دراسات سياسية

الهندسة الانتخابية: الأهداف والاستراتيجيات، وعلاقتها بالنظم السياسية

د. عبد القادر عبد العالي

أستاذ محاضر،

جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم

ملخص:

تنطلق الورقة البحثية من المفاهيم والمنطلقات الأساسية للهندسة الانتخابية، من حيث دورها في الترسيخ الديمقراطي ورفع التمثيل السياسي وتحسين كفاءة النظم الانتخابية في التمثيل والحكامةGovernance، وهذه المنطلقات تتجسد من خلال وجود ثلاث مجموعة من الأهداف للهندسة الانتخابية، لكن هذه الأهداف والمنطلقات تختلف باختلاف النظم السياسية، فرغم أهمية الهندسة السياسية في بناء المؤسسات وتقوية وترسيخ الديمقراطية إلا أنها ليست ضمانة اكيدة للتحول الديمقراطي خصوصا في حالة توظيف الهندسة السياسية لتجديد شرعية النظم التسلطية، وهو ما يشهده واقع النظام الانتخابي في العالم العربي وفي الجزائر على الخصوص، والذي شهد مجموعة من التغييرات، في شكله ومضمونه، بحيث أدى في المحصلة إلى تشكل نظام انتخابي، من خلال مجموعة من الممارسات المتكررة ومن خلال طريقة سن القوانين الانتخابية، تهدف إلى تكريس وضع قائم، وتضع حدودا وقيودا أمام إمكانية إجراء انتخابات نزيهة وشفافة وتنافسية، وإمكانية التغيير السياسي عن طريق الانتخابات، نظرا لغياب مجموعة من الضمانات القانونية والدستورية، وضمانات على مستوى الإجراءات الرقابية وإجراء العملية الانتخابية.

مقدمة:

يستعمل مفهوم الهندسة الانتخابية والهندسة السياسية ليشير إلى الدور الذي تلعبه المؤسسات السياسية في رسم نتائج مرسومة مسبقا، تتعلق بالسلوك السياسي والاجتماعي. والجدير بالذكر أن هذا المفهوم ليس حديثا جدا، فقد ظهر هذا المصطلح ضمن مسار طويل ومتقطع في تطور علم السياسة الاميركي، وفي الفكر السياسي الدستوري الأمريكي كما يرى أوستين راني Austin Ranney ، وذلك بتعريفه للهندسة السياسية بأنها ” تطبيق للمبادئ التجريبية العامة التي تحكم السلوك الفردي والمؤسسي، وذلك بهدف تحديد وتشكيل المؤسسات السياسية بهدف حل مشكلات سياسية عملية”1. فمن خلال نقله لتصريحات العديد من الزعماء المؤسسين للدستور الولايات المتحدة، مثل هاملتون، والذي تكلم عن أهمية علم السياسة كعلم مقدس Divine Science ، في تصميم المؤسسات السياسية، فالنظام السياسي الاميركي طالما نظر إليه في الفكر السياسي الاميركي كتجربة جديدة، ونظام جديد مبني على مجموعة من المبادئ مستمدة من التجارب التاريخية2. وللتدليل على أن فكرة الهندسة السياسية ليست وليدة العقود الحديثة، فهناك مقالة نشرت في المجلة الاميركية للعلوم السياسية، بعنوان: الحاجة إلى تطوير هندسة علم السياسة، هذه المقالة نشرت عام 1930، حث يرى بأن الهندسة الاجتماعية جاءت كاستجابة للتطور في المجتمع الصناعي وتطور المعارف التقنية مثل الفيزياء، ويرى بأن الهندسة السياسية،  بدورها كذلك، تتطلب تعمقا في دراسة الظاهرة الحكومية وعلم الادارة، لمعرفة القوى التي تتحكم في المجتمع، والمبادئ التي تحكم تفاعلاتها.

كما أن الهندسة السياسية حسب دنيسن Dennison، مرتبطة بتحديد مجموعة من الأهداف، فالحكومة كما يرى، هي منظمة تسعى لبلوغ أهداف اجتماعية، وأهداف خاصة بها، يحددها أعضاء الحكومة، وأهداف تملى عليها أو تطلب منها من خارجها. ويتحدث عن الهندسة التنظيمية والهندسة السياسية، كمرحلة أو محاولة للجمع بين الفن والمعرفة، فالهندسة السياسية بهذا المفهوم هي محاولة للجمع بين فن الحكم وعلم السياسة، لملاءمة البنية الحكومية بحاجات المجتمع3. ويعرف بنحامين ريلي الهندسة السياسية بانها: ” تصميم واعي للمؤسسات السياسية بهدف تحقيق أهداف محددة”4.

1. الهندسة الانتخابية والهندسة السياسية:

ولذلك فعند الحديث عن الهندسة السياسية تبرز مجموعة المفاهيم المتجاورة: الهندسة الدستورية، الهندسة الاجتماعية، الهندسة الانتخابية، التصميم المؤسسي،. الخ. والفكرة العامة والمشتركة في فكر الهندسة والتصميم هو مجموعة المساعي بهدف التأثير على المواقف السائدة والسلوك الاجتماعي على نطاق واسع، سواء من قبل الحكومة أو مجموعات او منظمات أخرى للوصول إلى نتائج محددة سلفا، ومتوقعة إلى حد كبير، كما ترتبط بها مفاهيم واهتمامات بناء المؤسسات، وتصميم الديمقراطية.

تهدف الهندسة الانتخابية كنمط من الهندسة السياسية إلى جملة من التأثيرات المرغوبة في النظام الانتخابي والنظام الحزبي وفي البنية الحكومية. وهي تندرج ضمن الهندسة السياسية والتي تهدف إلى إدخال تأثيرات مدروسة ومتوقعة بناءا على تصميمات مؤسسية أو تشريعية والتي تهدف إلى: تسوية وحل الصراعات الاجتماعية، حل الصراعات والحروب الأهلية وبناء الدولة والمؤسساتبالنسبة بعد انتهاء الصراع العنيف، تطوير وتحسين التمثيل السياسي والجودة الديمقراطية، زيادة المشاركة السياسية والانتخابية. هذا بالنسبة للهندسة السياسية في إطار الأهداف الديمقراطية والتنمية السياسية، وقد تكون بهدف الابقاء على الوضع الراهن للنخبة الحاكمة وتجديد الشرعية.

لكن الهندسة السياسية والهندسة الانتخابية ليست عملية محايدة، ففي الاتجاه الضيق للهندسة الانتخابية قد يكون الهدف من التصميم الانتخابي تقوية الأحزاب السياسية الوطنية وإضعاف الأحزاب الجهوية والقطاعية Sectarian Political Parties، ورفع المشاركة الانتخابية لدى المواطنين بتصميم نظام انتخابي يوفر مزيدا من الحوافز لدى الناخبين. فيرى على سبيل المثال بن ريلي أن الهندسة الانتخابية في العديد من الدول مثل بابوا غينيا وإندونيسيا كانت تنطوي على تصميم أنظمة انتخابية تعمل على تحسين معيار التمثيلية والحكامة Governance بتقوية دور الأحزاب الوطنية، وإضعاف الأحزاب الانفصالية من الناحية الانتخابية، سواء من خلال رفع عتبة الانتخاب، او اشتراط الترشح بتوفر هذه الاحزاب على التواجد في أكثر من مقاطعة. وفي إطار الهندسة الدستورية على سبيل المثال عند ليبهارت Lijphart فهي تهدف إلى تصميم النظام السياسي الدستوري الذي يعمل على حل الصراعات وإيجاد مستوى من الاجماع والتوافق خصوصا في المجتمعات المنقسمة بعمق، والهندسة السياسية بمعناها العام والتي تشمل كل الأبعاد السابقة تهدف حسب سارتوري Sartori إلى توجيه عملية التنمية السياسية، فيرى بان جوهر الهندسة السياسية يتمثل في السؤال التالي: كيف يمكن التدخل سياسيا في توجيه وتحديد أو هيكلة عملية التنمية السياسية”5.

ومن جانب آخر قد تكون الهندسة السياسية الانتخابية بغرض تقوية النظم التسلطية وتجديدها وذلك بتقوية السلطة السياسية والقبضة الاستبدادية في النظم التسلطية عبر عدة وسائل: الانقلابات، استعمال العنف والقمع بطريقة منهجية ومقصودة، إفراغ الانتخابات عن طريق آليات الهندسة الانتخابية من محتواها التمثيلي والتنافسي والنزيه والشفاف، باستعمال التزوير الانتخابي والعنف أثناء الانتخابات وبعدها. كما قد تندرج في إطار الاصلاحات السياسية مثل الاصلاحات السياسية التي تستهدف إعلاء القيم الاسياوية والديمقراطية في دول جنوب شرق آسيا، وتشمل هذه الاصلاحات تقوية دور الأحزاب التمثيلية وفي جمع المصالح، وتعزير الاستقرار الحكومي6.

ومن الناحية النظرية يرى فيليب شميتر أن الحديث عن الهندسة السياسية يحيل إلى خطاب “تقديم النصائح” حول كيفية إجراء الاصلاحات المطلوبة للتحديث والدمقرطة في الدول النامية، ولذا فإن هناك خلفيتين نظريتين لدراسة الهندسة السياسية والانتخابية، تجعل من الدارسين للسياسات المقارنة ينقسمون إلى فئتين: الفئة  الأولى تضم مجموعة من علماء السياسة والاجتماع تركز على الدور الذي تلعبه المنافسة السياسية عن طريق الأحزاب السياسية في تنشيط وتوليد الحركية الديمقراطية، فهو اتجاه للهندسة السياسية للديمقراطية بالمفهوم الشومبيتري (جوزريف شومبيتر). أما الاتجاه الثاني فيرى بأن المؤسسات السياسية هي المحدد الحاسم للتحول الديمقراطي والترسيخ الديمقراطي، وهو يضم فئة من علماء السياسة والقانون، حيث يرون بأن الخطوة المهمة في الهندسة السياسية، هو تصميم الدساتير الديمقراطية، خصوصا ضبط وتقنين ووضع القواعد التي تحدد العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، حيث يدور جدل ونقاش كبير بين علماء السياسات المقارنة، حول ما هو الشكل الدستوري الأنسب والأضمن للنجاح الديمقراطية، باعتبار أن الدستور هو محاولة لوضع قواعد عليا7، ومجموعة من المبادئ التي تضبط ممارسة السلطة.

2.نماذج الهندسة السياسية والانتخابية:

لذا في إطار الهندسة السياسية والانتخابية، هناك نموذجين متنافسين: النموذج التوافقي، مقابل النموذج المركزي، وكل نموذج يرى أنصاره بأنه الهندسة السياسية المناسبة لحل الصراعات وتقوية المشاركة السياسية وتحسين الأداء السياسي للديمقراطيات، فالنموذج التوافقي consociationalism وأبرز الداعين إليه أرنت ليبهارت، حيث يرى بأن الأشكال الدستورية البرلمانية هي النماذج الدستورية الأنجح في التحول والترسيخ الديمقراطي، مقارنة بالنماذج الدستورية الرئاسية، ومن ناحية الهندسة الانتخابية يرى بأن الأنظمة الانتخابية ذات الطبيعة النسبية هي الأنجح من الأنظمة الانتخابية الأغلبية، خصوصا في المجتمعات المنقسمة، لأنه يرى بأن التصميم المؤسسي الأنسب في المجتمعات المنقسمة اثنيا وقوميا ودينيا هو التصميم المؤسسي للديمقراطية التوافقية بدل الديمقراطية بالأغلبية، ففي كتابه نماذج الديمقراطية يحاجج بان النظم التي تقترب من النموذج التوافقي في الديمقراطية هي النظم الأكثر نجاحا في العديد من القضايا مثل الأداء الاقتصادي، نسبة المشاركة السياسية، التعامل مع قضايا البيئة وحل الصراعات الداخلية.

أما نموذج المركزية centripetalism المنافس للتوفقية فيرى بأن النموذج التوافقي قد تنتج عنه العديد من المخاطر بالنسبة للمجتمعات المنقسمة والتي تبحث عن بناء هوية قومية مشتركة، ومن أبرز منظري هذا الاتجاه دونالد هوروفيتس الذي يرى بأن نموذج الديمقراطية الإجماعية التوافقية عن طريق سن قوانين انتخابية ذات طابع نسبي لا تنجح دائما في المجتمعات المنقسمة، خصوصا الدول النامية وحديثة الاستقلال والتي تفتقر إلى المؤسسات الديمقراطية، بل هذا سيعمل على تعقيد الأوضاع، ويرى بأن توطيد أنظمة انتخابية أغلبية سيعمل على تقوية أحزاب وطنية تجمع بين كل الفئات المختلفة وتضعف من النزعات المحلية والاثنية، بينما حين يتم تبني نظام يميل إلى النسبية فإنه سيعمل على تقوية الأحزاب والتوجهات الخصوصية والانفصالية والطائفية. فيرى بأن الهدف الأساسي للهندسة السياسية هو التعامل مع التصدعات الاجتماعية بأضعاف التصدعات الاثنية واللغوية والطائفية، عن طريق تصميم مؤسسات وقواعد انتخابية تشجع التعاون والتفاوض بين القطاعات، بدل التسوية والاستقطاب القطاعي، وذلك عن طريق ما يسميه بعدم تسييس الانقسامات الاجتماعية، فعن طريق استعمال التصويت الاغلبي او التصويت البديل فإنه يغير العملية السياسية، عن طريق تشجيع المنتخبين على التصويت على أساس القضايا التي تهم المجتمع، وليس على أساس المطالب القطاعية، كما أنه سيدفع الأحزاب الكبرى على تمثيل الأقليات، وتشجيعها على انتهاج سياسات تجميعية بدل التوجهات الخصوصية والقطاعية كما في النموذج التوفقي8.

3. عناصر الهندسة الانتخابية:

يرى راين تاجيبيرا أن مسالة تصميم النظام الانتخابي الأنسب لبلد ما، مسالة ليست سهلة نظرا لوجود جملة من العناصر في الهندسة الانتخابية، وجملة من المتغيرات لا بد أن يدرسها الباحثون لصياغة البدائل المناسبة في حالة الاصلاح الانتخابي، فيرى بأن الهندسة الانتخابية ليست مجرد سن تشريعات انتخابية، فيرى أنه من الأهمية بمكان التفريق بين القوانين والانتخابية والنظام الانتخابي، فالقانون الانتخابي لا يصنع بالضرورة النظام الانتخابي، فالنظام الانتخابي سيظهر فقط حين يتم تبني واستيعاب مجموعة من القواعد والاجراءات الانتخابية في الثقافة السياسية لبلد ما، ويتم توظيفها من قبل الفاعلين السياسيين لصالحهم، وهذا يتطلب مدة زمنية معتبرة، كما أن التأثيرات المرغوبة والمتوقعة للقواعد والقوانين الانتخابية لا تكون فورية المفعول9. وترى بايبا نوريس بأن النظام الانتخابي هو الجوانب المختلفة لتطبيق قانون الانتخابي، من حيث :

بنية الاقتراع: كيف يقوم الناخبون بالاقتراع،

العتبة الانتخابية: مقدار الاصوات الانتخابية التي يمكن للأحزاب أو المرشحين الفوز بواسطتها والحصول على مقعد، الصيغة الانتخابية: الصيغة التي يتم بها احتساب الأصوات وتوزيع المقاعد، مثل: قاعدة : الباقي الأقوى، التوزيع النسبي، قاعدة الفائز يأخذ كل شيء، ..الخ، حجم الدائرة الانتخابية: عدد المقاعد التي يتم التنافس عليها في الدائرة الانتخابية10.

4. اهداف وأبعاد الهندسة السياسية الانتخابية:

لا تعني الهندسة السياسية والانتخابية بالضرورة الحياد وترسيخ الديمقراطية، او أي قيمة إيجابية، بل ترتبط بأهداف الفاعلين في اللعبة السياسية والانتخابية، خصوصا من يحدد قواعدها، ولأن ذلك يتوقف على النتائج بالنسبة للمؤسسات السياسية وسلوك الفاعلين السياسيين : الأحزاب والمنتخبين. فحسب الأدبيات السائدة في الدراسات الانتخابية والهندسة الانتخابية، يرى جدعون راحات وماريو سنادجر أن الهندسة الانتخابية لها معنيين مختلفين: المعنى الأول وهو معنى نسقي حول إمكانية تصميم نظام انتخابي يساعد في تحقيق ثلاثة أهداف أسياسية: تحسين التمثيل السياسي، زيادة الحوكمة، وزيادة الاستقرار الحكومي، والمعنى الثاني هو معنى توظيفي استغلالي هو توظيف القوانين الانتخابية لصالح لاعبين سياسيين محددين، لكن حتى في إطار الهندسة السياسية والانتخابية للنظم الديمقراطية فهناك من يصنف الهندسة السياسية إلى هندسة محايدة وهندسة توظيفية، فالهندسة السياسية المحايدة حسب مورلينو تهدف إلى تصميم مؤسسات تعكس إلى أقصى حد ممكن تحسين التمثيل الشعبي وتفعيل دور المجتمع المدني، أما الهندسة السياسية والدستورية التوظيفية فتهدف على تحقيق أهداف خاصة بصانع القرار، لكن هذا لا يخرج عن تغيير معالم النظام الديمقراطي11لذا فالهندسة السياسية هي مجموعة من الاصلاحات قد تؤدي إلى تسهيل وتفعيل وتحفيز التحول الديمقراطي، كما أنها حين تكون ذات طابع توظيفي لأنظمة تسلطية فهي قد تؤدي إلى إجهاض التحول الديمقراطي، والدخول في عملية تجديد لآليات الاستبداد والتسلطية، ففي إطار الهندسة الانتخابية والتصميم الديمقراطي، هناك مجموعة من الأهداف كالتالي:

الهدف الاول: تحسين تمثيلية وحكامة النظام الانتخابي: وهو هدف مباشر في الهندسة الانتخابية، ويرتبط به أهداف أخرى مثل رفع مستوى المشاركة الانتخابية لدى انظمة تعاني من العزوف الانتخابي اللافت للمواطنين مثل ظاهرة عدم إقبال المواطنين على الانتخابات في دول عريقة في الديمقراطية مثل الولايات المتحدة الأميركية، وبعض الدول الأوروبية في السنوات الأخيرة، تحسين جوانب متعلقة بسوء تمثيل فئات اجتماعية مثل تحسين تمثيل المراة على المستوى السياسي، ضمان أماكن مضمونة للأقليات الاثنية.

الهدف الثاني: تقوية النظام الحزبي والمنظمات الحزبية: وتندرج ضمنه مجموعة من الأهدف الأخرى المتعلقة بدور الأحزاب السياسية على المستوى الاجتماعي والحكومي، فمن ناحية العلاقة السببية المعروفة بين النظام الانتخابي والنظام الحزبي، حول تأثير النظام الانتخابي على النظام الحزبي، حيث أن تبني تصميم معين للنظام الانتخابي سيكون نتيجته نظام حزبي أكثر أو أقل استقرارا، أكثر أو أقل تجزئة. وهناك أهدف أخرى فرعية مثل تقوية الأحزاب السياسية الوطنية أو تقوية الوظيفة التجميعية للأحزاب السياسية: وتندرج فيها عدة استراتيجيات: تقوية دور الأحزاب الممثلة على المستوى الوطني وإضعاف الأحزاب القطاعية، استراتيجية ضبط وتحديد عدد الأحزاب السياسية الممثلة في المؤسسات التمثيلية، تقوية التنظيمات الحزبية  بخلف تنظيمات حزبية مستقرة من القمة إلى القاعدة: ما تشهده بعض الدول من إدخال الانتخابات الأولية داخل الأحزاب السياسية، وهو هدف يندرج ضمن تجديد أساليب اختيار المرشحين والقيادات الحزبية. تقوية الاستقرار والانسجام داخل البرلمان.

الهدف الثالث: تعزيز الاستقرار السياسي والاستقرار الحكومي، ذلك أن أهم مشكلة تواجه الحكومات البرلمانية هو استقرارها نتيجة افتقارها لأغلبية مطلوبة، وهذه المشكلة لا تعاني منها النظم الديمقراطية التي تتبنى الأسلوب الأكثري حسب ليبهارت مثل بريطانيا، حيث تتبنى نظاما انتخابيا أغلبيا يقوم على دائرة الانتخابية ذات مرشح واحد، ونظام الفائر الأول يأخذ كل شيء، حيث ينتج عنها فوز الحزب الأول أو الحاكم بأغلبية مريحة تسمح له بالحكم دون اللجوء إلى عقد تحالفات حزبية حكومية، لكن مشكلة تشكيل الائتلافات الحكومية تشهدها باستمرار النظم السياسية التي تتبنى انواعا من النظم النسبية أو المختلطة، حيث لا يتمكن الحزب الذي يحتل المرتبة الأولى انتخابيا من الانفراد بتشكيل الحكومة دون الاستعانة بتحالفات مع أحزاب أخرى تسمح للحكومة بوجود أكثرية في البرلمان، وهذا النوع من التحالفات، يؤدي إلى عدم استقرار الحكومات وسقوطها كل ما طرأت أزمة سياسية حكومية بين أطراف الائتلاف وانسحب أحد احزاب الائتلاف، بحيث يسهل على المعارضة إسقاط حكومة الأقلية، لكن هذه الأزمات تتفاقم كلما كان هناك عدد كبير من الأحزاب ممثلة برلمانيا، وكلما كان الحجم النسبي للحزب الأول صغيرا.

5. تقييم نتائج الهندسة السياسية الانتخابية:

هناك العديد من الدراسات حاولت ان تدرس النظم السياسية وأداءها على ضوء مجموعة من المؤشرات الكمية، والتي ترى من جهة أخرى أن الديمقراطية والتسلطية لا ينبغي أن توزع جزافا كصفات نوعية، بل كفارق في المستويات والدرجات، بحيث يمكن متابعة تطور العملية السياسية والتحول الديمقراطي وتقييم الاصلاحات السياسية للهندسة الانتخابية، على ضوء النتائج الميدانية والتي تشير إليها العديد من المقاييس، ومن أهم هذه المقاييس: مقياس الجودة الديمقراطية، ومقاييس ومؤشرات الدمقرطة او الديمقراطية.

– الهندسة الانتخابية والجودة الديمقراطية:

إن الجودة الديمقراطية للهندسة السياسية، هي أحد المخرجات للعمليات الاصلاحية في المؤسسات السياسية، التي تهدف إلى إنشاء نظام ديمقراطي، وهي تعني درجة أداء الحكم من حيث تحسين شروط حياة المواطنين من خلال مؤشرات:

1. درجة احساس المواطنين بالعدالة السياسية،

2.درجة المشاركة الانتخابية، وإقبال المواطنين على التصويت والاهتمام بالحياة السياسية والحزبية.

3. درجة الرضا عند المواطنين عن مستوى الديمقراطية: سواء عند الذين انتخبوا وأيدوا الحزب الحاكم او احزاب المعارضة.

4. درجة المسافة بين المواطن والحكومة: من خلال موقع الحكومة من سلم اليسار واليمين وموقع المواطنين من سلم اليسار واليمين.

5. القابلية للمحاسبة ودرجة الفساد ومؤشرات أخرى ذات صلة مثل: مستوى تمثيل المرأة والأقليات، العدالة الجنائية، درجة الانفاق على الخدمات الاجتماعية، الأداء البيئي والمشكلات البيئية، درجة الميل نحو المساعدات الخارجية.

فقد انطلق لبيهارت في كتابه أنماط الديمقراطية من مقولة أن الهندسة الانتخابية تؤثر على الجودة الديمقراطية، وذلك على أساس أن تبني نموذج الديمقراطية بالأغلبية يؤدي إلى حوكمة أكثر، وتبني نموذج الديمقراطية الاجماعية أو التوافقية القائمة على إدخال الاجراءات الانتخابية ذات الطبيعة النسبية تؤدي إلى تمثيل أحسن، وبناءا على دراسة إحصائية تحليلية، يرى بان النظم البرلمانية هي أحسن من النظم الرئاسية من حيث الجودة الديمقراطية، والنظم السياسية التي اعتمدت نظما انتخابية نسبية أو مختلطة هي أفضل من حيث الجودة الديمقراطية من تلك التي اعتمدت نظما انتخابية أخرى ( أغلبية، تفضيلية)12.

وفي العالم العربي يصعب الحديث عن وجود جودة سياسية للديمقراطية او جودة للحكم، نظرا لغياب أي مؤشرات للتحول الديمقراطي، ومن جهة أخرى تصنف الدول العربية ضمن الدول الأقل جودة في الديمقراطية.

–  الهندسة الانتخابية ومؤشر الدمقرطة:

هناك مجموعة من مؤشرات الدمقرطةDemocratization ، والتي تهدف إلى قياس مدى التطور في العملية والاستقرار الديمقراطي، عبر عدة مؤشرات، ومن بين الدراسات التي حاولت ترتيب البلدان حسب مؤشر الدمقرطة لدينا مؤشر تاتو فنهانن Tatu Vanhanen ، ومؤشر الدمقرطة لمجلة الايكونومست حيث ركزت على أربعة مؤشرات فرعية: مستوى العملية الانتخابية والسماح بالتعددية، مستوى احترام الحريات المدنية، المشاركة السياسية، وطبيعة الثقافة السياسية. فعلى سبيل المثال فإن مؤشر الدمقرطة لمجلة الايكونومسيت صنف السويد كأفضل دولة من حيث مؤشرات الدمقراطة المرتفعة، بحصولها على نقطة 9.88 من المؤشر. بينما تعد كوريا الشمالية آخر بلد في ترتيب الدمقرطة حسب المؤشر، بحصوله على 0.86.

وبناءا على هذا المؤشر صنفت الدول في العالم إلى أربعة فئات: فئة الدول الديمقراطية أو التي لها رسوخ في الديمقراطية، ديمقراطيات معيبة، أنظمة هجينة، أنظمة تسلطية. وتقع الدول العربية في خانة الدول الدول التسلطية، ما عدا لبنان والعراق حيث يحتل يحتل المرتبة الأولى عربيا في مؤشر الدمقرطة، بعلامة 5.62، يليه العراق في المرتبة الثانية عربيا بعلامة 4.02، ويصنفان ضمن خانة النظم الهجينة، أما بقية الدول العربية فتصنف ضمن الدول التسلطية، مع فوارق في التسلطية، حيث تحتل الأردن موقعا متقدما في مؤشر الدمقرطة في هذه الفئة ، تليها مصر، المغرب، الكويت، البحرين، الجزائر، تونس، اليمن، قطر، السودان، على الترتيب، وتعد كلا من جيبوتي وسوريا ليبيا من أقل الدول تأخرا في هذا المؤشر، وتحتل السعودية المرتبة الأخيرة عربيا في مؤشر الدمقرطة بعلامة 1.90.

6. الهندسة الانتخابية والنظم السياسية:

هذه الأهداف التي تحددها الهندسة الانتخابية، هي في الوقت نفسه، محاولة للتعامل مع مشكلات قائمة يعاني منها النظام السياسي، لكن النظم السياسية لها توجهات مختلفة في الهندسة السياسية، بتوظيف مجموعة من الآليات: القانونية، الاكراهية، والتنظيمية، والادراية والاجرائية لإجراء تغييرات على النظام الانتخابي، والسؤال الذي يطرح ما هي الفوارق بين آليات الهندسة الانتخابية في النظم الديمقراطية والنظم التسلطية.

– الهندسة الانتخابية في النظم الديمقراطية:

يفترض في الهندسة الانتخابية على وجه الخصوص والهندسة السياسية في النظم الديمقراطية أنها ذات طابع منهجي نسقي Systemic ومحايد في الاطار العام، كما أنها ترتبط بالهندسة الدستورية المدروسة على أساس تقييد السلطات، والفصل بين السلطات سواء ضمن نموذج رئاسي أو برلماني، كما انها هندسة محايدة وهندسة توظيفية، تهدف إلى الترسيخ الديمقراطي عن طريق تحسين عيوب التمثيل في النظام الانتخابي، وتقوية الحوكمة او الحكامة Governance بالنسبة للدول التي تعاني من عدم الاستقرار الحكومي والسياسي. فرغم وجود عدة اعتبارات للإصلاحات الانتخابية، من دولة لآخري، إلا أن آليات الهندسة الانتخابية تتسم بإجراءات النقاش الواسع، والمشاركة السياسية الموسعة في عرض القضايا والمشكلات العامة الخاصة بالنظام الانتخابي، والدور المحوري للبرلمان ووسائل الاعلام. والهندسة الانتخابية في هذا الاطار تهدف إما إلى هندسة محايدة: بتحسين التمثيل ورفع نسبة المشاركة في الانتخابات مثل الاصلاحات الانتخابية في بريطانيا والولايات المتحدة، من حيث وجود نقاش حول تأثير طريقة االاقتراع وتوقيته على العزوف الانتخابي، أو تأثير العهدة الانتخابية والمنافسة الانتخابية بين المرشحينالجدد والقدامي في التأثير على المشاركة الانتخابية13،أو ترسيخ الديمقراطية بالنسبة لدول حديثة التحول ديمقراطيا، مثل الاصلاحات الانتخابية في دول جنوب شرق آسيا، ودول أميريكا اللاتينية، فمثلا هناك دارسون يرون بأن الاصلاحات الانتخابية النظام الانتخابي في أميريكا اللاتينية يقود على نوع من الديمقراطية المحدودة، غير الليبرالية، نتيجة لكثير من مظاهر التحيز وعدم تمثيل الأقليات والمعارضة بالشكل الكافي، ومن جهة أخرى يرى رابكين ان التصميم الانتخابي في دولة مثل الشيلي كان يهدف إلى بنية ثنائية في المنافسة الحزبية14.

–  الهندسة الانتخابية وإعادة تجديد النظم التسلطية:

لكن الهندسة الانتخابية في النظم التسلطية ترتبط بالهدف العام لبقاء النظام السياسي التسلطي وهو تجديد نفسه، عبر آليات غير قانونية وقانونية من خلال توظيف القوانين الانتخابية لصالح الحزب الحاكم او ضد المعارضة، ففي نظم العالم الثالث التسلطية، وخصوصا العالم العربي، هناك ضعف في استقرار وقوة المؤسسات السياسية، والهندسة السياسية يغيب فيها معيار الحياد والتوظيف المنهجي والنسقي للإصلاحات الانتخابية، فالهندسة الانتخابية في النظم التسلطية والتي اضطرت لمجاراة الاصلاحات السياسية للموجة الثالثة للديمقراطية، هي:

1. هندسة توظيفية غير حيادية، تهدف إلى توظيف واستغلال القوانين الانتخابية لصالح الحزب الحاكم، والمرشحين الموالين للسلطة، وهناك:

2.عدة أساليب للهندسة السياسية في النظم التسلطية تخرج عن القواعد الدستورية والديمقراطية المعهودة، فمن أساليب الهندسة السياسية الانقلابات، وفي الهندسة الانتخابية باستعمال العنف السياسي أثناء الحملات الانتخابية وأثناء إجراء الانتخابات.

3. غياب قواعد مضبوطة ومستقرة متفق عليها، فحتى  القوانين الانتخابية إما تبقى حبرا على ورق، أو لا يتم الالتزام بها، حين تكون أحزاب المعارضة في وضع متقدم انتخابيا.

4.وعلى مستوى الهندسة الانتخابية تبرز أساليب التزوير وتقييد المنافسة والتخويف والقمع ووضع القوانين الانتخابية التي تحد من نشاط المعارضة، والتلاعب بتوزيع الدوائر الانتخابية،

5. وجود إدارة انتخابية متحيزة : بسيطرة الادارة الحكومية الموالية للسلطة على إدارة الانتخابات.

6. ضعف الرقابة القضائية على العملية الانتخابية، عدم استقلالية السلطة القضائية.

7.الهندسة الانتخابية التحول الديمقراطي في العالم العربي وفي الجزائر:

في النظم العربية، خصوصا حالة النظام الانتخابي في الجزائر، يصعب الحديث عن هندسة انتخابية تسعى إلى تصميم الديمقراطية، أو هندسة انتخابية ديمقراطية، فمعيار الحيادية يغيب عن استراتيجية التصميم الانتخابي، فهناك استغلال وتلاعب بالعملية الانتخابية برمتها: ابتداءا بالقوانين الانتخابية، وبتصميم الدوائر الانتخابية وانتهاءا بالانتهاكات والتزوير لصالح الحزب الحاكم ومرشحي السلطة، وأحيانا كثيرة عدم احترام القوانين الانتخابية، والمبادئ الدستورية في حد ذاتها.

فإذا كان من أهداف الهندسة الانتخابية تقوية الاستقرار الحكومي وتحسين الاداء الديمقراطي للأحزاب السياسية، وذك عن طريق تقوية التنظيمات الحزبية والتشجيع على قيام نظام حزبي وطني واحزاب سياسية عبر قطاعية تستطيع اجتذاب ولاء العديد من المجموعات المحلية، فإن هذا الهدف نجد ما يعاكسه في العالم العربي، من خلال:

1. ما يتم في العالم العربي وفي الجزائر على وجه الخصوص، هو عملية هندسة انتخابية، تفتقر إلى الابعاد الاستراتيجية، ولها أهداف معاكسة للتحول الديمقراطي تماما، ويمكن التعبير عن ذلك من خلال العديد من الأدلة التاريخية والواقعية بان الانتخابات والتصميم الانتخابي في العالم العربيبما فيها الجزائر، لا تخرج عن كونها آليات لتجديد التسلطية، والحفاظ على المناصب والعهدات لأكبر فترة زمنية.

2.فالانتخابات ضمن الهندسة الانتخابية، لا تؤدي ولم تؤدي إلى تغيير سياسي، بل هي تعمل باستمرار على إعادة انتخاب النخب الحاكمة، ولا تؤدي إلى القضاء على السياسات غير الشعبية15.

3. هناك ميل مشترك في كل الأنظمة العربية لإضعاف التنظيمات الحزبية سواء الأحزاب السياسية المعارضة او حتى تلك التي في السلطة، وذلك بعدم السماح بتأسيس الأحزاب السياسية الجديدة، وسعي النخب الحاكمة إلى إضعاف التنظيمات الحزبية، وإضعاف وظيفة المعارضة، وتزوير الانتخابات والعنف الجسدي والقمع الملازم للحملات الانتخابية.

فعلى سبيل المثال شهدت الجزائر سلسلة من الانتخابات وسلسلة من الأحداث تصب كلها في تفتيت وإضعاف الأحزاب السياسية الرئيسية، والتي شهدت منذ بداية 2000 سلسلسة من الانشقاقات والأزمات الداخلية، كانت السمة المشتركة بينها هو وجود رغبة في تفجيرها داخليا، وتحييد القيادات المعارضة للسلطة داخلها، تحت مسمى التصحيح الحركات التصحيحية، لذا في مؤشر التجزئة الحزبية هناك ارتفاع ملموس في عدد الأحزاب السياسية، وارتفاع ملموس في مظاهر المحاباة والفساد داخل الأحزاب السياسية، وتزايد في ميول اللامبالاة وعدم الانتخاب لدى المواطنين.

–  هندسة الانتخابات وهندسة النتائج:

هذا يعني أنه في نظم سياسية مثل تلك التي في العالم العربي كنماذج للنظم التسلطية التي صمدت أمام موجة التحول الديمقراطي في العالم، فإن الهندسة السياسية التسلطية لا تقتصر على الهندسة المتحيزة للقوانين الانتخابية، مثل التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية، حظر الأحزاب المنافسة والمرشحين المنافسين، الحملات الاعلامية المسبوقة ضد المعارضين، …، لكن كل هذه الاجراءات أحيانا ما تفشل في تحديد النتائج الانتخابية المرغوبة، فتلجأ إلى التدخل المباشر في العملية الانتخابية بالتزوير وحجب المعلومات والنتائج الحقيقية. هذا يعني أن الهندسة الانتخابية لا تقف عند القوانين والاجراءات المنظمة للعملية الانتخابية، بل تتعدي ذلك إلى هندسة النتائج في حد ذاتها، مما يفرغ الاصلاحات الانتخابية والسياسية من محتواها الحقيقي في تحسين العدالة والتمثيل الانتخابي وتحسين مؤشرات المحاسبية والرقابة الشعبية، كما يصعب الحديث عن وجود نظام انتخابي أو نظام حزبي مستقر او محدد المعالم (ثنائية حزبية، نمط الاستقطاب)، نظرا لعدم وثوقية النتائج الانتخابية بالنسبة للدارسين والملاحظين، ونظرا لشدة التقلب في النتائج من فترة لأخرى، وحظر احزاب معارضة أو قرارها بعدم المشاركة أصلا، بالإضافة إلى وجود نتائج مصطنعة مسبقا، تصب لصالح الحزب الحاكم، حيث أن السمة الغالبة في النظم التسلطية هو الحزب الواحد والذي تحول إلى حزب مهيمن، وفي بعض الانظمة التسلطية التي اعتمدت التعددية الحزبية هناك ميل لهندسة الانتخابات لتفرز ثنائية حزبية مصطنعة، حيث يشكل الحزبان المعارضة والحكومة ضمن توزيع مسبق للأدوار.

–  النظام الانتخابي والخيارات أمام التغيير السياسي:

هذا الشكل من الهندسة الانتخابية التي تسود في العالم العربي، هي المسؤولة عن فشل التحول الديمقراطي، وإفراز جملة من النتائج من أهمها: ازدياد نزعات التفكيك والمعارضة التي تكتسي طابعا انفصاليا وجهويا، وضعف المشاركة السياسية وتراجعها إلى ومستويات منخفضة، ففي العالم العربي كثيرا ما كانت العملية الانتخابية والهندسة الانتخابية التوظيفية وغير النزيهة تؤدي إلى إشعال فتيل النزاعات، فالهندسة الانتخابية لعام 1990 في الجزائر أدت بطريقة أو بأخرى إلى عشرية من العنف السياسي، راح ضحيتها الألافمن الضحايا. وقد كان مدخل الانتخابات واصلاح النظام الانتخابات منذ الانتخابات الرئاسية عام 1995، أحد المداخل في حل الأزمة، لكن في الواقع كان أحد وسائل إدارة الأزمة، فمعظم الانتخابات التي أتت فيما بعد كانت مشكوكة نتائجها ومحل احتجاج واسع من قبل المعارضة الحزبية، والتي كانت تصل الى حد المقاطعة او الانسحاب من حلبة المنافسة الانتخابية. وفي السودان فشلت الانتخابات كآلية يفترض منها حل النزاع والتقدم نحو بناء نظام دستوري وديمقراطي وفي حل الأزمة السودانية بين المعارضة والحزب الحاكم وبين الشماليين والجنوبيين، وكانت النتيجة عكسية بتنامي المعارضة الجهوية المسلحة، وانقسام السودان إلى كيانين بانفصال دولة جنوب السودان عن الشمال، وفي لبنان أفرزت الانتخابات الاخيرة عن أزمة حكومية وصراع بين المعارضة والموالاة، يعود جزء مهم من هذا الصراع إلى الاطار الدستوري الذي يعطي شرعية للطائفية ولكن بعيدا عن سياسات الديمقراطية الإجماعية، كما أن الانتخابات أو الهندسة الانتخابية في العراق والمتأثرة بالنموذج التوافقي، لكن من دون ديمقراطية في المضمون، ولدت المزيد من الطائفية والعنف الطائفي الموجه لخدمة مشروع الحرب الأهلية والتقسيم الجغرافي للأقاليم على أساس طائفي، بدل الاندماج السياسي والاجتماعي.

هذه النتائج تشير إلى ان هناك مخاطر على وحدة المجتمعات العربية، فهناك اعتقاد شائع عند دراسي النزاعات الدولية خصوصا حالات الحرب الاهلية ذات الطبيعة الاثنية، أن الهندسة الانتخابية هي من العوامل التي تساعد في إعادة بناء المؤسسات السياسية وتحسن من دور الأحزاب السياسية في إدارة النزاعات المحلية، لكن الفشل في إدارة النزاعات سينذر بعودة البلاد إلى النزاعات العنيفة بوتيرة أعنف من السابق، فدونالد هوروفيتس يرى بأن الدول التي تخفق في بناء مؤسسات سياسية بعد الحرب الأهلية مرشحة للعودة إلى العنف السياسي أكثر من أي بلد آخر.

خلاصة:

ما يمكن التوصل إليه، هو أن توظيف الهندسة السياسية كمصطلح في علم السياسة، يعكس النظرة الوثوقية في مقدرة المعارف السياسية والاجتماعية، في التحكم في التغيير الاجتماعي والسياسي لدى المجتمعات الحالية، خصوصا في المجتمعات المتقدمة ديمقراطيا وصناعيا، كما يعكس حماس وتفاؤل مؤيدي الاقتراب العقلاني المؤسسي والذي يرى بأن الهندسة الاجتماعية والسياسية عمليات ممكنة في ضوء معرفة المبادئ والاليات التي تحفز وتوجه سلوك الفاعلين السياسيين والمؤسسات السياسية.

لكن المنظور الثقافوي Culturalist يتحفظ على الكثير من مزاعم الهندسة الاجتماعية والسياسية والانتخابية، بحجة أن المؤسسات السياسية ومن ضمنها النظام الانتخابي منتجات وليدة ثقافتها، ولا يمكن استيرادها، كما تستورد القوانين. كما أن فرض الديمقراطية بالقوة العسكرية وتصميم وبناء المؤسسات في المجتمعات الحديثة العهد بالصراعات ليست عملية مضمونة النتائج ، وهذا يذكرنا بكتاب برتراند بادي Bertrand Badie حول الدولة المستوردة وأهمية العنصر الثقافي في بناء المؤسسات، كما ان التطور المعرفي للعلوم الاجتماعية والسياسية لا يرقى إلى مستوى التحكم المطلق في العناصر الاجتماعية، وبالتالي فالحديث عن هندسة اجتماعية أو سياسية او انتخابية هو من قبيل لغة المجاز والاقتباس من العلوم التطبيقية الدقيقة لا غير. ومن جهة أخرى يرى أنصار نظرية التحديث الثقافي أن عملية الدمقرطة ليست عملية آلية حتى نتكلم عن هندسة لها عبر الانتخابات، بل هي عملية طويلة الأمد ترتبط بدرجة التصنيع والتحولات الاجتماعية وارتفاع مؤشرات التنمية الانسانية، والتحول في النمط السائد في الثقافة السياسية، وارتفاع مستوى التعليم.

ونظرا لهذا الحذر في استعمال الهندسة السياسية والانتخابية، هناك من يرى استعمال مفهوم التصميم المؤسسي أو هندسة التغيير السياسي، كما عند نورمان شونفيلد ، وشميتر، لكن استعمال الهندسة في العملية الانتخابية، تزايد الاهتمام به لدى دراسي المناطق، والمتخصصين والمتابعين لظاهرة الدمقرطة في النظم الديمقراطية الجديدة، وتم دراستها على أنها مجموعة من الإصلاحات في النظم الانتخابية تعمل على تعزيز وتطوير الديمقراطية، وفي النظم الديمقراطية القديمة كإصلاحات لترسيخ الديمقراطية وحل المشكلات المتعلقة بالاستقرار الحكومي وتحسين مشاركة المراة في الحياة والمؤسسات السياسية، لكن أهداف وأبعاد الهندسة الانتخابية في العالم العربي، أصبحت تندرج ضمن آليات إعادة أنتاج التسلطية، كما أن الانتخابات لم تنتج عنها الديمقراطية والاستقرار المؤسسي، وبالتالي أصبحت احد أدوات السيطرة الناعمة وامتداد لأساليب الهندسة السياسية القديمة عن طريق الانقلاب والعنف السياسي.

هوامش:

*ورقةفي الأصل،قدمت في ملتقى: الأنماط الانتخابية في ظل التحول الديمقراطي03-04 نوفمبر 2010، قسم العلوم السياسية، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة قاصدي مرباح، ورقلة.

abdelaliabk@gmail.com

1-Austin Ranney,. “The Divine Science”: Political Engineering in American Culture.” The American Political Science Review, Vol. 70, No. 1 (Mar. 1976: 140-148.

2-Ibid, p 142.

3-Henry S. Dennison, “The Need for the Development of Political Science Engineering.” The American Political Science Review, Vol. 26, No. 2 (Apr. 1932: 241-255.

4-Benjamin. Reilly, Democracy and diversity: political engineering in the asia-pacific. Oxford new york: oxford university press, 2006, p 21.

5-Benjamin Reilley, “ political engineering in the Asia Pacific”, journal of Democracy, Vol. 18, No.1, january 2007, p 59.Cited from: iovanni Sartori, “Political Development and Political Engineering,” Public Policy 17 (1968): 272.

6- Ibid, p 58.

7- Philippe C Schmitter,. Contrasting Approaches To Political Engineering: Constitutionalization & Democratization. European University Institute, February 2001.

8- benjamin. Reilly, Democracy and diversity: political engineering in the asia-pacific, Op.cit, p 86.

9- Rein Taagepera, “designing electoral rules and wiating for electoral system to evolve”, in: Andrew Reynolds, The architucture of Democracy: Constitutional design, Conflict Management and democracy, Oxford: Oxford University Press, 2002, p 248.

10- Pippa Norris, Electoral Engineering Voting Rules and Political Behavior. Cambridge: cambridge university press, 2004, p 49.

11- Leonardo Morlino. “Architectures constitutionnelles et politiques démocratiques en Europe de l’Est.” Revue Française De Science Politique, Vol.50, No.4 2000: p 683.

12- Arend Lijphart, Patterns of Democracy: Government Forms and Performance in thirty Six Countries, Yale University: Yale University Press, 1999, p 275.

13- G. Gowrisankaran et al., Electoral design and voter welfare from the US Senate: Evidence from a dynamic selection model, Review of Economic Dynamics (2007), doi:10.1016/j.red.2007.04.005

14- Gideon, Rahat and Mario Sznajder. “Electoral Engineering in Chile: the Electoral System and Limited Democracy.” Electoral Studies, Vol. 17, No. 4 1998: 429–442.

15- Marsha Pripstein Posusney, “Behind the Ballot Box: Electoral Engineering in the Arab World.” Middle East Report, Winter 1998: pp. 12-15+42.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى