دراسات سياسيةنظرية العلاقات الدولية

اليقينية وفرضياتها في تفسير حركة تفاعلات السياسة الدولية “رؤية نقدية لمسلمات الدراماتيكية العالمية”

      تغلب على بيئة السياسة الدولية حالة من عدم اليقين والغموض، هذا كان لسان حال معظم المحللين الاستراتيجيين، الذين ينظرون الى حركة الترابط والتصارع بين الوحدات الدولية (المتنافرة)، في دوائر جيواستراتيجية مقيدة بمنظار الفوضى والتوجس الديناميكي، وبالتالي يبقى عنصر الدراماتيكية الدولية في معترك تفاعلات السياسة الدولية ذات مضمونات ودلائل غامضة، لا يقينية ويستند حججهم في ذلك، على الموافقة والشركات المعقدة لوحدات النظام الدولي والتي يمكن ان تصل تحركاتها الى مستوى فوضوية الأداء والاستيعاب، اما الراي الأكثر حداثة والذي ينظر الى فرضية اليقينية في درج التفاعلات الدولية، بانها تطغى على مفهوم الدراماتيكية لافتراضات تتعلق بعامل الحداثة والتطور التي عصف بمسلمات النظرية المفسرة لحركة ووضوح  تفاعل السياسية الدولية.

     وانطلاقاً من مفترق تطورات الحداثة والارتقاء والذي انعكس على مجمل العلوم الصرفة منها والإنسانية بشكل خاصة، ومن خلال مخرجات هذا التطور يمكن انتشال العنصر التأثيري لهذه التطورات على حقل السياسية الدولية وبالخصوص مضمار اليقينية التفسيرية واثارها في البيئة الدولية، من خلال بلوج عنصر اليقين النسبي وطغيانه على فكرة الدراماتيكية الدولية والتي استبدت شروحاتها على مسلمات التحليل والتنظير الاستراتيجي ككناية للبيئة الدولية وترابطاتها مع تفاعلات الوحدات الدولية في الدوائر الحولية لمسارات السياسة الدولية.

      هذا لا يعني ان عامل الغموض والتشتت التفسيري لمعتركات السياسية الدولية، قد تلاشى، وطغى عليه طابع الوضوح واتساع الرؤية اليقينية الاستراتيجية لأصل الاحداث الدولية، لكن يبقى هناك نوع من الصيرورة التوازنية، بين مسلمات العقائد التنظرية الماضوية وما بين العقائد المستحدثة العصرية المفسرة لحركة تفاعلات السياسة الدولية، ولتعضيد وجهة نظر الداعمة لافتراض اليقينية المفسرة لتفاعلات السياسة الدولية، لابد لنا من الولوج الى اهم مرتكزات الداعمة لعناصر المعرفة اليقينية (النسبة) المفسرة لمسارات ومنعرجات السياسة الدولية.

      اذا تعد دالة أجهزة الاستخبارات كعنصر من عناصر جمع وصهر المعلومات الاستراتيجية، والتي تمثل بذاتها عامل كسر وبخس مفهوم الدراماتيكية الا يقينية في تفسير مجريات التفاعلات الدولية، خصوصاً اننا نقصد أجهزة الاستخبارات الرائدة (الرصينة) التابعة للقوى الناضجة (الكبرى)، فعلى سبيل المثال لا الحصر تعد أجهزة الاستخبارات الامريكية، صندوق من صناديق المعلومات الاستراتيجية، والتي تزود صانع الاحداث (القرار) الأمريكي، بدلالات بخس عامل الا يقيني في دوائر التفاعل الأمريكي انطلاقاً من ابعد رقعة جيواستراتيجية، وصولاً الى اقربها استراتيجياً، حيث تمثل معلومات أجهزة الاستخبارات الامريكية بمثابة الشعلة المضيئة لصيرورة وتبلور الاستراتيجية الامريكية، اذ لها القدرة على اكتشاف مكامن الازمات واستشعار الصراعات الدولية القادمة، سوء كانت تلك الازمات ضيقة او استراتيجية أي لها انعكاسات دولية، وبالتالي، تبقى دالة الاستخبارات دالة تكوينية لعقائد تفسيرية تدحض فرضية الدراماتيكية الا يقينية لبيئة  السياسة الدولية.

      كما تمثل مستودعات الفكر والراي الرصينة بمثابة دلائل بينية تنكس فرضية الغموض والتعقيد والذي غلب على تفسير واقع بيئة السياسة الدولية، خصوصاً بعد حركة التنظير والبحث الاستدلالي، سيما في فترة خمسينات القرن الماضي، والتي شهدت صعود مكانة مراكز الفكر والراي، خصوصاً في الولايات المتحدة والتي كانت مضاميرها هي رصد واستشعار الخطر الشيوعية العالمية، والتي بدورها أعطت دفعة قوية لليقينية النسبية في السياسة الدولية، فالولايات المتحدة الان تمتلك اكثر 2500 مركز بحثي، يدور مجمل عملها على تخفيض حالة الدراماتيكية الا يقينية في مقابل اعلان شأن اليقينية العالمية، من خلال دراسة البيئة الدولية بمختلف تكويناتها، ورفد صناع الحدث بجملة من الارشادات، ورصد مكامن القلق والتعقيد، وبالتالي أعطت مستودعات الراي والفكر صورة تعضيديه توسع مجال الرؤية والاستبصار، هو من شأنه ان يفند حالة الا يقين الدراماتيكية في مسرح التفاعلات الدولية، ومن امثلة على هذه المستودعات، مؤسسة راند، ومجلس العلاقات الخارجية، ومعهد بروكينغز …..الخ، وتمثل هذه المستودعات المصدة الاستراتيجية لاستشعار المعلومة وتقليص فرضيات غموض التفاعلات الدولية.

      ابلجت لنا حركة الالفية الجديدة هيئات الإنذار المبكر والتي تمثل نقلة استراتيجية في حركة التنظير والتفسير، والتي أخرجت لنا مسارات من المعلومات الاستباقية قبل حدوثها، من خلال الاستعانة بجملة من رجالات الفكر والخبرة الاستراتيجية، حيث اخذت هذه الهيئات برفد صناع الحدث بجملة من الارشادات الاستراتيجية، والتي يدور فحوها حول تعديل الانعراجات التي تصيب تصورات صناع الحدث، من خلال اعلامهم بمكامن الازمات والاختلالات الدولية القادمة والمتوقعة، بحسب دراسات ميدانية رصينة، فعلى سبيل المثال يقدم مركز ستراتفورد الأمريكي والذي يمثل اقوى هيئة استشارية بخصوص الإنذار المبكر للصراعات والتنافرات على الساحة الدولية، اذ يجمع ما بين القراءات المستقبلية والدراسات الميدانية والخبرة الاستخباراتية ليصهرها في بوتقة واحدة لأجل اكتشاف الازمات وتذليل هواجس غموض التفاعلات الدولية.

       ومثلت كنايات الدراسات المستقبلية، وتحديداً الدراسات المستقبلية النابعة من مؤسسات الاستشراف الرصينة ، والتي تبنى أساس دراساتها على مناهج علمية اصيلة، اضافة الى وجود باحثون مرموقون يقع على كاهلهم ترصيد الدراسات وتعضيد فرضياتها، حيث توفر هذه الدراسات دور المقلص لفكرة الغموض والدراماتيكية العالمية لأجل استشراف وقائع الاحداث الدولية لصناع الحدث، خصوصاً لبعض الاقاليم الجيواستراتيجية الأكثر دينامية (داخلية_ خارجية)، فمن خلال تقديم سيناريوهات مدعومة ببراهين علمية، تصور لأحداث القادمة لحركة السياسة الدولية في الامد (القريب 5 سنوات، المتوسط10 سنوات، البعيد 20 سنة)  ومن الامثلة على هذه المؤسسات،  مؤسسة كالوب للدراسات المستقبلية، والتي تمثل بوابة من بوابات اليقينية الدولية، لكن هذا لا يعني ان بعض دراسات هذه المؤسسة عانت من بعض الاخفاقات التقديرية المستقبلية .

     كما يأتي دور محترفو التحليل والاستدلال الاستراتيجي، لتقليل وتذليل فرضية الا يقينية، وتقليص فرص الغموض الدولي، من خلال راي ومشورة هؤلاء في صياغة بعض وجهات النظر الاستراتيجية، خصوصاً ان مثل هذه الشريحة تمتلك الخبرة مع المؤهلات والذي يجعلها ترفد صناع الحدث الدولي برؤية ثاقبة يمكن لها ان تعزز فرص اليقينية الدولية، لا سيما حيازة هذه الشريحة عناصر  تعزيز مألات اليقينية، خصوصاً ان مثل هكذا شرائح فكرية تتمتع بنفوذ واسع في الدول الناضجة الكبرى، فضلاً عن امتلاكهم  الريادية التحليلية والتي يمكن لها كسر الجمود الدراماتيكي للمسارات التفسيرية في السياسة الدولية.

    ويمكن لأي متابع لمسارات اداء صناع الاحداث، ان يلتمس الهيكلية الناضجة لأدائهم الاحترافي، فاعمل الارتقاء والنضوج خاصتهم، جعل من البيئة الحولية للوحدة الدولية ومساراتها تسير بوتيرة مسيطرة عليها، نتيجة حسن تقييم المخاطر، والتداعيات الناتجة عن بعض القرارات الخاطئة (الحمقاء)، والتي باتت بعيدة كل البعد عن بدائل الدول الناضجة، ومن هما اعطى صناع الحدث زخم كبير للعقلانية الدولية، والتي بدورها وسعت مسارات اليقينية الدولية، والتي باتت أساسها تبنى على حسن تقييم صناع الحدث لبدائلهم وتوجهاتهم المحسوبة.

     واخيراً يمكن القول ان حركة انتقال الدراماتيكية الدولية، من مسار الا يقيني، الى مرسى اليقيني، والتي بدأت هي الأخرى تلتصق في بعض الأحيان بالنظرية المعرفة النسبية، وهي نتيجة حتمية لحركة التنظير والاتقاء لمسارات وادبيات السياسة الدولية والتي كانت في فترة ليست ببعيدة تعاني من حالة من الغموض والتعقيد، لكن بفضل التطور وحركة النضوج الاكاديمي والبحثي بالإضافة الى دور أجهزة الاستخبارات، انقلبت هذه المتغيرات على حركية العلاقة ما بين الغموض واليقين والذي افسح المجال للمتغير الثاني ان يطغي على الأول، هذا التصور هو بالتأكيد لا يعني رؤية اليقينية للباحث كفرد او دولة محجمة غير ناضجة وانما يعني رؤية دولة ناضجة تمتلك من المؤهلات والأدوات ما يغلبها على البيئة الدراماتيكية الدولية.

بقلم علي زياد العلي

باحث متخصص في الشؤون الدولية والاستراتيجية

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى