية برمتها ،فأن التسوية اليوم مفروضة على الفلسطينيين بشكل أو آخر. وحيث إنه أصبح من الصعب الآن تجديد الحالة الثورية الفلسطينية خارج فلسطين ، خصوصا بعد انهيار النظام الإقليمي العربي ،فان النضال الفلسطيني يجب أن يتجه بكل أشكاله إلى داخل فلسطين ،وإذا اتفقنا أن إمكانات الفلسطينيين وخصوصية وضعهم داخل الوطن لا يسمح لهم بتدمير دولة إسرائيل ،فان الجهود يجب أن تتجه نحو تأمين الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة ،وإذا كان هناك اتفاق حول هذا الهدف بعيدا عن المزايدات الإعلامية والشعارات الحماسية فأن الخلاف حول أسلوب التعامل والتصرف الأنسب لتحقيق هذا الهدف لا يبرر انقسام الساحة الفلسطينية انقساما حادا يبرر حمل السلاح أو تخوين البعض للبعض الآخر .
إن أي نقاش وطني عقلاني حول السلطة والحكم الذاتي في هذه المرحلة يفترض أن لا يتمحور حول ،مع السلطة أو ضد السلطة ، بل يجب أن يكون حول عمل السلطة وكيفية تطويرها ،أو بمعنى آخر التمييز ما بين السلطة الوطنية كجهاز وركن أساس لا يمكن تصور قيام دولة أو كيان سياسي بدونها من جهة، وكيفية أداء السلطة لعملها ونزاهة الأشخاص القائمين بأمرها من جهة أخري.وفي هذه الحالة يفترض أن يكون إجماع وطني فلسطيني – بل وقومي عربي و إسلامي – حول مبدأ وجود السلطة – بغض النظر عن ممارسيها -، وحق الاختلاف حول كيفية عملها وبرامجها وأشخاصها الخ ، وقد أبانت السياسة الإسرائيلية في عهدي باراك وشارون أنها ضد وجود سلطة وطنية فلسطينية ذات مصداقية حتى وإن كانت منبثقة عن اتفاقات أوسلو .
من الواضح أن وضع السلطة وضع لا تحسد عليه وخصوصا بعد الاجتياح الإسرائيلي للضفة في نهاية فبراير 2002، فهي ليست سلطة سياسية كاملة الصلاحيات، بل سلطة مقيدة بشروط والتزامات تعرقل قيامها بمهامها كسلطة سياسية بمعنى الكلمة . ومن جهة أخرى فإن الدولة عادة ما تأتي بعد تحقق الركنيين الآخرين للدولة وهما الأرض والشعب ، فالسلطة تأتي لتمارس السيادة على الأرض والشعب ،أما في الحالة الفلسطينية فقد وجدت السلطة أولا في ظروف معقدة وبصلاحيات محدودة ،وينتظر منها استكمال عناصر الدولة ،أي استكمال تحرير الأرض ولملمة شتات الشعب .
هذه خصوصية لا تخلو من تناقض وتعقيد ذلك أن السلطة الفلسطينية وجدت في إطار تسوية وضمن اتفاقية تكبل تحركها وتجعل كل خطوة من خطواتها وخصوصا ذات الطابع السيادي مرهونة بالموافقة الإسرائيلية والأمريكية ، فيما الشعب الفلسطيني يريدها أن تقوم بمهمة مزدوجة مهمة سلطة وطنية تحريرية وسلطة سياسية تأسيسية ،وهي مهمة جد صعبة إذ أخذنا بعين الاعتبار التحديات الداخلية والخارجية التي تعترض عمل السلطة . وانطلاقا من هذه الصعوبة حدث شطط في التحليل عند من تعامل مع موضوع السلطة والحكم الذاتي ،بحيث أن هيمنة الأيدولوجيا والمواقف المسبقة والصراعات الحزبية وحتى الشخصية داخل الحزب الواحد، جعلت مقاربات الموضوع تقع في السببية الفجة وتصدر أحكاما كلية اعتمادا على مقاربات جزئية .

إن الفهم العميق للتحولات الدولية والإقليمية يدفعنا إلى القول إن التحدي الذي يواجه الشعب الفلسطيني وهو يخوض نضالا سياسيا – وعسكريا ضمن ما هو متاح وكإمكانية يجب عدم إسقاطها – لتأسيس دولته الوطنية المستقلة لا يقل عن التحدي الذي واجهه عندما كان يتبنى استراتيجية الكفاح المسلح ضد الصهيونية والإمبريالية لتحرير وطنه ، وسنكون واهمين إذ اعتقدنا أن القوى التي حالت بين الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته في مرحلة الكفاح المسلح ستساند هذا الشعب في تأسيس وطنه بالطرق السلمية ،ذلك أن معارضتها لم تكن لان الشعب الفلسطيني يريد أن يُقيم دولته عن طريق الكفاح المسلح بل كانت معارضة لمبدأ قيام الدولة الفلسطينية ، سواء كانت هذه القوى تتجسد بإسرائيل أو بالولايات المتحدة الأمريكية أو بدول غيرها من داخل المنطقة ، وقد أثبتت الأحداث ذلك مع كامب ديفيد الثانية وقبلها ثم مع خارطة الطريق عام 2003، حيث رفضت إسرائيل و أمريكا الاعتراف بدولة فلسطينية يعلنها الفلسطينيون على مناطق الحكم الذاتي في مايو 1999 وهو تاريخ نهاية مرحلة الحكم الذاتي حسب اتفاق أوسلو، كما ترددت الدول العربية في دعم الموقف الفلسطيني بخصوص إعلان الدولة من طرف واحد حتى لا يثيروا غضب أمريكا ، ولولا صمود الشعب الفلسطيني واندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، لتبخر حلم الدولة . 
لا شك أن حق الشعب الفلسطيني في كامل فلسطين حق لا يمارى فيه ،ولكن علينا أن نعترف وأن نتعلم من التاريخ أن الشعوب لا تحيى فقط على الأهداف والشعارات كما أن الأهداف لا تتحقق بمجرد ترديد المطالبة بها ودبج الأشعار والتنظيرات حولها ،ولكنها-الشعوب- تعيش في واقع وتتعامل مع واقع، ليست الإرادة الذاتية الفاعل الوحيد فيه مع أنه الفاعل الأساس أحيانا، . والأهداف المشروعة إن لم تُصاحَب بممارسة عقلانية وأدوات تنفيذية ومراكمة إنجازات ، فأنها ستتحول إلى أضغاث أحلام وستتآكل مشروعيتها عبر الزمن . وعليه فإن أي إنجاز على ارض الواقع مهما كان صغيرا فانه سيُبقي الأمل في النفوس متقدا وستبقى الصلة قائمة ما بين الأهداف الوطنية المشروعة من جهة وواقع الحياة اليومية ومتطلباتها من جهة أخرى . 
ليس هدفنا منح شهادة حسن سلوك للحكم الذاتي وسلطته ،ولا المراهنة على حتمية تحول الحكم الذاتي الحالي إلى دولة مستقلة على كامل الضفة والقطاع عاصمتها القدس الشريف، ولكننا نعبر عن تخوف من أن يؤدي عدم استيعاب النخبة السياسية الفلسطينية لما يجري وطنيا ومحليا ودوليا ، إما بالتفاؤل المبالغ به أو بالهروب من ساحة مواجهة الحقيقة ، أن يؤدي ذلك إلى تمكن العدو من تنفيذ كامل مخططاته والتي لا تتضمن بطبيعة الحال قيام دولة فلسطينية مستقلة ،وقد بانت حقيقة السياسة الإسرائيلية مع باراك ثم شارون في تعاملهم مع الانتفاضة ومع الاتفاقات والتفاهمات الموقعة مع السلطة الفلسطينية وأخرها خارطة الطريق .لا شك أن سلبيات السلطة الفلسطينية كثيرة ولكن أيضا كانت وما زالت كثيرة سلبيات مناوئيها ،وكان على رأس سلبيات الطرفين التعامل مع بُعد واحد من أبعاد الموضوع وهو البعد السياسي وتجاهل بقية أبعاد القضية ،لقد هيمنت الانشغالات السياسية على غيرها وكأن الأرض لا تحُرر إلا بالتنظيرات السياسية، والأوطان لا تُبنى إلا بالسياسة ، لقد أراد كل واحد أن يكون مناضلا و منظرا سياسيا ونسوا أن يكونوا مواطنين سياسيين بما تعنيه كلمة مواطنة من حقوق وواجبات .لا شك أن السياسة جوهر القضية ولكن السياسة ليست شطارة وفهلوة وليست صناعة كل من هب ودب ،كما أن هناك أمورا لا تقل أهمية من الممارسة السياسية ،ونقصد بها كل عمل من شأنه أن يبني الوطن ويبني المواطن ،ذلك أن المجتمع الفلسطيني لم يفقد الأرض فقط بفعل الاحتلال ،بل تعرض أيضا لتشوهات وأمراض اجتماعية ولاختلال في القيم وتفكك للمؤسسات وغياب للبنية التحتية التي بدونها لا يتحول المجتمع إلى دولة.
لسنوات والشعب الفلسطيني يخضع لسلطة غير فلسطينية ،سلطة حكم عربي أو سلطة احتلال صهيوني ،وفي كلتي الحالتين – مع وجود فارق بطبيعة الحال ما بين السلطتين- لم يشعر الفلسطيني أنه يخضع لسلطة وطنية تعبر عن طموحاته و آماله ،ولم يشعر أن من هم في السلطة ، منه واليه . ففي البلاد العربية كان وضع الفلسطيني في أفضل الحالات ، وضع مواطن من درجة ثانية ، وفي فلسطين المحتلة لم يعرف الفلسطيني إلا سلطة احتلال وقوانين احتلال ومؤسسات تخدم الاحتلال ، وكل رمز من رموز السلطة يذكره بأنه خاضع للاحتلال وانه غير مرغوب فيه ،ولان السلطة حيث يعيش الفلسطيني في غير وطنه المستقل، تعرف حب الفلسطيني لوطنه وانه لا يقبل عن فلسطين بديلا وانه يرفض الخضوع والذل ،فقد تعاملت بحذر أو بمعاداة مع الفلسطيني و كانت دائما تضعه موضع الشك والاتهام حتى بالنسبة لأولئك الفلسطينيين الذين عبروا عن كامل آيات الولاء للدولة التي يعيشون فيها وحملوا جنسيتها، كانت السلطة حذرة في التعامل معهم ،وكانت تحرض مواطنيها عليهم بالعلن وبالسر ،وان توفرت حسن النية عند السلطة كانت فئات من المواطنين (الأصليين ) ترفض أن يتساوى الفلسطينيين معهم ويقاسموهم خيرات البلاد. وعليه كان الفلسطيني يأخذ في كثير من الحالات موقفا معاديا من السلطة وكل ما ترمز إليه ،موقفا فكريا وموقفا ممارساتيا .
وجاءت السلطة الفلسطينية إلى ما تبقى من الوطن، وأراد الشرفاء فيها أن يحدثوا انقلابا في أسلوب فهم وتعامل الفلسطيني مع السلطة ،أرادت السلطة الفلسطينية أن تجعل الفلسطيني يخضع للسلطة لأنها سلطة وطنية … وان يخضع للقانون لأنه قانون وطني…ويخضع للشرطة لأنها شرطة وطنية… ويخضع للمؤسسات لأنها مؤسسات وطنية… وبل أرادته إن احتاج الأمر أن يقبل بدخول السجن لأنه سجن وطني …، ولم يكن الفلسطيني ضد كل ذلك ولكن كان ينتابه الشك حول استقلالية قرار السلطة ما دامت قوات الاحتلال هي صاحبة اليد الطولى، وما دامت السلوكيات لبعض رموز السلطة لا تختلف كثيرا عما كان عليه الحال وقت الاحتلال ،المواطن الفلسطيني يريد السلطة الفلسطينية ويريد دعمها بقدر ما هو حذر في التعامل معها ،انه يخاف عليها ويخاف منها في نفس الوقت .
كان المواطنون الفلسطينيون داخل الضفة والقطاع وما زالوا مستعدين لكل أشكال التضحية من أجل التخلص من الاحتلال وحتى وإن كان ذلك في مرحلة أولى يفرض عليهم استحقاقات مرحلة انتقالية وحكم ذاتي محدود ،وكانوا مستعدين لان يشدوا الأحزمة على البطون بسبب تراجع مستوى معيشتهم عما كان عليه وقت الاحتلال ،كانوا مستعدين لكل التضحيات ما دام الأمر سنوات وتقوم الدولة كما وعدهم منظرو اتفاق أوسلو ،ولكن ما لا يقبل به الشعب هو تبديد الآمال وتقليص سقف الطموحات ، بالإضافة إلى ممارسات سلطوية لا تساعد على خلق حالة من الثقة ما بين السلطة الفلسطينية والشعب.
هذا لا يمنع من القول إن هناك جنودا مجهولين داخل السلطة ،قد يكونوا وزراء أو برلمانيين أو موظفين أو رجال شرطة …*يعملون بصمت من أجل بناء الوطن ، ولا شك أن كثيرين ممن لا يريدون للشعب الفلسطيني أن ينجح في تأسيس دولته يساعدون على نشر الفساد أو يشيعون الحديث عن وجود فساد داخل السلطة الفلسطينية ويحاربون الشرفاء والمخلصين للوطن ويعيقون كل إجراء تُقدم عليه السلطة يعتقدون أنه قد يضيف لبنة في مشروع بناء الوطن ، وكثيرون أيضا يضخمون الأخطاء التي تحدث داخل السلطة ويسارعون إلى نشر أي غسيل وسخ للفلسطينيين بالرغم من أن أوساخهم أكثر بكثير مما لدى الفلسطينيين. ومع ذلك يجب الاعتراف بأن الفلسطينيين يتحملون أكثر من غيرهم المسؤولية عما يجري داخل مناطق الحكم الذاتي ، والأمر يتطلب من السلطة ومن الشعب تحمل المسؤولية ، فبناء الوطن ليس مهمة السلطة دون الشعب أو بالعكس ،بل هي مهمة مشتركة وخصوصا أن العدو يعمل لضرب السلطة بالشعب والشعب بالسلطة ويعمل كل ما في وسعه لتبديد الحلم الفلسطيني بالدولة .
إن المسؤولية إذن مسؤولية مزدوجة ،مسؤولية السلطة ومسؤولية المواطن ،فالمواطن الفلسطيني سواء كان مواطنا عاديا أو منتميا إلى حزب أو تنظيم ، عليه أن يدرك أن تأسيس دولة أو كيان سياسي لا يكون إلا بوجود سلطة وطنية ،وان أي سلطة في العالم لا بد لها من صلاحيات للقيام بمهامها بما في ذلك ممارسة القسر والإكراه ،فالسلطة تقترن دائما بالقوة وتحيل إليها (لا سلطة دون تسلط) ،ولكن في إطار القانون والمؤسسات وبما يخدم المصلحة الوطنية ،وعلى المواطن الفلسطيني أن يعرف أيضا أن السلطة لا يمكنها أن تقوم بعملها بدون قوانين يجب أن تحُترم وبدون مؤسسات يجب أن تُصان . وإذ كان يجوز الاختلاف حول الشأن السياسي ،فلا يجوز الاختلاف حول ضرورة بناء وتأسيس الدولة ،وقوى المعارضة الفلسطينية التي تتوفر على الوعي والحس الوطني مما يجعلها تميز ما بين هذين النوعين من المعارضة :معارضة ممارسات السلطة ومعارضة بناء الوطن ،إن كل جهد في اتجاه بناء الإنسان الفلسطيني والمؤسسات الفلسطينية والدولة الفلسطينية هو عمل وطني وللوطن ومن الخطأ الإحجام عنه بحجة أن يجير لمصلحة تنظيم محدد أو توجه سياسي محدد ،وعلى قوى المعارضة أن تربي أعضاءها على احترام مؤسسات ورموز السلطة الوطنية ،و إن شاءوا يعارضوا سياساتها وبرامجها وممارسات مسئوليها ،فحيث أن الشعب الفلسطيني يرفض الخضوع لسلطة الاحتلال فعليه أن يقبل بسلطة وطنية لأن ما بينهم هو الفوضى والخراب والحرب الأهلية.
لم يعد خافيا على أحد أن قبول إسرائيل و أمريكا بحكم ذاتي فلسطيني وبسلطة فلسطينية لا يعني أنهم يهيئون الوضع للاستقلال الفلسطيني ،أو أنهم يدربون الفلسطينيين على كيفية حكم أنفسهم بأنفسهم ، حتى مع حديثهم المخادع عن إصلاح السلطة ، بل قبلت إسرائيل بذلك مناورة وخوفا من أن تضطر لتقديم تنازلات أكثر ، ولذا فهي وكما رأينا لن تدخر جهدا لإفشال تجربة الحكم الذاتي وستمارس سياسة الأرض المحروقة بتضييق سبل العيش أمام غالبية الشعب داخل مناطق الحكم الذاتي وإطلاق قطعان المستوطنين لتنهب الأرض وتمارس الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني حتى يتمرد الشعب على السلطة الوطنية، أو يضطر غالبية الشعب لمغادرة الوطن ومن يتبق منهم يتحولوا إلى (عرب إسرائيل ) ولكن دون حقوق المواطنة .وعليه فإن الطريق أمام الفلسطينيين ما زال صعبا وشاقا ومهمتهم لإعادة بناء الدولة على جزء من أرض الوطن تحتاج إلى تضافر كل الجهود ،جهود فلسطينيي الداخل وجهود فلسطينيي الشتات ،تحتاج إلى جهود السلطة وجهود المعارضة ،تحتاج إلى جهود السياسيين والمثقفين والمبدعين وكل الكفاءات التي شتتها الاحتلال أو أبعدتها ممارسات سيئة لبعض العملين في السلطة الفلسطينية.

الفصل الثاني
نظريات الدولة

إذا كانت الأسرة تعد الخلية الأولى في أي مجتمع من المجتمعات وهي أصغر مؤسسة اجتماعية عرفها الإنسان، فإن الدولة هي أكبر مؤسسة اجتماعية أو بشكل آخر إنها مؤسسة المؤسسات، ويرى روبرت كارنيرو R.I. Carneiro: “إن نشأة الدولة كانت أخطر التطورات في الحياة البشرية على الإطلاق، لكنها مع ذلك ما تزال مهملة نسبياً في الدراسات، ما يزال الغموض يحوط الكثير من جوانبها” .

المبحث الأول:تعريف الدولة وأركانها

المطلب الأول : في تعريف الدولة
إذا كان للسلطة دلالات سسيولوجية وسياسية فإن الدولة ظاهرة ومؤسسة سياسية خالصة، بحيث لا يمكن الفصل بين الدولة والسياسة، بل يُعرف علم السياسة كعلم الدولة، وكان مجال الاهتمام الأول لعلم السياسة هو الدولة. وفي هذا يقول ن. ب. بيري N.P. Barry “تاريخ النظرية السياسية قد ركز اهتمامه على الدولة”. ولكن ما هي الدولة؟ يرد أندرو فنسنت Andrew Vincent أستاذ النظرية السياسية في جامعة كارف البريطانية ، بالقول ” هذا هو أحد أبسط ، ولكن أكثر الأسئلة إثارة للحيرة يمكن ان يطرح في علم السياسة ” ، ويرى إن دراسة الدولة عملية معقدة وليست بالسهولة التي يعتقدها البعض ،ولكنها في نفس الوقت نهمة ولم تأخذ الاهتمام الكامل من المفكرين السياسيين،ويذكر أربعة أسباب تجعل من المهم التفكير بعناية بالدولة:
1- الأول عملي مطلق ،حيث من الصعوبة بمكان أن ندرك الحياة بدون الدولة ،فالدولة ليست مجرد مؤسسات وأجهزة ، بل هي جسما من الاتجاهات والممارسات وقواعد السلوك ، إنها باختصار حياة التمدن السياسيCIVILITY وحاضنة الحضارات ، عن الدولة تتخلل كل نسيج حياتنا .
2-” إن الدولة ليست مؤسسة محايدة يكون في قدرتنا أن نتجاهلها، ولا هي برزت بمحض الصدفة المطلقة أو الحدث العابر.هناك خصائص مألوفة اكتسبتها الدولة وبرزت تدريجيا من خلال النمو العضوي للدولة.ومع ذلك، فان القدر الأكبر من شكلها وبنيتها من الممكن فهمه بشكل كامل فقط عن طريق الاستيعاب العميق للنظريات السياسية والقانونية التي تجسدت بداخل شكلها وبنيتها … إن النظرية السياسية نفسها هي التي تساعد على تطور مؤسسات محددة للدولة.” 
3-بالرغم من قدم فكرة الدولة ووجودها إلا أن هناك قدرا كبيرا من التشويش الفكري أو الحيرة الفكرية يحيط بفكرة الدولة ، وتحديدا عندما تتداخل فكرة الدولة مع فكرة المجتمع ، الأمة ،الجماعة ، الحكومة ، والسيادة الخ. ووضع حد لهذا التشويش لا يكون إلا بالإلمام بنظريات الدولة .
4-غموض فكرة الدولة ، هو سبب المظاهر المتناقضة في التنظير السياسي ، “إن الانطباعات حول أفكار مثل القانون ، الحقوق والالتزامات تفترض وجود شكل ما من أشكال الدولة ، هذه الأفكار تتداخل وتتشابك مع الدولة .وبالتالي فإنه يبدو من الجوهري مبدئيا أو تمهيديا لأي دراسة لهذه الأفكار أن تكتسب نوعا من المعرفة والإلمام بنظريات الدولة.1
التسمية الحالية للدولة الحديثة State لم تظهر إلا بعد تفكك الإمبراطوريات، وقد شاع استعمالها منذ القرن السادس عشر، أما قبل ذلك فكانت تستعمل تسميات أخرى ففي اليونان كانت تسمى Police، وفي العهد الروماني كانت تسمى إمبراطورية Empire، وعند العرب شاع لفظ إمارة وسلطنة.هذا يعني أن الحديث عن فكرة الدولة، كمجتمع كلي أو شمولي يتجاوز مجتمع القبيلة، هو الأقرب إلى الصحة كشكل ثابت عبر التاريخ ، فالدولة التي يتحدث عنها المؤرخون وعلماء السياسة هي كيانات متباينة ، بحيث يصبح لفظ دول أكثر دقة ، ويقول لوبيز Lubas; في كتابه The Development State “إن أول شيء ينبغي أن يقال عن الدولة الحديثة هو أنها لا توجد ولم يسبق أن وجدت من قبل .ما وجد تاريخيا هو عدد هائل من الدول الحديثة ذات البنيات المتنوعة للغاية .”2 وحتى في وقتنا الحاضر ، أنظر كم هي متنوعة ومتباينة تلك الكيانات السياسية التي تسمى دولة ،متباينة في حجمها وعدد سكانها وطبيعة نظمها وملابسات تأسيسها ، وحتى في ثقافات الشعوب ودياناتهم ، الخ. 

إلا أن هذا الغموض حول الدولة لا يمنع من القول بوجود خصائص أو قاسم مشترك بين الكيانات السياسية التي تشملها فكرة الدولة ساعدت الباحثين على وضع تعريفات للدولة ، تعريفات لغوية وتعريفات اصطلاحية. كلمة State أي الدولة مشتقة من اللفظة اللاتينية STARE والتي تغني “أن يقوم” وأيضاً من كلمة ستاتو Status بمعنى “موقف أو وضع”، وهذه الكلمة أطلقت على الكيانات السياسية التي استقرت ونتجت عن تفكك الإمبراطورية الرومانية ، بمعنى أنها تصح على الدولة الحديثة ، أما الدول القديمة ، فكان يطلق عليها تسميات أخرى كما أسلفنا ، ولكن لاعتبارات عملية ودراسية ، تطلق الكلمة على كل المجتمعات الشمولية التي تجاوزت حياة القبيلة ومرحلة الترحال ، فإذا كان عمر الدولة الحديثة يقدر بخمسمائة سنة – منذ عصر النهضة- فان عمر الدولة بمفهومها العام يعود إلى القرن السابع أو الثامن قبل الميلاد.
أما في اللغة العربية وفي التعريف القاموسي، كلمة دولة مشتقة من فعل “دال” و “يدول”، أي بمعنى ينتقل من حال إلى حال، فجاء في لسان العرب، الدولة “الانتقال من حال الشدة إلى حال الرخاء” ، وهذا المعنى دقيق وعميق، لأنه يدل أن الدولة لم تظهر إلا بعد انتقال المجتمعات من حالة الترحل والانتقال والبداوة إلى مرحلة الاستقرار والازدهار، ومن المعلوم أن الدولة لا تكون إلا في المجتمعات المتحضرة، وهذا المعنى أشار إليه ابن خلدون في تمييزه بين البداوة والحضر.

أجمع علماء السياسة على أن الدولة “هي الذروة التي تتوج البناء الاجتماعي الحديث وتكمن طبيعتها التي تنفرد بها ، في سيادتها على جميع أشكال التجمعات الأخرى “،بمعنى أن الدولة هي المجتمع الكلي الذي لا يعلوه مجتمعا آخر ولا تنضوي في إطار مجتمع آخر،- إلا المجتمع الدولي ولكن بشكل جزئي لا يلغي كيان الدولة أو سيادتها- . في التعريف القانوني الدولي للدولة، توجد الدولة إذا توفرت ثلاثة عناصر: الإقليم، الشعب والهيئة الحاكمة ذات السيادة أو السلطة السياسية، إذن فإن السلطة السياسية، التي تطرقنا إليها آنفاً، تعد ركناً من أركان الدولة وشرطاً من شروط وجودها، إلا أن السلطة السياسية لوحدها لا تخلق دولة – نفس الأمر بالنسبة للعنصرين الآخرين، الإقليم والشعب – وهذا التعريف القانوني للدولة مع أهميته إلا أنه لا يفيدنا كثيراً في التعرف على النظريات المفسرة لأصل الدولة كمؤسسة سياسية اجتماعية، وعليه سنتطرق إلى بعض المقاربات النظرية التي حاولت أن تعرف الدولة.

اليونانيون القدامى هم أول من تحدث عن الدولة ككيان سياسي مؤسساتي ،إلا أن مفهومهم للدولة ومجالات اهتماماتهم السياسية كانت مغايرة عما هو موجود اليوم ، نعم ،أولو اهتماما بالقانون والحرية والمساواة والديمقراطية ، إلا أن تفكيرهم بقي محصورا في دولة المدينة من جانب وبطغيان الجدل الفلسفي والسفسطائي على قضايا أساسية كالسيادة والحدود من جانب أخر ، بالإضافة إلى تداخل السياسة مع الدين والأخلاق والحياة العامة بل الخاصة للناس ، نظرا لقلة عدد السكان . ويعتبر أفلاطون plato(428- 347 ق_م) من أهم المنظرين للدولة ، فبالرغم من منحاه الفلسفي المتسم بالطوباوية ( المدينة الفاضلة) وخصوصا في كتابه الجمهورية Republic،إلا انه وضع ما يشيه النظرية حول الدولة من حيث مساحتها وعدد سكانها والتوزيع الطبقي فيها وأشكال أنظمة الحكم وتعاقبها ، وكتاباته المتأخرة وخصوصا كتابه القوانين ، استمرت من بعد لسنوات نبراسا للمفكرين السياسيين المتطلعين لإشكالية القانون والحرية وتعاقب أنظمة الحكم. وعلى منواله سار أرسطو ( 348-322 ق _ م ) ومفكرون رومانيون كشيشرون Ciceron (106-43 ق_م ) وبوليب Polybe( 205-125 ق_م ).
مع تبني الإمبراطورية اليونانية للمسيحية عام 393 ميلادية أصبح للدولة وللسياسة ولكل ما يمت إليها بصلة تداخل مع الشأن الديني ، وهيمنت فكرة التفويض الإلهي على الحقل السياسي للدولة والسيادة ، بل أن بعض مفكري المسيحية وهو القديس أوغسطين Sant-Augstin (354-430 ) في كتابه مدينة الله تحدث عن مدينتين ، مدينة الله ومدينة البشر تتعايشان جنبا لجنب وتتنازعان حياة البشر.طوال القرون الوسطى استمر الصراع ما بين التصور الديني للدولة والسلطة، وتقوده الكنيسة، والذي يرى أن الدولة والسلطة معطى سماوي وليس من اختصاص البشر ، والتصور العلماني الذي يرى ضرورة إنزال السياسة من السماء إلى الأرض ، وظهر هذا التيار بداية داخل الكنيسة وفي إطار الإصلاح الديني ثم انتشر خارجها عندما وجد دعاته دعما من الأمراء والملوك المتطلعين للسلطة وللاستقلال عن هيمنة الكنيسة وسلطة البابا.ولهذا التيار الذي قاده دانتي ومكيافلي 1469-1527 ومارتن لوثرLuther (1483-1546 ) وجان كالفن 1564-1509وغيرهم ،يعود الفضل لظهور النظرية الحديثة للدولة.1 
في الوقت كانت تعيش أوروبا عصور الظلمات ، وصراع محتدم ما بين الديني والدنيوي ، جاءت الدعوة المحمدية في القرن السابع ميلادية ،كدين متكامل لا يفصل ما بين العبادات والمعاملات ، حيث وضع تنظيما شاملا لشؤون الدين والدنيا ، مع توسع في مجال العبادات ، والاقتضاب في مجال الحكم والإدارة ،تاركا للمسلمين ولأولى الأمر التفصيل والاجتهاد بما يتناسب مع أمور حياتهم ،ومع أن المسلمين أسسوا دولة مترامية الأطراف ، إلا أن المواقف تباينت حول وجود نظرية سياسية متكاملة حول الدولة ونظام الحكم، بالمفهوم العلمي للنظرية ، فهذه الأخيرة تستمد مقولاتها من التجريب والاستقراء والمقارنة ،أما في الإسلام “فإن نصوص الوحي تحمل في طياتها بيان حقيقة السلوك الإنساني والاتجاه الذي يجب أن يتجه إليه والمسار الذي ينبغي أن يسير فيه ، وعلى الباحثين أن يبذلوا الجهد ليس في فهم هذه الحقيقة من خلال المصادر التي تعتمدها هذه الرؤية فحسب – بل التعرف على تطبيقاتها العملية وشروط هذه التطبيقات ، ومن ثم تشكل هذه الرؤية في تكاملها وفي رؤيتها للإنسان في كلية وفي خصوصية في آن واحد- بديلا ضابطا في فهم الإنسان وسلوكه لأي تنظير وضعي في أي نظرية وفي أي اتجاه “2.
ومن هنا يرفض كثير من المفكرين المسلمين الخوض بالتفصيل في النظرية السياسية في الإسلام ، مفضلين الحديث عن قضايا متعددة كالخلافة والبيعة والشورى ،وفي هذا يقول الكاتب الإسلامي محمد عمارة ” لا نغالي إذا قلنا ان موضوع أصول الحكم وفلسفته ، ونظرية الإمامة ،قد كان ، وما زال ، أخطر قضايا الفكر الإسلامي ، بل وأشد هذه القضايا تعقيدا عندما توضع في الممارسة والتطبيق …كما أن الصراع حول هذه القضية لم يقف عند حد الجدل الفكري والحجاج النظري ، بل كانت أولى القضايا واهم القضايا التي جرد المسلمون سيوفهم كي تحسم خلافاتهم فيها ،حتى ليصبح لنا أن نقول :إن هذه السيوف لم تسل في قضية من القضايا كما سلت وجردت في صراع المسلمين على الإمامة والحكم ، وخلافاتهم حول أصوله وفلسفته ،فصاحبها وامتزج على أرضها الجدل الفكري بالصراع الدامي لعدة قرون “1 .ومن المعلوم ان هذا الخلاف ما زال محتدما حتى اليوم و أسوء تمظهراته ، الصراع الدامي بين بعض الجماعات الدينية – الإسلام السياسي – وأنظمة الحكم في الدول العربية والإسلامية ومن يصنفون بالعلمانيين .
إلا ان هذا لا يمنع من القول بأن بعض الفرق الإسلامية كانت لها اجتهادات مهمة في مجال النظرية السياسية ، إلا أن خلافاتهم مع حكام عصرهم حال دون تطور هذه النظريات أو صيرورتها واقعا ، ونخص بالذكر جماعة المعتزلة 2،كانت نظرية المعتزلة تقوم على ( الأصول الخمسة ) وهي : العدل ،التوحيد ،الوعد والوعيد ،المنزلة بين المنزلتين ،وأخيرا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو أكثر أصول المعتزلة ارتباطا بالفكر السياسي .
ومع ذلك فقد ذهب البعض إلى القول بوجود نظرية سياسية في الإسلام ، ترتكز على دعائم ثلاثة هي :التوحيد ،ومعناه أن الله هو خالق الكون ومن وما فيه ، وله وحده الحكم والسلطان والأمر والنهي ، والتوحيد بهذا المعنى ينفي فكرة حاكمية البشر ، فلا حكم إلا حكمه ولا قانون إلا قانونه ،والدعامة الثاني هي الرسالة ، وهي الوسيلة التي يصل بها إلينا القانون الإلهي ، وهي القرآن والسنة ، والدعامة الثالثة هي الخلافة ،وهي صورة الحكم في الإسلام .3 
منذ عصر النهضة ومع رواد العقد الاجتماعي تزايد الاهتمام بفكرة الدولة ، وتقاسمت مدرستان التنظير حول الدولة ، حتى يمكن القول بوجود نظريتان ، النظرية الماركسية بتشعيباتها الفكرية ونماذجها التطبيقية ، والنظرية الليبرالية ، لما حفلت به من تنوع خصب وتعدد بناء حول الدولة . 
فبالنسبة لكارل ماركسKarl Marx (1818-1883) فقد رأى “أن الدولة هي تنظيم المجتمع” بمعنى أنها تظهر عندما ينتقل المجتمع من حالة الفوضى والاقتتال – شرعية الغاب – إلى حالة التنظيم، وهو بهذا يتفق مع أصحاب نظرية العقد الاجتماعي بشكل ما. كما يعرفها بالقول إنها “الخلاصة الرسمية للمجتمع” حيث يماهي ما بين المجتمع المدني والدولة، فهذه الأخيرة “ليست سوى التعبير الرسمي عن المجتمع المدني”، فهي نتاج لمجتمع بلغ درجة معينة من النمو .

أما دوركهايم Durkheim فيؤسس نظريته حول الدولة انطلاقاً من تقسم العمل الاجتماعي وتحول أشكال التضامن، فالدولة جهاز فرعي sup –system ، إنها الجهاز الذي يحتكر السلطة ويتفوق على كامل الجماعات الأخرى، ومع ذلك فهو يركز على كونها “ظاهرة طبيعية” يرتبط ظهروها بتطور المجتمع وتعقده بظهور طبقات ووظائف ومهن، فالمجتمع البدائي مجتمع بسيط يمارس أفراده نفس المهنة رعي وزراعة – فهو مجتمع لا سياسي، ولكن عندما يظهر تقسيم العمل ويزداد المجتمع تعقيداً تظهر علاقة حاكمين بمحكومين، من يملك ومن لا يملك تظهر الدولة، فهذه الأخيرة “تنجم عن التقدم نفسه الذي يحرزه تقسم العمل” ، وتتطور الدولة بالتالي بتطور المجتمع.

أما ماكس فيبر (1864-1920) فهو يرفض المنطلقين السابقين لتعريف الدولة – التعريف الماركسي الذي يربطها بعلاقات الإنتاج والدوركهايمي الذي يربطها بتقسيم العمل – بل يضع نظرية للدولة استناداً إلى معايير مادية سياسية وعسكرية وإدارية، فالمجتمعات تتغير بتغيير نمط الحكم وبالتالي تغير موئل السلطة من جانب وظهور الاقتصاد المدار بمؤسسات من جانب آخر، فالدولة ظهرت مع ظهور سلطة قاهرة تستطيع إدارة مجتمع كلي، بمعنى تلازم سلطة القهر مع القدرة على إدارة المجتمع، و “تشكل ولادة الإدارة الديوانية، تقريباً بذرة الدولة الغربية الحديثة” .

هذه المقاربة الفيبرية التي تعود إلى بداية القرن العشرين والتي تقرن نشوء الدولة وتعريفها بعناصر القوة والإدارة والاقتصاد، تعود مجدداً مع تالكوت بارسونز Talcolt Parsons، في الستينيات، فهو يرى أن الدولة تحتاج لتؤسس إلى السلطة القوية والمستقلة من جانب وحشد الموارد الاقتصادية من جانب آخر، ولكنه يضيف عنصراً جديداً وهو العنصر الثقافي أي قدرة المجتمع على تقبل عملية التحول هذه حيث يقول: “هكذا يكون ظهور الدولة إذن كبنية سياسية مميزة ومستقلة مرتبطاً بمتطلبات اقتصادية ولا سيما تطور اقتصاد السوق الذي من شأنه ضرب استقرار التوازنات الاجتماعية السابقة، ولكن هذا الظهور لم يصبح قابلاً للتحقيق لولا وجود قواعد ثقافية في أوروبا الغربية ملائمة لمثل هذا التجديد” .

هناك العشرات من التعريفات التي أعطيت للدولة، ولكننا سنعتمد تعريفين:
الأول: تعريف ماكس فيبر الذي يرى أن الدولة “هي جماعة مشتركة ذات سيادة إلزامية، تمارس تنظيماً مستمراً، وتحتكر استخدام القسر في نطاق رقعة من الأرض والسكان الذين يعيشون عليها، وتحتوي على كل أشكال الفعل التي تحدث في نطاق سيادتها”، والملاحظة على هذا التعريف أنه ينطلق من أنوية حضارية غربية، حيث لا يرى وجوداً للدولة إلا حيث توجد الحدود الثابتة والحكومات المنظمة، أي أنه ينفي صفة الدولة عن المجتمعات المنظمة على أسس أخرى غير المعروفة في الحضارة الغربية، كالقبائل والمجتمعات البدائية بشكل عام، والأمر ليس بغريب على مفكر مثل ماكس فيبر الذي يرى أن العقلانية الوحيدة الموجودة هي عقلانية الغرب والنظم الرأسمالية أما غير ذلك من الحضارات أو أنظمة الحكم فهي غير عقلانية 
أما التعريف الثاني للدولة فقد جاء به ديفيد ايستن Easton فالدولة أو النظام السياسي هو ذلك الذي:
– يقوم برسم السياسات التي تستهدف تنظيم وتوزيع الموارد.
– والذي تنبع سياسته وقراراته بما يتمتع به من سلطة.
– والذي تكون قراراته وسياساته ملزمة للمجتمع ككل أي يكون هناك شعور عام في المجتمع بقبول هذه القرارات وتلك السياسات على أنها ملزمة.
الملاحظ أن تأسيس نظرية للدولة انطلاقاً من هذين المنظورين يفترض تشابهاً بين المجتمعات الإنسانية وكونها جميعاً مرت بنفس سيرورة التطور التي هيأت المناخ لبروز الدولة كجهاز فوقي، إلا أن واقع الحال غير ذلك، فالدولة في العالم الثالث ليست إفرازاً لنفس الميكانزمات الفاعلة والتحولات العميقة المنضجة لمؤسسة الدولة المعروفة في الغرب، إنها جهاز مصنوع أو مفروض من الخارج أكثر مما هي جهاز وليد بيئته وظروفه، ذلك أن مجتمعات العالم الثالث لم تحقق درجة من التكامل الاجتماعي والنضج المؤسسي institutionalize الضروريين لظهور مصالح سياسية مشتركة، أو جهاز سياسي مستقل عن البنى التقليدية الأخرى، أيضاً فإن المجتمعات الثالثة لم تصل إلى مرحلة دمج الأفراد في نطاق المشاركة السياسية، وبالتالي إلى بلورة فاعلية سياسية تستوعب غالبية أفراد المجتمع في إطار انتماء كلي شمولي على أساس المواطنة والانتماء لوطن، بدل علاقة الدم والقربى والانتماء إلى عشيرة أو طائفة.

والملاحظ أن ظهور المد الاستعماري ودخول الاستعمار إلى مجتمعات العالم الثالث وقطعه وتشويهه لبنياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، جعل هذه المجتمعات عاجزة عن مواصلة إنضاج بنياتها حتى درجة الوصول إلى المجتمع السياسي المعبر عن خصوصياتها الواقعية، بل أدمجت قسراً بالنظام الكولونيالي، وفرضت عليها أنظمة سياسية وحدود وقسمت إلى دول حسب مشيئة المستعِمر ومصالحه، الأمر الذي جعل الدولة – في أغلب الحالات – جهازاً أو مؤسسة غريبة مقحمة لا تعكس أو تعبر عن بنية هذه المجتمعات، إنها جهاز محكوم بالخارج ووجودها مرتبط به، إن لم يكن رهينة له.

وبصورة عامة يمكن القول إن مجمل تعريفات الدولة تتفق على كونها مجموعة الأجهزة السياسية الفوقية في تكوين اجتماعي معين، وهي نتاج المجتمع في مرحلة من مراحل تطوره…وسواء كانت الدولة من دول العالم المتقدم أو دول العالم الثالث فإن لها خصائص تنحصر في:
1- أنها تقيم لنفسها قوة عامة مستقلة، أي أنها مجهزة بجهاز عسكري مستقل عن الأفراد والجماعات المحدودة.
2- تفرض شكلاً من أشكال الضريبة على المواطنين لتدعيم قوتها والإنفاق على شؤون الإدارة.
3- وهي تعمل من خلال مجموعة من الموظفين الرسميين يملكون ما للدولة من قوة عامة يتربعون بها على عرش المجتمع وهو ما يسمى بالجهاز البيروقراطي.
4- تلازم وجود الدولة مع وجود المؤسسات.
5- تلازم وجود الدولة مع وجود القانون.

إن الدولة هي التنظيم المؤسسي للسلطة السياسية، فكل شخص اليوم، ينتمي إلى دولة من الدول فنادراً ما نجد إنساناً غير منضو في إطار دولة، كما أصبح الانتماء لا يحسب اعتماداً على رابطة القرابة أو العشيرة، بل على أساس الانتماء إلى دولة وجنسية، فالدولة استطاعت أن تستوعب كل الانتماءات القبلية السابقة عليها، وتخضعها لسيطرتها وتوجهها بما يخدم المصلحة العامة للمجتمع، من منطلق أن الانتماء الأوسع يستوعب الانتماءات الأضيق، والعلاقة بين الانتماءين علاقة عكسية، بمعنى، كلما قوي الانتماء الأول ضعفت الانتماءات الثانية، والعكس صحيح .

إن هيمنة مؤسسة الدولة اليوم على حساب البنى والانتماءات القبلية، لا يعني أن كل المجتمعات على درجة واحدة في وصولها لمرحلة المجتمع المدني Civil Social أو مأسسة المجتمع، ذلك أن بعض المجتمعات تمكنت بالفعل من تأسيس المجتمع المدني وتأصيل هوية قوية تذيب كل الانتماءات الأخرى وتجعلها أثراً من مخلفات الماضي، ولكن توجد مجتمعات أخرى ما زالت تتخبط في عملية تأسيس المجتمع المدني، وفي ترسيخ هوية وطنية (قومية) تستوعب الانتماءات القبلية التي لعبت دوراً معرقلاً لنموها وتطورها، هذه المجتمعات تنتشر بشكل أكبر في دول العالم الثالث، حيث تتغلب الانتماءات القبائلية والطائفية والعائلية على الانتماء للوطن والدولة، فتنشب الصراعات والحروب الأهلية الدامية، وتصبح معها الدولة بحد ذاتها في مهب الريح.

المراجع:

1- كتاب النظرية السياسية المعاصرة لمؤلف عادل فتحي ثابت عبد الرحمن.

2- كتاب النظرية السياسية الحديثة لـ” أ. م. جود”

3- النظرية السياسية – النظرية العامة للمعرفة السياسية د. محمد طه بدوي

النظرية السياسية الحديثة (بحث شامل) – الجزء الاول

النظرية السياسية الحديثة (بحث شامل) – الجزء الثاني

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى