دراسات افريقيةدراسات سياسية

بحث شامل في التحول الديمقراطي في افريقيا: الدوافع، العوامل المؤثرة و التقييم

دوافع التحولات الديمقراطية في أفريقيا وأسبابها

عندما بدأت عملية التحول الديمقراطي في القارة الأفريقية، كانت تسير في ظل ظروف حرجة، في ضوء الأزمة السياسية التي تمر بها دولها وتعاني منهاِ.. بمعنى أن عمليات التحول الحرجة التي تحدث في دول أفريقيا وخصوصاً في أوقاتُ الأزماتِ كالتي تمر بها في الوقت الحاضر، تجعل هناك إمكانية ليس فحسب للتأثير على أنظمتها السياسية Political Regimes بل وتغييرها. ومثل هذه التّغييراتِ، عندما تطرأ على أنظمة حكم متسلطِة/ استبدادية Authoritarian Rule، يُحتملُ أَنْ توجهه في ثلاثة طرقِ مختلفةِ: التنصيب لشكلِ ما من الديمقراطيةِ، أو إعادة الإنتاج لنظامِ استبدادي جديدِ، أو ظهورِ بديلِ ثوريِ Revolutionary Alternative.
وعلى ضوء عملية التفاعل تلك، يبدو منطقياً إثارة تساؤل مفاده: هل هذه الديمقراطية نتيجة مباشرة لنظام عالمي جديد؟ وهل ما يحدث هو عملية تكيف مع توجهات حكوميةِ في المحيطِ الدولي؟ أم هو استجابة لمزيد من التعقيدات والضغوط، التي تمارس في مواجهة الأنظمةِ السّياسيةِ الوطنيةِ؟ وهل يمكن مع استمرار ذلك، أن تصل الأمور إلى مرحلة الأزمة الحرجة ؟ ومن جهة أخرى، فإن المساعي التي يمكن أن تبذل من أجل إعادة إصلاح النظم الاستبدادية، بموجب العديد من السياسات والتحولاتِ، تثير أيضاً التساؤلات حول الضمانات، التي يمكن التعويل عليها لاستزراع نظام ديمقراطي، وللحيلولة دون إعادة إنتاج نظام استبداد/ تسلطي. علاوة على ذلك، فهل استمرار الأزمات والمشكلات والأوضاع المتردية اقتصاديا واجتماعيا وأمنياً، يمكن أن تعمل على تغييب البديلِ الثوريِ، والعودة للمرحلة الجنينية للتطور السياسي للدول؟وبصفة عامة، إذا كانت فترة أوائل التسعينيات من القرن العشرين قد شهدت اتساع نطاق حركة التحول الديمقراطي في أفريقيا، بوصفه هدفاً دولياً، وخصوصاً من جانب الدول الليبرالية، وشعبياً، في ظل التحفيز والتشجيع من جانب قوى المعارضة الداخلية، فان الدوافع لذلك التحول يمكن توضيحها وإرجاعها لأسباب عديدة، منها:
أولاً: الأسباب الداخلية
ابتداءً يمكن الإشارة إلى أنه في أوائل تسعينيات القرن الماضي، ساد نوع من التفاؤل فيما يتعلق بأفريقيا، مثل ذلك الذي أحاط بها عقب الاستقلال السياسي. وبانتهاء الحرب الباردة، دخلت القارة الأفريقية فيما يسمى بالموجة الليبرالية الثالثة، والتي تتضمن التحرر الاقتصادي والتأسيس للديمقراطية، التي حاولت بعض الدول إرسائها، كنتيجة لضغوط خارجية أو داخلية، فضلاً عن سقوط نظام التفرقة العنصرية (الأبارتهيد Apartheid) في جنوب أفريقيا. وكل ذلك كان له تأثيره على القارة الأفريقية. وفي السنوات القلائل المنصرمة، بدا أن المناشدات والمطالبات بضرورة انبعاث وإحياء القارة الأفريقية، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وأمنياً وثقافياً، قد خبا من جديد، على الرغم من المبادرات المتعددة والمتنوعة.
وربما يكون السبب الرئيسي في ذلك، راجع في أساسه إلى ضخامة التكلفة، التي تتطلبها مثل تلك التغييرات الطموحة؛ فضلاً عن عدم وجود عملية تمويل جادة للتعامل مع هذا الشأن، سواء كانت من ناتج العمليات الإستخراجية والتوزيعية الوطنية للأنظمة الحاكمة في الدول الأفريقية، أو بمشروعات إنقاذ، أو إنعاش اقتصادي خارجي، بمعنى غياب وجود مشروع مارشال جديد، لإعادة الإعمار والبناء لأفريقيا الجديدة. وفي ظل هذا الوضع المتأزم، لم تشفع سنوات الاستنزاف التي شهدتها القارة الأفريقية، إبان حقبة التكالب الاستعماري، ولا عمليات الابتزاز اللاحقة للاستقلال السياسي. وأمام هذا الواقع، وربما في إطار سياسات التجريب، التي درجت الحكومات والشعوب الأفريقية على المطالبة بالأخذ بها، كان تبرير ضرورة السعي والتحرك نحو الأخذ بالتحولات الديمقراطية. ويبدو أن هذا يحدث نتيجة لأسباب شتى، وأن من مبررات ذلك ما يلي:
1. مساوئ النظم السلطوية
رزحت غالبية الدول الأفريقية في الثمانينات تحت الحكم العسكري، أو حكم الحزب الواحد. وفى كل هذه الدول تقريباً، لم تجر أي انتخابات تنافسية طوال فترة ما بعد الاستقلال، أو في غالبيتها. وفى الحالات النادرة التي جرت فيها الانتخابات، كان ذلك في ظروف شبه تنافسية بحيث لم تكن نتائجها تحمل أي تأثير على السلطة التنفيذية. مثل تلك الانتخابات كانت صورية، تتسم بالطابع الشكلي في الغالب الأعم من الحالات. وذلك بغرض إضفاء الشرعية على هيكل السلطة السائد، واستبعاد بعض الأشخاص غير المرغوب فيهم، من قبل الرئيس التنفيذي أو معاونيه المقربين. وفى هذا الإطار، جرى قمع أي مظهر من مظاهر المعارضة السياسية والقضاء عليه. وهذا يحدث في النظم القانونية الرسمية ذاتها. كما عانت غالبية الدول الإفريقية من حالات الحبس، دون محاكمة؛ فضلاً  عن الدساتير الإفريقية التي تمنع تكوين أحزاب سياسية، وتضفى هالة من القدسية على الحزب الحاكم باعتباره الآلية الوحيدة المختصة بتحقيق الديمقراطية والاشتراكية الإفريقية والتنمية – على النحو المعتقد لدى القادة الأفارقة.
لم يكن الاتجاه إلى نظام الحزب الواحد، كنظام للحكم مفروض من قبل السلطة الحاكمة، مرفوضاً دائماً من جانب المجتمعات الأفريقية. ففي أعقاب الاستقلال، كان هناك أمل كبير في الحكومات الوطنية، التي قادت البلاد في تلك الفترة. ولم تكن هناك ريبة في صعوبة أن توجد أنظمة تامة ومتكاملة، للحكم وإدارة شئون البلاد. إلا أن ما تم تأسيسه منذ ذلك الحين، هو مجرد حكومات تبالغ في منح الوعود، باستكمال الاستقلال والسيادة. كما كانت عمليات “التنمية” و”بناء الدولة “، هما السر الكامن وراء تلك الوعود. وبالتالي ففي ظل احتياج المواطنين لإشباع حاجاتهم الأساسية، وللعمل والتعليم والعلاج وغير ذلك من خدمات مماثلة، وفي ظل الثقة المطلقة في حكومات ما بعد الاستقلال؛ فلم يكن يعني الشعوب في ذلك الحين إذا ما كانت الدولة تدار من خلال أحادية (نظام الحزب الواحد)، أم تعددية سياسية.
فشلت الأنظمة السياسية الأفريقية الحالية عن تحقيق التنمية وعن ضمان الاستقرار. فهذه الأنظمةِ كثيراً ما قدمت الوعود والعهود على القيام بما عجزت عن القيام به، ولم تتمكن غيرها من تحقيقه من انجازات اقتصادية، وتحسين مستويات المعيشة للمواطنين، وحماية الأمن والاستقرار، وضمان حكم القانون والنظام. ولكن أي من هذه الانجازات صعب عليها الوفاء بها، بل واستشرى تمترس وتَمركزَ العديد من الأنظمة الاستبدادية الحاكمة. وبالتالي فإن الدول الأفريقية فَشلتْ – باستثناءات قليلة – في الارتقاء بالتنمية والتطوير لأوضاعها. وقد أدى هذا الفشلِ بدوره إلى إضعاف إدّعاءاتَهم بوجود الشرعيةِ السياسيةِ، خصوصاً بين الطبقات المتوسطةِ الحضريةِ، التي شكّلتْ الدائرة الرئيسية لجُهودِ الإصلاحِ في جميع أنحاء أفريقيا.
كذلك، فإن شيوع سيطرة نظم الحكم الاستبدادية في دول القارة الأفريقية، والتي استولت على السلطة واحتكرتها لسنوات طويلة، وحرصت على البقاء والاستمرار على هذا الوضع دون منازع، ما جعل الصراع عليها يأخذ في بعض الأحيان الطابع العنيف، كالانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية والحروب الأهلية. ولما كانت الصراعات والحروب، التي تصاعدت في تلك الدول، قد تأثرت بها تلك النظم السلطوية، في ظل أزمة الشرعية السياسية التي تعاني منها ومن تناميها؛ لذا، فقد أصبح أحد الحلول المناسبة لتسوية الصراع على السلطة، هو أن يتم من خلال تداولها بين القوي السياسية المختلفة، بطريقة سلمية تتمثل في الأخذ بالديمقراطية، وعن طريق الانتخابات التنافسية.
2. عدم الفعالية الدستورية والمؤسسية
تتوقف، عادة، عملية إعادة بناء الدولة، أو محاولة إصلاحها، على العديد من العوامل، مثل أن يكون هناك دستور يحدد طبيعة وأركان الدولة والأسس التي تقوم عليها، والتوجهات التي تحكم قراراتها وسياساتها وسلوكياتها على المستويين، الداخلي والخارجي؛ فضلاً عن وجود العدد المناسب والمتنوع من المؤسسات القادرة على الالتزام بالدستور، ووضع توجهات وقرارات وسياسات الدولة، في المجالات المختلفة، موضع التنفيذ الفعلي، وبما يتفق وقدرات وإمكانات الدولة؛ ولكن عند وجود خلل ما دستوري أو مؤسسي، أو كلاهما معاً، فإن الأداء الحكومي سيضطرب، وقد يصل الأمر إلى الفشل المحقق، أو حتى إلى التداعي والانهيار. وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد، فلا بد من إعمال الفكر والتدبير للخروج من تلك الأزمة، ويمكن الإشارة إلى ذلك كالتالي:
أ. عدم الفعالية الدستورية
يلاحظ على دساتير الدول الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال، أنها كانت وبدرجة كبيرة نماذج مماثلة لدساتير القوى الإمبريالية، ومن ثم فهي ليست مصممة وفقاً للمتطلبات الخاصة والضرورية للدول الأفريقية، وربما كان ذلك انعكاساً للافتراضات التالية:
الأول: أن الوطنيين الأفريقيين وقد استقلت دولهم، فإنهم لن يقبلوا بدساتير أقل في تصميمها وصياغتها، عن دساتير حكامهم المستعمرين السابقين.
الثاني: أن الحكام المستعمرين لم يقوموا بالإعداد المناسب لمستعمراتهم وتهيئتها لفترة ما بعد الاستقلال، ومن ثم فإنهم لم يشغلوا أنفسهم بوضع دساتير متميزة لمستعمراتهم، تختلف عن دساتير الدول المتروبولية Metropolis، وتتناسب مع الواقع الذي يعايشونه، والظروف التي يمرون بها.
الثالث: أن المستعمرات كانت تعد أقاليم تابعة للدول المستعمرة فيما وراء البحار، ومن ثم فان دساتير تلك الدول مثلت امتداداً طبيعياً لها في تلك المستعمَرات. ويبدو أن التأثيرات الاستعمارية الموروثة، والتسرع المرحلي في إحداث التحول، جعل ثمة ضرورة لوضع دساتير خاصة بها؛ وإذا كانت تلك الدساتير الأفريقية في دول ما بعد الاستقلال قد جاءت غالباً على النمط الاستعماري السابق، فان التغييرات الدستورية اللاحقة جاءت متناسبة، إلى حد ما، مع التغييرات الجديدة والعديدة، التي طرأت على نظم الحكم ومجمل الأوضاع السياسية الداخلية.
إذن فالسؤال: إلي أي مدي يماثل أو يختلف الدستور في الحياة السياسية الأفريقية، عن غيره من النظم الدستورية؟ إن التحليل الدستوري الواسع للتطورات السياسية الأفريقية، يتضمن مدى ما وصلت إليه مراحل النمو والمصادر البشرية والتنمية التكنولوجية والوضع الاقتصادي والاجتماعي، والوضع السياسي والثقافي والتاريخي. كما يتضمن مدى المناورات، وربما النماذج غير الشرعية التي تعبر عن فشل الممارسة الدستورية في أفريقيا، مقارنة بما هو وارد في دساتير دولة ما بعد الاستقلال. وبناء على ما تقدم، فإن من الأمور التي يجب أن تميز بين الدساتير المشروعة (الدستورية) وما عداها في أفريقيا، يمكن أن يتمثل في مدي اقترابها أو ابتعادها عن تلك الهياكل الدستورية الموروثة عن الاستعمار، أو المماثلة لها في حقبة ما بعد الاستعمار، والتي هي إما منبوذة أو خطيرة؛ فالعمليات المرتبطة بالبناء وبالهياكل الدستورية في أفريقيا، لا تعكس المقترحات والافتراضات والممارسات الدستورية الغربية، كما هي واردة في دساتير تلك الدول الغربية،. وعلى ذلك فإن عمليات البناء والممارسة الدستورية الحقيقية، لم تدخل حيز العمل في أفريقيا؛ لأنها تعد أنماطاً مختلفة وغير مألوفة. ولا ترتبط من ثم بالحياة السياسية والدستورية في الدول الأفريقية، كما ينبغي أن تكون.
وقد خضعت الدول الأفريقية إلى تجريب دساتير لا تتصل بالواقع الفعلي، الذي تعايشه تلك الدول، ولا تلبي المتطلبات الحقيقية للنظم السياسية الرشيدة، ولا المتطلبات الإنسانية للشعوب الأفريقية، وحتى وإن كانت كذلك في بعض الأحيان، فثمة فجوة كبيرة بين النصوص الدستورية، كما هو منصوص عليها، وبين الممارسات الواقعية. ومع تعاظم المشكلات السياسية لتلك الدول، بات من المؤكد أن أي تحرك جاد نحو الإصلاح، ينبغي أن يتم من خلال المراجعة، أو التعديل، أو إعادة البناء الدستوري، مع وجوب مراعاة التوافق بين النصوص الدستورية الأفريقية والبيئات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية؛ إضافة إلى المؤسسات التي يتم من خلالها وضع نصوص الدساتير موضع التنفيذ الفعلي.
وفي ظل المناشدات بالتغيير من جانب القوي الوطنية، وضغوطها المتنامية في الداخل، أخذت الدول المانحة أيضاً في ممارسة ضغوطها في هذا الشأن؛ ما أسفر عن تسابق الدول الأفريقية في إجراء التعديلات التي تتناسب مع الشروط السياسية للدول المانحة، وذلك من أجل ضمان حصولها على المعونات من جهة أخري، وللتكيف مع أوضاع النظام الدولي الجديد، الذي بدأ يتشكل منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي.
ب. عدم الفعالية المؤسسية
اقترن التأسيس للنظم السياسية للدول الأفريقية، بشكل أساسي، بإقامة المؤسسات، سواء كانت تلك المؤسسات حكومية (رسمية)، أو غير حكومية (غير رسمية)، والتي يتوقف أداء وظائفها وواجباتها على مدى الدينامية والفعالية، التي يمكن أن يتسم بها كل نظام سياسي. ويمكن توضيح ذلك كالتالي:
(1) المؤسسات الحكومية (الرسمية): يلاحظ أن جميع الدول الأفريقية، على اختلاف نظم حكمها وأنظمتها السياسية، حرصت على إقامة مثل تلك المؤسسات الحكومية (الرسمية) والتي تشمل السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والحكم المحلى، وان تفاوتت فيما بينها في مدي الفصل بين تلك السلطات، وفي مدى العلاقات والتعاون فيما بينها. وعى كل ، توجد دول أفريقية كثيرة دأبت على تفضيل وتكريس علوية السلطة التنفيذية، على ما عداها من السلطات. ويبدو ذلك من خلال محاولات تعظيم سلطاتها ومكانتها، مقابل تهميش السلطات الأخرى. ويعد ذلك أحد نقاط الضعف الرئيسية للبناء المؤسسي الحكومي، الذي ترتب عليه، وفي أغلب الأحيان، تراجع أو انعدام فعالية وظائفه، بصفة عامة.
(2) المؤسسات غير الحكومية (غير الرسمية): ربما يأتي اهتمام الدول الأفريقية وأنظمتها المختلفة بالمؤسسات غير الحكومية (غير الرسمية)، في المرتبة الأدنى بعد المؤسسات الحكومية. وهذا أمر طبيعي ويتناسب مع درجة تطور تلك الدول وأنظمتها، في مرحلة ما بعد الاستقلال، خصوصاً وأن تلك المؤسسات غير الحكومية، والتي تشمل الأحزاب السياسية، وجماعات المصالح (الضغط)، تعاملت معها تلك الدول والأنظمة بحرص وتحفظ، تحت دعاوى كثيرة، تتعلق بالحيلولة دون تفتت الدولة، أو تفتت الولاء والانتماء؛ خصوصاً إذا ما اتخذت مثل هذه المؤسسات جانب التخاصم، أو التعارض، مع المؤسسات الرسمية (الحكومية). أما إذا قبلت هذه المؤسسات مبدأ الترويض من جانب المؤسسات الرسمية، فإنه يصيبها ما يصيبها من رضا الحاكم وأجهزته.
ومما تقدم، فإن من أهم الخصائص التي يتصف بها البناء المؤسسي للدولة الأفريقية بعد الاستقلال، ما يلي:
(1) تعاظم واتساع نفوذ السلطة التنفيذية المركزية (ذات الطابع المركزي)، والتي تدور في عموميتها حول شخص الزعيم أو الرئيس أو القائد العسكري، الذي يحاول السيطرة على الدولة، والإبقاء على تلك السيطرة وتعظيمها.
(2) أن مركز الزعيم أو الرئيس أو القائد يكاد يكون مقنناً ومعتمداً، على صفات تحليلية ومعقدة، للمواريث الكاريزمية وللدساتير والقوانين والمعتقدات والتقاليد والأعراف، في محاولة لإضفاء الطابع الروتيني والاحتكاري على السلطة.
(3) أن الحاكم الفرد يكون مدعوماً، في مختلف الأحوال، عن طريق ذوى المناصب والموظفين والكوادر الإدارية، الذين يتدرجون في مناصبهم ويظلون فيها لفترات طويلة، ما دام الولاء السياسي للحاكم قائماً.
ويترتب على وجود مثل هؤلاء المؤيدين والمشجعين للحاكم الفرد، المسيطر على الأجهزة الإدارية والمؤسسات التي يتكون منها الهيكل المؤسسي للدولة، أن تتكون طبقة حاكمة سياسية، يحرص جميع المنتسبين إليها والمنتفعين منها على ضرورة الإبقاء والمحافظة عليها وعلى تكريسها واستمراريتها، في ظل الولاء والانتماء لهذا الحاكم.
وهكذا يلاحظ أنه على الرغم من محاولة الدولة الأفريقية المستقلة، إضفاء هذا الطابع المؤسسي على جميع أجهزتها ومؤسساتها الحكومية وغير الحكومية، إلا أنه يظل الملمح المؤسسي البارز لتلك الدول هو سيادة ما يوصف ” بالحمى الزعامية”، أو ” بالظاهرة الرئاسية”. وتنطوي هذه الظاهرة أساساً على تركيز سلطة الدولة في قبضة الرئيس، وربما أيضاً النخبة القريبة والموالية له؛ ووفقا لهذه الصفة فانه يكون المسؤول الممثل للشعب، في كل المسائل المتعلقة بالبلاد، حتى وان لم يستمد سلطته من انتخابات شعبية، بل انتزعها بانقلاب عسكري مثلاً.
وقد تطورت ظاهرة هيمنة الرئيس على دول القارة، منذ الاستقلال. فقد كان زعيم الحركة الوطنية ينصب نفسه رئيساً، بعد رفع العلم الوطني الجديد، ويمحو أي فوارق -ربما وجدت أثناء فترة الانتقال إلى الاستقلال- بين المصادر السياسية المختلفة للسلطة، مثل تلك التي بين الرئيس ورئيس الوزراء. وقد يصبح الرئيس “ملكاً” أحياناً لبضعة سنوات، وربما لأجل غير محدود، أو أن يكون رئيساً مدى الحياة، بمبادرة ومباركة حاشيته. وإذا أخفق الزعيم في التحول إلى رئيس، خلال فترة قصيرة من نيل الاستقلال، فان هذا التأخير يرجع، في العادة، إلى مشكلة من نوع خاص، مثلما حدث في زيمبابوي حيث وجد حزبان أو زعيمان يتنافسان على السلطة. وفي ظل هذا الوضع تصبح المشكلة الرئيسية في السياسة الوطنية هي تذليل العقبات، التي تحول دون ذلك. وفي بعض الحالات قد يكون الرئيس الجديد هو القائد العسكري، الذي يحاول إقامة قاعدة أو شرعية سياسية لنظامه الاستبدادي، كما في حالة صمويل دو في ليبيريا، وفي حالة مانجستو هيلاماريم في إثيوبيا، وغيرها من نماذج متعددة في عدد من الدول الأفريقية.
وما ينبغي الإشارة إليه، بصفة عامة، أن وجود مثل هذه المؤسسات السياسية داخل الأنظمة الأفريقية، في حد ذاته لا يمثل غاية محددة، كما حدث طوال السنوات المنصرمة، منذ حصول الدول على استقلالها؛ وإنما يظل الأمر مقترناً بالوظائف الفعلية، التي تؤديها تلك المؤسسات، في إطار من الترابط بين الهياكل المؤسسية، وما هو محدد لها من اختصاصات دستورية، وبين ما تقوم به في الواقع الفعلي، وفي المجالات والأنشطة المختلفة، ذات الصلة بالنظام السياسي، ووفقاً للأولويات التي يراها مناسبة كل من صانعي ومتخذي السياسات والقرارات، على ضوء متطلبات العملية السياسية من جهة، والمطالب والتأييدات الصادرة من بيئة النظام السياسي، والتي تظل رهينة بمدى الالتزام بالتنفيذ لها على المستويات وفي المجالات المتنوعة، من جهة، ورهينة أيضا بردود الأفعال حيالها قبولاً، أو تحفظاً، أو رفضاً، من جهة أخرى. والسؤال الذي سيظل يتردد في هذا الصدد هو: هل التحولات وعمليات الإصلاح السياسية الجارية في الوقت الراهن قادرة على تحفيز تفعيل تلك المؤسسات؟ أم ستظل تلك المؤسسات المصدر الرئيسي لإعاقة أية محاولات جادة للتغيير، والإصلاح السياسي؟
3تنامي أزمة الشرعية وتصاعد المطالبة بالديمقراطية:
غالباً ما تعول أنظمة الحكم على الشرعية السياسية، كضمانة للبقاء والاستمرار في السلطة، وخصوصاً إذا كانت تلك الأنظمة تتسم بقدر من الرشدوعلى الرغم من أن العديد من الأنظمة الحاكمة في الدول الأفريقية، لا تعير هذا الأمر القدر الكافي من الاهتمام، استناداً إلى ظهير آخر وهو المؤسسة العسكرية، والذي ظلت لسنوات طويلة ترى فيه أنه الأولى بالرعاية والاهتمام في سبيل البقاء؛ إلا أن الواقع يشير إلى أن هذا الأمر يتطلب من تلك الأنظمة مراجعة ما درجت على الاعتقاد في جدواه. ولعل في تناول هذا الموضوع ما يمكن التعويل عليه، فيما يتعلق بضرورة التعرف على مضمون الشرعية وعلاقتها بأزمة وكيفية إصلاح تلك الأنظمة، وذلك كالتالي:
أ. دور الشرعية داخل الدولة
تمثل­ الدولة الحديثة المجتمع، ليس فقط من ناحية أنها تؤدي مجموعة من الأدوار والوظائف نيابة عنه أو لصالح المجتمع. ففي الدولة الحديثة، ينظر إلى أفعالها على أنها ينبغي أن تتطابق مع حاجات وتطلعات وأداء المجتمع، على اعتبار أن المصدر الأساسي للشرعية السياسية في الدولة ولجميع مؤسساتها السياسية، وقفاً للفيلسوف الإنجليزي جون لوك، هو القبول الشعبي، المستمد من الرضاء والقبول من جانب المحكومين تجاه السلطة الحاكمة، من ناحية أن أداء الدولة هو بمثابة محصلة الأداء الجمعي المجتمعي من خلال الدولة. وبناءً على ذلك، فإن أفعال الدولة ليست شيئاً خارجاً عن المجتمع؛ فالدولة هي التعبير المؤسسي لحرية المجتمع ولحاجته واستقلاليته. كما تعبر فكرة الدولة عن وحدة الحاكم والمحكوم على إقليمها، وفي ظل سيادتها واستقلاليتها.
ويستطيع أفراد المجتمع أن يسعوا إلى الإنعتاق من سلطة الأنظمة الحاكمة في الدولة وهيمنتها، من خلال تشريع وتسييس مجموعة من الحقوق، التي تعرف وتقنن حدود الأفعال الشرعية للدولة. ومثل هذا الاستقلال يأتي من خلال تسييس مجموعة أخرى من الحقوق، التي يطلق عليها حقوق المواطنة. ويلاحظ أنه بتعريف مسارات وقواعد الحقوق، تخلق الدولة مجالاً يجعل من الممكن للسوق والمجتمع المدني أن يحصلا على درجة من الاستقلالية النسبية عنها. كما أن وضع الحقوق يوضح الحدود لأفعال الدولة المشروعة. أما البعدان الآخران للمواطنة (المشاركة والأمة)، فهما يمثلان أسلوبان يربطان فيما بين الدولة والمجتمع.
وإذا كانت عملية تأسيس وبناء كل من الدولة (التكامل الرأسي في الصورة المؤسسية) والمجتمع/ الأمة (التكامل الأفقي في صورة الاندماج الوطني)، يتسمان بقدر من الخصوصية، فإن المشاركة هي لتأكيد أن البشر قادرون فعلياً على ممارسة التأثير والحكم بأنفسهم، ومن خلالها تعرِّف الأمة من هم أفراد الشعب الذين ينتمون إليها، ومن تدعي الدولة أنها تمثلهم. ولذلك فإن المشاركة والأمة كليهما يؤكدان على وحدة الحاكم والمحكوم، وخصوصا في ظل تنامي الشرعية السياسية، في حين تؤكد الحقوق على انفصالهم؛ لأن كل طرف في مواجهته للآخر، يرى أن منظومة الحقوق تقابلها واجبات والتزامات، لا تستقيم الأمور في غيابها؛ ومن ثم يكون هناك بحتمية وجودها.
ب.تنامي أزمة الشرعية
ترتبط أزمة “الشرعية السياسية”، ارتباطاً وثيقاً بكثير من القضايا المتعلقة ببناء الدولة في أفريقيا، كمشكلات التحول الاجتماعي والتطور الاقتصادي وقضايا الديمقراطية وغيرها. وقد أشار إلى ذلك من قبل ماكس فيبر، بإقراره أن النظام الحاكم يكتسب شرعيته من شعور المحكومين بأحقيته وجدارته في الحكم، وأنه من دون الشرعية يصعب على أي نظام حاكم، أن يملك القدرة الضرورية على إدارة الصراع بالدرجة اللازمة في المدى البعيد؛ ومن ثم يبقي جوهر الشرعية متمثلاً في ضرورة رضا وقبول المحكومين، وليس إذعانهم لفرد أو نخبة، في أن يمارسوا السلطة عليهم.
إن جوهر الشرعية هذا لا يمكن الاستعاضة عنه بأشكال السطوة والرهبة، حتى لو تسترت خلف القوانين المكتوبة وأحاطت نفسها بالدساتير المعلنة. ومن هذا المنطلق فإن الأنظمة غير الشرعية، أو التي انتفت شرعيتها نتيجة لممارسات غير قانونية، تسارع، عادة، إلي تعليق الدساتير، وتلجأ إلي العمل بالأحكام العرفية، وهو اعتراف صريح من جانب تلك الأنظمة بأن قانونيتها، مع ما هي عليه من شكلية، لم تعد مبررا كافيا لممارسة السلطة. كما لم يعد مبرراً، أيضاً، أن يتم في إطار ممارسة السلطة أن يظل مبدأ تفضيل أهل الثقة والولاء للنظام الحاكم، في مواجهة الإصلاحيين، وأهل الخبرة هو الأساس الذي يتم وفقا له ممارسة السلطة وتكريسها لصالح فرد ما أو نخبة ما. وفي مقابل ذلك يكون لهؤلاء مصلحة في بقاء واستمرار الطغمة الحاكمة على الرغم من انتفاء الشرعية عنها، وهو ما يدفعهم إلي المشاركة والدفاع عن سياسات وممارسات الترهيب وقمع الجماهير. كما أنها تتولى الترويج والتضخيم لمنجزات النظام الحاكم، وافتعال الأزمات الداخلية والخارجية لتبرير التقاعس والفشل؛ بمعني أنهم يقومون بالدور الأساسي في تبرير وتلفيق وفرض وسائل شرعيتها، من خلال مؤسسات الدولة المتعددة، كأجهزة الإعلام والأمن وغيرها.
ومن الواضح أن الأنظمة الحاكمة السلطوية في أفريقية ظلت تعاني من فقدان الشرعية السياسية بدرجات متفاوتة، تصل في العديد منها إلي مستوي الأزمة الحقيقية، وتتجسد في فقدان الثقة بين المواطنين الأفريقيين وتلك الأنظمة، وانعدام الثقة والمصداقية في قدرتها على إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كما لم تتح تلك الأنظمة لهؤلاء المواطنين الفرصة للتعبير السلمي عن المظالم التي يتعرضون لها، ولا تلبية حاجاتهم الإنسانية الأساسية، ولا تحقيق رغباتهم في تغيير القيادات الفاسدة وغير المقبولة شعبياً.
وفي هذا الصدد يرى البعض أن المشاكل التي واجهت قادة الدول الأفريقية منذ الاستقلال، لم تكن التنمية الاقتصادية؛ بل كانت مشكلات الشرعية هي الأكثر إلحاحاً لهم، حيث كان عليهم أن يثبتوا حقهم – وفق ما يزعمون في حكم مجتمعاتهم، ذات الطبيعة التعددية والمتنوعة ثقافياً، والممزقة بفجوات اجتماعية، والتي كانت تتسم بمستويات مختلفة من التطور السياسي والاقتصادي نتيجة التباين في تأثيرات المواريث الاستعمارية والرأسمالية، إن مشكلة الشرعية، التي كانت تواجه هؤلاء القادة، والمخاطر الناجمة عنها، شبهها بعضهم بـ”التزلج على ثلج رقيق”. كما أن تحدي الانتماءات والولاءات التحتية، على حساب الانتماء والولاء الوطني، كان وما يزال هاجساً وتحدياً رئيسياً أمام إمكانية تثبيت دعائم الشرعية السياسية، أو الادعاء بوجودها أساساً.
ج. تصاعد المطالبات بالديمقراطية
إن تزامن الاحتجاجات من جانب القوى المجتمعية المطالبة بالتغيير السياسي، مع التأثيرات المتراكمة لمساعي الإصلاح الاقتصادي، من جانب الحركات النابعة من الطبقة المتوسطةِ الحضريِة (اتحادات عمال، منظمات مجتمع مدني، نقابات…)[1]، جعل الحراك الشعبي/ الجماهيري مُسَيَّساً بدرجة كبيرة. كما ساعد في نوع من التوافق الرامي إلى الحاجة للتغير وللإصلاح السياسي والمؤسساتي. فضلاً عن موقف العديد مِنْ الحركاتِ السياسيةِ الجديدةِ ظل يتركز نحو ضرورة إعطاء الأولوية لجُهودِ الإصلاح الاقتصادي. وإن كانت هناك بعض الحركات التي ركزت اهتمامها على الاعتبارات السياسية، في قضايا التعددية والانتخابات التنافسية وتداول السلطة. على سبيل المثال، فالمعارضة في زامبيا، على الرغم من جهود النظام الحاكم برئاسة روبرت موجابي فيما يتعلق بالإصلاح الاقتصادي، وكذلك الحال للمعارضةِ الكينيةِ (في أوائل التسعينيات).
وقد امتدت الأصوات المطالبة بالديمقراطية إلى حدود أبعد من إجراء انتخابات فحسب. وقد مارست العديد من الحركات والمنظمات ضغوطاً في فترة ما بعد الاستقلال، مطالبين بالحرية واحترام حقوق الإنسان، وذلك من أجل التحول الديمقراطي في أفريقيا. كما طالبوا بمنح حق التصويت لجميع المواطنين، وإقامة حكومة ممثلة للشعب، وتحقيق سيادة القانون، وإنهاء القمع السياسي. يضاف إلى ذلك، التأكيد على ضرورة وضع حد للمساهمة الإجبارية للأفراد في المشروعات الداعمة للشرعية السياسية، للزعامات والأحزاب السياسية، التي ترعاها الأنظمة الحاكمة الأفريقية؛ فضلاً عن ممارسة الضغوط من أجل تحفيز تلك الأنظمة، من أجل تشجيعها لمشاركة جميع القوى الشعبية في عملية التنمية، بهدف تحسين ظروفهم المعيشية، وتلبية مطالبهم بشأن السياسات الاجتماعية، التي تفي باحتياجاتهم الأساسية، في مجالات التعليم والصحة والغذاء والمسكن والأمن.
ويمكن الإشارة في هذا الخصوص، إلى أنه من ضمن الذين يتصدرون لرفع المناشدات والمطالبات، ذات الصلة بالتغيير والتحول الديمقراطي، كل من قادة التنظيمات والجماعات والحركات السياسية المحظورة وأعضاء الاتحادات العمالية، والسياسيين المعرضين للنفي، والعديد من المفكرين والمثقفين، والذين تراوحت انتماءاتهم ما بين المؤسسات المتخصصة والطوائف الدينية المتمردة. والتي تضم في عضوية اتحاداتها مجموعات من الشباب والطلاب والأكاديميين الثوريين، إضافة إلى بعض رجال الدين في الكنائس والمساجد، وغيرهم من المنتمين إلى كريم المعتقدات. وعلى الرغم من الاختلاف النسبي فيما بينهم في فهمهم لأولويات ولآليات تحقيق الديمقراطية، وكذلك لشكل الحكومات، التي يمكنها أن تتبنى مثل تلك الأطروحات وتضمن استمرارها؛ إلا أنهم اجتمعوا على رغبة مشتركة في إقامة ديمقراطية. كما أنهم اجتمعوا على رفض الحكم السلطوي، سواء كان حكماً عسكرياً أو حكماً بواسطة حزب واحد. وربما تعد “الحركة من أجل العدالة في أفريقيا”، والتي نشأت في ليبيريا، هي الخطوة الفاصلة في تأسيس ما عرف لاحقاً “بالنضال من أجل الاستقلال الثاني في أفريقيا”.
4. عدم الاستقرار السياسي
يرى عدد من الدارسين أن ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في الممارسةِ العملية، إنما هينتيجة لمجموعة من الأسباب والأحداثِ، التي تُؤدّي إلى تزايد السخط السياسي والاجتماعي بين المواطنين داخل الدولة. ومن بين تلك العواملِ، السلوك السياسي للأنظمة الحاكمةِ؛ بمعنى أن ثمة علاقة تفاعلية بين عدمِ الاستقرار السياسيِ والتصلّب السياسيِ للأنظمة الحاكمة، سواء فيما تتخذه من قرارات وسياسات، أو ما تقوم به من ممارسات، تتناقض أو تؤثر على مصالح الغالبية العظمى من أفراد وجماعات الشعب. وفي أغلب الأحيان، فإن شيوع حالة السخط بين الجماهير يُدْفَعُ تلك الأنظمة الحاكمة للتمادي والمغالاة في اتخاذ قراراتِ، ضدّ الحقوق والحريات السياسية. وفي واقع الأمر، ففي الفترة ما بين عامي 1996 و2001، فإن التَوَتّرات السياسية، التي حدثت في العديد من الدول الأفريقية على مستوى مناطق القارةِ الخمسة (بوتسوانا، بوركينا فاسو، كاميرون، تشاد، ساحل العاج Cote d’Ivoire، مصر، غينيا الاستوائية، إثيوبيا، الجابون، غانا، كينيا، مالي، موريشيوس، المغرب، موزمبيق، ناميبيا، نيجيريا، السنغال، جنوب أفريقيا، تنزانيا، أوغندا وزمبابوي.) ارتَبطتْ إلى حدٍ كبير بالقراراتِ السياسيةِ القمعيةِ لأنظمتها الحاكمة.
ومن جهة أخرى، فإن من الأمور التي تجعل الوضع في أفريقيا أكثر سوءاً، هو ديمومة الحروب (الأهلية والبينية)، والانقلابات العسكرية، حيث يؤدي ذلك إلى تكريس حالة عدم الاستقرار السياسي، وربما يكون مرد هذا الوضع ابتداءً يعود إلى الميراث الأوروبي، الذي أسهم في إعادة تشكيل أفريقيا خلال الحقبة الاستعمارية، وفق منظومة أهدافه ومصالحه. وكذلك أعيد ترسيم الحدود للمستعمرات (الدول الحالية)، دون اعتبار للقبائل المختلفة والجماعات الإثنية/ العرقية المتنوعة. وفي ظل الوضع الراهن، الذي لا يسمح، في الغالب، بإعادة ترسيم الحدود بين الدول الأفريقية، أدى هذا الوضع إلى تزايد بؤر التوتر، سواء كان ذلك داخل العديد من الدول فرادى، في صورة حروب أهلية (نيجيريا، إثيوبيا، ليبيريا، سيراليون، أنجولا، الصومال، السودان، أوغندا، …)، حروب إبادة جماعية (رواندا وبوروندي)، أو محاولات انفصالية (نيجيريا، إثيوبيا، الكونغو الديمقراطية، الصومال)، أو كان ذلك فيما بين الدول ذاتها (إثيوبيا وإريتريا، نيجيريا والكاميرون، ليبيا وتشاد).
وهكذا يتضح أن معظم حالات العنف وعد الاستقرار السياسي في أفريقيا، كانت بسبب الخلافات العرقية/ الإثنية، أو العنصرية، أو الدينية، أو الأيديولوجية، أو على تحديد الحدود الوطنية. وتتباين موجات العنف وعدم الاستقرار حتى عندما تكون بين البلدان المجاورة. وقد كانت لمثل تلك الأوضاع انعكاساتها السلبية على الواقع، الذي تعايشه الدول الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وحتى الوقت الحاضر.
ومما تقدم يتضح أن حالة عدم الاستقرار في الدول الأفريقية، يمكن فهمها على ضوء ما يلي:
أ. أن عدم الاستقرار السياسي يؤدي إلى زعزعة الأمن داخل الدول، ويعد مصدر تهديد مباشر للنظام الحاكم. كما يعد أيضاً مؤشراً على التدهور السياسي. ويلاحظ أن الحركات الوطنية في ظل الحكم الاستعماري، لم تضع الأسس الكافية لاستقرار الدول الإفريقية في فترة ما بعد الاستقلال، أو أن أنظمة الحكم لفترة ما بعد الاستقلال، تولت الإلغاء للإجراءات الجنينية الموضوعة قبل الاستقلال، وخصوصاً فيما يتعلق بعمليات بناء الأمة، الشرعية، تحقيق الذات، النفوذ، المشاركة، التوزيع، الاندماج، وغيرها.
ب. أن تغييرات الحكم وحالة عدم الاستقرار، تعكس حالة من الانحراف السياسي من مسار ما قبل الاستقلال، الذي كان يركز على إنهاء الاستعمار وترسيخ الاستقلال والاهتمام بالأمور المتعلقة بالتنمية الشاملة، والانشغال بتركيز السلطة والتشبث برموزها وبمصالح النخبة الحاكمة.
ج. ادعاءات الثورة غير المنتهية Unfinished African Revaluation، فقد اتسمت النظم الإفريقية بالطابع الراديكالي ومحاولة إيهام الشعوب الإفريقية بمفاهيم الأزمة الدائمة، والعدو الخارجي، والاستعمار الجديد، وهو الأمر الذي أسهم في اعتلال النظم السياسية الإفريقية، نتيجة الإسراف والاستنزاف للموارد في استيراد الأسلحة وتكديسها، والدخول في مغامرات عسكرية داخلية، أو مع الدول المجاورة. وهذا الأمر ساعد، أيضاً، على حالة عدم الاستقرار السياسي والتشجيع لتدخل العسكريين في الحياة السياسية، وتزعمهم للانقلابات العسكرية.
ومن ثم فقد بات مستقراً في أذهان المواطنين، من ناحية، والحكام، من ناحية أخري، في أفريقيا، أن المخرج من حالة عدم الاستقرار والعنف المتفشية في دولها، لن يكون سوي بإعادة النظر في السياسات والممارسات المتعلقة بالديمقراطية، وضرورة المشاركة السياسية لجميع القوي داخل تلك الدول. وذلك كوسيلة للحد من الصراع على السلطة واحتكارها، وإساءة توظيفها.
5. الفشل الاقتصادي
يعيش الاقتصاد الأفريقي في الوقت الراهن وضعاً أسوأ بكثير مما كان عليه عند الاستقلال، باستثناء بعض الدول مثل بوتسوانا وموريشيوس، وجنوب أفريقيا. وربما كان أكثر ما يوضح هذا الأمر هو أن مجمل الناتج المحلي الإجمالي لدول أفريقيا جنوب الصحراء (باستثناء جنوب أفريقيا)، التي يزيد عدد سكانها عن 500 مليون نسمة، لا يزال أقل من دخل بلجيكا وحدها، التي لا يتجاوز عدد سكانها 15 مليون نسمة. وفي الحقيقة، فإن مجمل الناتج المحلي الإجمالي للقارة الأفريقية لا يزيد عن 1%، من الناتج نفسه في العالم ككل.
وقد اتسم الأداء الحكومي في المجالِ الاقتصادي، الذي ميز الحقبة منذ الاستقلال حتى الوقت الراهن بما يلي:
أ. أن دولة ما بعد الاستعمار تأثرت بقدراتِها الإداريةِ المحدودةِ، وربما يرجع السبب في ذلك إلى ندرةِ القوة البشريةِ الماهرةِ، وكذلك ندرةِ البياناتِ الاجتماعية والاقتصادية ذات الصلةِ؛ فضلاً عن النقص المتزايد في الأموال والاستثمارات، وتأثر أوضاع الدول الأفريقية بحركة التبادل التجاري الدولي.
ب. أن التعدّدية الاجتماعية داخل مجتمعاتِ الدول الأفريقيةِ، والتي ترتب على شيوعها وانقساماتها العديد من المشكلاتِ، وجعلت الحكومات الوطنية تدرك أن هناك أولوية وضرورة للبدء بفكرةِ بناء الدولة (المؤسسات الرسميةِ بشكل رئيسي)، كمحاولة لإقامة الوحدةِ الوطنيةِ، بين التجمّعات البشرية والدينيةِ والإقليميةِ والعرقيةِ المتباينةِ في وعلى المستويات المتنوعة والمختلفةِ، وكمحاولة أيضاً للبدء في عملية التطويرِ السياسيِ والاجتماعي والاقتصادي.
ولكي يُسهّلَ تسيير هذه العمليةِ، فإن العديد من زعماء أفريقيا بالغوا في نزعاتهم الفردية في ممارسة الحكم. وزاد من ذلك حرص النخب والصفوات على شخصنة السلطة، في إطار الترويج لهؤلاء الزعماء، وهو ما أفضى إلى امتزاج الأنظمة الحاكمة بالسلطوية Authoritarianism. وعلى الرغم من ذلك، فقد جادلَ بعضَ الباحثين بأنّ درجة الاستبدادية، التي كانت عليها تلك الأنظمة، تعد ضروريةَ لاحتواء قوى الطرد المركزيةِ المتأصّلةِ في الإثنيات المحلية،Ethno-Regionally، والمجتمعاتَ المنقسمة ثقافياً Culturally Divided Societies، وأن لا يسمح للقوى الشعبية، في إطار التعامل فيما بينها، وفيما بينها وبين الأنظمة الحاكمة، سوى بما يكون ضرورياً لأمن واستقرار الأوضاع داخل البلاد. أما قوى المعارضة، فظل يُنظر إليها على أنها حركات هدامة، ولا يشغلها سوى مصالح أعضائها الضيقة.
وقد استمر الفشل الاقتصادي على مستوى الدول الأفريقية، في ظل أنظمة الحزب الواحد، والأنظمة العسكرية، ليمثل أحد الظواهر التي تميز تلك الدول، وإذا كان العقدين الأولين بعد الاستقلال قد شهدا معدلات نمو تراوح بين 6% إلى 8%، فقد تدهور الوضع الاقتصادي بعد منتصف التسعينيات، ليصل المعدل إلى 2.3%. واستمر ذلك التدهور ليصل إلى الصفر، أو بالسالب مع بداية ثمانينات القرن الماضي، وهو الأمر الذي أضفى بعداً خطيراً وحيوياً على حالة البؤس والمعاناة الإنسانية للشعوب الإفريقية، وكرس حالة الفراغ، والوهم السياسي، لدى حكام تلك الشعوب.
ونتيجة لما تقدم برزت قضية الديمقراطية، بوصفها محور أزمة التطور السياسي في إفريقيا منذ الاستقلال، بعد أن فشلت إستراتيجيات التنمية، التي تبنتها الحكومات التسلطية في تحقيق المهام السياسية التي حددتها. وبدلاً من الوصول بالمجتمع الأفريقي إلى حالة من الوحدة والتجانس، بمعنى التكامل السياسي، أو الاندماج الوطني، دفعت به إلى حالة الانقسام والتمايز العرقي الإثني؛ وبدلاً من تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، عملت على نشر الفساد وعدم المساواة في المجتمع؛ وبدلاً من تحقيق التنمية الاقتصادية، عززت الكساد المادي والانحراف؛ وبدلاً من تأسيس أنظمة سياسية فعالة، خلقت توجهات انفصالية وانقلابات عسكرية وحروب أهلية، بما أدى إلى بقاء المجتمعات والشعوب الأفريقية رهينة الأزمة الدائمة، التي يرى بعضهم أن السبب في تكوينها والإبقاء عليها إنما يعزى إلى غياب الديمقراطية، ذلك أن التحول الديمقراطي في إفريقيا لا يعكس فقط الجوانب النظرية والأخلاقية، التي تقف وراء البحث عن بديل للمأزق السلطوي القائم؛ وإنما يعكس، كذلك، المطالب الشعبية الملحة من أجل التغيير.
6. تعثر عملية بناء الأمة(الاندماج الوطني)
تعود أزمة الاندماج الوطني في أفريقيا إلى عجز النظمالسياسية الأفريقية، عن التعامل مع الواقع التعددي للمجتمع (بالإغراء والترغيب، أو بالإكراه والترهيب)، على نحو أدى إلى علو الولاءات دون الوطنية، على الولاء الوطني. هذا الأمر أفسحالمجال أمام الصراع بين الجماعات المختلفة بعضها ببعض، أو بين هذه الجماعات والنظام السياسي، على نحو حال دون إيجاد ولاء وطني عريض، يؤدى إلى التماسك الوطني؛وبعبارة أخرى، فإن أزمة الاندماج الوطني تبدو واضحة حين يظهر النظام السياسي عجزاً عنبناء الدولة الوطنية، وحيث تخبو الرغبة في العيش معاً، لدى الجماعات المشكلة للمجتمعكشركاء متساوين، على نحو يجعل من الصعوبة بمكان إطلاق مصطلح “شعب” على تلك الجماعات،التي تعيش في إقليم هذا المجتمع؛ بل ويجعل من الصعوبة حتى إطلاق مصطلح “دولة” علىذلك الكيان.
مما تقدم يتضح أن مجموعة متشابكة ومتداخلة، من الأسباب والدوافع الداخلية، ألقت بكامل ظلالها على الواقع السياسي الأفريقي، ودفعت باتجاه محاولة تجريب التحول الديمقراطي. وهي تتفاوت بين شتى أنواع الإخفاق والفشل، على مستويات عدة؛ فعلى المستوى الداخلي إخفاقات مستمرة في عملية تأسيس الدولة وبنائها، وفي إدارة شؤونها، وفي إدارة الأزمات والمشكلات والقضايا التي تواجهها، وكذلك الإخفاق في عملية بناء الدولة الأمة، وأيضاً الإخفاق في عملية بناء المواطن. ويرتبط بذلك الفشل في إدارة العلاقات الخارجية للدولة، بما يساعد على تحقيق الأهداف والمصالح، وتحسين المكانة الدولية، وتعديل ترتيب الدول الأفريقية في هذا المضمار.
ثانياً: الأسباب الخارجية (الضغوط الدولية)
حدثت تغيرات في العالم منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، غيرت في ركائز الاستقرار النسبي، التي ظلت قائمة طوال عقود من السنوات. وقد أحدث ذلك خللاً واضطراباً في واقع العلاقات الدولية وحركتها، ذلك أن التغيرات الحديثة، التي بدأت بانهيار دور المنظومة الاشتراكية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، أوجدت نظام القطبية الأحادية ليحل محل نظام القطبية الثنائية، التي كانت تحكم العالم. وقد دفع هذا الواقع دول العالم ومنظماته الدولية ضرورة، أن تتعامل مع هذا الوضع الجديد، في ظل انفراد الولايات المتحدة، كقوة عظمى عالمية، في التحكم في شؤون العالم، وتزايد ترويجها لنظام عالمي جديد، تزعم أنه نظام العدل والاستقرار والديمقراطية. وقد سارت على هذا النهج الدول الليبرالية التقليدية الحليفة للولايات المتحدة، في الترويج لعالم ما بعد الحرب الباردة، والمطالبة باستحقاقات الانتصار الأيديولوجي الليبرالي. ويمكن الإشارة إلى تلك الضغوط، التي مورست على الدول الأفريقية في هذا الشأن كالتالي:
1. التحولات في الصراع الأيديولوجي الدولي
كان للتحولات الأساسية، التي حدثت في العالم منذ أواخر الثمانينيات، ومنها نهاية الحرب الباردة وانهيار الكتلة الشرقية، وخصوصاً الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، والتحولات التي حدثت في تلك الدول إضافة إلى تبنى القوى الغربية لقضايا الديمقراطية،وحقوق الإنسان وكذلك المنظمات النقدية العالمية – دور ملموس في دفع الدول الإفريقية إلى القيام بتلك التحولات الديمقراطية، خصوصاً وأنها اشترطت على تلك الدول، لضمان استمرار مساعداتها وقروضها، أن تلتزم بالديمقراطية.
إذن فقد دَفعتْ نهايةُ الحرب الباردةِ أفريقيا، إلى موجة جديدة مِنْ التغييراتِ السياسيةِ والاقتصادية تحت راياتِ إصلاحاتِ السوقَ والديمقراطيةَ(الليبرالية). ويلاحظ أنه صاحب هذه الموجة عند انطلاقها كثير من الُجَدَلَ؛ جوهره أيهما يُبدأ به؟ الديمقراطيةِ أم التنمية الاقتصادية؟ وبالدول التي قطعت شوطاً في المجال الاقتصادي أم على مستوى جميع الدول، بغض النظر عن مستواها الاقتصادي؟ وما يَجِبُ الإشارة إليه أنه على الرغم من أن الدول الليبرالية/ المانحة، ألقت بكل ثقلها إلى جانب حتمية التحولات الديمقراطية أولاً، فإن العديد من المتخصصين وجدوا صعوبة تحقيق هذا الأمر، ومن هؤلاء صموئيل بي. هانتينجتن، الذي شدد على أنّ التحول الديمقراطيِ في أفريقيا سَيَبْقى مستحيلاً لوقت طويلِ قادم.
وقد أدى انتهاء الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الشرقي (الماركسي)، والغربي (الليبرالي)، إلى ظهور ما يُسمى بالليبرالية الجديدة New Liberalization. ويلاحظ أنه مع انتصار إيديولوجيا النيوليبرالية، أو الليبرالية الجديدة في زمن العولمة، أن أسس الحياة الاجتماعية تزعزعت في مختلف أنحاء العالم. وقد ارتكزت تلك الأيديولوجيا على المحاور التالية:
أ. الدعوة المتطرفة إلى الحرية الاقتصادية.
ب. إنكار دور الدولة في ضبط آليات وحركة النظام الرأسمالي، والتخفيف من شروره الاجتماعية. (تحديداً في مجال التوزيع والعدالة الاجتماعية).
ج. تزايد الدور المهيمن للدول الليبرالية/ المانحة، على المنظمات المالية والتجارية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية)، وتعاملها مع البلدان النامية من منطلق ضرورة، إن لم يكن حتمية، التكيف مع السوق الرأسمالي العالمي، وإبعاد دور الدولة عن هذا المجال أو إضعافه، وترك آليات السوق لكي تعمل طليقة.
2. الضغوط الأمريكية في ظل الأحادية القطبية
كفلت الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً، قيام واستقرار الليبرالية في أوروبا، من قبل، وتحديداً غداة الحرب العالمية الثانية. وانسحب هذا الوضع أيضاً، على كل من ألمانيا الاتحادية واليابان. وكان الزعيم الفرنسي، شارل ديجول، يعتقد في ذلك الحين أن هدف الولايات المتحدة منذ 1945، السيطرة على العالم، وأنها تمكنت من التقدم من خلال كسر أوروبا؛ أوروبا الفعلية الممتدة من الأطلسي إلى الأورال، بما فيها ضمناً روسيا السوفيتية، وذلك بالتلويح بالعدوان السوفيتي، الذي لم يكن يؤمن به بمفرده، وكان ينزع إلى إستراتيجية مضادة لأوروبا الأطلسية (المشروع الأمريكي)، التي تدعمها واشنطن، ترتكز على المصالحة الفرنسية – الألمانية، كقاعدة لإعادة بناء أوروبا اللأمريكية. ويلي ذلك إحداث مصالحة أوروبية – سوفيتية، وهو ما كان يعني عملياً وضع نهاية للمشروع الأمريكي للسيطرة على العالم؛ إلا أن التطورات اللاحقة المتمثلة في انتهاء الديجولية، وقيام الأطلسي والانهيار السوفيتي، كرست المشروع الأمريكي، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى وضع إستراتيجية عسكرية شاملة، قسمت بموجبها العالم إلى مناطق أوكلت قيادة كل منها لقيادة عسكرية أمريكية، وبهدف أساسي هو وضع عقيدة مونرو وأسلافه السابقين، والتي تمنح الولايات المتحدة الحق الحصري في إدارة العالم الجديد كله، وفق مصالحها الوطنية عبر العالم بأسره. وقد سمح انهيار الاتحاد السوفيتي وتآكل الأنظمة الوطنية الشعبوية، الناتجة من التحرر الوطني لمشروع الولايات المتحدة بالبقاء والاستمرار والانتشار في أصقاع العالم المختلفة، وانتهاءً بأفريقيا.
إذن ففي إطار بناء الإمبراطورية الأمريكية الكونية، قاومت الولايات المتحدة الطموحات الديجولية، وحاربت الأيديولوجيا الماركسية، طوال حقبة الحرب الباردة حتى أقعدتها، وهي ماضية في عزمها على ملاحقة روسيا حتى النهاية. ومن ثم تبدو الولايات المتحدة وكأنها صاحبة رسالة سماوية حقيقية، وكحامية للعالم الحر. وقد فرض هذا الشعور نفسه بأن الأمة الأمريكية تجسد حقيقة سياسية واجتماعية، في كل مكان. وظلّ ذلك ظاهراً في تصرفاتها حتى يوم الناس هذا. وكانت الأمة لا تعتقد بأنها يمكن أن تكون على خطأ؛ لأن الله يؤيدها. ولذلك كان كل موقف معادٍ لها تعده غير مفهوم، ويوصف باللاشرعية. كما درجت على الإسهاب في تمجيد ذلك، جميع الأدبيات السياسية الأمريكية الموروثة.
ويلاحظ فيما يتعلق بأفريقيا، والتي ظلت الولايات المتحدة عازفة عن الوجود الواسع فيها لسنوات طويلة، أنها بدأت في التحرك الفعلي لإحكام سيطرتها عليها.وقد دفعها إلى ذلك أسباب عديدة، منها: ما يسمى بسياسة ملئ الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفيتي في أعقاب انهياره، والحيلولة دون أن تقوم فرنسا، بحكم وجودها الفعلي في القارة منذ الحقبة الاستعمارية، من خلال رابطة مجموعة الدول الفرنكفونية، وعلاقاتها مع الدول الأخرى غير الفرنكفونية الأفريقية، أن تملأ الفراغ السوفيتي، وهو الأمر الذي يعظم من مكانتها العالمية، ويجعلها تقترب من الولايات المتحدة؛ وكذلك محاولة الولايات المتحدة الأمريكية التوظيف لأحاديتها القطبية، في فرض سيطرتها غير المنقوصة على العالم بأسره، وهو التكريس الفعلي لعقيدة مونرو وسابقيه؛ فضلا عن التدشين للإمبراطورية الأمريكية في الألفية الثالثة. إذن فالولايات المتحدة الأمريكية (وفقاً لما أشار إليه كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق) أعلنتها صراحة أن الألفية الثالثة، أو القرن الحادي والعشرين، سيكون أمريكياً خالصاً، وهو ما يعني تحرك الولايات المتحدة الأمريكية المعلن والصريح، نحو إقامة إمبراطورية أمريكية في هذا القرن، مع كل ما يعنيه ذلك من استثمار لجميع الفرص المتاحة، ومواجهة، إن لم يكن تقويض، أي تهديدات يمكن أن تؤثر على هذا التوجه، وبغض النظر عن مدى شرعيته سياسياً، أو مشروعيته قانونياً. وعل ضوء ذلك يبدو الأمر صعباً للمنظمة الفرنكفونية، إذا ما حاولت أو اجتهدت في القيام بدور سياسي أو اقتصادي، في الحد من تعاظم النفوذ وتزايد التوسع الأمريكي، حتى في مناطق نفوذها التقليدية.
إذن فيما يتعلق بتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع أفريقيا، شأنها شأن مناطق العالم الأخرى، تختلط الأمور الدينية، والاقتصادية، والسياسة، والأعمال العسكرية، بشكل مبهم ومعقد، بحيث لا يمكن الفصل بينها في إطار أيديولوجية واحدة غير محددة العناصر؛ ولكن أهدافها راسخة. إن مفهوم «القدر الظاهر»، الذي يعلن حتمية التفوق الأنجلوسكسوني، ويدعو الولايات المتحدة الأمريكية لحكم العالم، سيطر بشكل أو بأخر على سياسات وسلوكيات وممارسات تلك الدولة. وقد دمج هذا المفهوم في آنٍ واحد النوايا الحسنة والعقيدة النفعية والتوسع الكوني. وقد اختلط الاقتصاد والمسيحية في كيان واحد، لا يمكن لأحد انتقاده ولا يحق له ذلك.
3. ضغوط الدول والمؤسسات المانحة
لقد بدأت الضغوط الخارجية المناهضة لنظام الحزب الواحد في إفريقيا قرب نهاية الثمانينات من القرن الماضي، تؤت بثمارها، وتحقق بعض مظاهر النجاح؛ ذلك أنه في بداية هذا العقد  بدأ البنك الدولي يعبر عن استيائه من حالة ثقل الجهاز الإداري وترهله الذي خلقته نظم الحكم في إفريقيا، بحسبان ذلك يضر التنمية وتحول دون تحقيقها في القارة. هذا بالإضافة إلى انتشار الفساد، وعدم كفاءة الموظفين الإداريين، وممارستهم للقمع السياسي؛ وذلك بتحجيم الحريات، وإحباط فرص التنظيم الجيد. وفى هذا الإطار، لجأ البنك الدولي إلى الدعوة “للحكم الرشيد” وتبني تحقيقه، بدلاً من المطالبة بالتحول الديمقراطي علاجاً لتلك الحالة. ويقصد بالحكم الرشيد هنا ذلك الحكم الذي يضمن تحقيق درجة من الحرية والأمن في المجتمع. يضاف إلى ذلك أن تتولى السلطة في الدولة إدارة نظيفة نسبياً؛ لتسيير الشؤون العامة، وتقليص الفساد إلى أدنى مستوى ممكن، وتقديم الخدمات على نحو جيد، وكل هذا وفقاً لقواعد الشفافية والمساءلة. وسرعان ما أصبحت هذه المؤشرات للحكم الرشيد شروطاً لمنح الدعم إلى الدول الإفريقية. وهو ما أصبح مظهراً من مظاهر الضغط على حكومات هذه الدول، سعياً وراء الإسراع بإجراء انتخابات حزبية تعددية، بحسبانها الاختبار الأول لتحقيق الحكم الرشيد. لذا فقد أصبح بإمكان النظم السلطوية أن تجرى انتخابات تنافسية أو شبه تنافسية، دون ضمان حقيقي لتحقيق الديمقراطية الكاملة.
إن دور العامل الدولي الخارجي إذن هو أساس في بدء هذه التطورات السياسية وتنفيذها ومتابعتها، إذ إنه يرفض الأسلوب التسلطي لنظام الحزب الواحد، وتركيز السلطات في العاصمة، وحرمان الأقليات والقوميات من المشاركة السياسية، وفي هذا الإطار تحتل إثيوبيا مركزا متقدما عن باقي دول المنطقة، بشأن الخطوات المتوالية للحكم الديمقراطي؛ إذ إن النموذج الإثيوبي يمثل بؤرة جذب وتأثير في تطور الدول المجاورة.
ويبدو من التوضيح السابق، ومن حقيقة وجوهر الضغوط التي تسير باتجاه فرض الليبرالية عموماً، والديمقراطية خصوصاً، أنها مجرد محاولة لتثبيتها أيديولوجية لما بعد انتهاء الحرب الباردة، فضلاً عن إعادة صياغة التبعية بأسلوب جديد يعتمد على الإبقاء والترويج لكل من التبعية السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية. وغيرها مباشرة، وتحسين لغة التخاطب من جانب الدول الأفريقية في تعاملها مع الدول الليبرالية التقليدية، عن طريق تعلم الديمقراطية بمفاهيمها الواسعة وبأساليبها المتنوعة، والحرص على تطبيقها، ووضعها موضع التنفيذ الفعلي وخصوصاً في مجال تعاملاتها مع أهداف تلك الدول ومصالحها.
لا مندوحة من أن الدول الأفريقية عانت وما زالت تعاني وتكابد مشكلات وأزمات شتى، وربما يكون القاسم المشترك فيها جميعاً، أساليب الإدارة والحكم في تلك الدول، وربما كان التعاطف الشعبي مع أسلوب الديمقراطية، هو الأسلوب الأكثر فهما وإدراكاً لدى قطاعات شعبية واسعة، لذلك أضحت على قناعة بضرورة اللجوء إليه والأخذ به، وفي إطار التكيف مع الواقعية السياسية فإن الأنظمة الحاكمة تعاملت معه وتفاعلت، ولكن إلى أي مدى يمكن التفاؤل به وبخيريته؟.
التحولات الديمقراطية في أفريقيا كعملية سياسية
مثلت عمليات التحول الديمقراطي الظاهرة العالمية الأهم خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين. أما قبل ذلك، فقد كان هناك عدد قليل من النظم الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. وعلى العكس من ذلك، كانت الساحة السياسية وخصوصا في الدول النامية (العالم الثالث)، مليئة بأشكال مختلفة من النظم غير الديمقراطية، التي تشمل نظماً عسكرية، ونظم الحزب الواحد، ونظم الدكتاتوريات الفردية الشخصية. ويلاحظ أنه في منتصف سبعينيات القرن العشرين شهد العالم ما أصبح يعرف بالموجة الثالثة للديمقراطية، التي بدأت في البرتغال وأسبانيا واليونان، وتحديداً منذ عام 1974، ثم انتشرت إلى أمريكا اللاتينية، وبعض أجزاء آسيا، خلال ثمانينيات القرن العشرين، وامتدت إلى أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي، وبعض أجزاء أفريقيا في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي.
وفي إطار التناول للتحولات الديمقراطية في أفريقيا، يمكن الإشارة إلى بعض الجوانب ذات الصلة كالتالي:
أولاً. شروط التحولات الديمقراطية في أفريقيا
تسعى الدول الليبرالية التقليدية، جاهدة لوضع تجربتها موضع التنفيذ الفعلي قي دول العالم النامي وعلى رأسه، دول القارة الأفريقية، فكيف هو وضع الديمقراطية الأفريقية على ضوء مثل تجارب تلك الدول، مقارنة بها على ضوء الخبرة والتطور الطبيعي والشروط التي استوفتها سابقاً، قبل أن تصبح أنموذجاً تحاول إقناع الآخرين على ضرورة التمسك به أو إجبارهم  على تطبقه، وكذلك على ضوء الظروف السائدة التي تكابدها تلك الدول في الوقت الراهن، وفي المستقبل المنظور، وإذا كان التحول الديمقراطي في أفريقيا قد أمسى أحد التحديات الرئيسة التي تواجه دوله فإن إمكان نجاح هذا التحول يظل يتوقف على مجموعة من الشروط ومنها:

1. الشرط الاقتصادي

بدأت عملية التحديث مع الثورة الصناعية في أوروبا، وقد كانت وليدة لمجموعة من التغيرات البطيئة التي ألمت بالمجتمع الإقطاعي منذ القرن الثالث عشر الميلادي. ولذلك انتقل مفهوم التحديث إلى القارة الأفريقية من تلك المجتمعات التي نجحت في تحقيقه بالفعل (أي مجتمعات أوروبا الغربية). وفى أفريقيا، ولم تقم مع نهاية العصر الاستعماري، أية ثورة صناعية ولم تظهر أية مبادرة للقيام بها. ويرجع السبب في ذلك إلى خشية السلطات الاستعمارية مما قد ينجم عن عملية التحديث من تمزيق للمجتمعات الأفريقية التقليدية؛ فمن الممكن أن يسبب هذا التمزيق العديد من المشكلات عند إدارة تلك المستعمرات. وقد كانت السلطات الاستعمارية شديدة الحرص على الإبقاء على الاقتصاد المعيشي في أفريقيا؛ ليس حرصاً منها على مصالح هذه الطبقات الاجتماعية، ولكن لعدم تفضيل هذه السلطات لظهور الطبقة العمالية هناك، أو أن تلم بهذه المجتمعات التطورات التي تنتج عن تطبيق النظام الرأسمالي.
وبالرغم مما سبق، فقد ترتب على تأثر النخبة في المستعمرات الأفريقية بحياة الغرب أن أصبح التطور السياسي بوصفه بوابة لحدوث التطور الاقتصادي مطلباً لا مفر منه من قبل الطبقة البرجوازية حديثة النشأة في أفريقا. فقد كان لزاماً على النظام السياسي أن يقود عملية التحديث والتطوير، ويقدم السياق اللازم لها. بمعنى آخر، لقد أدت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في دول غرب أوروبا إلى حدوث التغيرات السياسية المنشودة، وقد أخذت في سبيل ذلك فترات زمنية طويلة، إلا أن العكس قد حدث في أفريقيا. فقد كان ضرورياً أن يكون النظام السياسي متطوراً لكي تستطيع القوى الاجتماعية تحديث المجتمع.
وعلى المستوى الاقتصادي، فإن تدفق الاستثمارات الرأسمالية من الخارج، والمساعدات والقروض الثنائية ومتعددة المصادر سيزداد كلما ضمن النظام السياسي وجود حرية الأسواق. وقد أكد البعض أن كل المجتمعات سلكت طريقاً واحداً من أجل التحديث: ففي البداية، كانت هذه المجتمعات مجرد مجتمعات تقليدية، ثم مرت بمرحلة الانطلاق، ثم وصلت فيما بعد إلى شكل الدولة الحديثة الذي عليه كل دول الغرب في الوقت الحالي. لكن في أفريقيا، لم تتدفق الاستثمارات الأجنبية بوفرة. ومن ثم، يصبح من الصعب القيام بالتحديث في الجانب السياسي، بينما يظل الجانب الاقتصادي يمر بمرحلة ما قبل الرأسمالية.
ومن ثَمّ فإن الدرس الحقيقي الذي يجب أن تستفيد منه تجربة التحول الديمقراطي في أفريقيا، ويعد أحد الشروط الأساسية لاتجاهها نحو التحول الديمقراطي الفعلي، هو أن النظام السياسي في دولة ما لا يقاس بالتوسع في وضع المبادئ المستخلصة من الديمقراطية، أو بمجرد التطبيق لنماذج دستورية ومؤسسية مستنسخة من الخارج، وإنما الأمر يتعلق بالدرجة الأساسية بحرص النظام السياسي على إحداث تحول اقتصادي ملموس، ثم السعي لتمثيل مصالح الجماعات المختلفة بداخله، والقدرة على إحداث التوازن بين المطالب والمصادر والتطوير لحياة الجماهير على أسس المساواة والعدالة الاجتماعية والتوزيعية. وإن كان البعض الآخر يرى أن وجود نظام ديمقراطي يضمن خضوع الحاكمين للمساءلة أمام المحكومين ربما يحفزهم على تخصيص الموارد بكفاءة وفعالية، لضمان بقائهم في الحكم.
وما سبق يوضح أن التحديث الاقتصادي ينبغي أن يكون سابقا للتحديث السياسي، وهو الأمر الذي يصعب تطبيق عكسه في الواقع الأفريقي، فهذه المجتمعات المكونة له، والتي ورثت عبئا ثقيلا من التخلف، الذي تسبب فيه بدرجة أساسية الموروث الاستعماري، وكذلك الاستنزاف المفرط للموارد، قد ترك اقتصاديات هشة لا تقوى على التفاعل الإيجابي مع متطلبات التحول الديمقراطي، في ظل الضغوط المستمرة والمتنوعة من أجل ذلك، بمعنى أن هناك ضرورة لوجود قاعدة اقتصادية/ صناعية، حتى يمكن الحديث عن الظاهرة الديمقراطية في المجتمعات الإفريقية. وينبغي التركيز في هذا الشأن على ضرورة العلاقات المتداخلة والمشتركة بين المجالات الاقتصادية والتعددية السياسية والتجارب الديمقراطية وأهمية ذلك فالمساواة على سبيل المثال ليست فقط فيما بين الجماعات الإثنية والطائفية، ولكن أيضا فيما بين الطبقات الاجتماعية، كما أن التكاليف السياسية للفشل الاقتصادي تكون كبيرة، وقد تؤدى إلى انهيار أنظمة سياسية بكاملها، وهو ما يمكن ملاحظته في أنحاء عديدة في أفريقيا.

2.الشرط الاجتماعي

ويتمثل في ضرورة الحد من الولاءات التحتية (قبلية، إثنية، …الخ) لصالح الولاء الوطني، والهدف المبدئي في هذا السياق هو اندماج جميع الجماعات المهمشة (إثنية ـ قبلية ـ دينية …) داخل نظام الدولة، وفى إطار ما يمكن تسميته بالديمقراطية الاجتماعيةSocial Democracy.
وفقاً للتصور السابق عن ضرورة التحديث الاقتصادي بحسبانه مقدمة أولى شرطاً لازماً وسابقاً للتحول الديمقراطي، وهو أيضاً شرط لازم من أجل إحداث قدر من التحول الاجتماعي داخل مجتمعات الدول الأفريقية، بمعنى أن التحديث يتكوَّن من مجموعة من التغيرات في نمط الإنتاج وشكل الحكومة، وفى النظام المؤسسي والاجتماعي، وفى المعلومات، وفى الاتجاهات والقيم، التي تجعل من المجتمع قادراً على مواجهة المنافسة في القرن العشرين.
ليس من السهل التناول والتعامل مع إمكان حدوث تحولات ديمقراطية فعلية داخل دول القارة الأفريقية بمنأى عن الهياكل الاجتماعية/ الاقتصادية داخل مجتمعِات تلك الدول، أو على الأقل دون مراعاتها وأخذها في الحسبان عند مجرد التفكير في كيفية وضع التصورات ذات الصلة موضع التنفيذ الفعلي، فالجماعات المتنوعة التي تتشكل منها شعوب الدول الأفريقية، هي خليط متعدد ومتباين من الثقافات والعادات والتقاليد، والولاءات والانتماءات والظروف المعيشية وغيرها، فأية عملية تحول ديمقراطي يمكن أن تستوعب ، كل هذا التنوع وتحتويه؟ وفي أي وقت؟ وإلى أي مدى زمني يمكن أن يستغرق إنجاز هذا الأمر؟ وفي ظل أية شروط؟ وأية مغريات يمكن التنازل عنها أو التضحية بها؟ وخصوصاً من جانب الأنظمة الحاكمة في تلك الدول، ومن ثم فإن الحكم على مدى التجاوب والفاعلية في هذا السياق ترتبط إلى حد كبير بأمور عديدة منها:
·  طبيعة الجماعات التي تتشكل منها الهياكل المجتمعية.
·  كيفية تعامل الأنظمة الحاكمة مع تلك الجماعات.
·  فرص هذه الجماعات في التنافسات السياسية الحرة.
·  مدى إسهام هذه الجماعات في عمليات صنع واتخاذ القرارات والسياسات.
·  جدوى النتائج الناجمة عن مشاركة هذه الجماعات في العملية السياسية.
ويبدو من التناول للشرط الاجتماعي، أن العقبة الرئيسة التي تواجه التحول نحو الديمقراطية هي تنظيمات الدولة المتحكمة في الاقتصاد. ونتيجة لسيطرتها على الموارد الأساسية للثروة كانت الدولة قادرة على منع ظهور برجوازية قوية مستقلة عن الدولة. فالبرجوازية ينظر إليها أنها العميل الطبيعي للديمقراطية، نظرا لأن إرساء قواعد الديمقراطية يبدو أنها في صالحها، فضلاً عن أن القيم والأيدولوجيا الليبرالية المرتبطة بتلك الطبقة تعلي من الديمقراطية. ولعل الشعار الذي يمكن أن يفسر هذا الواقع السياسي هو: “لا برجوازية، لا ديمقراطيةNo Bourgeoisie، No Democracy“.
ومعنى هذا أن الطبقة الوسطى القوية تشكل الأساس لمجتمع مدني قوي، وأن هذا الأمر حيوي لوظائف الديمقراطية الليبرالية. ففي غياب مثل تلك الطبقة في أفريقيا يضعف الضغط لتوسيع الحقوق الديمقراطية، وتتقوض السلطة الحقيقية للدولة. ولعل هذا يفسر ضعف الديمقراطية في أفريقيا حتى التسعينيات من القرن العشرين. يضاف إلى ذلك أن النظام السياسي للدولة بات ينظر إليه على أنه منبع كل المشكلات، ويجب أن تجرى تعديلات دستورية ومؤسسية وتنظيمية وسلوكية من أجل تحرير المجتمع المدني، سواء فيما يتعلق بسوء التنظيم أو عدم الكفاءة، أو بما ينبغي أن تضطلع به من أدوار سياسية. ويلاحظ أن البعض يرى أن حل المشكلات الأفريقية إنما يكمن في التعديلات الليبرالية من النوع الذي اقترحه البنك والصندوق الدوليين. بزعم أن هذا سوف يقلص الدور الاقتصادي للدولة، ويزيل الرابطة بين تكوين الطبقة والتوظيف المناسب للموارد الخاصة بالدولة. وأنه عندما تعتمد هذه التعديلات سوف تظهر طبقة وسطى قوية ومستقلة، وهذا سيقود بدوره إلى ضغوط من أجل تطبيق الديمقراطية.
ولكن على الرغم من الموضوعية النسبية لهذا التفسير، إلا أن ضمانات حدوث ذلك تبقى مثيرة للجدل في ظل انتقال تلك الطبقة المستهدفة إلى الانشغال بأرباحها ومكاسبها، بل وبانتقالها إلى مغنم آخر تحمي به وتعظم مكاسبها ومصالحها الاقتصادية والمتمثل في السلطة السياسية، وهو ذات الشيء المشاهد في الليبراليات الغربية كافة. ومن ثم فإن التعامل مع ضرورة الشرط الاجتماعي ينبغي أن يكون بقدر من الحرص، حتى لا يتحول من شرط إلى قيد.

3. الشرط الأيديولوجي

بمعنى وجود إجماع وطني على الأيديولوجية الليبرالية (الرأسمالية، الديمقراطية)، أي يكون التركيز على المفاهيم الأيديولوجية للديمقراطية، وبهدف انتهاج آداب السلوك الديمقراطي السليم، و ينبغي في هذا الشأن أن تكون القيادات داخل الدولة في مقدمة المطبقين لآداب ذلك السلوك، وهو الأمر الذي يمكن أن يساعد المجتمع على الالتزام بقواعد السلوك العام والتطبيق المتنامي للمواثيق والقوانين.
ووفقاً لما تقدم، ومع افتراض حتمية التحول نحو النهج الديمقراطي، في ظل الضغوط المتلاحقة والمتنوعة من جانب الدول الغربية الليبرالية (المانحة)، فقد كان الأمل معقوداً على إمكان تحقيق التحول الديمقراطي في أفريقيا على مرحلتين هما:
أ. التحول الليبرالي الاقتصادي (الرأسمالي)
يعنى بالتحول الليبرالي الاقتصادي (الرأسمالي)، كما يُروج له التحول إلى اقتصاديات السوق المفتوحة، والتأكيد على قدر مناسب من الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأفراد والجماعات، فيما يتعلق بالملكية الخاصة الاقتصادية (الخصخصة) في مواجهة الملكية العامة الخاضعة للسلطة الحاكمة (هيمنة الدولة على عناصر الإنتاج)، أو بعبارة أخرى ضمان عدم تعسف السلطة وانتهاكها للشرعية السياسية فيما يتعلق بإشباع حاجات المواطنين الأساسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية (الأمن الشامل للمواطنين)، والسعي لبناء الدولة والمحافظة على بقائها واستمرارها وسلامتها الإقليمية وتحقيق مصالحها العليا.
ب. التحول الليبرالي السياسي (الديمقراطي)
بمعنى أن يتحقق الانتقال نحو الليبرالية السياسية من خلال عملية تدريجية، تفضي في النهاية إلى إقامة نظام ديمقراطي، وهو يعني حدوث نهضة صناعية تؤدي إلي تنمية اقتصادية، بكل ما يستتبع ذلك من تحضر Urbanization وتعليم حديث، وجهاز إداري حديث، وتفاعل بين مختلف جماعات المجتمع. ويمكن الإشارة إلى أن معظم الدول الأفريقية خالفت هذا المنحى التطوري الليبرالي، وعلى العكس من ذلك اتخذت إجراءات دستورية وقانونية لتعزيز عملية التحول الليبرالي ـ الديمقراطي ومنها:
·   ضمان حق تكوين الأحزاب السياسية.
·   حرية الانضمام للأحزاب السياسية.
·   حرية إسهام الأحزاب في تشكيل الوعي السياسي للمواطنين.
·   إجراء انتخابات على أساس تعددي.
·   إعطاء الأحزاب فرصاً متساويةً، لعرض برامجها من خلال وسائل الإعلام المختلفة.
لذلك فقد اتسمت التحركات الأيديولوجية للعديد من الدول الأفريقية بالتثاقل فيما يتعلق باعتماد الليبرالية السياسية من أجل إحداث التحولات السياسية، ويبدو أنها كانت صعبة وعسيرة على تلك الدول، وهو نتاج طبيعي لمحاولات استنساخ تلك الأيديولوجيا الغربية في البيئة الأفريقية، ومن ثم فإن التجربة الديمقراطية الليبرالية قد فشلت في أفريقيا، وعلى الرغم من أن غالبية الدول الأفريقية قد أخذت بالتعددية الحزبية والانتخابات التنافسية عقب الاستقلال، غير أن هذه التجربة سرعان ماانهارت منذ النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي تحت ضربات الانقلابات العسكريةوالحروب الأهلية، أو نتيجة لتحول العديد من الدول الأفريقية للأخذ بنظام الحزبالوحيد، وقد حدث هذا الفشل رغم أن ظروف الدول الأفريقية عقب الاستقلال كانت أفضلبكثير من وضعها الراهن، حيث لا أزمة ديون، ولا فجوة غذائية، وكان الجهاز الإداري محدوداً لكنه على درجة عالية من الكفاءة، ولم ينخر فيه الفساد علىنحو ما هو مشاهد حالياً، وكان الشعور الوطني عاليا بدرجة حالت دون تفجر الصراعاتالإثنية في القارة؛ فما الذي يجعل خيار الديمقراطية الليبرالية ممكنا فى ظل الظروفالراهنة؟
4. الشرط الوطني
هذا الشرط يبني على الشرط الاجتماعي حيث ينمو ولاءً وطنياً عريضاً يسفر عن إجماع وطني على توجه أيديولوجي، يضفي على النظام الحاكم مشروعيته، وتجعل من الانتماء الوطني أمراً حتمياً. ذلك ما أسفرت عنه الخبرة التاريخية للمجتمعات الأوروبية، والتي كانت منقسمة في داخلها على أسس دينية ولغوية وثقافية، فجاءت الثورة الصناعية لتحدث هذا التحول، في هذه المجتمعات، والذي أسفر عن بزوغ الدولة القومية، وظهور الظاهرة الديمقراطية وترسيخها، وبدون توافر هذه الشروط فليس ثمة إمكان لبزوغ الظاهرة الديمقراطية واستقرارها، ناهيك عن إمكان الحديث عن فرضها، وهاهي الخبرة التاريخية، تثبت، ومنذ الاستقلال، صدق هذه المقولة، فقد انهارت التجارب الديمقراطية في العديد من الدول الأفريقية، ولا ينتظر لهذه الظاهرة أن تستقر في الدول التي أخذت بالتحول الديمقراطي منذ انتهاء الحرب الباردة، نتيجة لانتفاء الظروف الموضوعية لظهورها. 
ثانياً. أبعاد التحولات الديمقراطية في أفريقيا
تتسم عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا بالعديد من الأبعاد والتي يمكن التركيز عليها ومنها:
1. البعد الوطني (الداخلي)
يتشكل البعد الوطني (الداخلي) من مجموعة أبعاد فرعية يمكن الإشارة إليها كالتالي:
أ. البعد المؤسسي
يفترض أنه داخل نطاق هذا الإطار المؤسسي تجري عمليات التغير التاريخي طويلة المدى. كما يفترض أن تتحقق عمليات التحول الديمقراطي من خلال دور النخب السياسية وفعلها، تلك التي يقع على كاهلها بالدرجة الأساسية الالتزام والمسؤولية عن حسن إدارة تلك العملية، وبحسبان أن في جميع المجتمعات العديد من بنى السلطة والقوة وهياكلها التي تعمل على تقييد سلوك الأفراد والنخب في المجتمع وتشكل تفكيرهم. وتوجد بنى السلطة والقوة بصورة مستقلة عن الفرد، تقيد نشاطاته وتتيح له بعض الفرص في الوقت نفسه. من ناحية أخرى، فإن الفرد جزء من تلك البنى الموروثة من الماضي ويسهم، مع الآخرين، في استمرارها.
كما يفترض أيضاً أن التفاعلات المتغيرة تدريجياً لبنى السلطة والقوة ـ الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية ـ تضع قيوداً، وتوفر فرصاً تدفع النخب السياسية وغيرهم، في بعض الحالات، في مسار تاريخي يقود إلى الديمقراطية الليبرالية، بينما في بعض الحالات الأخرى، قد تقود علاقات بنى السلطة والقوة وتفاعلاتهما إلى مسارات سياسية أخرى. ومن ثم فإن هياكل السلطة والقوة وأبنيتهما والتي غالباً ما تتغير تدريجياً عبر فترات تاريخية طويلة، فإن هذا يقود إلى أن عملية التحول الديمقراطي تكون طويلة الأمد. حيث إن المسار التاريخي لأي بلد نحو الديمقراطية الليبرالية أو نحو أي شكل سياسي أخر يتشكل ويتحدد، أساساً وجوهرياً، بالبنى المتغيرة للطبقة والدولة والقوى الدولية، وعبر القومية والمتأثرة بنمط التنمية الرأسمالية، وليس عن طريق مبادرات وخيارات النخب؛ فعلى الرغم أن النخب السياسية تضطلع بمبادرات وخيارات معينة، إلا إن هذه المبادرات والخيارات لا يمكن تفسيرها إلا عبر الإشارة إلى القيود والفرص البنيوية المحيطة بها.
إن الفرصِ التي يراها دعاة الليبرالية لتحسينِ الحراك والأداء السياسيِ في الأنظمة السياسية الأفريقية يُعيقُها في أغلب الأحيان عبءِ المؤسسات المَوْرُوثةِ، عن العديد من الأنظمة، سواء تلك ذات الطابع الماركسي، أو تلك ذات الطابع الاستبدادي/ الفردي، أو تلك ذات الطابع العسكري. ومن ثم فإن الشروط المسبقة الاقتصادية/ الاجتماعية مُفتَرَضة مِنْ أجل الانتقال الفعلي للتناول وللتعامل الجاد مع الديمقراطيةِ، بوصفها عملية سياسيةِ مستمرة وديناميةِ، ومن أجل الوصول إلى إحداث التغييرات السياسية المناسبة.
ويعني ما تقدم أن هناك ضرورة لترجمة القيم والمفاهيم إلى حقائق مؤسسية وبنائية ومرافق عامة، إذا ما كان هناك رغبة وإرادة حقيقية للتغيير وللتحول السياسي داخل الدول الأفريقية، وأن يتحقق ذلك في إطار نوع من الاتفاق حول قواعد الممارسة السياسية، ومثال ذلك وجود برلمان منتخب من الشعب، وغيرها من المؤسسات السياسية القوية والمستقلة سواء ذات الطابع الرسمي، وتلك ذات الطابع غير الرسمي، ومنها وجود الأحزاب السياسية الوطنية ذات البرامج المتنوعة كذلك وجود منظمات للمجتمع المدني نشطة ومنظمة.
ب. البعد الأدائي (الإجرائي)
يقوم هذا البعد على أساس وجود علاقة بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية وبين الديمقراطية، بحسبان أن هذا يدخل ضمن العوامل التي تؤدي إلى استمرار الديمقراطية وترسيخها، في إطار ما يمكن تسميته بالشروط والمتطلبات الوظيفية للديمقراطية.
ويبدو أن الفاعلين السياسيين الملتزمين بالديمقراطيةيؤدون دوراً حاسماً وجوهرياً لنجاحها. وعلى الرغم من أنهم يشكلون دائماً أقلية، فإن هناك عوامل معينة تتضافر لصالحهم. من أهم هذه العوامل أن أغلبية المواطنين، حتى وإن لم تكن ملتزمة بالديمقراطية بالضرورة، لا تريد عودة النظام التسلطي الذي كانت ترزح تحته. هذا إلى جانب أن الخطاب السياسي التسلطي أضعف إيديولوجياً من الخطاب الديمقراطي عالمياً. وبفضل هذه المزايا يمكن للنخبة الديمقراطية القليلة العدد أن تقود المجتمع السياسي إلى ترسيخ الديمقراطية، خصوصاً إذا استطاعت أن تقوم بتحييد الفاعلين ذوي التوجهات التسلطية المتطرفة، وتشجيع التفضيلات والممارسات المتوافقة مع الأداء الديمقراطي، وزيادة عدد الفاعلين الديمقراطيين، وإعطاء أولوية للإستراتجية التي تضمن عدم تسهيل عودة الحكم التسلطي على أية استراتجيات أخرى (بما في ذلك التنافس فيما بينها).
وبناءً على ما تقدم، فإنه -وفي إطار عملية التحول الديمقراطي- لا بد من تأكيد وجوب تسوية الصراعات السياسية عبر أسلوب تنافسي سلمى، وأن تكون الانتخابات الحرة ذات المضمون التعددي الأداة الديمقراطية الكفيلة بتحقيق التوازن السياسي والاستقرار في المجتمع، ويلاحظ أنه على الرغم من أن تحولات نظم الحكم الإفريقية قد حدثت بسرعة، فإن الوقت المتاح لوضع مثل تلك الإجراءات وترسيخها وتدعيم المؤسسات الديمقراطية إنما هو محدود نسبياً، وهو الأمر الذي يمكن أن يكون له آثار سالبة في السنوات التالية، ومنها أن تتمخض مثل تلك التجارب عن ديمقراطيات هشة Fragile. ولذلك فإن التعجل المرحلي من جانب الدول الأفريقية في هذا الشأن غير مرغوب فيه، كما أن الضغوط التي تمارس على الدول الأفريقية بغرض الإسراع بالتحول قد تؤدي إلى انتكاسات التجربة.
ج. البعد السلوكي (القيمي ـ الثقافي)
ينظر إلي الديمقراطية بحسبانها قيمة عليا في حد ذاتها، تشتمل في الوقت نفسه على معاني الحرية والمساواة والعدالة وسيادة قيم التسامح والتعايش والتفاوض، ويفترض ذلك نشر الثقافة الديمقراطية وتعزيزها في المجتمع. كما ينظر إليها كذلك بحسبانها عملية صراعية وتنافسية، وفى هذا الشأن تبرز العديد من الأمور ومنها:
 (1) أن تاريخ الديمقراطية مليء بالصراعات، وأن تحقيق المكاسب الديمقراطية للجماهير لا يمكن أن يتم بقرار فوقى، وهذا لا يعنى التشاؤم في إمكان تحقيق الديمقراطية في أفريقيا، وإنما لتوضيح أن هذا الأمر يتطلب نضالاً متواصلاً.
 (2) إن تزايد المطالب الشعبية المنادية باحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وبإضفاء الطابع الديمقراطي على المؤسسات السياسية والاتجاه نحو الأخذ بنظم التعددية الحزبية يتطلب ضمانات للتحول الصحيح لإحداث التغيير الديمقراطي لأن مسيرة التحول لم تنته بعد.
 (3) أن التحول الديمقراطي بمعناه التعددي محكوم عليه بعدة مؤثرات:
 (أ) مصالح الطبقة البيروقراطية البرجوازية المهيمنة، ومدى استعدادها للتفاوض السلمي من أجل الإصلاحات الديمقراطية.
 (ب) مدى انتشار الثقافة الديمقراطية و الوعي الديمقراطي بين المواطنين في أفريقيا.
 (ج) القدرة على إيجاد التسوية للصراعات الاجتماعية الممتدة، والتي تأخذ شكل الحروب الأهلية والدولية في عدد من المناطق الإفريقية.

2. البعد الدولي:

يتركز هذا البعد في محاولة الدول المانحة الأوروبية والأمريكية أن تسود عملية التحول الديمقراطي في القارة الأفريقية، وأن يتم الارتقاء بها، وفي سبيل تحقيق ذلك فإنها تعتمد العديد من السياسات والأدوات ومنها:
أ. سياسة الترهيب
في ظل تلك السياسة تستخدم أدوات تخفيض المعونات المقدمة للدول الأفريقية، وسياسة العزلة الدبلوماسية والإدانة لأنظمة الحكم، وتقييد التأشيرات ومنعها لدخول دولها وغيرها. وتسخر النيوليبرالية مجسدة في الولايات المتحدة القانون الدولي ومؤسساته مثل هيئة الأمم المتحدة و مجلس الأمن لحشد الدعم والتأييد لتدخلها العسكري في العالم، وفرض سياساتها التسلطية في العلاقات الدولية من أجل تثبيت هيمنتها.
كما أن العولمة الأمريكية تتستر بالديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات ومسائل البيئة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، من أجل تدمير الهويات المثمرة العريقة مثل الهوية العربية الإسلامية، و الهوية الصينية، والهوية الهندية، والعمل على بعث هويات أخرى طائفية وإثنية، وإقليمية، وتسويقها بما يساعد الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على العالم؛ كما تستعمل العولمة سلاح المال والمؤسسات المالية و الدولية وفقر الشعوب لفرض أنماط جشعة تخدم مصالح شركاتها الدولية العابرة على حساب الاقتصاديات المحلية. وتحت ستار التبادل الحر والتنمية، تسعى العولمة إلى تشويه الهويات الثقافية، وبناء منظومة ثقافية استهلاكية واحدة تعطي لدورة الاقتصاد الرأسمالي العالمي الجديد اندفاعاته التاريخية التي يبحث عنها.
والجدير بالذكر، في هذا الشأن، أن العديد من الدول الأفريقية الفقيرة تجد نفسها مكرهة على قبول جميع أجزاء برنامج العولمة الليبرالية؛ لأن رفضها مقترن برفض متعدد الأنواع والأساليب لها بوصفها دولاً في المجتمع الدولي سواء على مستوى العلاقات الدولية الثنائية، أو متعددة الأطراف، أو رفض المؤسسات المالية والنقدية والتجارية الدولية تقديم القروض، أو التسهيلات المتعلقة بإعادة جدولة الديون، وغيرها من الأمور المتعلقة بالشؤون المالية والنقدية، فضلاً عن العراقيل والصعوبات التي تقيد من تبادلها التجاري على المستوى الدولي، وإمكان تعرضها لعقوبات اقتصادية. وفي ظل الاتساع الكبير والفجوة الضخمة في الدخل بين الأغنياء والفقراء في العالم تصاعدت الاحتجاجات التي رافقت انعقاد مؤتمرات منظمة التجارة العالمية، لمواجهة العولمة والضغوط والانتكاسات الناجمة عنها.
ويلاحظ أن الدول الصناعية الكبرى تقع، و لو جزئياً، تحت تلك السطوة الرأسمالية للولايات المتحدة الأمريكية، وما يترتب على ذلك من تأثيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية، وإذا كان هذا هو وضع مثل هذه الدول، فان السؤال المطروح هو ما المستقبل الذي ينتظر الدول الأفريقية الصغيرة والفقيرة في ظل هذا الوضع؟
ب. سياسة الترغيب
يرى المروجون لليبرالية السياسية أن البلدان الأكثر انفتاحاً سياسياً، ستكون الأكثر انفتاحاً اقتصادياً، وخصوصاً على التجارة الدولية، ومن ثم فهي التي ستتمتع بنمو سريع أكثر من البلدان الأقل انفتاحا. وستكون هي الأقل فقراً، وتتمتع بمستوى جيد من التوظيف، وسيكون لديها مستشفيات و مدارس أفضل.
ومن ناحية أخرى فإن المروجين للديمقراطية في أفريقيا يبشرون دولها، بالعديد من الحوافز التي تتمثل في زيادة المعونات الخارجية، وتعزيز التعاون العسكري، وزيادة حجم التجارة والاستثمارات، بالإضافة إلي أدوات الدبلوماسية التقليدية، والاستمالة (الإقناع) والمشورة والاستعداد للمناصب الجديدة (الريادة الإقليمية). بالإضافة كذلك إلي أن برامج الترويج والارتقاء بالديمقراطية يمكن أن تكون مجزأة على المدى القصير كأنشطة التأييد الانتخابي، وعلي المدى الطويل مثل جهود إعادة البناء المؤسسي والتغييرات الدستورية، وهو الأمر الذي سيحظى بتأييد الدول المانحة ودعمها، من ناحية، وستنعكس إيجابياته على المستوى الداخلي من ناحية أخرى.
ثالثاً. مراحل وآليات التحولات الديمقراطية في أفريقيا
إن التغييرات السياسية التي انتشرت عبر القارةِ الأفريقيةِ منذ 1990، والتي نجمت عن العديد من الأسباب التي يرجع بعضها لضغوط الدول الغربية الليبرالية (المانحة)، وبعضها الآخر لتنامي الاحتجاجات السياسية الرافضة للواقع السياسي المتمثل في دولالحزبِ الواحد Single-Party States، وأنظمة الحُكُم الفردي Individual Rule، والدكتاتوريات العسكرية Military Dictatorships ـ والاقتصاد المتردي لدول القارة، في ذلك الحين، والمطالبة بضرورة الإصلاح السياسي مقدمة أولى نحو إعادة بناء تلك الدول.
ويبدو أن نتيجةِ تلك العملية مازالت غير واضحةُ، وبأنّ هناك مدى واسعاً من الاختلاف بين البلدانِ الأفريقيةِ في مجال التعامل الواقعي مع تلك العملية. وعُموماً، فإن عملية الليبرالية السياسية Process of Political Liberalization والرامية إلى إضْعاف النظم الاستبداديةWeakening of Authoritarianism، والانفتاح الأوسعِ لفرص المشاركة السياسيِة  Political Participationمازالت تفتقد العديد من متطلباتها، ومنها تهيئة الظروف والبيئة المناسبة دستورياً ومؤسسياً وشعبياً وتنموياً قبل أية محاولة للمتابعة والتقييم.
في أوضاع التطور الطبيعي لعمليات التغيير السياسي التي تمر بها الدول، فإن مثل هذا الأمر غالباً ما يأخذ وقتاً، ويتطلب جهداً وقدرات وإمكانات وظروف مناسبة، لضمان نجاح هذه التغييرات، لكن بالنسبة للتجربة الأفريقية، فالسؤال الذي يبدو ملحاً، هو الكيفية التي تجري وفقاً لها عمليات التغيير السياسي، والتحول الديمقراطي، والمراحل والآليات ذات الصلة بها؟ ويمكن الإشارة إلى ذلك كالتالي:
1. مراحل التحولات الديمقراطية في أفريقيا
يزعم البعض أن هذا النوع من عمليات التحول نحو الديمقراطية يتطلب مدخلاً تطورياً تاريخياً، يمكن أن يصبح مساراً عاما تتبعه كل البلدان خلال عملية التحول الديمقراطي، وليس مجرد البحث عن الشروط والمتطلبات الوظيفية للديمقراطية. ويتكون هذا المسار من خمسة مراحل أساسية، يمكن الإشارة إليها كالتالي:
أ.مرحلة تحقيق الوحدة الوطنية
والتي تشكل خلفية الأوضاع Background Condition، أو أساس عملية التحول، ويرى البعض أنه فيما يتعلق بتحقيق الوحدة الوطنية لا يتوجب توافر الإجماع والاتفاق العام، بل مجرد بدء تشكل هوية سياسية مشتركة لدى الغالبية العظمى من المواطنين.
ب.مرحلة الإعدادPreparatory phase
وخلال هذه المرحلة يمر المجتمع القومي بفترة تتسم بصراعات سياسية طويلة وغير حاسمة، على شاكلة الصراع الناجم عن تزايد أهمية نخبة صناعية جديدة خلال عملية التصنيع تطالب بدور وموقع مؤثر في المجتمع السياسي في مواجهة النخب التقليدية المسيطرة التي تحاول المحافظة على الوضع القائم. ورغم اختلاف التفاصيل التاريخية لحالات الصراع من بلد لآخر، فإن هناك دائماً صراعاً رئيساً وحاداً بين جماعات متنازعة. أي أن الديمقراطية تولد من رحم الصراع، بل وحتى العنف، وليست نتاجاً لتطور سلمي. وهذا ما يفسر هشاشة الديمقراطية في المراحل الأولى، وعدم استطاعة العديد من البلدان تجاوز المرحلة الإعدادية إلى مرحلة الانتقال والتحول المبدئية. قد يكون الصراع حاداً بالدرجة التي تؤدي إلى تمزيق الوحدة الوطنية، أو أن يؤدي إلى تزايد قوة إحدى الجماعات بالدرجة التي تمكنها من التغلب على قوى المعارضة، وإنهاء الصراع السياسي لصالحها، وسد الطريق أمام التحول الديمقراطي.
ج.مرحلة القرار Decision Phase
وهي مرحلة الانتقال والتحول المبدئي، وخلالها، وهي لحظة تاريخية تقرر فيها أطراف الصراع السياسي غير المحسوم التوصل إلى تسويات، واعتماد قواعد ديمقراطية تمنح الجميع حق المشاركة في المجتمع السياسي. وخلال هذه المرحلة فإن قرار اعتماد القواعد الديمقراطية خلال “اللحظة التاريخية” قد يكون قراراً ناتجاً عن أحساس أطراف الصراع غير المحسوم بضرورة التوصل إلى تسويات وحلول وسط، وليس ناتجاً عن قناعة هذه الأطراف ورغبتها في اعتماد القواعد الديمقراطية. بيد أنه، تدريجياً مع مرور الوقت، تتعود الأطراف المختلفة على هذه القواعد وتتكيف معها. قد يقبل الجيل الأول من أطراف الصراع القواعد الديمقراطية على مضض، وبحكم الضرورة، إلا أن الأجيال الجديدة من النخب السياسية تصبح أكثر تعوداً وقناعة وإيماناً بالقواعد الديمقراطية؛ وفي هذه الحالة يمكن القول إن الديمقراطية قد ترسخت في المجتمع السياسي.
د.مرحلة التفاعل والتعودInteraction & Habituation Phase
وهي مرحلة الانتقال إلى إقامة التحول الديمقراطي، ووضع القرارات والسياسات المتخذة المتعلقة به موضع التطبيق، وتبدأ هذه المرحلة بفترة من عدم التأكد أو التيقن، ومن التشكك والترقب، حيث تظل المخاطر والهواجس تعتمل بداخل كل من الأنظمة الحاكمة رهبة وخوفاً من افتقاد السلطة والثروة والنفوذ، وغيرها من القوى والتنظيمات السياسية التي تخشى من ارتداد تلك الأنظمة إلى ماضيها الاستبدادي، ويلاحظ أن عملية التفاعل الحادثة بين مؤسسات الأنظمة الحاكمة والنخب والجماعات المرتبطة بها، وتلك المؤسسات وجماعات الضغط والمصالح الجديدة المؤيدة والداعمة لعمليات التحول الديمقراطية، يكتنفها قدر كبير من افتقاد الثقة والصدق، تجاه بعضهما البعض.
هـ. مرحلة النضج والاستقرار
وهذه المرحلة تشهد مشاركة واسعة للقوى والتنظيمات السياسية/ المدنية وللجماعات والأفراد في مغانم الثروة والسلطة على أسس المساواة والمواطنة وتكافؤ الفرص وتتعزز قدرات المجتمع من خلال تمكين الجماعات والقوى المختلفة، بما في ذلك الشرائح الأكثر ضعفاً ومعاناةً كالأقليات والجماعات المهمشة والمرأة وغيرها، لتستقر بذلك قواعد ونظم العمل التي تحكم عملية التحول.
2. آليات عملية التحولات الديمقراطية في أفريقيا
مع ضرورة إحداث عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا، فقد كان لزاماً عند البدء والأخذ بها، وجود آليات تساعد على ذلك ومن هذه الآليات ما يلي:
أ. المؤتمرات الوطنية
تعد صيغة تأسيس المؤتمر الوطني من أبرز آليات التغيير السلمي للبناء التسلطي من خلال المفاوضات بهدف الوصول إلى صيغة ملائمة للتحول الديمقراطي، ويبدو أن مثل تلك المؤتمرات الوطنية يمكن أن تكون مناسبة للواقع الأفريقي بدرجة كبيرة، وهى إما أن تتم نتيجة لضغط شعبي كبير، أو لتذمر عام في صفوف المؤسسة العسكرية، أو لتردى الحالة الاقتصادية ـ السياسية، أو لضغوط خارجية متزايدة، حتى ينساق النظام القائم لبدء عملية التحول الديمقراطي من خلال المفاوضات السلمية، وهو الأمر الذي يمكن أن يساعد في تدعيم شرعيته السياسية من ناحية وخلق مناخ من القبول – القومي العام لسياسات الإصلاح التي تنتهجها الحكومة، وتتسم مثل هذه المؤتمرات الحكومية . الوطنية بالتمثيل الواسع من جانب جماعات ومؤسسات المجتمع المدني، بما في ذلك الجماعات المعارضة، وهى تتيح الفرصة للمشاركين في عرض أخطاء الحكومات السابقة والحالية ومناقشتها واقتراح الإصلاحات المناسبة (بنين مؤتمر 1990، الكونغو، توجو، النيجر، مدغشقر…).
ففي غرب أفريقيا التقت بعض القوى الاجتماعية في مؤتمرات وطنية، وأعلنت التمرد الشعبي ضد حكم الحزب الواحد والحكم العسكري في الإقليم. وتمكنت جماعات محلية في بنين من القيام بأدوار مختلفة، في عام 1989، في الإطاحة بالنظامِ الاستبدادي. وانتهت في عام 1991، بتنصيبِ رئيس ديمقراطي جديد من طريق الانتخابات الحرّةِ والعادلةِ، ربما كان هناك تأثير للضغطِ الخارجيِ الفرنسي خاصة. إلا أن المظاهراتَ التي انفجرت في أرجاء متفرقة من البلاد، بسبب الصعوباتِ الاقتصادية، تأثير كذلك على عملية التغيير والتحول.
لقد كان واضحاً مع نهاية عام 1989، أن من الصعب أمام النظام الحاكم أن يتجاهل الضغوط الشعبية التي تقودها المعارضة، وقد حاول الرّئيس كيريكو Kerekou البقاء في السلطة والسيطرة على الأوضاع من خلال عمليةِ لتخفيفِ هذه الضغوط. إلا أنّ قوّةَ التعبئةِ، وغياب القمعِ المفتوحِ مِنْ جانب قوى الأمن الداخلي، وإعادة الاصطفاف بين أحزابِ المعارضة، وانضمام العديد مِنْ مؤيدي النظام إليهمِ، أفَسح المجال أمام وضع ترتيبات جديدة تمثلت في انعقاد مؤتمر وطنيNational Conference في فبراير 1990. قرّرتْ فيه أحزاب المعارضة إعطاء الأولوية لإصْلاح دولة الحزب الواحد، وإقامة جمعية وطنية ذات سيادة في البلاد، وهو الأمر الذي دفع الرّئيس كيريكو والجيش لتهديد جماعات المعارضة باستخدام ِالقوة ضدهم، ولكن أمام استمرار ضغوط المعارضة. أذعن الرئيس والجيش لمطالبهم.
وسرعان ما انتشرت “حمى المؤتمرات الوطنية” وامتدت لتصل إلى وسط إفريقيا. ولقد كان من تبعات المؤتمر الوطني الناجح في بنين، أن عقدت مؤتمرات مماثلة في كل من مالي والجابون وتوجو وزائير. وأقيمت أول انتخابات حرة عادلة في بنين، واستطاع المدير السابق بالبنك الدولي ينسيفور سوجلو أن يهزم ماثيو كيريكو، ويصبح الرئيس الجديد في عام 1991. وبعدها بخمس سنوات نجح كيريكو فى هزيمة سوجلو والفوز بمنصب الرئاسة. في حين نجحت النظم القديمة في كل من الكاميرون والجابون وتوجو في الاستمرار، وإحباط محاولات هؤلاء الذين احتشدوا في المؤتمرات الوطنية كافة، معلنين فجر عصر جديد من الديمقراطية.
وفى زائير (الكونغو الديمقراطية الآن)، سقط حكم موبوتو بوفاته، تاركاً دولة تعثرت طويلاً، ذات اقتصاد معيشي متدهور. وباحتلال الحلف الهش للقوات المسلحة الذي وضع لوران كابيلا في الحكم، بدأت مرحلة جديدة من الصراع الداخلي الممتد من أجل أنجولا؛ ولكن مع الفارق إذ لم يكن هناك هذه المرة حكومة تتمتع بأي شكل من أشكال الشرعية الدولية.
ب. المؤتمرات الإقليمية والدولية
على صعيد المؤتمرات الإقليمية فقد اجتمع قادة أفارقة في العاصمة النيجيرية أبوجا، أواخر شهر مارس 2002، للتوقيع على إعلان غير مسبوق لتأكيد التزام الدول الأفريقية بالديمقراطية، وحكم القانون والفصل بين السلطات، ومواجهة الحروب المدمرة والفساد. ويأتي ذلك بهدف تمهيد الطريق أمام استثمارات غربية ضخمة يتوقع تدفقها نحو القارة الأفريقية. وقد حضر قمة أبوجا قادة 15 دولة من اللجنة التنفيذية للشراكة الجديدة للتنمية الأفريقية (نيباد). التي تسعى للإسراع بعملية النمو في أفقر قارات العالم. وكان ويزمان نيكولا رئيس لجنة التوجيه في نيباد قد ذكر أن الإعلان السياسي في قمة أبوجا يمثل أحد أهم الضمانات لتوفير الدعم الغربي للمبادرة الأفريقية التي تحتاج إلى نحو 64 مليار دولار استثمارات سنوية لاستمرار النمو. وأكد نيكولا أهمية هذا الإعلان في كسب ثقة المجتمع الدولي، في حين أعرب عن استيائه من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية أن فوز الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي في الانتخابات الرئاسية، فبراير 2002، يمكن أن يؤثر على الدعم الغربي لمبادرة نيباد. ويشمل الإعلان السياسي التأكيد على تطبيق مبادئ الديمقراطية وحكم القانون، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وفعالية البرلمانات في إصدار القوانين، إضافة إلى العمل على تأمين حرية المجتمع المدني وحرية الصحافة واحترام حقوق الإنسان، ومواجهة الفساد.
ج. التحول الموجه (التحول من أعلى)
تتسم عملية التحول في ظل هذا النموذج بالتعقيد والتطويل (مثال ذلك مصر، ونيجيريا، وغانا، وإثيوبيا…) وتحدث عملية التحول بقيام النظم القائمة بالبدء في الإصلاحات استجابة لأزمات قائمة أو محتملة، وذلك بغرض التحكم في مدى عملية التحول ومضمونها. وعادة ما يكون التحول عملية طويلة نسبياً، وتحدث عندما يقرر نظام الحكم التسلطي، وبدون ضغوطات قوية من قوى المعارضة أو من المجتمع بأجمعه، وبعد جدل داخلي، أن من مصلحته إدخال تغييرات وإصلاحات سياسية. قد يؤدي هذا النمط من عملية التحول الديمقراطي إلى احتفاظ القوات المسلحة بحق الاعتراض (الفيتو) على الترتيبات السياسية المستقبلية وإيقافها.
وفي أحسن الأحوال، تتمثل النتيجة الأكثر احتمالاً لهذا الشكل من التحول الديمقراطي في قيام ديمقراطية محدودة تتسم باستمرار الهيمنة السياسية لعدد صغير نسبياً من النخب، وغالباً ما تحتفظ النخب المسيطرة في النظام التسلطي بسيطرتها على السلطة والقوة في الترتيبات الجديدة. ولقد كان ذلك النمط الغالب لعمليات الانتقال الديمقراطي في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية وبعض البلدان الآسيوية. ولعل الأمر الجوهري في هذا النمط من عملية الانتقال الديمقراطي يتمثل في أن الحكام المتسلطين لا يتنازلون طوعاً عن السلطة والقوة، كما أنهم غير مستعدين، بصفة عامة، لتعديل نظام الحكم إذا كان ذلك يهدد سيطرتهم على السلطة. فضلاً عن أن القرارات المتعلقة باعتماد المؤسسات الديمقراطية يتخذها المسيطرون على السلطة مدفوعين بمصالحهم الخاصة الشخصية والجماعية.
د. ممارسة الضغوط للتحول إلي الديمقراطية
يتمثل هذا العنصر في تنامي الاحتجاجات المطالبة بالإصلاحَ، نتيجة لانهيار الشيوعيةِ والاشتراكية في الاتحاد السوفييتي (سابقاً) وفي أوربا الشرقية، وهو الأمر الذي لم يترك أمام الدول الأفريقية مجالاً للتفكير فيما ينبغي عليهم أن يفعلوه، في ظل هذا التصدع الأيديولوجي العالمي، لاسيما أنها كانت إحدى ضحايا هذا الصراع طوال حقبة الحرب الباردة. وقد سمح هذا الفراغ الأيديولوجي بالضغط على الأنظمة الحاكمة الأفريقية من أجل سرعة الاستجابة، وعدم التردد في المبادرة الطوعية بالتفاعل الإيجابي مع الأيديولوجية الليبرالية، في ظل وَضعَ قضيةَ الديمقراطية على جدولِ أعمال الدول المانحةِ، كما سمح هذا الوضع من جانب آخر للعديد من الحركات والتنظيمات السياسية والشعبية للقيام باحتجاجات سياسية مِن أجل تَطبيق سياسة التغييرِ Change Policy.
عندما تبدأ ممارسة الضغوط من أجل التحول إلي الديمقراطية، فإن الضغوط في هذا الصدد تكون داخلية من أجل الأخذ بالتعددية الحزبية، ومن خلال انتخابات حرة وسيلة للانتقال السلمي للسلطة لزامبيا 1991 مثالاً، إن الاعتراف والقبول بالوجود المزمن للضغوط الإثنية من أجل إحداث تغييرات هيكلية Structure Changes في تلك الدول الأفريقية لا يمكن النظر إليها على أنها معوقه للتحول الديمقراطي؛ حيث إن إحداث تلك التغييرات الهيكلية ربما يساعد تلك الدول على التخفيف من مشكلات الإثنية بها، تحدد بالإشارة إلى أن التغييرات الهيكلية قد تختلف من دولة إلى أخرى، وهى تتحرك من مجرد المركزية الإدارية إلى ترتيبات فيدرالية كاملة، ولعل الاستجابة لمثل تلك الضغوط يمكن أن يسهم إسهاما فاعلاً في تثبيت الديمقراطية وتعزيزها أكثر من أن تكون أداة للاتصال.
هـ. النضال المسلح
يبدو أن حدوث هذا النمط من التحول يأتي غالبا في أعقاب أزمة وطنية خطيرة، لا يستطيع النظام التسلطي حلها، وتؤدي إلى حدوث تعبئة جماهيرية واسعة النطاق ضد النظام. ويمثل هذا النمط نوعاً من عملية الانتقال والتحول التي لا تهيمن عليها النخب. بدلاً من ذلك، يأتي التغيير أساساً، على الأقل في بداياته، من الضغوطات المنبثقة من القاعدة الشعبية، وتُرغم النخب على الخضوع للإرادة الشعبية؛ بعبارة أخرى، فإن المطالب الشعبية هي التي تؤسس هذا النمط من عملية الانتقال وتحركه، وليس المواثيق بين النخب. من غير المحتمل أن يؤدي هذا النمط إلى الانتقال، حيث يؤدي الضغط الشعبي إلى إرغام النخب الحاكمة على التخلي عن السلطة، لكن عدم وجود اتفاقات ومواثيق خلال مرحلة الانتقال يمثل عقبة كبيرة أمام بروز أجواء الاعتدال والتصالح الضرورية لعملية ترسيخ الديمقراطية والمميزة لها؛ فالواضح أنه من غير المحتمل أن يؤدي تغيير النظم التسلطية عن طريق التعبئة الجماهيرية والضغوط الشعبية إلى قيام نظم ديمقراطية ليبرالية مستقرة. على العكس، فهناك احتمال لأن تنتكس النظم الجديدة وتحل محلها أشكال جديدة من النظم التسلطية.
ومعنى ما تقدم أن توظيف آلية النضال المسلح في إحداث عملية التحول الديمقراطي تبدأ بأعمال مسلحة في محاولة لإكراه النظام الحاكم للانصياع والإذعان لمطالب الضالعين في تلك الأعمال، وينتهي هذا الأمر باستمرار تلك الأعمال إلى أن يتغير هذا النظام، وقد تكون هناك حكومة انتقالية، تعمل من أجل وضع دستور جديد للدولة، وتحديد موعد لإجراء انتخابات ديمقراطية، وتولي نظام حاكم جديد للبلاد، مثال ذلك ما حدث جنوب أفريقيا ـ إثيوبيا ـ موزمبيق.
و. المفاوضات
تعد عملية التحول في جمهورية جنوب أفريقيا أحد النماذج البارزة في تقديم الحلول الديمقراطية، وذلك من خلال مسار من المفاوضات المطولة والمصالحة التاريخية، والتي أسفرت عن نظام ديمقراطي لحكم الأغلبية السوداء. وإذا كانت بعض الدول قد تعجلت الأخذ ببعض مظاهر التحول فإنها في حاجة شديدة لإعادة النظر فيما أقدمت عليه من خطوات في هذا المجال، وإلى اللجوء إلى مصالحة فعلية بين جماعات الدولة الواحدة للوصول إلى صيغ توافقية ومرضية لتسوية النزاعات والصراعات قبل الترويج والإدعاء بالتزامها بالديمقراطية كما هو الحال على سبيل المثال في كل من إثيوبيا ونيجيريا والسودان وغيرها.
ويلاحظ أن الدول الأفريقية في تعاملها مع منظومة المتطلبات Requirements غير متساوية في هذا الشأن، وإنما تتفاوت على مستويات عدة، سواء تعلق الأمر بالإرادة والرغبة السياسية، أو القدرات والإمكانات الوطنية، أو درجة الوعي والاستعداد لدى القوى الوطنية/ الشعبية، ولا يتوقف الأمر في هذا الشأن على مجرد البدء في تدشين التحولات الديمقراطية، ومع كونه أمر جد صعب بالنسبة لتلك الدول، إلا أن أنماط السلوك والممارسات من جانب جميع الفاعلين السياسيين سواء فيما يتعلق بالنخب الحاكمة أو التنظيمات والقوى السياسية والشعبية تعد الأمر الأصعب في المعادلة الديمقراطية. بحسبان أنها البرهان على القناعة بها، والاستعداد والقدرة على التضحية من أجل إنفاذها.

سياسات التحولات الديمقراطية في أفريقيا وممارساتها

إن التفاعلات ذات الصلة بعملية التحول الديمقراطي في أفريقيا، لا تنشأ من فراغ، وإنما تحدث وفقاً لعملية نظامية تبدأ من البيئة السياسية المحيطة سواء كان ذلك على المستوى الوطني/ الداخلي، أو على المستوى الإقليمي والدولي/ الخارجي، وذلك من خلال تنامي مجموعة من الضغوط من الفاعلين على هذين المستويين، وفقاً لتصورات بمطالبات ومناشدات للإصلاح السياسي من خلال التحول الديمقراطي، بناءً على قواعد ونظم عمل وسياسات وآليات، تتبعها أنماط سلوك مناسبة من جانب الأنظمة الحاكمة والقوى والتنظيمات السياسية، على المستويين الرسمي (الحكومي) وغير الرسمي (غير الحكومي)، من أجل الوصول إلى تحول ديمقراطي حقيقي.
أولاً. التغييرات الدستورية والإجرائية الأفريقية
لقد مثلت التحركات التي قامت بها الدول الأفريقية نحو إجراء تغييرات أو تعديلات دستورية مرحلة مهمة من مراحل التطور الدستوري، يمكن تناول بعض جوانبها كالتالي:
1. الرابطة بين الإصلاح السياسي والمراجعة الدستورية
إن بداية التناول لعملية الإصلاح السياسي ترتبط بالمراجعة الدستورية للدستور القائم، وفي هذا الصدد ينبغي الإجابة على التساؤل الآتي: هل الدستور القائم يتوافق ويتواكب مع دوافع وأهداف وقدرات الدولة على تطبيق الإصلاح السياسي؟ ومعنى هذا أن طرح التساؤل السابق يركز من حيث المبدأ على محاولة إضفاء الطابع الدستوري Constitutionalization على عملية الانتقال الإصلاحي، أو الربط بين الإصلاح الدستوري والإصلاح السياسي. ولكن هل يمكن أن يترتب على إجراء تلك العملية أن يتواكب معها بالفعل الإصلاح السياسي؟
وإثارة مثل تلك التساؤلات ليس لمجرد الاطمئنان إلى مدى العلاقة بين العمليتين الدستورية والسياسية، وإنما يتجاوز الأمر ذلك إلى محاولة استكشاف الإمكانات الكامنة في الحلول الدستورية للخروج من نظام سياسي يتسم بقدر من عدم المشروعية القانونية، وعدم الشرعية السياسية إلي نظام سياسي آخر،‏ يرتجى منه أن يكون مشروعاً قانونياً Legality وشرعياً Legitimacy‏ سياسياً،‏ وخصوصا فيما يتعلق بسلطة الحاكمين في ظل النظام السياسي المزمع الخروج منه.‏ وهكذا فإن الهدف الأساس من التعامل مع عملية الإصلاح الدستوري هو تقديم إطار تحليلي لميكانيزمات العملية الدستورية التي تتيح الخروج وتواكبه من سياق غير إصلاحي سلطويAuthoritarian Context‏ إلى نظام إصلاحي سواء بالانتقال نحو الديمقراطية أو بالانتقال نحو المشروعية القانونية/ الشرعية السياسية.
إن إحدي المكاسب التي قد تتحقق من خيار الإصلاح الدستوري تتمثل في التمكن من دراسة تكلفة التغييرات والتعديلات الدستورية في السياقات الانتقالية‏،‏ وكيفية اللجوء إلي حلول متنوعة‏،‏ لتحقيق الانتقالات السياسية والدستورية بأقل كلفة‏،‏ كما هو الأمر في الحالات الأفريقية المختلفة‏.‏ وكيف تجري ترجمة جدلية الإصلاح على المستوي الدستوري في السياقات الانتقالية‏.‏ إن بعض عناصر الإجابة عن هذه التساؤلات يمكن تقديمها من خلال محاولة تحديد قضايا ومشكلات عمليات إعادة البناء والإصلاحات الدستورية أو ما يمكن تسميته بالهندسة الدستورية Constitutional Engineering.
وفي إطار التناول لبعض الجوانب المتعلقة بالتعديلات والتغييرات الدستورية ذات الصلة بالتحولات الديمقراطية في أفريقيا، يمكن التركيز على ما يلي:
أ.‏ القضايا الدستورية في سياق التحول الديمقراطي‏
إن الدستور في أحد معانيه ليس مجرد مجموعة من القواعد القانونية والنصوص الدستورية التي تصمم وتصاغ من أجل استيفاء الجوانب الشكلية لمنظومة النظام السياسي في دولة ما، وإنما يتجاوز الدستور وضعه هذا إلى كونه منهاج العمل والدليل المرشد لإدارة أمور الدولة وتسييرها في مناحي العمل ومجالات التعاون المختلفة.
بمعنى أن الدستور يعد الأيديولوجية الخاصة بكل دولة، والتي تتضمن إطارين رئيسين ومتكاملين، أحدهما فكري ويعني التصورات النظرية حول وضع الدولة داخلياً (سيادة الدولة وسلطتها الوطنية، الإقليم الوطني، المواطَنة)، وإقليمياً (الدولة في محيطها الإقليمي)، ودولياً (الدولة في محيطها الدولي)، وطبيعة العلاقات والتفاعلات الداخلية والخارجية، وطبيعة الأهداف والمصالح التي تسعى الدولة إلى تحقيقها من وراء علاقاتها المتنوعة، والمبادئ ومنظومة القيم التي تحكم سياسات السلطات الحاكمة والمؤسسات العاملة، وأنماط سلوكها وممارستها تجاه الحقوق والحريات والواجبات والالتزامات لأفراد الشعب (فرادى وجماعات)، والكيفية التي يتم بها التوظيف والاستثمار للموارد والقدرات والإمكانات في تلك الدولة وفي الدفاع عنها وحمايتها، والكيفية التي بموجبها، تجري متابعة ومراجعة تقييم أداء مؤسسات الدولة وأجهزتها والعلاقات فيما بينها، ومراقبة الممارسين للسلطة والخاضعين لها ومحاسبتهم، والعلاقة بين الدستور وغيره من القوانين والأعراف المرعية داخل المجتمع، والكيفية التي بموجبها يمكن إحداث تعديلات أو تغييرات دستورية مستقبلية.
أما الإطار الحركي ذا الصلة بالدستور فيتمثل في كيفية تفعيله ووضعه موضع التطبيق والتنفيذ الفعلي، ولذلك تجتهد الأنظمة الحاكمة الرشيدة في إعمال النصوص الدستورية، والسير بمقتضاها، ويعد عدم التزام الأنظمة بذلك خروجاً على دساتيرها، ولذلك تدمغ القرارات والسياسات المتخذة وأنماط السلوك والممارسات والأعمال التي أقدمت عليها بعدم دستوريتها.
‏ب.‏ التغييرات الدستورية في سياق التحول الديمقراطي:
يبدو أن الاهتمام الجديد بالدستورية Constitutionalism والديمقراطية في إعادة صياغة الدساتيرِ وصناعتها في أفريقيا، تزامن مع حالة الرضا والقبول الجماعي للتطورات التي اقترنت بفناءَ التفرقة العنصريةِ في جنوبِ أفريقيا، وانهيار عِدّة أنظمة استبدادية ودكتاتوريات عسكرية في أجزاء أخرى مِنْ أفريقيا (إثيوبيا، الصومال، ليبيريا،…)، ومقدمة الحكمِ الديمقراطيِ أنظمة في العديد مِنْ البلدانِ في أنحاء القارةِ كافة، تَضاءلَ ويَفْسحُ المجال لوجهة نظر واقعية، وأكثر حذراً مِنْ الفرصِ التي يمكن أن تتيحها الديمقراطية، وأيضاً التهديدات التي يمكن أن تترتب على الإخفاق في توظيفها واستثمارها في هذا الجزء من العالمِ؛ لا سيما أن الحركات المناصرة للديمقراطية في أفريقيا تُواصلُ مُوَاجَهَة قيودِ هائلةِ موروثة فَرضتْ عليها مِن الأنظمة الحاكمة الاستبدادية والدكتاتوريات العسكريةِ، وسوء الإدارة الاقتصادية لعقود من السنين، والتضييق على منظمات المجتمع المدني، واتساع فجوة الفراغ السياسي بين النخب والصفوات الحاكمة ومواطنيهم، والتسييس العنيف للتعدديات (العرقيةِ، الإثنية، الدينية، الإقليمية…) الذي أفضى إلى النزاعاتَ والصراعات والحروب الأهلية العَنيفةَ وحالات الإبادة الجماعية بالإضافة إلى العوائق المهمة المتصلة بمشكلات التنمية والنمو والتطوير الاقتصادي عُموماً، كما يقع على كاهل تلك الحركات بث الثقة والمصداقية في الديمقراطية مقدمة للتغيير السياسي، وأيضا تعميق وترسيخ الأهداف والمبادئ والمؤسسات الديمقراطية.
يفترض عند الشروع في وضع دستور جديد أو إحداث تغييرات أو تعديلات على دستور قائم أن تكون هناك هيئة أو جمعية تأسيسية‏،‏ تكون المرجعية الرئيسة في كل ما يتعلق بالتوجهات وبالتحركات ذات الطابع الدستوري، أو أن تهيئ الظروف المناسبة للتعبير عن القبول أو الرفض لمشروع الدستور المقترح عبر الطرق الاستفتائية، أو من خلال مناقشته داخل البرلمانات من جانب ممثلي الشعب بداخله، أو غيرها من الطرق.
إذن فعملية تَصميم القواعدِ القانونية / الدستورية وصناعتها لحُكْم المجتمعِ على درجة كبيرة من الأهمية لضمان الحكم الرشيد والناجح. وما لم يحدث ذلك بطريقة تشاركيةُ وشاملةُ Participatory and Inclusive Constitution Making (أقاليم، ومنظمات، وأفراد، ومجموعات، وجماعات)، ويترتب عليها سياسات ومؤسسات تتسم بالطابع الديمقراطي Institutionalization of Democracy تنظيماً وسلوكاً، مع تأَكّيدْ حقوقَ الأفراد والحد من السلطاتَ الحكوميةَ، ويكون هناك التزام وضمان احترام الفصل بين السلطات، والانتخابات الدورية (العادلة والتنافسية)، وحكم القانون، واستقلال سلطةِ القضائية، والحقّ في الملكيةِ الخاصّةِ. فإن تلك المساعي والجهود التي ستبذل في هذا المجال سَتخفقُ في إنْتاج القواعدِ القانونية/ الدستورية الضرورية ذات العلاقة بحياةِ الشعوب، وستظل تلك الشعوب تنظر لمثل هذه القوانينِ والدساتير والمؤسساتِ الناتجة عنها تحقيقاً لمطالب أجنبية صمّمَت لاستغلالهم وتَهميشهم.
ثانياً: التغييرات الدستورية الأفريقية
على الرغم من الطابع الخاص لكل سياق انتقالي داخل كل دولة أفريقية والذي يمكن أن تؤدي إلى اكتشاف مجموعة من الأهداف والمصالح التي يعلقها الفاعلون السياسيون على صياغة القواعد الدستورية‏ وتعديلها،‏ فإن جانباً من هذا يرتبط بالعقلانية القانونية ‏Legal Rationalization‏ بمعنى إضفاء الرشد القانوني على العديد من القوانين، وعلى رأسها دستور الدولة، وفي هذا الصدد قد تتخذ الدول أشكالا مختلفة حسب طبيعة السياق السابق على الانتقال نحو الإصلاح السياسي؛ ففي سياق سلطوي حديث مثلاً يتخذ هذا الوضع شكل تقليص مساحة الاستبداد ‏Arbitrary‏ المرتبط بالقيادة الفردية‏،‏ وبشخصنة السلطة‏،‏ وبضعف التمايز بين المؤسسات والحاكمين‏،‏ وبالأشكال المختلفة من الميراثية ‏Patrimanialism‏ والرئاسية‏،‏ كما في حالة الكونغو الديمقراطية على سبيل المثال‏.‏ وقد تتخذ العقلانية القانونية الشكل المتمثل في فك الارتباط بين الحزب والحد والدولة‏،‏ وتحسين القدرات للنظام السياسي‏،‏ وتندرج حالات مثل تنزانيا والسنغال وكينيا وإثيوبيا في هذا الإطار‏.
ومن ثم فإن منطق الهندسة الدستورية المواكبة للانتقالات الديمقراطية مبني على إعادة ترسيم التوازنات التي يتوصل إليها في السياق الانتقالي والتقليص من حالة عدم اليقين‏’Uncertainty‏ الذي يرافقه‏،‏ على ضوء ذلك يمكن فهم القرار الواعي للنخب أطراف الانتقال بالاتفاق حول قواعد دنيا‏،‏ وإضفاء الدستورية على عملية التحولات بحسبانها جزءاً من مرحلة التثبيت ‏Consolidation Phase‏ التي تتسم بتعلم قواعد العمل السياسي وتمثلها وقبولها في إطار نظام دستوري إصلاحي/ ديمقراطي‏.
ويمكن الإشارة إلى تجارب بعض الدول الأفريقية سواء فيما يتعلق بالتغييرات أو بالتعديلات الدستورية المواكبة لعملية التحولات الديمقراطية كالتالي
1. التغييرات والتعديلات الدستورية في كينيا
تعد كينيا واحدة من الدول التي أدخلت العديد من التغييرات والتعديلات على دستور الاستقلال، ففي 12 ديسمبر 1964، كان استصدار ما يعرف بالدستور الجمهوري وكان أكثر اختصارا عن سابقه، ولم يلبث أن عُدِّل هذا الدستور، في ديسمبر 1966، وبموجب التعديل دُمج المجلسان، مجلس النواب ومجلس الشيوخ في مجلس واحد، وهو الجمعية الوطنية. وفي إبريل 1969، اتخذت الجمعية الوطنية قرارا بتعديل 128 قسما من الدستور وتضمين نصوص جديدة عديدة، وأن كانت التغيرات التي حدثت لم تكن على درجة من الأهمية، وظل هذا الدستور معمولا به حتى عام 1979، وقد شهدت أعوام 1983، و1986 و1988، و1991 استصدار دساتير جديدة، كما شهد عام 1992 استصدار دستور جديد للبلاد في محاولة لإضفاء قدر من الإصلاحات السياسية على البلاد وفي عام 1997 استصدر دستور آخر. وفي عام 1998 صدر الدستور المعمول به حتى الوقت الحاضر.
لقد كان التغيير الذي طرأ على دستور كينيا لعام 1991 ليس فقطممهّداً الطريق لبداية الأخذ بنظام رسمي انتخابييقوم على تعدّد الأحزاب في عام 1992، لَكنَّه وَضعَ الأساس أيضاً لعملية إصلاح دستوري شاملةِA Comprehensive Constitutional Reform Processففي الوقت الذي لم يكن في كينيا قبل هذا التغيير سوى حزب سياسي واحدفقط وهو إتحاد كينيا الأفريقي الوطني (كانوThe Kenya African National Union (KANU)ومع التطبيق لنظام التعددية الحزبية في عام 1992، كان هناك أكثر مِنْ ثمانية أحزاب سياسية قَدْ سُجّلتْ رسمياً لخوض الانتخابات التنافسية، وقد تزايد العددِ إلى 27 حزباً في عام 1997.
إن الدستور الصادر في عام 1998 يتشابه إلى حد كبير مع دستور عام 1992، سواء من حيث الشكل أو المضمون فكلاهما مقسم إلى أحد عشر فصلاً، وكلاهما يتكون من مائة وسبعة وعشرين مادة، وكلاهما يركز على وضع الدولة أنها جمهورية ذات سيادة، وعلى السلطة التنفيذية، وعلى البرلمان، وعلى القضاء، وعلى المواطن، وعلى الحقوق والحريات للأفراد، وعلى ميزانية الدولة والخدمة المدنية والأراضي والعموميات، وعلى المرحلة الانتقالية.
2. التغييرات والتعديلات الدستورية في ليبريا
إن التعديلات الدستورية كانت على رأس أولويات العمل السياسي، في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، كما كانت خطوة لعودة الشرعية الدستورية إلى ليبيريا، لاسيما أن هناك العديد من المقدمات والمعطيات التي تشاهد في الوقت الراهن، وتعزز من الاقتناع بصحة هذا التوجه وسلامته، والذي إن نجح سيمثل سابقة محمودة في مجالات إيجاد تسويات سلمية وعملية للحروب والصراعات والنزاعات وفي مجالات بناء السلام، وإعادة البناء للعديد من الدول المتضررة بتلك الحروب والصراعات والنزاعات في القارة الأفريقية.
لقد استقر الرأي عند القوى الوطنية الليبيرية المختلفة على ضرورة الإبقاء على الدستور الوطني الصادر في عام1986. وتجدر الإشارة إلى أن ليبريا كانت قد استبدلت دستور 1986 بدستورها الصادر في عام 1847، والذي علّق العمل بموجبه في 12 أبريل 1980، بعد الانقلاب الذي أطاح بنظام الحكم الذي كان يرأسه في ذلك الحين وليام تولبرت Tolbert. وبدأ العمل في الإعداد لدستور جديد في 12 أبريل1981. وأكملت لجنة الدستور الوطنية عملها في ديسمبر 1982، وقدّمت مسوّدة الدستور في مارس 1983؛ وبعد ذلك، طرحت مسوّدة الدستور للنقاش العامّ، ثم شكلت لجنة استشارية دستورية عدد أعضائها 59 لمراجعة مسوّدة الدستور، وأكملت اللجنة عملها في 19 أكتوبر1983.
وفي 3 يوليه 1984، طرح الدستور الجديد للاستفتاء الوطني العام، وكان التصدّيق عليه في6 يناير 1986، ودخل حيّز التنفيذ منذ ذلك التاريخ.
وإذا كان هذا الدستور ليس وليد المرحلة الراهنة إذ إنه صدر عام 1986، فإنه ليس هناك ما يمنع من الالتزام به من جانب أية حكومة تأتي إلى حكم البلاد، طالما كان صالحاً لذلك، ثم إن المرونة التي تتمتع بها الكثير من الدساتير في الوقت الراهن تجعل هناك إمكاناً لإدخال أية تعديلات ترى الحكومات أنها ضرورية كل في حينها. ومعنى هذا أن النظام الحاكم الذي سيتولى الحكم في ليبيريا يدعمه دستور جرى العمل بموجبه من قبل، وهو الأمر الذي يساعد في سرعة العودة للشرعية الدستورية.
3. التغييرات والتعديلات الدستورية في أوغندا
أما عن الدستور الأوغندي المعمول به في الدولة، فالجدير بالذكر أنه سبق للحكومة والبرلمان الاتفاق على تشكيل لجنة خبراء لمراجعة الدستور، وتقديم توصيات بشأن تعديله، وخلال عام 2005، أعلنت اللجنة تقريرها، وقدمت توصيات خاصة بالفترة الانتقالية التي يجري فيها التعديل، وتسبق الموعد المقرر لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي كان مقرراً انعقادها في مارس 2006. وفي 21 سبتمبر 2005، أعلن وزير العدل والشؤون الدستورية رأي الحكومة في بيان أوضح فيه اتفاق الحكومة مع التوصيات بعامة، وأن الاختلاف يتركز حول موضوعين أساسيين أولهما إجراءات النص على التحول لمرحلة الحزبية التنافسية الكاملة في إطار ديمقراطي. وثانيهما يتعلق بإجراءات تعديل النص الخاص بمدد ولاية رئيس الجمهورية التي ينص عليها الدستور الحالي بفترتين متتاليتين فقط، والمقترح المطروح هو تعديلها إلى مدد متتالية بدون قيد زمني.
وكانت توصيات لجنة مراجعة الدستور تشير إلى أن الاستفتاء العام هو الأداة الدستورية للحصول على الموافقة الشعبية بشأن إقرار التحول الديمقراطي للحزبية التنافسية الكاملة، وإقرار تعديل النص الدستوري الخاص بمدد ولاية رئيس الجمهورية، ولكن الحكومة أعلنت أن أغلبية الثلثين في البرلمان الأوغندي كافية لإقرار تعديل مدد ولاية الرئيس، وأن الاستفتاء الشعبي هو وسيلة إقرار الحياة الحزبية التنافسية على أن تحتفظ الحكومة بحق صياغة سؤال الاستفتاء وتحديد موعده، وأنها لن تفصح عن الصيغة التي ستطرحها في الاستفتاء. وهذا النقاش العام أثار ضجة كبرى بين الأحزاب على جانبي الحكومة والمعارضة، كما أنه استدعى الدول المانحة لإبداء رأيها علانية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وأيضا أبدى عدد من المستثمرين الرأي، وفي مقدمتهم المؤسسات المالية الدولية، ويجمع الأطراف الخارجية على ضرورة إقرار الحياة الحزبية الكاملة والتحول الديمقراطي الكامل، وعدم تعديل النص الخاص بمدد ولاية رئيس الجمهورية والاكتفاء بمدتين متتاليتين فقط، كما هو منصوص عليه، وموقف الأطراف الأجنبية هو موقف قوي، فالدول المانحة تدفع نقدا نصف ميزانية أوغندا السنوية، وهي تهدد بإنقاص أو إبطاء سداد المعونات المقدمة من الخارج، كما أنها تتحدث عن الفساد وسوء توزيع الميزانية.
وعلى مستوى المؤيدين للرئيس يوري موسيفيني تصاعدت المظاهرات التي خرجت يوم 31 مارس 2005 بالعاصمة كمبالا للمطالبة بتعديل الدستور لإلغاء القيود المفروضة على عدد فترات الرئاسة؛ للسماحببقاء يوري موسيفيني في السلطة، بدلا من تنحيه في مارس 2006 وفق ما ينص عليه دستورالبلاد. ومن ثم فإن السلطة التنفيذية في أوغندا تواجه واحدا من أهم التحديات الصعبة، وتتمثل في مطالبتها بضرورة إجراء تعديل دستوري يتيح لرئيس الجمهورية التقدم للترشيح لأي عدد من المدد الرئاسية، في حين أن المطالبات الشعبية / الوطنية والدولية تعارض أي تعديل في هذا الشأن، بمعنى الإبقاء على أن لا تزيد فرصة الرئيس للترشيح لإعادة انتخابه عن مدتين اثنتين فقط، وترى أن التعديل الواجب إجراؤه يكون في اتجاه التحول الديمقراطي، والسماح بالتعددية الحزبية والسياسية والانتخابات التنافسية.
4. التغييرات والتعديلات الدستورية في إثيوبيا
إن التحول الديمقراطي الذي جرى الإعداد له، ومحاولة وضعه موضع التنفيذ في إثيوبيا، قد بدأ مع الجهود الأولى لوضع ميثاق الفترة الانتقالية في أعقاب الإطاحة بالنظام الماركسي السابق وبالتحديد منذ نهاية شهر مايو عام 1991، وقد توالي تنفيذ التصور المتفق عليه بشأن مستقبل إثيوبيا على الرغم من المشكلات الداخلية والإقليمية المتنوعة، وحظي هذا التصور وتنفيذه بدعم الدول المانحة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، ففي ميدان الاستقرار الداخلي وبناء نظام الحكم الفيدرالي ظل الشعار المعلن هو التحول الديمقراطي، وجرى إعداد مشروع الدستور الفيدرالي استعدادا للانتخابات البرلمانية والرئاسية في عام 1993، كما أجريت الانتخابات وشكلت الحكومات الإقليمية في أقاليم الدولة الأربعة عشر.
وفي ديسمبر 1993، أعلنت الحكومة عن تصورها للمرحلة الأخيرة من هذه المسيرة، بإعداد مشروع الدستور الدائم، وتحديد النصف الثاني من شهر مايو 1994، موعدا لانتخابات أعضاء الجمعية التأسيسية التي ستناقش المشروع، وتصدر الدستور، على أن يعقب هذا إجراء الانتخابات لاختيار أعضاء البرلمان الاتحادي قبل عام 1994.
كان التصديق على الدستور الدائم للدولة الإثيوبية، في 8 ديسمبر 1994، وخرج إلي حيز النفاذ والعمل بموجبه خلال عام 1995، وتضمنت ديباجته الإشارة إلي التزام الأمم والقوميات والشعوب الإثيوبية بالممارسة الكاملة والحرة لحقهم في تقرير المصير وبناء مجتمع سياسي يقوم على حكم القانون، وقادر على ضمان السلام الدائم ونظام ديمقراطي وتقدم اقتصادي وتنمية اجتماعية، وأنه من أجل تحقيق هذا الهدف فإنه ينبغي الاحترام الكامل للحريات الأساسية للأفراد والشعوب، وحقوق الحياة معا على أسس من المساواة وبدون أي تمييز ديني أو ثقافي… وغير ذلك.
ثالثاً. التعددية السياسية في أفريقيا
يرى المدافعون عن التعددية السياسية في الدول الليبرالية التقليدية، أن أهم ما يمكن أن يسم الأنظمة السياسية في الدول المعاصرة هو وجود تلك التعددية، والتي تتجسد أساساً في وجود الأنظمة الحزبية سواء كانت ثنائية أو متعددة، وأن هذه التعددية السياسية/ الحزبية هي التي تعطي الفعالية/ الدينامية للنظام السياسي وعلى مستوى مؤسساته المختلفة، حيث أنها تكون قادرة على إحداث توازن ولو نسبي مع الأنظمة الحاكمة، من خلال كونها أداة تأثير واحتجاج على أنماط لسلوكها، فضلاً عن كونها جماعة مصلحة وضغط، تسعى للوصول إلى السلطة. وفي إطار التناول لهذا الموضوع ستكون الإشارة إلى بعض الجوانب ذات الصلة كالتالي:
1. ظاهرة التعددية الحزبية
أ. الجدلية بين الديمقراطية غير الحزبية والتعددية الحزبية في أفريقيا
يُعد الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني واحداً من المدافعين عن فكرة “الديمقراطية غير الحزبية”. بدعوى أنّ النظام الذي تتبناه حركة المقاومة الوطنية National Resistance Movement (NRM) التي يقودها وتسير وفقاً له، هو نظام يَضْمنَ التطبيق الفعلي للدّيمقراطية ويضمن تَجَنُّبَ المخاطرِ المُدرَكةِ من وراء التعددية الحزبية/ السياسية Multiparty. وهذا النّظامِ علاوة على ذلك يضمن تحقيق الأهدافِ الأخرى المتعلقةِ بالحِفاظِ على والاَرتْقِاء بالوحدةِ الوطنيةِ وبالاستقرار الوطني؛ وذلك بتصنيفها حركة صافية الفكر وذات أهدافِ محددة وواضحةِ، وتضم في عضويتها العناصر والكوادر الجيدةِ“Clear-Headed Movement with Clear Objectives and Good Membership.”، فهي من ثَمّ البديل المناسب للتنظيمات والأحزاب السياسية، القادرة على إدارة الدولة وقيادتها، وذلك بمنأى عن النزاعات والصراعات التي تتسبب قيها مثل تلك التنظيمات، سواء فيما بينها وبين النظام الحاكم، أو فيما بينها وبين بعضها البعض، أو حتى فيما بين أعضائها والمنتسبين والموالين داخل كل منها، وهو الأمر الذي تنعكس تأثيراته السالبة على بقاء الأمة ووحدتها وتماسككها لاسيما في ظل وجود مجتمعات تعاني أساساً من التعدديات المختلفة (العرقية والإثنية والإقليمية والقبلية وغيرها)، وأن هذه التنظيمات والأحزاب ستتأسس وفقاً لتلك التعدديات، وستكون انتماءاتها وولاءاتها لها.
ويرى البعض أن الديمقراطيةِ الحزبِية تَتطلّبُ وجود مجتمعَ مدنيَ، قَدْ وَصلَ إلى مرحلة سياسيةِ من التَّطَوّر والنضج، بحيث يكون قادراً على أداء دور مستقل، ولا تَخْدعُ تنظيماته ومؤسساته بالوعود العقيمة من قِبل السّياسيين، وأن تتمتع تلك التنظيمات والمؤسسات بالقدرة على الانضَباطَ، وأن لا تَلْجأُ إِلى العنفِ، أو إلى أي طرق أخرِى لا تؤدي إِلى السّلامِ أو الانسجام Peace or Harmony داخل النظام السياسي.
ب.التعددية الحزبية كبديل للأحادية الحزبية
تعد كثرة الأحزاب السياسية وتكتلها واحدة من مثالب النظم السلطوية في أفريقيا. فالحزب السياسي بطبيعة الحال يضم مجموعة من الأفراد في إطار المنافسة السياسية على الموارد في المجتمع في النظم السياسية الديمقراطية، عندما تجرى انتخابات، يشكل الحزب الفائز الحكومة، فيصبح من حقه استخدام قوة الدولة سلطوياً لتخصيص الموارد على نحو يحقق مصالح المواطنين في الدولة. ويرى البعض إن الحزب السياسي هو وليد المجتمع الحديث والنظم السياسية المحدثة، وليس فقط المجتمعات الديمقراطية. أي منظمة يطلق عليها اسم “حزب سياسي”، سواء كان في مجتمع حر أو في إطار حكم شمولي، يصبح من مهامه أن ينظم الرأي العام، ويعكس مطالب الشعب لمركز السلطة والقرار السياسي في الحكومة.
فالحزب ينقل إلى أتباعه سياسة الحزب وأهدافه وضروب المصالح التي من المفترض أن يسعى لتحقيقها في حالة حصوله على السلطة. ولكن، لكي يصل الحزب إلى السلطة عن طريق الانتخابات في مجتمع ديمقراطي، لابد له من الحصول على أغلبية أصوات المجمع الانتخابي.
وطبقاً للقيادات الجديدة من أمثال يوري موسيفيني وميليس زيناوي وأسياس أفورقي ،فإن الأحزابِ السياسية فاسدةُ فساداً كبيراً Preeminent ويتضح ذلك على مستويين:
الأول: أن الأصوات في الانتخابات التنافسية الحزبية، يُمكنُ أَنْ تُشتَري، وقد دأبت الأحزاب في العديد من الدول على فعل ذلك كثيراً.
الثاني: أن رغبةُ الأحزاب وحرصها على شراء أصوات الناخبين، يرجع أساساً إلى أن العديد من الأحزابِ لا تتأسس على قواعد ونظم عمل ومبادئُ قويّة وسليمة، ومن ثم فهي تفتقد البرامج والأهداف الواضحة والمحددة التي يمكن أن تفيد بها حتى الأعضاء المؤسسين والمنتمين إليها، ونتيجةً لذلك، فإن هذه الأحزاب تَفْقدُ شرعيتها، ولا تكون في واقع الأمر ممثلة ولا معبرة عن قطاع أو قاعدة شعبية محددة في المجتمع، وتسمح لنفسها بالدخول في مساومات وتحالفات مشروعة وغير مشروعة من أجل البقاء، وهو ما يترتب عليه حدوث نوع من الفوضى في الممارسة السياسية، وهو يَقُودُ تبعاً لذلك إِلى عدم الاستقرار الحكومي بخاصة وعدم الاستقرار السياسي بعامة.
2. فعالية الأحزاب السياسية
لقد أصبحت الأحزاب السياسية المنشأة حديثاً – مثلها كمثل نظرائها من الأحزاب الوطنية الأخرى – عبارة عن حركات جماعية في شكل تكتلات تتسم بضعف التنظيم، وقصر التوجه والفراغ الأيديولوجي. يضاف إلى ذلك، سيطرة النخبة على هذه الأحزاب، والتدرجية في كسب المؤيدين، والاعتماد الكبير على الحضر قاعدة لهم، من دون اعتماد برامج وسياسات متقنة توضح مشروعاتهم في حال الوصول للسلطة. وعند حصولهم على السلطة – كما حدث في بنين تحت حكم سوجلو، وفى زامبيا تحت حكم شيلوبا، وفى ملاوي تحت حكم مولوزى – تقبلوا الهيكل التنظيمي للدولة كما هو، وواصلوا تنفيذ سياسات من سبقوهم، هذا فضلاً عن اتباعهم لبرامج التكيف الهيكلي التي يعرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، دون طرح نماذج خاصة بهم لتحقيق النمو الاقتصادي. وفى مواجهة الضغوط والتحديات التي تعرضوا لها من قبل الناخبين، لجؤوا إلى تكتيكات تذكر بالحكم السلطوي الذي طالما ادعوا بأنهم قضوا عليه وحلوا محله.
وفى كينيا، حيث حصلت أحزاب المعارضة على غالبية الأصوات، وفشلت في تشكيل حكومة بفعل العقبات الدستورية والانقسامات الحادثة في صفوف المعارضة ذاتها، أخذ المجال السياسي في الانكماش لصالح الحزب الحاكم. كما استمر الحزب الحاكم في استخدام السلطة القمعية للدولة لإبعاد عملية التحول الديمقراطي، رافضاً إصلاح القوانين التي من شأنها توسعة المجال السياسي. ولذلك، حتى عندما كان البرلمان يجيز بعض القوانين التي من شأنها كشف مساوئ التسلط، كان لدى الرئيس صلاحية تأجيل تنفيذ هذه القوانين. وفى هذا الإطار، بدت كينيا وكأنها في مرحلة انتقالية طويلة من النظام المتسلط في ظل نظام التعددية الحزبية إلى شكل من أشكال الديمقراطية لم تتضح طبيعته ولا حدوده بعد.
رابعاً: الانتخابات الدورية التنافسية في أفريقيا
إن تجربة الانتخابات في أفريقيا هي تجربة جديرة بالاهتمام والمتابعة، وإذا كان هذا الموضوع أكبر بكثير من مجرد تناوله في دراسة محدودة كهذه، نظرا لتعدد موضوعاته وتشعب قضاياه والزوايا المختلفة التي يمكن تناوله من خلالها. لذلك فسوف يجري التركيز على بعض الجوانب ذات الصلة، والتي تحيط بالظاهرة الانتخابية في أفريقيا وما يتعلق منها بالانتخابات الرئاسية خاصة، نظراً للطبيعة المهمة والمحورية لهذه الانتخابات في القارة الأفريقية. وسيكون تناول تلك المسألة كالتالي:
1. الظاهرة الانتخابية في أفريقيا
أ. جذور الظاهرة الانتخابية في أفريقيا
تعد الانتخابات بصورتها المعاصرة في أفريقيا مجرد تقليد موروث عن الاستعمار، أو هو تقليد وافد على القارة الأفريقية، سواء كان ذلك خلال الحقبة الاستعمارية، أو فيما بعد الاستقلال، حيث إن النظم السياسية الأفريقية في مرحلة ما قبل الاستعمار لم تكن تعتمد على الانتخابات بالشكل المتعارف عليه حالياً من حيث عمليات التصويت وفكرة الأغلبية والأقلية وغيرها، وإنما كانت لدى تلك النظم تصورات وآليات وممارسات ذات طابع ديمقراطي خاص بها وتستعين به في عمليات التجنيد السياسي وفي الممارسة السياسية، و كانت تتسم بأنها يتأكد بداخلها قيم الحوار والتوافق والجماعية السياسية، وليس التركيز على الفردية والانقسام وفكرة الأغلبية، كما هو الحال في الديمقراطية الغربية.
ولذلك يمكن الإشارة إلى أن الظاهرة الانتخابية في أفريقيا ترجع أصولها التاريخية إلى أوائل القرن العشرين، وعلى سبيل المثال فقد أدخل المبدأ الانتخابي إلى نيجيريا عام 1912، مع صدور دستور كليفوردClifford Constitution. وفي الغالب فقد استغلتها القوى الاستعمارية لإضفاء الشرعية على وجودها الاستعماري في المستعمرات الأفريقية من ناحية، كما أن العملية الانتخابية كانت تقوم بوظيفة انتقائية بموجبها يجري اختيار أو الإبقاء على أكثر العناصر انتماء وولاء للقوى الاستعمارية، وهو الأمر الذي كانت له انعكاسات على عملية الانتخابات فيما بعد الاستعمار، تتمثل على سبيل المثال في سياسات عدم المشاركة السياسية وضيق نطاق التنافس الانتخابي، وشيوع منطق الأبوية الجديدة Neopatrimonialism الذي يجري في إطاره توزيع مغانم السلطة والثروة في الدولة على أساس أنها تعمل ركيزة للتراكم الرأسمالي والسيطرة الاجتماعية.
ب. الظاهرة الانتخابية في أفريقيا بعد الاستقلال
يشير البعض إلى إجراء العديد من الانتخابات في ظل عمليات التحول الديمقراطي التي بدأت كثير من الدول الأفريقية في الأخذ بها منذ انتهاء الحرب الباردة، وكذلك انتهاء الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الشرقي والغربي لصالح الأخير، ويدللون على ذلك بأن أكثر من 100 انتخاب قد أجريت بالفعل خلال الفترة ما بين عامي 1989 و1994، وأن مثل تلك الانتخابات جرت في بَعْض البلدانِ للمرة الأولى منذ الاستقلال. وأن هذا يعد أمراً على درجة من الأهمية لتفَهْم ديناميكا الحراك السياسي، الذي بدأت الدول الأفريقية تتأثر به منذ تحولها نحو الأخذ بالتحولات الديمقراطية، بالمقارنة بحقبة شيوع الحزب الواحد في ظل الأنظمة الاستبدادية، والتي اتسمت بقدر ضئيل ومحدود من الفاعلية في الحياة السياسية في تلك الدول.
إن طبيعة الانتخابات في مرحلة ما بعد الاستعمار في أفريقيا، تميل نحو الأنموذج غير التنافسي الخاضع لتنظيم الدولة، ففي العديد من الدول الأفريقية مثل توجو وبنين وسيراليون وكينيا وزامبيا وأنجولا والسودان والتي أخذت بنظام الحزب الواحد، كانت الانتخابات تجرى لإضفاء الشرعية على النظم الحاكمة، كما أنه في دول مثل جامبيا وبتسوانا وموريتانيا وزيمبابوي والسنغال فقد ظل نظام الحزب الواحد هو المسيطر على الواقع السياسي في تلك الدول ولسنوات طويلة، وقد شهدت دول أخرى مثل نيجيريا عام 1979، وغانا عامي 1969، 1979، وأوغندا عام 1980 انتخابات تنافسية وقائمة على التعددية الحزبية، وعلى الرغم من كون الانتخابات كانت تجرى على أساس التعددية الحزبية وبطريقة دورية وتنافسية، ولكن لا ينتج عنها أي تغيير يذكر فيما يتعلق بالقيادة والإدارة والنظام، وذلك يرجع للعديد من الأسباب ومنها
(1) الطبيعة الجامدة للنظم الحاكمة ذات الطابع الاستبدادي، حيث أنها لا تعد وسيطا أو فاعلاً اجتماعيا محايدا، وإنما تقوم بانتهاك القواعد، كما تقمع القوى السياسية المناوئة خلال العمليات الانتخابية، ودأبت على التلاعب والتحكم بنتائج الانتخابات.
(2) ظروف البيئة السياسية الدولية: فسياسات الحرب الباردة لم تشدد على مسألة الانتخابات الحقيقية والديمقراطية الأصيلة، وإنما كانت تعطي الأولوية للبحث عن الحلفاء السياسيين في إطار صراع القوة الأيديولوجية، ولذلك كان القادة الأفارقة يتلقون الدعم من المعسكر الشرقي ومن المعسكر الغربي على السواء، كما كانوا يقمعون الثورات السياسية من أجل الانتخابات التعددية بقسوة وبدعم من القوتين العظميين
وتبعاً لما سبق يمكن عد تلك الانتخابات التي كانت تجرى في العديد من الدول الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال وحتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي ذات طابع تعددي قسري، باستثناء موريشيوس التي شهدت تداولاً للسلطة من خلال الانتخابات التنافسية الحزبية. ومنذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي يلاحظ وجود اتجاه عام نحو السياسات التعددية والتنافس الانتخابي القائم على التعدد الحزبي، وبحلول عام 1997 كانت حوالي ثلاثة أرباع الدول الأفريقية خاضعة للحكم الديمقراطي وفقا لمنطق الانتخابات الدورية، وان كان معظمها مشكوكا في محتواها ومضمونها.
2حالات دراسية للانتخابات في أفريقيا جنوب الصحراء
أ. الانتخابات في ليبيريا
معظم المقدمات والمعطيات كانت تشير إلى أنّ انتخابات ليبريا الرئاسية والتشريعية التي جرت في أكتوبر 2005، من يمكن أن تكون شفافة وعادلة ونزيهة. Transparent & Fair وأن تسمح هذه الانتخابات بالخروج بإستراتيجية يسهل تطبّيقها، ويترتب على ذلك استعادة الأمن والاستقرار وعودة الشرعية الدستورية وعمليات إعادة البناء، وأن يرى الممثلون الدوليون سواء من جانب قوات حفظ السلام المدعومة من الأمم المتحدة، أو من جانب الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا وهم يتركون البلاد خلال عام 2006، بعد إنقاذ ليبريا من استمرار الانهيار الذي ظل يتهددها لسنوات عديدة. إذن ينظر إلى الانتخابات في ليبيريا بحسبانها مقدمة لعملية إعادة بناء طويلة، تتوقف في وضعها موضع التنفيذ الفعلي ونجاحها على مدى ما تتمتع به النخبة الحاكمة القادمة من شرعية سياسية، ومن مدى نجاحها في الإدارة السليمة لاقتصاديات البلاد، وعلى الشركاء الدوليين أن يسهموا في هذا الشأن بإتاحة بيئة أمنة مستمرة ومحققة.
إن التحضير للانتخابات هو خطوة على الطريق الصحيح، وتتطلّب اهتماماً مستمرا وجدّياً. كما أنه من الضروري عودة اللاجئين والأشخاص المشردين داخلياً إلى أوطانهم، وكذلك فإن من الأهمية التعامل الحازم والجاد مع قضايا الحكم والإدارة الاقتصادية والفساد وغيرها من القضايا والمشكلات التي تشغل بال كلّ شخص تقريبا في البلاد، وذلك وفقا لنتائج التحقيقات التي أجريت من قبل إيكواس ECOWAS والمفوضية الأوربية. وجرى اقتراحها وتداولها في المراحل النهائية للمفاوضات مع الحكومة الانتقالية.
ومن المهم الإشارة إلى أن العناصر الرئيسة الثلاثة الضرورية التي ساعدت على دفع ليبريا إلى الأمام في الأجل القصير والمتوسط تتمثل في الانتخابات النظيفة Clean Elections، والارتباط الدولي في الإشراف على تجميع الإيرادات والحكم الاقتصادي  Economic Governanceعموماً، وتعزيز الأمن Maintenance Of Security، وهناك عدّة قضايا مهمة سيكون من الضروري التعامل معها في الأجل الطويل. ومن بينها المواطنة Citizenship، إعادة الاندماج للمقاتلين السابقين Reintegration Of Ex-Combatants، لا مركزية الحكومة Decentralization Of Government، الإصلاح القضائي Judicial Reform، والإصلاح الدستوري Constitutional Reform أيضا من المحتمل استهداف التقليل من سيطرة السلطة التنفيذية Lessening Executive Power،وهذه القضايا يجب أن يتعامل معها بجدية، وبأسرع ما يمكن من جانب الحكومة المنتخبة.
ويمكنها أن تدعو لمؤتمر وطني شامل لمناقشة مثل تلك القضايا ولتقرير الأولويات بين هذه وغيرها، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار دعم الرأي العام لتلك القضايا، ولأي عملية من جانب الحكومة للتغيير. كما أن الحضور الدولي على درجة كبيرة من الأهمية، وخصوصاً في تلك المرحلة المهمة من مراحل التحول في ليبيريا.
ب. الانتخابات الأوغندية
لقد أصبحت مسألة فتح الفضاء السياسي، والسماح بعودة الأحزاب السياسية لممارسة نشاطها التقليدي من المسائل الخلافية والمثيرة للجدل في أوغندا. وقد نظم دستور 1995 هذه المسألة حيث تناولت المادة 74الإجراءاتالواجب إتباعهاللعودة إلى نظام التعددية الحزبية، على أن يجري ذلك من خلالاستفتاء شعبيأو انتخابات عامة، وهذا يعني عدم الانتقائية في تطبيق مواد الدستور، بمعني أناختيارالديمقراطية على أساس التعددية الحزبيةيجبأن يكون وفقاً للقواعد الدستورية القائمة، وهو ما يعني أن فتح الفضاء السياسي يجب أن يخضع لاستفتاء شعبي عام كما نص الدستور أي بعد خمس سنوات من اعتماد الدستور القائم عام 1995.وعلى هذا الأساس أجري الاستفتاء العام الأول في 29 يونيه 2000، حول النظام السياسي الذي يجب أن يحكم البلاد، وكان سؤال الاستفتاء: هو “أي نظام ترغب في أن يتم العمل به في أوغندا نظام الحركة (حركة المقاومة الوطنية) أم التعددية الحزبية؟”، وكانت نتيجة الاستفتاء أنه من بين 51.1% من إجمالي جمهور الناخبين الذين شاركوا بأصواتهم في الاستفتاء فإن 90.7% منهم صوتوا لصالح الاستمرار بنظام الحركة.
والجدير بالذكر أن موسيفيني الذي وصل إلى السلطة عام 1986، انتخب رئيسا للبلاد منذإقرار الدستور عام 1995 في انتخابات عامي 1996 و2001. وقررت أوغندا إجراء استفتاء شعبي في يونيه 2005 على عودة التعددية إلىالبلاد بعد تعليق العمل بها إثر تسلم موسيفيني مقاليد السلطة. وتسلم البرلمانالأوغندي وثيقة رسمية من الحكومة لتنظيم استفتاء بشأن عودة التعددية، يعقبها إجراءانتخابات عامة تجرى ما بين 12 فبراير إلى 12 مارس من عام 2006. كما تسلم البرلمان في 15 فبراير 2005 مقترحات بتعديل الدستور للعودة بنظامتعدد الأحزاب، والسماح لموسيفيني بالترشح لولاية رئاسية جديدة. وكان موسيفيني قد حظر على الأحزاب السياسية ممارسة حقها بعد وصوله للسلطة عام 1986، محملاً إياها مسؤوليةالاضطرابات التي وقعت في البلاد منذ استقلالها عام 1962.
وقد تزايدت المخاوف من حدوث اضطرابات سياسية في الوقت الذي اقتربت فيهأوغندا من أول انتخابات تعددية منذ عام 1986، والتي كان محددا لها أن تجرى في مارس 2006، وعند موعد تنحيموسيفيني عن الحكم، غير أنه لم يكن واضحاً في ذلك الحين ما إذا كان الرئيس الأوغندي سيقدم علىهذه الخطوة؛ حيث يلزم الدستور الأوغندية موسيفيني بالتنحي عن كرسي الرئاسة بحلول الانتخاباتالتي ستجرى عام 2006، إلا أن الكثير من مؤيديه طالبوا بتعديل الدستور لإلغاءالقيود المفروضة على عدد فترات الرئاسة التي يتولاها الرئيس، حتى يبقى في السلطة. وفي حين لم يوضح موسيفيني ما إذا كان سيقبل فترة رئاسة ثالثة أو لا فإن التزامه الصمت، وعدم وجود أي خليفة محتمل له، دفعا المعارضة إلى فهم أنه يسعى إلى أنيصبح رئيسا للبلاد مدى الحياة.
3. تقييم ظاهرة الانتخابات في أفريقيا
على الرغم من أن التعددية الحزبية والانتخابات التنافسية أصبحت القاعدة أو المبدأ العام في أفريقيا، فإنه من الضروري التمييز بين أشكال الظاهرة ومضامينها، ففي معظم الدول الأفريقية تشير التطورات الأخيرة إلى أن الانتخابات تبدو مجرد مناورة من جانب النظم الحاكمة، نظرا لما تنطوي عليه من مضامين اقتصادية تتمثل في تدفقات المعونات والمساعدات الاقتصادية، ويرجع ذلك إلى دورها في دعم وتحسين الصورة السياسية للنظم الحاكمة في الميدان الدولي، وحتى بالنسبة للنظم التي تقلدت السلطة من خلال الانتخابات الشعبية مثل زامبيا، فإنها ارتدت بعد ذلك إلى الحكم الأوتوقراطي من خلال إجراء انتخابات مصطنعة، ومن هنا يتمثل الوضع السائد في اتجاه معظم الحكام إلى ما يمكن تسميته بالانقلابات الانتخابيةElectoral Coup d`Etat يضمنون من خلاله اختيارهم وبقاءهم في السلطة. وذلك تحت ما يسمى بعملية الانتخاب الشعبي، وتشمل الوسائل المتبعة في هذا السياق قمع أحزاب المعارضة وإجبارها على الانصياع والخضوع، والإفساد السري للعملية أو الترتيبات الانتخابية، وهو ما يمكن تسميته أيضاً بالانتخابات الحرة الميكيافلية.
والأمثلة على ذلك عديدة وتشمل دولاً كالنيجر وجامبيا وغانا والكاميرون وزيمبابوي وتوجو وكينيا وزامبيا وساحل العاج والسنغال وأوغندا، ففي زامبيا مازال الرئيس روبرت موجابي قابعا في السلطة منذ عام 1980، وفي زامبيا تحول الرئيس باتريك إلى مستبد وذلك بالتلاعب في القوانين الانتخابية لضمان تأييد حكمه، واستمراره في السلطة والحيلولة دون مجرد تفكير كينث كاوندا في ترشيح نفسه والمنافسة على السلطة مرة أخرى، وقد ساعد ذلك الأسلوب الذي انتهجه تشيلوبا على إعادة انتخابه في عام 1996. كما أن طبيعة العملية الانتخابية وسياساتها ونتيجتها في العديد من الدول مثل جامبيا والنيجر وغانا، كانت واحدة حيث كان التلاعب والسيطرة السمتين البارزتين في كل مرحلة من مراحل عملية الانتقال، حيث تضمن ذلك من خلال التغييرات الدستورية، وإحكام السيطرة على الهيئة الانتخابية، وتدمير القواعد والتنظيمات الانتخابية وإفساد العملية الانتخابية، بما في ذلك تسجيل الأصوات، وإجراء الانتخابات، وما يتبعها من عمليات تؤدي إلى الإبقاء على النخبة الحاكمة.
إن ما سبق توضيحه يشير إلى أن تجربة الانتخابات في أفريقيا مازال يكتنفها الكثير من الغموض والجدل، وقد شابها في ذات الوقت قدر من الفوضى والتخبط والاضطراب والعنف والتراخي، ومازالت تواجه العديد من المعوقات والتحديات التي تؤثر على فعاليتها وصدقيتها بوصفها آلية من آليات التحول الديمقراطي والتغيير السياسي داخل القارة الأفريقية، وليس مجرد طقوس فارغة المضمون تؤدى لمجرد اقترانها بالتعددية السياسية، وأنه ينحصر دورها في تهدئة الداخل وتهيئته وترضية الخارج واستيفاء متطلباته، ومن أجل تفعيل تلك الآلية بحسبانها واحدة من أهم آليات الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في أفريقيا فإن الأمر يستدعي ضرورة الاهتمام بما يلي:
أ. دعم المبادئ الدستورية وحكم القانون؛ لأن ذلك سوف يضمن بعض العدالة، والوضوح النسبي فيما يختص بالشؤون الانتخابية.
ب. التأكيد على الحيادية والاستقلال النسبي للأبنية المؤسسية للانتخابات، والتي يسند أمرها إلى الهيئة الانتخابية والسلطة القضائية والصحافة والبوليس.
ج. تقوية المجتمع المدني حتى يمكن أن يكون ضامنا للقيم والممارسات الديمقراطية في الدولة.
د. رفع خط الفقر الأساسي للشعب، والذي غالبا ما يدعم العمالة والخضوع الانتخابي.
ه-. مناقشة قضية أزمة التراكم في أفريقيا والتي تجعل من الاستيلاء على السلطة في الدولة مشروعا سياسيا ذا قيمة كبيرة حيث تصبح كل التكتيكات العادلة وغير المشروعة مسموحا بها وجائزة في سبيل تحقيقه.
و. ضرورة أن تنشئ الدول الأفريقية لجان انتخابية مستقلة، وأن يكون ذلك بموجب إدخال التعديلات الدستورية اللازمة، وأن تحدد صلاحيات هذه اللجان وسلطاتها وأن تتكون من شخصيات مستقلة، وأن تتولى هذه اللجان إدارة العملية الانتخابية من تسجيل أسماء الناخبين في السجلات إلى عمليات الاقتراع والإدلاء بالأصوات في مقار اللجان الانتخابية، حتى إعلان النتائج والبت في الشكاوى والطعون، وأن تكون قرارات اللجنة المستقلة تلك نهائية ومقبولة من جميع الأطراف الحزبية على جانبي الحكومة والمعارضة.
خامساً. تداول السلطة في أفريقيا
يلاحظ فيما يتعلقبحالات لتداول السلطة في أفريقيا وجود ظاهرتين فرعيتين على درجة كبيرة من الخصوصية والأهمية، أولاهما: ذات صلة باعتزال بعض الرؤساء لمناصب الرئاسة إما لعزوفهم عن الترشيح لها، وإما لوجود ضغوط داخلية ودولية تدفعهم لعدم الترشيح. وأخراهما: ذات صلة بحرص بعض الزعماء الأفارقة على البقاء في السلطة سواء كان ذلك يتعارض مع الدستور، أو كان الأمر يتعارض مع الضغوط الداخلية أو الدولية. ويمكن الإشارة إلى بعض النماذج التي توضح هذا التباين كالتالي:
1. ظاهرة اعتزال الرؤساء في أفريقيا
يمكن الإشارة إلى بعض نماذجها كالتالي:
أ. جزر سيشل
في جزر سيشل، وعلى الرغم من أن الرئيس المعتزل (مارس 2004) فرانس ألبرت رينيه كان قد أمضى في السلطة 27 عاما متوالية منذ أن قاد انقلابا عام 1977 بعد عام واحد من إعلان استقلال الدولة عام 1976 وحكم البلاد بنظام الحزب الواحد حتى انتهت الحرب الباردة، فقد خضع الرئيس رينيه للضغط الأنجلوفوني (البريطاني/ الأمريكي)، فأجرى تعديلاً الدستور، وألغى نظام الحزب الواحد وأنشأ نظاماً سياسياً ديمقراطياً متعدد الأحزاب، يضمن حريات الإنسان وحقوقه عام 1993، وجرى انتخابه رئيسا للجمهورية، وفي انتخابات عام 2001، واجه معركة انتخابية عنيفة في الانتخابات الرئاسة، حيث حصل على 54% من إجمالي أصوات الناخبين وحصل حزب المعارضة على 44% من الأصوات.
ويبدو أنه آثر الاعتزال عن المغامرة بخوض انتخابات رئاسية جديدة كان مقرراً لها أن تجرى عام 2006، وقد أرجع البعض ذلك لأسباب صحية، وردَّ البعض الآخر ذلك إلى تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد.، أو إلى أن الأمر ذا صلة بدستور الدولة الذي لا يتيح له التقدم للترشيح لمنصب الرئاسة لمرة ثالثة.
ب. موزمبيق
في موزمبيق يلاحظ أن الرئيس شيسانو، والذي ظل يحكم البلاد لمدة ثمانية عشر عاماً، حكم البلاد خلالها في ظل سيادة الحزب الواحد، كما حكم البلاد في ظل التحول نحو التعددية الحزبية، أعلن أنه لن يرشح نفسه لخوض انتخابات الرئاسة، وأنه طلب من حزب فريليمو الحاكم أن يختار مرشحا للانتخابات الرئاسية، وفي يومي الثاني والثالث من ديسمبر 2004، شهدت موزمبيق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والتي تجرى كل خمس سنوات وفقا للدستور الموزمبيقي.
وقد تنافس في تلك الانتخابات خمسة مرشحين على منصب رئاسة الجمهورية، في مقدمتهم مرشح الحزب الحاكم جوبوزا، ومرشح حزب رينامو دالاكاما، ودومينجوس مرشح حزب السلام والتنمية والديمقراطية، كما تنافس مرشحو ثمانية عشر حزباً حول مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 250 مقعدا، وتولت اللجنة القومية للانتخابات موضوعات التنظيم والإشراف على المعركة الانتخابية، بدءاً من تسجيل أسماء الناخبين، وحتى إعلان نتائج الانتخابات، وقد استقبلت الدولة فرقا من المراقبين الدوليين لمتابعة العملية الانتخابية من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والمنظمة التنموية للجنوب الأفريقي (سادك) والبرتغال، بالإضافة إلى مركز كارتر للديمقراطية والانتخابات بالولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك فقد شاركت في أعمال المتابعة للانتخابات منظمات المجتمع المدني الموزمبيقية، ومنظمات حقوق الإنسان. وقد أشارت النتائج النهائية إلى فوز حزب فريليمو ومرشحه للرئاسة على حزب رينامو ومرشحه للرئاسة.
ج. ناميبيا
أما في ناميبيا فقد أعلن الرئيس الناميبي سام نجوما خلال اجتماع مؤتمر الحزب الحاكم (سوابو) يومي 28، و29 مايو 2004 لتسمية مرشح الحزب في انتخابات الرئاسة المقرر إجراؤها عام 2007، الاعتزال وعدم ترشيح نفسه في تلك الانتخابات والاكتفاء برئاسته للحزب الحاكم. وكان مرشح الرئيس لهذا المنصب هو نائبه بوهاما، ولكن وزير الخارجية هاميو تينيا كان قد أعلن عن ترشيح نفسه ومنافسة نائب الرئيس في الاقتراع الذي جرى في المؤتمر العام للحزب.
وعلى الرغم من قيام الوزير بنشاط واسع على مستوى القيادات والقواعد الحزبية لضمان تأييدها له، إلا أن الرئيس نجوما سارع بعزله من منصبه واتهمه بالقيام بنشاط ضار بوحدة الحزب والعمل على انقسام وتشرذم الأنصار والمؤيدين للحزب، وجاءت نتيجة التصويت في المؤتمر العام للحزب 339 صوتا لصالح بوهاما نائب الرئيس، و176 صوتا لصالح هامبو تينيا وزير الخارجية السابق، وهكذا حسم أمر ترشيح بوهاما لرئاسة الجمهورية عام 2007.
د. كينيا
يلاحظ أن الرئيس دانييل آراب موى عندما فاز في الانتخابات التي أجريت في نهاية عام 1997، قد أعلن عن عدم ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة عند إجرائها في عام 2002، وهو الأمر الذي زاد من اشتداد درجة المنافسة بين الحزب الحاكم وبين أحزاب المعارضة، التي كانت تأمل في الفوز بمنصب الرئاسة هذه المرة، وبالفعل ففي أعقاب الانتخابات تمكنت المعارضة من الفوز بهذا المنصب.
2. ظاهرة الحرص على البقاء للرؤساء في أفريقيا
تشير عملية تعديل الدساتير في العديد من الدول الأفريقية إلى مدى حرص العديد من الرؤساء في أفريقيا إلى الاهتمام والحرص على البقاء في السلطة، وعلى الرغم من أن تلك الدساتير هي وليدة حقبة ما بعد الحرب الباردة، ويفترض أن تحترم على الأقل حداثتها، وخصوصية أنه بدأ العمل بها في ظل حكم معظم هؤلاء الرؤساء إن لم يكن كلهم، ومن ثم كان ينبغي أن يضربوا المثل في الالتزام والإقتداء بها، إلا أن ما حدث كان غير ذلك، ويبدو أنه طالما أن الأمر متصل بمسألة البقاء في السلطة بالنسبة لهم فإن كل المعوقات ينبغي أن تزول، حتى وإن كانت عقبات دستورية، ولذلك نجحت بعض الدول في إجراء التعديلات الدستورية على البنود المقيدة للبقاء وإنشاء بنود دستورية مطلقة للبقاء والاستمرار لهؤلاء الرؤساء إما بقاء مطلقاً كما هو الحال في مصر وأوغندا، أو نسبياً بتمديد فترات الرئاسة، ويمكن الإشارة إلى بعض النماذج كالتالي:
أ. تشاد
يبدو أن أمر تعديل الدستور من أجل البقاء في السلطة لم يكن قاصرا على أوغندا وحدها، وإنما سبقتها إلى ذلك دول أخرى مثل تشاد على سبيل المثال، ففي النصف الثاني من شهر مايو 2004، وافق البرلمان التشادي على تعديل مادة الدستور التي تحدد مدة الرئاسة للجمهورية بفترتين متتاليتين فقط، ويقضي التعديل بأن تتوالى الرئاسة إلى ثلاث فترات متتالية، وكل فترة خمس سنوات، وحيث أن الرئيس إدريس ديبي قد أمضى في منصب الرئاسة فترتين متتاليتين وتنتهي خلال عام 2006، فإنه يصبح من حقه الترشيح والفوز في الانتخابات المقبلة والاستمرار في رئاسة البلاد لمدة أخرى مقبلة، وقد ساعدته الظروف الدولية والإقليمية على إجراء التعديل الدستوري، بوصفه الوسيط الأفريقي والدولي في موضوع الحرب الأهلية في دارفور بالسودان، كما أنه يحظى بمساندة أمريكية وفرنسية وأوروبية لمواصلة مساعيه الحميدة في هذا الشأن.
ب. مالاوي
إذا كانت محاولات تعديل الدستور قد نجحت في بعض الدول، فإنها فيما يتعلق بالحالة المالاوية لم تنجح، فقبل أن تنتهي الفترة الرئاسية الثانية للرئيس السابق باكيلي موليزي اجتهد في محاولة تعديل الدستور ليسمح لنفسه بالتقدم للترشيح لفترة رئاسة ثالثة، بعد أن شغل فترتين رئاسيتين ولمدة عشرة أعوام منذ عام 1994 وحتى عام 2004، إلا أن محاولته في هذا الاتجاه باءت بالفشل، ومع ذلك احتفظ برئاسته للحزب الحاكم، في حين جرت الانتخابات لانتخاب رئيس جديد للدولة خلفا للمنتهية ولايته في مايو 2004، وتنافس في انتخابات الرئاسة خمسة مرشحين هم: بنجو واموثاريكا مرشح الحزب الحاكم (الجبهة الديمقراطية المتحدة)، ومجوي ريزانو قائد تحالف الوحدة المعارض الذي يضم سبعة أحزاب، وجون تمبو مرشح حزب مؤتمر مالاوي، بالإضافة إلى مرشحين مستقلين آخرين.
وفي أعقاب عملية الاقتراع والتصويت في الانتخابات اتهمت المعارضة أن هناك مخالفات وعمليات تزوير كبيرة في تلك الانتخابات، وفي الوقت الذي أشارت فيه لجنة الانتخابات إلى أنها تأكدت وتحققت من صحة نتائج الانتخابات، التي تشير إلى فوز مرشح الحزب الحاكم بإجمالي نسبة أصوات تقدر ب 35% من إجمالي الأصوات، وحصول مرشح حزب مؤتمر مالاوي بنسبة 27% من إجمالي الأصوات، وحصول مرشح تحالف الوحدة على 26%، وحصول المرشحين المستقلين على نسب تقل عن 9% من إجمالي الأصوات، بينما أعلنت وفود المراقبين القادمين من الاتحاد الأوروبي والكومنولث البريطاني والمنظمة التنموية للجنوب الأفريقي (سادك) أن المخالفات الخطيرة كانت هي الطابع العام للانتخابات في مالاوي، وأن وسائل الإعلام الرسمية انحازت انحيازا واضحا للحزب الحاكم، وأن الحزب الحاكم قد استخدم كل إمكانات الدولة من سيارات ووسائل اتصالات ومواصلات في الحملة الانتخابية، وأن استخدام المال العام من ميزانية الدولة قد ظهر في الإعلان عن مشروعات وبرامج خلال الحملة الانتخابية، وعلى الرغم من ذلك ورغم أن أحزاب المعارضة رفضت تلك النتيجة، وذكرت أنها ستطعن أمام المحكمة العليا، إلا أن الحزب الحاكم لم ينتظر، ودفع بمرشحه الفائز لأداء القسم الدستوري وتولي السلطة، وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس الجديد أعلن أنه لن يعيد ترشيح نفسه لفترة رئاسة ثانية في الانتخابات التي ستجرى عام 2009، وبأنه سوف يعتزل العمل السياسي.
ج. الكاميرون
إن سياسة البقاء في السلطة تشير إلى أن واضعي تلك السياسة يبدو أنهم كانوا أكثر استشرافا للمستقبل عن غيرهم، حيث تقوم سياستهم على إطالة فترة البقاء في المنصب دون الحاجة إلى اللجوء إلى تعديلات مستقبلية، ففي حين أن القاسم المشترك لفترات الرئاسة الوارد في الدساتير الأفريقية المعدلة مع أوائل تسعينيات القرن الماضي هو أربع أو خمس سنوات، لا تتعدى فترات البقاء في منصب الرئاسة فترتين؛ لكن يلاحظ أن الكاميرون حرصت في دستورها على أن تكون الفترة الواحدة مدتها سبع سنوات، فهي وإن اشتركت مع معظم الدساتير الأفريقية في مسألة الفترتين الرئاسيتين، فإن إطالة الفترة الرئاسية تجب أية مشكلات في هذا الخصوص، فعلى الرغم من أن الرئيس بول بيا يحكم البلاد منذ عام 1982، وعلى الرغم من التعديل الدستوري الذي جرى عام 1996 ولا يسمح لرئيس الدولة أن يشغل المنصب أكثر من فترتين رئاسيتين – كل فترة رئاسية مدتها سبع  سنوات، فقد رشح بيا نفسه في انتخابات عام 1997 وفاز بها، ثم رشح نفسه في انتخابات عام 2004 وفاز بها بنسبة 92.5%، في الوقت الذي كان يتنافس معه خمسة عشر مرشحاً، ويرجع البعض سبب ذلك إلى تشتت أحزاب المعارضة، بالإضافة إلى الاتهامات بوجود الانحرافات، وعدم النزاهة في العملية الانتخابية التي تسيطر عليا الأجهزة الحكومية في الكاميرون.
د. رواندا
في الأسبوع الأخير من شهر مايو 2003، عرضت حكومة رواندا مشروع الدستور الدائم للبلاد على الاستفتاء الشعبي العام ودعت فرق المراقبين الدوليين من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وسجلت النتائج المعلنة الموافقة العامة على الدستور الدائم فقد شارك 87% من المسجلين في دفاتر الناخبين ووافق 93% من المشاركين الذين أدلوا بأصواتهم وأجمعت تقارير المراقبين على أن العملية الانتخابية كانت حرة ونزيهة، واستعدت البلاد لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية لأول مرة بعد مذابح الإبادة الجماعية عام 1994، وهذا الإجراء كان بغرض إنهاء الفترة الانتقالية التي عاشتها الدولة منذ ذلك التاريخ، ومن ثم فإن الانتخابات كانت ستجرى على أساس ديمقراطي تعددي يتنافس فيها الأحزاب السياسية طبقا لنصوص الدستور الجديد.
وبهذا تكون رواندا قد اختارت النظام الديمقراطي التعددي على خلاف أوضاع بعض الدول مثل أوغندا قبل التعديلات الدستورية الأخيرة، وهذا الوضع لاقى استحسانا من جانب الدول المانحة للمعونات وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
ه-. زيمبابوي
في زيمبابوي وعلى الرغم من تصاعد المعارضة السياسية المطالبة بإحداث تغييرات حقيقية والتحرك باتجاه إقامة تحول ديمقراطي فعلي، فإن النظام الحاكم وعلى رأسه روبرت موجابي استمر في منصبه، وتمكن من مواجهة الضغوط التي تمارسها المعارضة في الداخل فضلاً عن مقاومة الضغوط الخارجية. وكان الرئيس روبرت موجابي قد أعلن في عام 2004، أنه لن يرشح نفسه في انتخابات الرئاسة المقرر إجراؤها عام 2008، وأنه قرر البقاء في المنصب حتى ذلك التاريخ حتى يختار خليفته في حكم البلاد وقيادة الحزب الحاكم، وأشار إلى أنه باعتزاله يكون قد أمضى 28 عاما (1980 – 2008) في تحمل مسؤولية الحكم في البلاد الرئاسة؛ إلا أن موجابي تقدم للترشح وللمنافسة في انتخابات الرئاسة عام 2008، ونجح في الانتخابات، وعزا ذلك إلى أن الظروف التي تمر بها البلاد وموقف الدول الغربية السلبي تجاه بلاده، فضلاً عن رغبة الشعب في زيمبابوي في بقائه واستمراره في السلطة هي التي دفعته لخوض الانتخابات.
و. أوغندا
لقد نشأ النظام السياسي في أوغندا منذ عام 1986، عندما سيطر الرئيس موسيفيني على السلطة في البلاد وحكمها من خلال سيطرة حزب حركة المقاومة الوطنية على جميع مؤسسات الحكم التنفيذية والتشريعية، وفي أعوام التسعينيات من القرن الماضي صدر دستور البلاد الدائم في عام 1995، والذي تضمن الإشارة إلى أنه لا يجوز لرئيس الجمهورية الأوغندية التقدم للترشح لمنصب الرئاسة أكثر من مدتين كل مدة منها خمس سنوات، ولما كان موسيفيني قد فاز في انتخابات الفترة الرئاسية الأولى في عام 1996، وكذلك في الانتخابات على فترة الرئاسة الثانية التي أجريت في عام 2001. فلا يحق له وفقاً للدستور التقدم للترشيح لفترة رئاسية ثالثة، وهو الأمر الذي يحاول النظام الحاكم الالتفاف عليه، والسعي لإجراء تعديلات دستورية، يتم بموجبها يزاد مدد تولي منصب الرئاسة إلى ثلاث مدد رئاسية بدلاً من مدتين اثنتين، حتى يتمكن موسيفيني من التقدم للترشح لفترة رئاسة ثالثة، ويحاول النظام الحاكم مقايضة هذا التعديل الدستوري بتلبية بعض مطالب المعارضة المتعلقة بالتوسع في تطبيقات الديمقراطية، وتظهر نتائج تلك الأزمة وتأثيراتها في ضغوط الدول المانحة والمؤسسات المالية والنقدية العالمية على الرئيس موسيفيني بالتوسع في تطبيقات الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعدد الحزبي الكامل، وأن يمتنع عن ترشيح نفسه لولاية ثالثة عن طريق تعديل الدستور الحالي، كما أسفرت الضغوط الداخلية عن انشقاق في داخل الحزب الحاكم، وفي حركة واسعة تقوم بها أحزاب المعارضة مثل الحزب الديمقراطي وحزب المحافظين وحزب مؤتمر الشعب وغيرها، حول النظام الديمقراطي، حيث أصرت تلك الحركة المعارضة على معارضة تعديل نص رئاسة الجمهورية، وتشير إلى أن عشرين عاما من حكم الرئيس موسيفيني (1986-2006) وسيطرة الحزب الحاكم على مؤسسات الدولة المركزية والإقليمية والريفية، والتي شابها الفساد وتجمد التنمية، لا تشجع على قبول استمرار النظام الحاكم.
وعلى الرغم من المأزق الدستوري الذي وقع فيه النظام الحاكم في أوغندا، وذلك بعد انتهاء الفترتين الرئاسيتين المحددتين لرئيس الدولة للبقاء في منصبه والتين لا يسمح الدستور الصادر عام 1995 في المادة 105، بتجاوزهما، إلا أن النظام الحاكم تمكن من الخروج من هذا المأزق بدفع البرلمان للتصويت على إلغاء الفقرة التي تقيد الترشح للرئاسة، مقابل السماح بالتعددية السياسية، وبإقرار البرلمان ذلك في يوليه 2005، فقد تمكن يوري موسيفيني من التقدم للترشيح لمنصب الرئاسة في الانتخابات التي أجريت أواخر شهر فبراير 2006، والتي أسفرت نتائجها عن فوز موسيفيني في تلك الانتخابات.
وعلى الرغم من ذلك فقد استطاعت النخبة الحاكمة من ممارسة ضغوطها على البرلمان الأوغندي حتى وافق على إلغاء الفقرة الثانية من المادة 105 من الدستور، والتي تقيد عدد فترات الرئاسة بفترتين فقط غير قابلتين للتجديد، وهو الأمر الذي يفتح الطريق أمام موسيفيني، ليس للتقدم لانتخابات 2006، والتي فاز فيها بالفعل، ولكن لتجعل الطريق أمامه مفتوحاً ليتقدم لأي عدد من الفترات، ومثل هذا الإجراء وإن كان قد أتاح الفرصة أمام موسيفيني للبقاء في السلطة، إلا أن هذا الوضع سيعمق الفجوة بين نظامه الحاكم والمعارضة من جهة، وبينه وبين الدول والمؤسسات المانحة من جهة أخرى.
 العوامل المؤثرة على التحولات الديمقراطية في أفريقيا
يبدو أن هناك ما يشبه الإجماع، على المستوي الثقافي والفكري على قبول الديمقراطية أداة وأسلوباً للحكم في أفريقيا منذ انتهاء الحرب الباردة، وهو ما يعني بشكل أو بآخر التسليم بقبول التوجه الرأسمالي أيديولوجية لتنمية القارة الأفريقية، وهو الأمر الذي يكشف عنه بشكل أو بآخر القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي والشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا NEPAD، هذا فضلا عن العديد من الدساتير الأفريقية التي راحت تتحدث عن الحكم الرشيد، واحترام حقوق الإنسان، والأخذ بآليات السوق، ارتكاناً إلي رؤية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي تذهب إلي أن التحول الديمقراطي من شأنه أن يؤدي إلي تحقيق التنمية الاقتصادية.
إن الواقع العام لا يبشر بعد عقدين من انطلاق عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا، لقد كان لكوامي نكروما من قبل مقولة مشهورة، تشير إلى أن الامبريالية الاستعمارية تريد من أفريقيا الذهاب إلى المملكة السياسية أولاً. “Seek Ye First the Political Kingdom”.وربما يعني بذلك أن تلك القوى تذهب في سياساتها وسلوكها وممارساتها إلى تسييس كل القضايا طالما أنها الأقوى والأقدر تأثيراً ونفوذاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأيديولوجياً، وهو نمط من الأنماط العديدة التي تجيد تطبيقها تلك الدول سواء تعلق الأمر بالاستيعاب أو الاحتواء أو السيطرة، ولذلك فهي لا تتوانى عن توظيف كل أنواع الشروط، من الشروط السياسية Political Conditionality، إلى الشروط الاقتصادية Economic Conditionality، إلى شروط المساعدة Aid Conditionality، إلى شروط التعاون Cooperation Conditionality، وجميعها تصب باتجاه إعطاء الأولوية ليس للارتقاء بالتنمية وبالداخل الأفريقي. كما تطالب الدول الأفريقية وتتمنى، وإنما للبدء بالتغيير السياسي (الديمقراطي)، أو الذهاب إلى المملكة السياسية وفقاً لنكروما.
ولكن، هل كانت الموجة الديمقراطية التي حدثت منذ أواخر ثمانينياتِ وأوائل تسعينياتِ القرن العشرين مجرد ردّ فعل ضدّ التراث الاستبدادي لفترةِ ما بَعْدَ الاستقلال؟ أم أنها تعبيرِ عن الرغبة والدعمِ لإقامة دولة المؤسساتِ، وأن البداية المنطقية لِهذا يتمثل في وجود حراك سياسي واجتماعي نحو التعزيزِ للتحولات الديمقراطيِة وان اَستغرقُ ذلك وقتَاً، من أجل التكيّف والتجريب والتطور؟. وبالتالي إذا كان التحول الديمقراطي في أفريقيا منذ أوائل التسعينيات قد جاء نتيجة لمجموعة من العوامل النابعة من البيئة الداخلية والبيئة الخارجية للنظم السياسية الأفريقية، فإن استشراف آفاق هذا التحول يرتبط بمجموعة من العوامل ومنها:
أولاً: العوامل المعوقة للتحولات الديمقراطية في أفريقيا
يلاحظ أنه في العديد مِنْ الدول الأفريقية، التي حَدثتْ فيها محاولات لعمليات تحول ديمقراطي، فإن عدداً قليلاً منها تراجعت فيها الأنظمةِ الاستبدادية، ولكن بدون أن يعني ذلك الانتقال الكامل إلى الديمقراطيةِ. كما أنه في بَعْض الدول، استمرت عملية التغييرِ بهدف التوسّعِ في الأخذ بالمعاييرِ والممارساتِ الديمقراطيةِ، ولكن الطابع العام الذي ينخلع عليها هو البطء أو عدم مبالاة تارة، والالتفاف على معطيات العملية وبراهينها تارة أخرى.ولعل هذا يشير إلى أن هناك معوقات محددة تحول دون الوصول إلى نتائج حقيقية وملموسة في الواقع السياسي الأفريقي، ويمكن الإشارة إلى بعض جوانب تلك المعوقات كالتالي:
1. العوامل العامة المعوقة للتحولات الديمقراطية
إن أحد الإشكالات التي تعترض استيعاب التحولات الديمقراطية في أفريقيا هو أن كل من الأنظمة الحاكمة والشعوب الأفريقية تعد الديمقراطية طريقة وأداة للحكم وافدة أو أجنبية Alien على دول القارة، ومن ثم فهي لا تتناسب ولا تتواءم مع الثقافات والموروثات السياسية التقليدية، سواء فيما يتعلق بالزعامة وممارسة السلطة والحكم، أو فيما يتعلق بالتعامل مع الجماعات المكونة للمجتمعات الأفريقية ولا حتى مع طبيعة الحاجات والأولويات والمشكلات التي تخص تلك الجماعات، والتي تتطلب دوما تسويات رضائية  Consensual Problem-Solving وبطرق وبمجهودات وبمناقشات ذات طبيعة خاصة من حيث التوقيت والظروف والأماكن المناسبة.
من ناحية أخرى فإن إحدى التحديات المهمة الأخرى التي تواجه عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا، تتمثل في كَيفَية غْرسُ أنظمةَ ديمقراطيةَ في بيئاتِ تتسم بالنزاعات والصراعات الإثنية، والإقليمية. وكذلك في بلدان تعاني من افتقاد المؤسساتِ الرسميةِ أو على الأقل ضعفها، وأيضاً في ظل تلك المستويات المتدنيةِمِنْ التنمية الاقتصادية.
2. العوامل الخاصة المعوقة للتحولات الديمقراطية
فيما يتعلق بالعوامل الخاصة المعوقة للتحول الديمقراطي، يمكن الإشارة إلى بعض جوانب منها كالتالي:
أ. عدم فعالية الأحزاب السياسية
(1) ضعف الأحزاب السياسية
تعد الأحزاب السياسية إحدى الآليات المهمة للتحول الديمقراطي، ولكي تكون الأحزاب السياسية آلية حقيقية لهذا التحول ينبغي أن تتأسس على أربع قواعد:
الأولى: الاستمرار الوظيفي: بمعنى ممارسة أنشطتها والمضي فى وضع برامجها موضع التنفيذ الفعلي
الثانية: الإرادة السياسية للحزب في ممارسة السلطة: بمعنى أن تكون لدى الحزب الرغبة في ممارسة العمل السياسي، وفى السعي للوصول إلى الحكم.
الثالثة: التنظيم والانتشار: أن يتم تنظيم الحزب تنظيما سليما على مستوى أرجاء الدولة.
الرابعة: المقدرة على الحشد الشعبي: بمعنى أن يتمكن الحزب من إيجاد قواعد شعبية له في معظم أرجاء الدولة وكذلك الكوادر النشطة.
وبالنظر إلى الواقع الإفريقي يلاحظ أن الأحزاب السياسية الأفريقية تفتقد بعض تلك القواعد أو كلها حيث تنزع تلك الأحزاب إلى تعزيز الفردية، وتقوم هياكلها على قواعد متغيرة، تتناسب مع مؤسس الحزب الذي يتمتع في الغالب بالصفة الكاريزمية، وقد يكون التمويل للحزب من ماله الخاص، ومن ثم يظل الحزب متقوقعا ومرهونا بتصورات وتطلعات مؤسسه وبرنامجه المحدود. كما أن الأحزاب الأفريقية تفتقد إلى القواعد الوطنية، وهى غالبا ما تجد قاعدتها الشعبية في موطن قائد الحزب، كما أن إرادتها السياسية في ممارسة السلطة محدودة في الغالب وربما لا تهدف إلى سوى الحصول على القدر اليسير من ما يسمى ” بالكعكة الوطنية PieNational” كما أنها غالبا ما تكون غير قادرة على المشاركة الفعلية في علمية صنع القرارات السياسية الحقيقية، وإنما قد تكون مشجعة فقط أو منفذة لمثل تلك القرارات.
(2) إقامة النظم الحزبية على أسس التعدديات التحتية
على الرغم من الإجراءات القانونية والدستورية التي اتخذتها بعض النظم القائمة في إفريقيا لمحاربة القبلية و الإثنية، فإن كل السياسات التي توضع لاحتواء هذه الانقسامات الأولية ينبغي أن تكون في إطار من النظم التعددية الثقافية والدينية و الإثنية بمعنى التسليم بخصائص كل ثقافة أو دين لكل جماعة أو شعب داخل القارة الأفريقية، مع مراعاة تفادى ترتيبها هرميا وإعطائها فرصا متساوية للنمو والتطور، ومن جهة أخرى فان إرساء حكم القانون وزيادة الطبيعة التنافسية في النظام والتخلص من نزعة الحصول على كل شيء أو خسارة كل شيء، وإرساء القيم التوفيقية والحلول الوسطى بوصفها آليات ضرورية لاحتواء الإثنية وتدعيم القيم المدنية في المجتمع الأفريقي.
ومن المهم التنبيه إلى أن إفريقيا جنوب الصحراء تقف على فوهة بركان من الإثنية والقبلية، وقد تخمد فترات إلا أنها يمكن أن تنفجر في أي وقت، كما هو الحال في إثيوبيا والصومال ورواندا وبوروندي وليبريا وغيرها”. والعداءات الإثنية والقبلية يمكن أن تكون أمراً حتميا في ظروف تسيبها؛ واستخدام السلطات الحكومية لها في مواجهة المناوئين لها، أو بتأكيد استئثارها بمعظم المكاسب الاقتصادية والاجتماعية , كما أن الاحتكام للمشاعر الإثنية والقبلية في الانتخابات السياسية القائمة على أساس الدوائر الإثنية الإقليمية يمكن أن يصبح طريقا ممهداً لسلطة الدولة، وهو الأمر الذي يعد أحد مصادر الضغوط والتهديدات الأساسية لعملية التحول الديمقراطي في أفريقيا .
(3) خمول العملية الانتخابية
إن الفجوة بين الوظائف التنفيذية للأحزاب السياسية والواقع في أفريقيا اليوم ليست وليدة عوامل ثقافية وتاريخية فقط، وإنما تعزى أيضاً إلى عوامل سياسية وقانونية وسوسيولوجية، وبالإضافة إلى التشكك في إمكان تمويل العمليات الانتخابية، فإن عزوف المواطنين الإفريقيين عن عمليات الاقتراع ( التصويت) وانتهاج السلطويين لسياسات قد تتراوح بين استخدام العنف، واستغلال المرجعيات الإثنية والرشاوى في مواجهة المناوئين، وتقييد إنشاء الأحزاب وتفويقها، والحيلولة دون تنظيمها وتمويلها، فإن كل ذلك يسهم في خمول العملية الانتخابية وإضفاء الطابع الروتيني عليها، وهو ما يعنى تفريغ الديمقراطية من محتواها الجوهري.
ب. التضييق على المعارضة السياسية
يعد تضييق الفضاءات أمام التنظيمات والأحزاب السياسية المعارضة داخل الدول الأفريقية من المشكلات التي تبقي على عملية التحول الديمقراطي متسمة بالطابع الشكلي، كما تجعلها امتداداً للنظم السلطوية التقليدية‘ مع اختلاف المسميات فحسب. وعلى سبيل المثال ففي إثيوبيا فإن إحدى أهم التَطَوّراتِ التي طرأت على الواقع السياسي الإثيوبي في فترة ما بعد عام 1991 هو ظهورُ الأحزاب السياسية المعترف بهاِ قانونياً/ دستورياً. فمنذ الفترة الانتقالية التي أعقبت عملية التغيير السياسي، أُسِّس عدد مِنْ الأحزاب السياسية بناءً على أغراضِ متَفَاوُتة، فبعضها على أساس الهويَّة الإثنيةِ، وهو الأمر الذي أتاح الفرصة للأحزاب الإثنيةِ أن تنتشر في أنحاء البلادِ كافة. وعموماً، فالأحزاب السياسية التي تعمل في البلادِ بموجب الاعتراف الحكوميِ بشرعيتها، يُمْكِنُ أَنْ تقسّمَ إلى ثلاثة أصنافِ كالتالي:
الأولى: الأحزاب الإثنيةِ التي تعمل تحت مظلة النظام الحاكم.
الثانية: الأحزاب الإثنيةِ الإقليمية التي تعمل خارج مظلة النظام الحاكم. وتنتشر في الأقاليم الإثيوبية المختلفة كجامبيلا، والصومالي وهراري، ويتحالف بعضها مع النظام الحاكم بقوة، والبعض الآخر يعملون بصفة أحزاب معارضة.
الثالثة: وهي عبارة عن بِضْعَة أحزاب تهتم بالبرامجِ والأهدافِ الشاملةِ.
ويلاحظ أن مشاركة أحزاب المعارضةِ السياسية في العمليةِ السياسيةِ كَانتْ منقوصةَ. وقد أثر هذا الوضع تأثيرا كبيراً سلباً على عمليةَ التحول الديمقراطي في البلادِ. ولذلك فإن أحزاب المعارضةِ السياسية ما تنفك تَشتكي دوماً من عمليات التخويف والترويع مِن قِبل المسؤولين الحكوميين، وقد تحققت إدّعاءات أحزابِ المعارضة حول المضايقات المستمرةِ على يدّ المسؤولين الحكوميين في العديد مِنْ مناطقِ جنوب إثيوبيا أثناء الانتخابات الوطنية والمحليَة في مايو 2000، بعد التدخلِ الصارخِ والداميِ أحياناً مِنْ المسؤولين الحكوميين لتَقْرير نتائجِ الانتخابات لصالحهم، وهو الأمر الذي دفع لجنةَ الانتخابات الوطنيةِ الإثيوبيةِ للمطالبة بإعادةِ الانتخابات التي جرت في العديد مِنْ الدوائر الانتخابية في بعض المناطق، والمناطق الجنوبية الإثيوبية خاصة. وقد تكرر هذا الأمر حتى في انتخابات عام 2005.
ج. استمرار تبعية المؤسسات التمثيلية للنظم الحاكمة
يعد الضعف المؤسسي Institutional Weakness أحد نقاط الخلل الرئيسة التي تواجه عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا بطريقة مناسبة، بل أَصْبَحَ ضعف المؤسساتِ الأفريقيةِ قضية مهمّة ومبدئية؛ لأن صعوبةَ إدْراك منافعِ برامجِ التنمية والمشاريعِ، لاسيما تلك المموّلة من قبل المانحين على المستوى الثنائيِ والمستوى المتعدد الأطرافِ، إنما يرجع بالدرجة الأساسية إلى طبيعة المؤسساتِ المتخلّفةِ وغير الكفؤةِ في الكثير من البلدانِ الأفريقيةِ.
على الرغم من أن الدستور الصادر في إثيوبيا عام 1995 قد حرص على توزيع عناصر القوَّةِ السياسية فيما بين الأجهزة والمؤسسات المختلفةِ، كما أنه راعى مبدأ الفصل بين السلطات؛ وعلى الرغم من منح البرلمان بوصفه الجهاز التمثيلي للشعب الإثيوبي مكانة بارزة ومهمة داخل النظام السياسي للدولة، وجعله أيضاً السلطةُ العليا في الحكومة الاتحادية، والمسؤول عن التعبير والتجميع والتحقيق لمصالح هذا الشعب؛ إلا أنّ تجربةَ البلادِ أثناء العقدين الأخيرين، ومنذ انتخاب البرلمانِ الأولِ اشتملت بالهيمنةِ المطلقةِ لرئيس الوزراء المسؤول عن الجهاز التنفيذي (رئيس الجبهة الحاكمة) على المؤسسةِ التمثيليةِ المُنتخبةِ انتخاباً شعبياً، وهو ما يعني نفي مبدأ الفصل بين السلطات، أو على الأقل تهميشه. والدليل على ذلك أن هذا البرلمان لم يتمكن من مساءلة أي من الوزراء عن الفشل في أداء مهامهم ومسؤولياتهم، هذا على الرغم من أن رئيس الوزراء اعترفُ في العديد مِنْ المناسباتِ بتفشي الفسادَ وانتشار أعمال إساءة استخدام السلطةَ فيما بين الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة. ومن ثم فإنّ البرلمانَ ظل يعمل فقط بصفة خاتم مطاطي Rubber Stump للسلطة التنفيذية.
إن هيمنة الجبهةِ الحاكمةِ على المؤسساتِ المُنتخبةِ انتخاباً شعبياً تُضعفُ سياسةَ الإدارةِ الذاتيةِ للمجموعاتِ الوطنيةِ في إطارِ النظام الاتحادي (الفيدرالي) المطبق في البلاد. هذا في الوقت الذي لا تتوانى تلك الجبهة عن ترديد أن الفضل يظل ينسب إليها وحدها في التَأسيس لهذا النظام الاتحادي، وسلوكها على هذا النحو يعني ضمنياً محاولة ممارسة التأثير والضغط على مؤسسات هذا النظام، حتى تظل مدينة بوجودها للجبهة الحاكمة، وتبقى مجرد نظم وأجهزة فرعية تدين بالولاء المطلق لها، حتى وإن تعارض ذلك مع الدستور، فهل هذا الوضع يمكن أن يساعد على إحداث تحول ديمقراطي حقيقي في البلاد؟.
د. استقواء الأنظمة الحاكمة وقوى المعارضة بالخارج
في هذا الصدد يلاحظ تفاوت الدول الأفريقية في الاستقواء بالخارج، فهناك بعض الأنظمة الحاكمة التي اعتمدت على الخارج في تعزيز شرعيتها في الداخل، وفي مواجهة القوى السياسية المعارضة لها، ومن أمثلة ذلك دول عديدة مثل إثيوبيا وكينيا وأوغندا، في حين اعتمدت قوى المعارضة على الخارج في التصدي للأنظمة الحاكمة، وللنيل من شرعيتها، ومن الأمثلة على ذلك زيمبابوي والسودان وغيرها، ويمكن الإشارة إلى ذلك كالتالي:
(1) استقواء الأنظمة الحاكمة بالخارج
لقد ساعدت الظروف والمتغيرات الدولية في الربط بين عمليتي التغيير السياسي والتحول الديمقراطي في إثيوبيا، بحيث أصبحت بين العمليتين علاقة متبادلة ومباشرة وجوهرية، وأسهم في إحداث كل منها الفاعل الدولي، ابتداء من دعم الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية وتعزيز قدراتها بهدف الإطاحة بالنظام الماركسي الذي كان يتزعمه مانجستو هايلى ماريام، لاسيما في تلك الفترة التي شهدت وهن الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي وانهيارهما، وقد كانا السند والداعم الأساس لهذا النظام، وعندما تمكنت تلك الجبهة من تقويض نظام حكم مانجستو، بدأت تلك الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة في تكثيف جهودها من أجل إقامة تحول ديمقراطي في البلاد وأسهم خبراؤها ومتخصصوها ومستشاروها في الجهود الرامية لوضع دستور جديد للبلاد، وما تلاه من إجراءات تتعلق بالتحول الديمقراطي، وذلك في إطار جهود تلك الدول المحمومة من أجل تعميم الديمقراطية والرأسمالية في إطار سياسات تلك الدول الرامية لترقية نفوذها ومصالحها وتوسيعهما وتعظيمهما في بلدان العالم ومنه إثيوبيا، بغض النظر عن مدى ملاءمتها لمثل تلك الدول، وبغض النظر عن مدى توافر الشروط والآليات اللازمة لتحقيقها قبل البدء فيها، وبغض النظر أيضا عن مدى ما يمكن أن يترتب على ذلك من آثار ونتائج.
وقد اكتسب النظام الحاكم في إثيوبيا مع ذلك شرعية سياسية على المستوى الوطني بإصدار الدستور الديمقراطي الفيدرالي، وتحديد موعد الانتخابات العامة يوم 7 مايو 1995، وتأكدت هذه الشرعية السياسية على المستوى الدولي بالبيان الصادر عن سفراء 17 دولة أوروبية وأمريكية واليابان، والذي يعلن تأييد دولهم للدستور الجديد مع وعد بتقديم التسهيلات والمعونات اللازمة لإجراء الانتخابات الديمقراطية، وهذا الموقف يكشف عن عدة أمور:
أولها: أن التطور السياسي المنشود والذي تسانده السياسة الأمريكية والأوروبية منذ 1991 قد وصل إلي غاياته السياسية.
ثانيها: أن حركات ومنظمات الانشقاق والتمرد المسلح في إثيوبيا قد أصبحت غير قانونية وغير شرعية، وأن أية مساندة لها سوف تعد تدخلاً في الشؤون الداخلية، وسوف تواجه بموقف مشترك من إثيوبيا وحلفائها الدوليين.
ثالثها: أنه إذا أرادت هذه المنظمات المعارضة الاستمرار في الدعوة إلى حق تقرير المصير والمطالبة في أقاليم كل منها فعليها إتباع الأسلوب الدستوري المقرر، وبدايته هي خوض الانتخابات على المستوى الإقليمي.
رابعها: أن منظمات المعارضة باسم بعض القوميات لا تستطيع أن تحتكر السيطرة منفردة على الساحة السياسية في أقاليم الأمهرا والأورومو والأوجادين، نظرا لوجود أحزاب ومنظمات وشخصيات عامة أخرى تؤيد الحكومة والنظام القائم، وتشارك في أعمال السلطات التنفيذية والتشريعية على المستويين الإقليمي الفيدرالي.
(2) استقواء قوى المعارضة بالخارج
كلما نجحت القوى الوطنية في الدول الأفريقية من انجاز التحولات الديمقراطية وفق أجندة أعمال وعناصر وطنية، تم التحول في إطار إصلاحي وطني، وكلما حدث تقاعس وتلكؤ سوف يزداد الدور الخارجي، وسوف يزداد بأشكال يصعب مقاومتها في الدول التي لها أهداف ومصالح مع الدول الكبرى في العالم، وهذا يؤدي إلى ازدياد دور العناصر الخارجية، وعندها لن يكون الإصلاح ولا التحول الديمقراطي عن طريق إرادة وعناصر وطنية، وإنما عن طريق عناصر تعتمد على الاستقواء بالعناصر الأجنبية. إن من الأمثلة الظاهرة في هذا الشأن المعارضة الزيمبابوية في مواجهتها للنظام الحاكم بزعامة موجابي، وتعاضد القوى الخارجية الليبرالية/ الفاعلة معها.
هـ. تقوقع المجتمع المدني
إن ظهور المنظمات التطوعية ينظر إليه نتاجاً لعودة الدولة مقترنة بالليبرالية الحديثة، التي أدت إلى انسحاب الدولة من أجزاء كثيرة من المجتمع. كما أن ازدهار الاتحادات إنما هو انعكاس لبتر الدولة للخدمات، أو ما تطلق عليه فك الارتباط عن المجتمع، إن الفراغ الذي خلفه هذا الانفصال قد زاد من قوة المنظمات الخاصة، وبعد أن أصبحت الدولة غير قادرة أو غير راغبة في تقديم خدمات لمواطنيها، وجد المواطنين حلولاً خاصة أخرى، وما إن تؤسس هذه المنظمات حتى تؤدي دوراً بديلاً للقوة منفصلة عن الدولة، ويمكن لهم إذن الموازنة والحد من قوة الدولة، وتضطلع بدور جماعات الضغط للمطالبة بالديمقراطية.
إن دور االمنظمات غير الحكومية/ الطوعية Non-government Organizations لإرساء الديمقراطية هو أيضا أكثر غموضا. فالمنظمات غير الحكومية/ الطوعية لا تحتاج أن تكون ديمقراطية فإن التجربة الأفريقية تظهر أن العديد من المنظمات التي تمثل المجتمع المدني ليست سوى هيئات استشارية يقيمها أفراد مرتبطون بالدولة، وفي بعض الأحيان، معينون من قبل الدولة. حتى يتسنى لهم الحصول على ودائع الممولين المقررة للمجتمع المدني، ولذلك أطلق عليهم البنك الدولي المنظمات غير الحكومية المنظمة من جانب الحكومات Government Organized NGOs (GONGO)، إذن فالمنظمات الطوعية ليست عادة مستقلة عن الدولة، فهي من ثم لا تؤدي بالضرورة دور القوى المعارضة للدولة، أو تكون ضماناً للديمقراطية؛ ولكن مع النمو الكبير لمنظماتِ المجتمع المدني في العديد من الدول الأفريقية يطرح سؤال في هذا المقام: هل أدّى النمو المتزايد في عدد تلك المنظمات إلى إحداث التغييراتِ النوعيةِ في العلاقاتِ بين الحكوماتِ والمواطنين، أَو تَعميق الإصلاحاتِ الديمقراطيةِ في أفريقيا؟ والحقيقة تشير إلى تواضع جهود تلك المنظمات في كلا الأمرين السابقين، وربما يعزى السبب في ذلك إلى أن المجتمع المدني يَحتاجُ إلى قاعدة مالية قوية، حتى يعمل باستقلال وبانتماء وولاء وطني، وإلا فإن البديل أن تكون تلك المنظمات وكلاء في الداخل لممولين في الخارج، وهو ما يمثل اختراقاً صريحاً ومعلناً لأية محاولات جادة للإصلاح الحقيقي.
و. ترويض وسائل الإعلام
فوجود جهاز إعلامي قوى ونشط داخل مجتمع ما ربما يساعد على إتاحة المعلومات الدقيقة والوفيرة والتي تساعد في بلورة المواقف وانتقاء السياسات وغيرها، ومن ثم تعد وسيلة لتحصيل السلطة السياسية. أما الذي يلاحظ في الدول الإفريقية أنه خلال سنوات الستينيات والسبعينيات لم تتورع الحكومات التسلطية عن التحكم في أجهزة الإعلام والمعلومات، والتصدي لأعداد هائلة من المناوئين والمعارضين سواء بالاعتقال أو الإعدام لتجاوزهم – على حد زعمهم – الخط الرسمي وبنهاية الثمانينات، وعلى الرغم من التخفيف من هذا التحكم في وسائل الإعلام، وانتهاج سياسات تتسم بشيء من التسامح في مواجهة الصحفيين والناشرين والمفكرين، إلا أن الهدف الذي يبدو هو ترويض وسائل الإعلام، وليس دعم استقلالها بحسبانها أداة من أدوات التحول الديمقراطي.
ز. عدم الاستقرار السياسي
ومن مظاهر ذلك العنف السلبي Privatized والجيوش المسيسة Politicized، ففي كل مكان في أفريقيا جنوب الصحراء ظلت القوات المسلحة مصدر تهديد للديمقراطية حيث يمكن استخدامها من جانب بعض القيادات لخدمة أهداف محدودة، أو للبقاء في السلطة، أو لسحق المعارضين، وقد ينقسم الجيش إلى عدة جيوش قبلية داخل الدولة الواحدة . وقد يهمش الجيش النظامي من جانب السلطة أو الحزب الحاكم ما يدفع بالجماعات النشطة والطموح في صفوفه للتخطيط والاندفاع للاستحواذ على السلطة. إن الوضع السابق يؤدي إلى أمرين مهمين:
أولهما: تعاظم نفوذ الجيش وتأثيره داخل الأنظمة السياسية الأفريقية، بل ويجعله مؤسسة شبه مستقلة عن باقي مؤسسات الدولة، ويزيد من قدرته على المساومة والمناورة.
ثانيهما: أن تزايد الإنفاق العسكري يكون على حساب أوجه الإنفاق في المجالات المدنية الأخرى وخصماً منها، وإضعافاً لها.
ومثل هذا الوضع لا يؤدي إلى استقرار الأوضاع داخل الدول، بل إنه يثير حالة من الخلل المؤسسي، تفضي إلى الإسهام في عدم الاستقرار السياسي.
ح. التحدي الاقتصادي
إن فشل الحكومات الإفريقية المتعاقبة في التخفيف من حدة الحرمان المادي الذي تعانى منه الشعوب الإفريقية يمثل أحد المكونات الجوهرية للأزمة الراهنة في أفريقيا، ومن ثم فإن طريقة مواجهة هذه الأزمة تشكل تحدياً حقيقياً لأي حكومة ديمقراطية ناشئة.
إن قدرة الحكومات الأفريقيةِ لرَفْع قيمةِ الدخلِ المُوَلَّدِ داخلياً أُضعفتْ بجدية بفعل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها دولها، وبَتدهورُ شروط التبادل التجاري للمواد الأوليةِ وهروب رؤوس الأموالِ. واَعتمادُ الكثير من البلدانِ على ضرائبِ التجارة الدوليةِ، وإلى حدّ ما على الضرائب المحلية. وعلى سبيل المثال تشير بعض الدراسات ذات الصلة إلى أن ضريبةِ الدخل التي تقوم الحكوماتِ بجبايتها لعيّنة مِنْ 18 بلدِ أفريقي تمثل ثُلث دخلِهم مِنْ هذا المصدرِ.
ط. تحدي المنظمات الدولية
لقد دأبت الدول المانحة على إقحام المنظمات المتعددة الأطراف ليس فقط الأُمم المتّحدةِ، والمنظمات المتخصصة التابعة لها (البنك والصندوق الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية…) وإنما امتد نفوذها وتأثيرها ليطال المنظمات الإقليمية مثل منظمة الوحدة الأفريقيةِ من قبل، والاتحاد الأفريقي حالياًحيث تم النص في أهدافه الواردة في ميثاقه التأسيسي على دعم المبادئ الديمقراطية ومؤسسات المشاركة الشعبية والحكم الصالح الجيد، وكذلك الاتحاد الأوروبي، وحتى المنظمات شبه الإقليمية كالجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، والجماعة التنموية للجنوب الأفريقي (سادك) وغيرها من المنظمات لممارسة ضغوطها على الدول الأفريقية، من أجل إجبارها على التفاعل والتجاوب مع الجهود الرامية للترويج للديمقراطية في أفريقيا، بل ووصل الأمر إلى اقتراح البعض بضرورة فرض العقوبات الدولية على البلدانِ التي لا تطبق المعايير الدوليّة ذات الصلة بتطبيق الديمقراطية.
ثانياً: العوامل الداعمة للتحولات الديمقراطية في أفريقيا
هناك العديد من العوامل التي يمكن أن تسهم في دعم الجهود نحو إتمام التحول الديمقراطي في أفريقيا ومن تلك العوامل ما يلي:
1. رغبة الشعوب وإرادتها في إعادة بناء الدولة الإفريقية على أسس جديدة
لعل أفضل العوامل التي يمكن أن تسهم بصفة عامة في الارتقاء بعملية التحول الديمقراطي في أفريقيا، هو حرص هذه الدول على المشاركة الحقيقية للرأي العام في القضايا ذات الصلة بتلك العملية، والتطوير الفعلي للدساتير وللقوانين والأنظمة الانتخابية، والقواعد والهياكل البرلمانية وأجهزة وهياكل السلطة التنفيذيةِ وإبداء الاهتمام وإعطاء الأولوية لقضايا ومشكلات المواطنين وخصوصاً تلك المتعلقة بإشباع الحاجات الأساسية وبالبنية التحتية.
إن البحث عن الحلولِ الهيكليةِ للأزمةِ الأفريقيةِ يمكن أن يكون في صورة السياسات التسامحية والتصالحية، والعمل على توسّيعِ الفضاء السياسي أمام منظمات المجتمع المدني والحركات والتنظيمات السياسية الأخرى، والسماح بمشاركة شعبية حقيقية، والتوزيع والوصول العادل للمصادرِ الاقتصادية والاجتماعية، وحماية حقوقِ الأقليات يمكن أن يساعد مساعدة فاعلة في إعادة فحصِ المشروعِات القوميِة الأفريقية المتعلقة ببناءِ الدولة القوميةِ.
ولعل التصور السابق أن يكون من شأنه أن يمثل المصالحالحديثة كافة في المجتمع، ويفتح منافذ للتعبير الرضائي عنها، ويضمن شفافية الانتخابات ونزاهتها، ويفرز نواباً أكفاء، كما أن من شأنه حل أزمة الاندماج الوطني، ومايتفرع عنها من أزمات فرعية مثل: الشرعية، والمشاركة السياسية، والمواطنة، وبالتبعيةيسمح ببناء الدولة الوطنية القادرة على تحقيق الاستقرار الرضائي. وكل ما تقدم يؤدىفى النهاية إلى تجفيف منابع ظاهرة اللجوء…،ولكن هذا الإصلاح الدستوري والسياسي غير كاف وحدة لتحقيق الاستقرار السياسي الرضائي في ظل ظروف الفقر التي تعانى منها المجتمعات الأفريقية، حيث القدرة الإستخراجية للنظم الأفريقية محدودة، وبالتالي فإن قدرتها التوزيعية هي الأخرى محدودة. وبعبارة أخرى فإن خبرة التجارب التنموية في الدول الأفريقية أثبتت عجز الدول الأفريقية فرادى عن تحقيق هدف التنمية، وازداد الأمر تعقيداً مع ما باتتتفرضه ضغوط عملية العولمة على هذه الدول، التي ازدادت فقرا على فقرها. ومن هنا كانمن الضروري البحث عن إطار بديل لعملية التنمية.
2. إعادة تخطيط استراتيجيات التنمية الاقتصادية
ظلت الدول الأفريقية تتحرك ومازالت، باتجاهإعادة تخطيط استراتيجيات التنمية الاقتصادية بما يضمن تغيير نمط الاقتصاد القائم ومحاولة خلق قاعدة صناعية وتنمية القطاع الزراعي وتنمية الموارد البشرية و إعادة استثمار رؤوس الأموال الإفريقية وترشيد استخدام الاستثمارات و الأموال الأجنبية وانتهاج سياسات تنموية شاملة ومتوازنة على مستوى كل من الريف والحضر وتشجيع التعاون والتكامل الإقليمي والقاري على المستوى الاقتصادي.
وبناء على ما تقدم فإن الدول الأفريقية بأشد الحاجة إلي إحداث تحول كبير في مجال التنمية الاقتصادية، وإذا كانت عملية الإصلاح والتحول ينبغي أن تتم من الداخل الأفريقي، وهو ما يتطلب تغييرا في السياسات والمؤسسات والممارسات، فإن على القوي الفاعلة في النظام الاقتصادي الدولي، أن ترتقي إلي مستوي المسؤولية هي الأخرى، وأن تدرك أن سياساتها وممارساتها تجاه الدول الأفريقية أسهمت بدرجة كبيرة فيما تعاني منه دول القارة من مشكلات حتى الوقت الراهن، لذا فهي مطالبة بالتخفيف من حدة المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها القارة، سواء بتقديم التعويضات عن فترة استنزاف موارد القارة إبان الحقبة الاستعمارية، أو خلال المراحل اللاحقة لها، أو من خلال إلغاء الديون والفوائد المتراكمة عنها، وكذلك من خلال زيادة إسهام دول القارة ونصيبها في النظام الاقتصادي الدولي.
3. إعادة إصلاحالشرعية السياسية
إن حركة الإصلاحات الديمقراطية في أفريقيا منذ عام 1989 قد تؤدى إلى عدة احتمالات تتراوح بين استمرار بعض الزعماء المتسلطين، وتصل إلى حد ظهور دورات متتابعة من الحرية السياسية، وانعكاساتها تؤدى في النهاية إلى تعميق الحكم الديمقراطي وتأصيله، ويبدو أن حدوث أي من هذه الاحتمالات لا يعتمد فقط على التخلص من سلطة الحكام المستبدين وأعوانهم الأساسيين في النظم القائمة، ولكنه يعتمد كذلك على إعادة الإصلاح Restoring والتجديد للشرعية السياسية، بمعنى تعزيز القبول الشعبي من جانب المحكومين للحكام وتدعيم قوى المعارضة وقوي المجتمع المدني بعامة وتدعيم التلاحم فيما بين فصائلها وتعزيز إيمانها بالديمقراطية وبمصالحها و بمكاسبها الحقيقية.
من ناحية أخرى فإن انتهاج سياسات تصالحية وتسامحية داخل مجتمع الدولة الأفريقية تجاه جميع القوى والتنظيمات السياسية والمسلحة، يمكن أن يسهم بدرجة ملموسة ومباشرة، في تعزيز الشرعية للنظام الحاكم، وأيضاً في دعم  عملية التحول الديمقراطي، وذلك أن تصفية المظالم القديمة، والتي تسببت في إحداثها النظم البائدة هي إحدى ضرورات التحول الديمقراطي؛ حتى و لو تطلب الأمر تعويض الأفراد والجماعات المقهورة عما لحق بهم من مظالم. كما أن إظهار التضامن والتسامح من جانب النظم الحاكمة الديمقراطية يعزز من عملية التحول الديمقراطي، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال التأكيد والتحديد لتوجهات جديدة تخص المجتمع المدني الأفريقي، واحترام الرأي للرأي المعارض، وقبول وجهات نظر الآخرين والاستعداد لتقبل الحلول الوسط والتوفيقية، حيث إن التوجهات الثقافية السائدة في نظم المجتمعات الإفريقية لا تزال تدور في فلك الإثنية والتحزب الإقليمي، وهو ما يضعف من كفاءة النظام الحاكم، وينذر بتدخل العسكريين، وتقويض التجربة البشرية الديمقراطية، أو دفعها للدوران في حلقة مفرغة من التجريب.
4. تحييد المؤسسة العسكرية
مع التسليم بأهمية وجود الجيوش وحتميته في الدول الأفريقية المعاصرة، بوصف ذلك ضرورة لضمان شيوع الأمن ودوام الاستقرار، ولضمان وجود دولة النظام والقانون واستمرارها، والمحافظة على هيبة الدولة وسيادتها في مواجهة أية قلاقل داخلية أو استفزازات خارجية، إلا أن الأمور داخل دول القارة الأفريقية درجت في الغالب على أن تسير بعيداً عن هذا المنحى، وذلك عندما تورط هؤلاء العسكريين في العديد من الانقلابات والتمردات العسكرية، والتي لا تتوقف تأثيراتها السالبة عند حدوث تغييرات متزامنة لأنظمة الحكم، وإنما تنصرف العديد من تلك التأثيرات إلى تعاظم قناعة هؤلاء بمشروعية ما يقومون به من ناحية، وبأنهم الأجدر على إحداث التغييرات الضرورية، وفي التوقيتات التي يرونها مناسبة، وبغض النظر عن الفراغ السياسي والدستوري والمؤسسي الناجم عن تحركاتهم، وبغض النظر أيضاً عن التكاليف التي تتحملها ميزانيات هذه الدول جراء حدوث مثل هذه الأمور، سواء تعلقت بتعطل الخطط والمشروعات التنموية، أو بالشراكات والاتفاقيات الدولية، أو تراجع بل هروب الاستثمارات الأجنبية، فضلاً عن أن تدخل العسكريين في الحياة السياسية على هذا النحو ينزع عن المؤسسة العسكرية صفة الحياد التي ينبغي أن تتسم بها، بحسبان أن دورها ذا طبيعة دفاعية داخلياً وخارجياً، وأنها أيضاً إحدى المؤسسات الرسمية للدولة، التي يفترض أنها تعمل معاً من أجل حسن تسيير أمور الدولة، وبما يتماشى وأهدافها ومصالحها العليا.
وفي ذات الاتجاه فإن ضمان حياد الجيش، يعد من الدعائم الأساسية لاستقرار الأمن، الذي هو أمر لازم وضروري، إذ هو أحد المتطلبات المهمة لحماية الدولة، ولحماية توجهاتها وسياساتها وممارساتها داخلياً وخارجياً، بمعنى أن حياد الجيش في الحياة السياسية يعد بمنزلة صمام أمان لدعم التحول الديمقراطي السليم، وللحيلولة دون إقحامه في الصراعات الحربية والسياسية وصراع المصالح الضيقة للنخب الحاكمة، هو أمر جدير بالاهتمام وبالمتابعة، ولكن هذا الأمر على أهميته له متطلباته.
5. ضرورة الدور الدولي الإيجابي
إن من الأمور التي تبعث على الاستغراب تارة، والاستغراق في التأمل تارة أخرى، أن الدول الليبرالية/ المانحة على الرغم من أنها تملأ العالم ضجيجاً وصخباً حول حتمية الديمقراطية، في مناطق العالم المختلفة، ومن بينها القارة الأفريقية، إلا أنها في واقع الممارسةِ الفعلية، لا تقدم دليلاً مادياً مقنعاً على صدقيتها، فتلك الدول لا تجيد سوى أعمال الترويج لأيديولوجيتها Promotion، لا لأي شئ سوى لدخول تلك الدول في حظيرتها، إلى أن يحين البت في أمورها، لقد كان من الصعب عليها مثلاً تَعْبِئة المجموعة الدوليةِ للعملِ الفعّالِ تجاه الديمقراطياتِ الناشئةِ.
كما كانت البلدان الغربية بخيلةُ عندما يتعلق الأمر بالمساعدُة في بناء ديمقراطيةَ حقيقية في أفريقيا، بل وحذرةَ للغاية، سواء من خلالها أَو من خلال المنظماتِ الدوليةِ، في مساندة الأنظمةَ المنتخبة ديمقراطياً أثناء الأزمات. كما هو الحال عندما خرجت القوّات المُسَلَّحة عن حيادها بتدخلها في الحياة السياسية والاستيلاء على السلطة في ساحل العاج Cote d’Ivoire وبوروندي، وبالمثل عندما حدثت عمليات القتل الجماعية في رواندا، وشرق الكونغو، وَقفتْ ديمقراطياتَ العالمَ على الخطوط الجانبية، متردّدة ومشلولة على ما يبدو.
لقد حدث هذا بوضوح خلال فترة التسعينياتِ من القرن العشرين، كما أنها تقف عاجزة أمام حِماية المجتمعاتِ الأفريقية في مواجهة النُخَب الإقليمية/ الإثنية Ethno-Regional الطموحة، وأسياد الحرب، والسياسيين الطَمُوحين والضبّاط العسكريين الموالين لهم، وليس مستغرباً والحال هكذا أن ترى الدول الليبرالية أن هذا هو الوجه المشرق، أو الجانب المتسامح لليبراليةThe Tolerant Side of Liberalism.
ومما تجدر الإشارة إليه بشأن الدور الدولي ومدى ضرورته وجدواه، أنه في الوقت الذي تثار فيه التساؤلات حول التحرّكِ الناجحِ للأطراف الدولية نحو إحداث التحولات الديمقراطية في أوربا الشرقية, فإن هناك أيضاً تساؤلات بذات القدر حول التفاوت والتباين في التشجيع والدعم الخارجي للديمقراطيةِ عندما يتعلق الوضع بأفريقيا، ولذلك فإن على تلك الأطراف أن تأخذ في حسبانها الاحتمالات المتوقعة لإخفاق التحولات الديمقراطية في أفريقيا، وأن تكون على استعداد لتحمل تكاليف انهيار التحولات الديمقراطيِة ومخاطر ذلكِ في أفريقيا، إذا ظلت الأمور تسير على نفس المنوال، وبذات التخاذل والتقاعس الذي ماز سياسات الدول المطالبة بحتمية التحولات وممارساتها، دون الإسهام الفعال في تقديم المتطلبات وتلبية الاحتياجات، إلا إذا كان المستهدف من وراء تلك السياسات والممارسات هو التدخلات في شؤون الدول لتحقيق أهداف ومصالح أخرى مغايرة للمعلن بشأن الديمقراطية والليبرالية وغيرها من تلك الشعارات، التي ظلت ترفع في كل مناسبة للتكالب على أفريقيا.
وبناءً على ما تقدم فإن الدور الدولي سواء من خلال الدول الليبرالية المتقدمة، أو من خلال المنظمات الدولية هو دور مهم في ظل المرحلة الانتقالية الراهنة، حيث إن معظم الدول الإفريقية تعانى من حدة الأزمة الاقتصادية بكل أبعادها وتبعاتها، ومن ثم يتحدد دور دولي مهم للفاعلين الدوليين يتمثل في اتخاذ السياسات الاقتصادية اللازمة لمساندة تلك الإصلاحات الداخلية الإفريقية، وبما يساعد على تعزيز عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا وتثبيتها.
تقييم عملية التحولات الديمقراطية في أفريقيا
أولاً. التحول الديمقراطي كأيديولوجيا للإصلاح السياسي
1. التحول الديمقراطي كإطار فكري للإصلاح السياسي
في العقد الأخير من القرنِ العشرينِ، انضمت أفريقيا إلى الموجةِ الثالثةِ من الديمقراطية. ومن مظاهر ذلك إفساح العديد من النظم العسكرية المجال أمام الحكوماتِ المدنيةِ، وتحول الكثير من النظم غير الحزبية ونظم الحزب الواحد إلى نظم تعددية سياسية تنافسيةِ. ومن هذا المنطلق فإن تناول موضوع الإصلاح السياسي إنما هو مجرد محاولة لتوضيح هذا الانتقال؛ من خلال تُقديّمُ وتقييم التحليلات والتفسيراتِ الرئيسةِ له؛ ويَفْحصُ تأثيراتها على الاختيارات والبدائل المطروحة على أجندة الحكوماتِ الأفريقية والسياساتِ التي اعتمدتها أو تنتوي اعتمادها. لاسيما أن الإصلاح السياسي في مفهومه العام والخاص يفترض فيه أن يدفع تلك الحكوماتَ لمزيد من الالتزام ولتكون أكثرَ مسؤولية، وهو الأمر الذي يتجاوز مجرد الإصلاح السياسي أيضا لخَلقَ الحوافزَ لهم لانتهاج العديد من السياساتِ في المجال الاقتصادي وغيره من المجالات.
2. التحول الديمقراطي بوصفه إطار حركي للإصلاح السياسي
على الرغم من أن مستقبلَ الديمقراطيةِ غير واضح في أفريقيا، إلا أن البعض يرى إمكان وجود قدر من التأثير الإيجابي لعملية التحول الديمقراطي. لاسيما فيما يتعلق بوَضْع العديد من القضايا والأفكارِ الجديدةِ على جداول الأعمال السياسية ذات الصلة بالشأن الأفريقي. ومنها وضع قدر من الحدود أمام الأنظمة الحاكمة الاستبدادية، وانصياع تلك الأنظمة إلى الاعتراف ولو نسبياً بأهمية الحريات المدنية والسياسية الأساسية وضرورتها، وتنامي الاهتمام بالشفافية والمسؤولية في اتخاذ القراراتِ والسياسات العامِّة.
من خلال التعامل مع تجربة التحول الديمقراطي يمكن التمييز بين ثلاثة مجموعات من الدول:
الأولى: أولئك الذين أحدثوا تغييراً ملموساً (نيجيريا، جنوب أفريقيا، غانا، السنغال، مالي، بنين، موريشيوس، بوتسوانا، ليسوتو، ناميبيا، ساوتومي، الرأس الأخضر). وتمثل هذه المجموعة ما نسبته حوالي 23% (تقديرات تقريبية عام 2004)
الثانية: تلك الدول التي تبنّت نمطاً ديمقراطياً شكلياًَ، لكنه بعيد عن المضمون الديمقراطي (زامبيا، إثيوبيا، إريتريا، ليبيريا، أوغندا، موريتانيا، موزمبيق، الجابون، الكاميرون، تشاد، غينيا، توجو، كينيا، النيجر، ساحل العاج، بوركينا فاسو، بوروندي، جزر القمر، جيبوتي، تنزانيا، غينيا بيساو، سيشل، جامبيا، الكونغو برازافيل، مدغشقر، ملاوي). وتمثل هذه المجموعة ما نسبته حوالي 44% (تقديرات تقريبية عام 2004)، ويلاحظ أن أغلب هذه الدول من أنظمةَ الحزبِ الواحد سابقاً، فهذه البلدانِ لَها رؤساؤها والنُخَبُ المساندةُ لها، والتي تَعلّمت كَيفَ تَستعمل اللغة والدعاية الرسمية حول اعتماد الديمقراطيةِ بدون الإيمان العميق بروحِها، لاسيما مبدأ تداول السلطة Alternance في أنظمة الحكم، وإصرارها على استمرار النظم الاستبدادية Autocratic Regimes على رأس تلك الدول، وهو ما يترتب عليه تنامي الجماعات الرافضة Rejectionist للاعتراف بحدوث أي تحول ديمقراطي.
وعلى الرغم من ذلك، ففي انتخاباتها الوطنية استطاعت أن تصمّم قضايا داخلية وخارجية سياسيةِ وأمنية واقتصادية واجتماعية لاكتساب الشرعية إلى جانبها، وهي وإن نجحت في كثير من الأحيان في الفوز بالانتخابات والمحافظة على البقاء والاستمرار، إلا أنها لم تنَجح في خَلْق التوازناتِ السياسيةِ ولا إحداث تغييرات جوهرية في هذه البلدانِ.
الثالثة: وتلك التي لم تمَر بأيّة محاولة ديمقراطية تذكر، حتى الانتخابات التنافسية ذاتها، كان من الصعب إجراؤها، أو الاعتداد بنتائجها إن جرت، نظراً للمخالفات الجسيمة المصاحبة لها، وللمعايير ذات الصلة بها، حتى يمكن احتسابها حرة وعادلة Free & Fair (السودان، الصومال، رواندا، زيمبابوي، سيراليون[1]، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، أنجولا، غينيا الاستوائية، جمهورية أفريقيا الوسطى، تشاد، سوازيلاند). وتمثل هذه المجموعة ما نسبته حوالي 33%. (تقديرات تقريبية عام 2004).
وحتى يمكن تناول الإصلاح الديمقراطي، والتعويل عليه في مجمل عملية الإصلاح السياسي ومستقبله، فإن الأمر يتطلب الاهتمام والتركيز على العديد من العناصر ذات الصلة، ومنها تشجيع التعددية السياسية والحزبية، وترسيخ الانتخابات التنافسية، وتدعيم المعارضة السياسية، وتعزيز المشاركة السياسية، وتفعيل وترشيد أنماط السلوك والممارسات السياسية، واحترام الحقوق والحريات الإنسانية، وتحفيز الالتزام بأداء الواجبات، وتدعيم منظمات المجتمع المدني.
ونتيجة لما تقدم فقد برزت قضية الديمقراطية بوصفها محور أزمة التطور السياسي في إفريقيا منذ الاستقلال، بعد أن فشلت استراتيجيات التنمية التي اعتمدتها الحكومات التسلطية في تحقيق المهام السياسية التي حددتها, وبدلاً من الوصول بالمجتمع الأفريقي إلى حالة من الوحدة والتجانس، دفعت به إلى حالة الانقسام والتمايز الإثني/ العرقي, وبدلاً من تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية, عملت على نشر الفساد وعدم المساواة في المجتمع, وبدلا من تحقيق التنمية الاقتصادية عززت الكساد المادي والانحراف، وبدلاً من تأسيس أنظمة سياسية فعالة، خلقت توجهات انفصالية وانقلابات عسكرية وحروباً أهلية، ما أدى إلى بقاء المجتمعات والشعوب الأفريقية رهينة الأزمة الدائمة, والتي يعزى السبب في تكوينها والإبقاء عليها إلى غياب الديمقراطية, ذلك أن التحول الديمقراطي في إفريقيا، لا يعكس فقط الجوانب النظرية والأخلاقية التي تقف وراء البحث عن بديل للمأزق السلطوي القائم، وإنما يعكس كذلك المطالب الشعبية الملحة من أجل التغيير والإصلاح.
ثانياً. مجالات الإصلاح الديمقراطي
يرى البعض أنّ أنظمةَ أفريقيا الناشئة في الديمقراطية ليس من الضروري أن تُنجزُ معجزات اقتصادية. لكي تسير في طريق الديمقراطية، وإنما هي في حاجة لإنْجاز اليسير نسبياً: مثل ضمان حكم القانونِ، حِماية الحقوق والحريات الفردية، وأن تسيطرُ على الفسادِ وأن تجري الانتخابات بطريقة سليمة ونزيهة. وهو ما يندرج تحت ما يمكن تسميته بأن يكون هناك “حكم جيد”.
وفي هذا الشأن يمكن الإشارة إلى ما يلي:
1. تشجيع التعددية السياسية وترسيخ الانتخابات التنافسية
أ.تشجيع التعددية السياسية والحزبية
من الضروري في إطار أية عملية حقيقية للإصلاح السياسي إفساح المجال أمام جميع القوى الوطنية، وكذلك أمام جميع المواطنين الراغبين في المشاركة السياسية، والعمل على ضمان مشاركتهم الفاعلة سواء على مستوى المؤسسات الحكومية أو غير الحكومية، حيث إن هؤلاء لا يقفون في طليعة المسيرة الديمقراطية فحسب، ولكنهم يشكلون العناصر الفاعلة في تدعيم استقلال المصالح الخاصة وحمايتها في مواجهة هيمنة الحكومات التسلطية. وينبغي مراعاة أن هذه الخطوة لن تتحقق بدون وجود التعددية السياسية والحزبية التي ستساعد جميع القوى الوطنية من المشاركة في العملية الديمقراطية.
ب. ترسيخ الانتخابات التنافسية
لقد شهدت سنوات التسعينيات من القرن الماضي، والعقد الأول من الألفية الجديدة، إجراء الانتخابات الديمقراطية التي يفترض فيها أن تتصف بالحرية والنزاهة، وتتنافس فيها الأحزاب السياسية المتعددة، ويلاحظ في هذا الشأن تزايد الاهتمام العالمي على المستويات النظرية والتطبيقية بمعايير هذه الانتخابات، التي ترى فيها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية أنها ضرورية وتطالب الدول الأفريقية بأن تتمسك بهذه المعايير، ولهذا تهتم وسائل الإعلام العالمية بنشر تقارير فرق المراقبين الذين يشاركون في العملية الانتخابية ويمثلون الدول الأوروبية والأمريكية والمنظمات الأخرى المتنوعة والمهتمة بأمور التحول الديمقراطي في أفريقيا.
وعلى الرغم من وجود الحكومات المدنية الاستبدادية ودولة الحزبَ الواحد/ الوحيدَ, وشخصنة السلطة Personalistic وكذلك الأنظمة الاستبدادية العسكرية السافرة في أفريقيا على مدار سنوات الستّينيات، والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وعلى الرغم مِنْ أن الكثير من الدول في أفريقيا جنوب الصحراء الكُبرى انتهجت إجْراء انتخابات برلمانيةَ/ رئاسية منتظمةَ. إلا أن عدداً كبيراً من هذه الانتخابات كَانتْ مجرد إجراءات رسميةَ مجرّدة من المضمون، وصمّمَت بالأساس لإضفاء المشروعية على النظم الحاكمة، ولتَأكيد حق النُخَبِ في ممارسة سلطاتها داخل المؤسسات السياسية داخل الدول، ودون السماح أو التَشجيع لأيّ إجراء ملموس يتعلق بالمنافسةِ السياسيةِ.
    وعلى سبيل المثال، فإن “هاستنجز كاموزو باندا” حَكمَ ملاوي في مثال على دولة الحزب الواحد لسَنَواتِها الثلاثين الأولى (1964-1994)، ورغم ذلك فقد ظلت الانتخابات البرلمانيةَ تجرى بانتظام وبثبات في أنحاء البلاد كافة طوال هذه الفترة الزمنية. وبنفس الطريقة، فإن تنزانيا هي الأخرى وتحت زعامة الرّئيسِ الراحل جوليوس نيريريNyerere وخلال السنوات ما بين عامي 1964 وحتى عام 1985، أجريت فيها انتخابات الحزب الواحدَ بانتظام  كُلّ خمس سَنَواتِ منذ عام 1965 حَتَّى نهاية 1990. وقد كانت كل دورة من الانتخابات لا تختلف عن سابقتها، ولا يترتب عليها أي تغييرات ملموسة، وقد كان هذا هو شأن الانتخابات التي كانت تجرى في أفريقيا جميعها في ذلك الحين فهي بالأساس تعبر عن سياسة الدولة، وليس مسموحا فيها بالتنافس، وربما يكون الأمر قد تغير نسبيا منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، حيث أخذت العديد من الدول بالتعددية الحزبية، والانتخابات التنافسية، وإن ظل يعيقها مستوى الحرية ومداها الذي تجري فيه، ومدى النزاهة في إجرائها ومدى الصدقية في نتائجها.
إن أساس الاهتمام بالانتخابات التنافسية يكمن في أن الشرعية التي تترتب على الانتخابات الحرة/ النزيهة، وهي التي تؤسس شرعية النظام الأساس، وشرعية أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية الذين يشغلون مناصبهم طبقا للنتائج المعلنة، ولذلك ففي إطار الإصلاح السياسي والديمقراطي فإن العملية الانتخابية لا تقتصر فقط على صندوق الانتخابات وفرز الأصوات وإعلان النتائج، إنما تبدأ العملية الانتخابية من دفاتر تسجيل أسماء الناخبين، ومدى صدقها ونقائها، ويلي ذلك حق الراغبين في الترشيح في دخول المنافسة الانتخابية، وفي هذه المرحلة توجد قوانين تراقب الأموال التي تنفق في الانتخابات، وكذلك قدرات وإمكانات المرشحين في الحصول على فرص متساوية في الإعلام خاصة في الدول التي تمتلك وسائل الإعلام، ومدى الدور الذي تقوم به اللجان الانتخابية المستقلة وفرق المراقبين الأجانب الذين يشرفون على العملية الانتخابية، وضمان أن تجري بطريقة مناسبة وصحيحة.
2. تدعيم المعارضة السياسية
ليس بالإمكان تصور إصلاح سياسي جدي وفعال في غياب المعارضة، فهي ضرورية لترشيد الإصلاح، وتحصينه بالأفكار النيرة المستمدة من التجارب الموضوعية، فالمعارضة هي التي تحرر الإصلاح من مجرد المقولات والتوصيفات النظرية غير الواقعية، عبر أداء أفضل لقضايا الإصلاح السياسي، كما أنها مرشحة أكثر من غيرها لتعرية مظاهر الفساد المتفشية في الواقع الفعلي. إن مبادرة الإصلاح السياسي، لكي تكون قادرة على مواجهة المعضلات بكثير من الحزم، لابد من إيجاد توازن بين السلطة السياسية الحاكمة وبين المعارضة المناوئة لها، وهذا التوازن يتمثل في خضوع الطرفين للقانون والالتزام بأحكامه ومقتضياته فيما يخص النشاط السياسي بصورة عامة، وعلاقة الطرفين بعضهما ببعض، وإحلال منهج التعاون محل مظاهر التسلط. إن هناك ضرورة في استمرار المطالبة بترسيخ قيم الاختلاف المشروع والبناء، وهنا يمكن للمجالس التمثيلية والنقابات والجمعيات الأهلية والإعلام أن يسهموا في نشر ثقافة الحوار بين الأطراف المختلفة، ومنع تفشي التطرف والراديكالية والعنف حتى يظل الصراع السياسي يدور سلمياً.
إن وجود مصاعب وتحديات لا يصرف النظر عن ضرورة بل وحتمية الإصلاح السياسي، فالإصلاح مطلوب في الوقت الحالي، وعلى النظام الحاكم أن يشرع في هذا الإصلاح عبر القضاء على عوامل الضعف الظاهرة فيه، وعبر إصلاح آلياته الداخلية وعبر التخلي تدريجياً عن مظاهر النزوع نحو مركزية السلطة، أما المعارضة فعليها أن تلتفت إلى نفسها أولاً، لتصلح ما تعاني منه من تناقضات وإخفاقات، ثم تتوجه ثانياً إلى الدولة والمجتمع لتسهم بقدر المستطاع في إصلاحهما، ومن ثم فإن الطرفين السياسيين: السلطة والمعارضة، مطالبان بالإصلاح الذاتي، ثم التحرك معاً من أجل تحقيق الإصلاح بمفهومه العام.
3. تفعيل وتعزيز مبدأ تقاسم السلطة
في العديد مِنْ الدول الأفريقيةِ، واجهت الدول الليبرالية/ المانحة عقبات ربما تكون غير متوقّعة، فيما يتعلق بالواقع السياسي الأفريقيِ المحليِ، حبث كانت هناك الكثير من العقبات والقيود القويَّةَ التي تواجه عملية التحولات الديمقراطية، ومن ذلك أن النُخَبِ السياسيةِ ليست على استعداد Unpreparedness للعَيْش بالقواعدِ والنظم الديمقراطيةِ، والدليل على ذلك تصاعّدُ التَوَتّراتَ العرقيةَ قبل الانتخابات التنافسية, فضلاً عن وجود مجتمع مدني ضعيف، وعدم كفاية المعلومات وغيرها, هذا إلى جانب استشراء الركود الاقتصادي، وقبل كل شيء وجود بيئة سياسية تفتقد إلى الأمنِ، ودول تتنازعها المجموعات الإثنية/ العرقيةِ.
وأنه مع التسليم جدلاً بإمكان وجود ديمقراطية الأغلبية Majoritarian، إلا أن هذا لا يعني إمْكِانُ تجاوز المخَاطَر التي قد تتسبب فيها الأقليةِ، ولاسيما عندما يقع تجاوز معاييرِ الاعتدال وضبطِ النفس من جانب قوى الأغلبية. بمعنى أن أية مجموعة أقلية، عندما تكون غير قادرة على المُشَارَكَة في عمليةِ صنع السياسات Policymaking، يُمْكِنُها عملياً مَنْع نشاطاتِ اتخاذ القراراتِ. لكُلّ هذه الأسبابِ فقد حدثت العديد من التأثيرات والنتائج السلبية في محاولات تطبيق المعايير الديمقراطيةَ على الأداء السياسي، لذلك فإن بعض الزعماء رَفضوا الالتزام بالمعاييرِ الديمقراطيةِ وعَبّؤوا مؤيديهم للتَصَرُّف بعنف تجاه الأقلّياتِ في أوساطِهم. وهو ما يعنى بدوره التعامل مع سلوك سلبي من جانب الأقلية بسلوك أكثر سلبية من جانب الأغلبية، بسبب هؤلاء “الزعماء السيئين”، الذين مازالوا بعيدين عن ثقافة المشاركة السياسية وقواعد تقاسم السلطة عند أية مستويات لضمان بقاء عملية التحول الديمقراطي واستمرارها وتفعيلها.
4. تفعيل وترشيد الممارسات السياسية
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن عملية إعادة تأسيس الدولة الأفريقية أو صنعها تدل على أن عملية التغيير والتحول السياسي في أفريقيا المعاصرة ما زالت محدودة بالمركز، وان عملية إعادة التأسيس تجري بالأنماط والإجراءات نفسها التي سبق أن فشلت في أفريقيا منذ الستينيات، ومن ثم فان إستراتيجية “القمة ـ القاع Top – Down” لا تستطيع تذليل المشكلات التي تعانى منها الدولة، وذلك لأنها غير قادرة على دمج السكان وتوحيدهم، أو وضع هياكل للعمل الجماعي، مقبولة من جميع القوى داخل المجتمع، لذلك فإن إعادة تأسيس الدولة الأفريقية، تتطلب حل هذه المشكلات إذا أرادت التعامل مع التنوع الإثني والديني، على مبدأ أنه يمكن للشعوب أن تحكم نفسها أفضل في ظل نظم فيدرالية ومشاركة، وتفعيل على مستوى جميع أجهزتها، وكذلك التأسيس لهياكل حقيقية وحيوية أو متطورة للحكم المحلى.
كذلك فان أفريقيا تعانى حالياً فترة من التحول نحو الإصلاح وإعادة التنظيم السريعة، وقد يكون توجهها هذا للأفضل أو للأسوأ، وعلي سبيل المثال فالمشكلات الاقتصادية خلال السبعينيات والثمانينيات قادت العديد من الدول الأفريقية إلى انتهاج سياسات اقتصادية على المستوى الكليMacro، وبرامج للتكيف الهيكلي، ومن ثم فان النتائج المترتبة على ذلك لم تقد إلى تغيير أو تحسين جوهري، وإنما اقتصر الأمر على مجرد إعادة صياغة مؤسسات واستراتيجيات الستينيات. ربما في أطر جديدة وتحت مسميات جديدة، ولكن جوهرها ومضمونها لا يختلف عن ما يجري الإعلان عنه وعن اعتماده في العقد الأول من الألفية الثالثة، ولذلك فإن هناك حالة من الإحباط واليأس تشيع بين المستويات المختلفة داخل الشعوب الأفريقية بأن أي حديث ذا معنى عن الممارسة والمشاركة السياسية والديمقراطية هو أمر مازال سابقاً لأوانه، لاسيما في ظل وجود هذا الكم الهائل من المشكلات والتحديات التي تواجه الدول الأفريقية.
وتأسيساً على ذلك فإن الحاجة تبدو شديدة لإعادة المراجعة الدقيقة والموضوعية لمثل تلك التجارب والممارسات لحالات الدول الأفريقية، وان تنبع الإرادة الحقيقية للتغيير والإصلاح السياسي من داخل تلك الدول ذاتها، وبما يتناسب مع قدراتها ومتطلباتها. ولا يمنع هذا بأية حال من الانفتاح على تجارب الدول الأخرى في العالم الخارجي، ومحاولة الاستفادة منها في وضع السياسات والبرامج والاستراتيجيات الإصلاحية المختلفة.
ومن ناحية أخرى فيبدو ضرورياً أن يكون هناك متابعة عادلة من جانب الجهات التمويلية الدولية، لإعادة التجديد ولإعادة التأسيس للأوضاع المختلة في الدول الأفريقية، وخصوصاً في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بحسبانها أدوات رئيسة لأية إصلاحات سياسية حقيقية.
ثالثاً. تقييم التجربة الديمقراطية الأفريقية
تعد عملية التحول عن نظم الحزب الواحد، والنظم العسكرية، نتيجة للاحتجاجات السياسية، والمطالبة بالأخذ بالإصلاحات الليبرالية، و السعي لإقامة انتخابات تنافسية، وهو ما ترتب عليه ـ غالباً ـ إقامة أنماط جديدة للحكم، إلا أن عملية الانتشار تلك يلاحظ عليها أنها لم تكن على وتيرة واحدة، وبنفس المدى في كل مكان، ومع ذلك فهذه الحركات والإجراءات المؤسسية كانت واضحة بدرجة ما في معظم الدول الأفريقية، ومن ثم فقد بلغت التحولات إلى أبعد مدى يمكن أن تصل إليه في واقع الحياة السياسية الأفريقية، بالمقارنة بما تحقق من تحولات سابقة في الفترة الممتدة منذ الاستقلال وحتى أوائل موجة تحولات تسعينيات القرن العشرين، والتي تصل إلى نحو ثلاثين عاما، وقد كان من المعتقد أن تجري عملية التحول لأنظمة الحكم في أفريقيا خلال السنوات اللاحقة بمعدلات كبيرة، في ظل الضغوط المتعددة والمتنوعة التي تتعرض لها دول القارة سواء من الخارج أو من الداخل المدعوم من الخارج أيضاً، إلا أن عملية التحول تلك واجهتها العديد من القيود والمعوقات، ومنها:
1. جدلية العلاقة بين الليبرالية السياسيِة والإصلاح الاقتصادي
إن العلاقة فيما بين الليبرالية السياسيِة والإصلاح الاقتصادي ارتبطت بالكثير من السجال والجدال حول أولوية أي منهما على الآخر، بمعنى أن الإشكال هنا يكمن فيما ينبغي البدء به، وقد تعددت التوجهات في هذا الشأن، ويمكن إجمالها في ثلاث مجموعات على النحو التالي:
 الأولى: ويرى الآخذون بها والمدافعون عنها ضرورة البدء بعملية الإصلاح الاقتصادي وإعطائها الأولوية، على افتراض مؤداه أن بناء الدولة اقتصادياً سيؤدي حتماً في المرحلة اللاحقة عليه إلى إعادة الاهتمام والبناء السياسي، ويكون التدليل على ذلك بتجارب الآخرين، ومنها التجربة الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فالجهود التي بذلت في ذلك الحين لم تتجه نحو إعادة البناء السياسي بقدر إعطاء الأولوية لإعادة الإعمار والبناء الاقتصادي، كما حدث في تجربة مجموعة الدول المسماة بالنمور الآسيوية.
ودعاة هذا الرأي يرون أن دولاً مثل تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة ـ وقد كانت أنظمتها الحاكمة من قبل ذات طابع استبدادي ـ ما كان لها أن تنفتح وتصبح أنظمة ذات طابع ديمقراطي، إلا بعد أن انفتحت اقتصادياً بمعنى أن الانفتاح الاقتصادي يؤدي إلى الانفتاح الديمقراطي. وكذلك تجارب عدد من دول أمريكا اللاتينية، التي سارت في ذات الاتجاه الرامي لإعادة البناء الاقتصادي يجعله أولوية، على الرغم من وجود أنظمة استبدادية. وتأخذ معظم الدول الأفريقية بهذا التوجه، وترى فيه الأولوية التي ينبغي لأية جهود وطنية أو إقليمية أو دولية أن تتحرك باتجاهه وتعتقد في نجاعته.
الثانية: يرى الآخذون بها والمدافعون عنها ضرورة البدء بعملية الإصلاح السياسي وإعطائها الأولوية، على افتراض مؤداه أن بناء الدولة سياسياً سيؤدي حتماً في المرحلة اللاحقة عليه إلى إعادة الاهتمام والبناء الاقتصادي، ويشيرون في هذا الشأن إلى أن الفساد السياسي، الذي تعاني منه الدول الأفريقية ينبغي أن توضع له نهاية ابتداءً قبل أية محاولة لإعادة البناء الاقتصادي.
لذا، فقد كانت هذه الحكومات في موقف شديد الصعوبة ـ حتى في ظل أفضل المقاصد لها ـ لكي تبدأ عمليات تنمية وتغيير حقيقي في مستوى النمو الاقتصادي وبدرجة تمكنها من خلق فرص عمل، ورفع مستويات الدخول، ومنح مؤسسات الدولة مدخلات مالية تمكنها من زيادة قدرتها على الإنفاق على الرفاهة الاجتماعية. وإذا ساد هذا المناخ من النمو الاقتصادي، سوف يسهل إرساء حكم ديمقراطي.
ولكن الأمور ازدادت سوءاً، فعلى الرغم من البيئة العالمية غير المواتية، لم تتخذ نظم الحكم الجديدة أي خطوات إصلاحية جادة، لتغيير حالة عدم المبالاة التي تسيطر على الحكومة، والممارسات غير اللائقة التي تنال من صدقية النظم السلطوية. وقد تكون هذه من الخصائص المميزة لانطباع النخب الحاكمة عن سلطة الدولة، وأنها لابد وأن تستخدم لتحقيق مكاسب شخصية في المقام الأول، سواء كانت هذه المكاسب في صورة ثروة أو سلطة، أو مركز اجتماعي، أو نفوذ شخصي، بدلاً من استخدام السلطة في خدمة الصالح العام.
2. محدودية استجابة الأنظمة الحاكمة الأفريقية
إن الوقائع السياسية الرئيسة الحادثة والمتلاحقة في مجال التحول لأنظمة الحكم في أفريقيا، وإن قامت على أساس الاحتجاجات السياسية المتتابعة، والتي بلغت أوجها في عام 1991، وتلا ذلك الأخذ ببعض الإصلاحات الليبرالية منذ عام 1992 وظهرت نتيجة ذلك في تعاظم الأنشطة الانتخابية خلال عام 1993، وكذلك تزايد المؤشرات عن الأخذ بالديمقراطية في عام 1994، فإن تتابع الأحداث المرتبطة بتلك التحولات، برهنت بشدة على اتسام هذه العملية بالتسرع والتعجل، بمعنى أن تزايد الاحتجاجات الجماهيرية، وان كانت قد أسهمت إسهاماً مباشراً في التأثير على قرارات النخبة الحاكمة للأخذ بالإصلاح السياسي، إلا أن التوسع في معايير الإصلاح، ربما حازت التأثير المطلوب ومن ثم كانت التحولات الديمقراطية، وممارسات النظم الحاكمة في هذا الشأن شكلية، أكثر من كونها جوهرية، وكانت بمنزلة العمليات السياسية الطارئة.
ومن الضروري في هذا الشأن توضيح أن أية عملية تقييم لأداء نظام سياسي ما في أفريقيا تستلزم أساساً اقترانها بركيزتين: أولاهما. الركيزة الاقتصادية، وتتضمن كل ما يتعلق بالأصولَ الاقتصادية، والوظائف والخدمات الاجتماعية الأساسيةِ. وأخراهما. الركيزة السياسية، وتتضمن كل ما يتعلقبالسلامَ والاستقرار، والحريات المدنية، والحقّوق السياسية، والكرامة الإنسانية، والمساواة أمام القانونِ، والمشاهد في الحالات الأفريقية، أن التحسن الذي يمكن أن يطرأ على المستويين من الصعب تحقيقه، والشيء ذاته يذكر إذا ما جرى التركيز على إعطاء الأولوية لإحداث تحسن على المستوى السياسي، وعند هذا الحد تتضح ضرورة الانفتاح على تصورات واقعية إذا ما كانت هناك رغبة حقيقية في صنع تحول ديمقراطي فعلي.
في بعض الاستثناءات (بوتسوانا، موريشيوس، ناميبيا، وإلى حد ما في أوغندا وجنوب أفريقيا)، وتظل التنمية الاقتصادية ضعيفة في القارة . بالإضافة إلى أن تجديد النداء الديمقراطي الذي بدا واعداً في أوائل التسعينيات قد تراجع في العديد من الدول (زامبيا، زيمبابوي، كوت ديفوار). وأخيراً وربما الأكثر بروزا فقد انهار عدد من الدول وانخرطت في الحروب الأهلية (مثل ليبيريا، السودان، سيراليون، الصومال، رواندا) أو في حروب خارجية مع دول الجوار مثل إثيوبيا، اريتريا، والكونغو.
3. التعجل المرحلي في تطبيق التحولات الديمقراطية
إذا كانت التحولات الديمقراطية تمثل ضرورة عند البعض، وذلك من منظور أنه لا بأس من الاستفادة من تجارب الآخرين، طالما كان ذلك نابعاً من حرية الإرادة، وطالما كان جوهره التدبر والتبصر، ومحاولات جادة للارتقاء بالمصالح العليا للدول، ولا بأس كذلك من المبادرة بالتغيير تماشياً مع التطورات العالمية، طالما جاءت من الداخل وتوافر لها كامل الرغبة والحرية والمتطلبات المناسبة، وليس مجرد الاقتباس والتقليد ومحاولات استنساخ واستزراع تجارب تستعصي على العقول والقدرات، ولا تراعي مقتضيات الظروف والأحوال والمشكلات التي تواجه تلك الدول، وظلت لسنوات طويلة تعاني من ويلاتها.
لقد حدثت التحولات من جانب النظم الحاكمة الأفريقية بسرعة وبتعجل، ففي أقل من أربع سنوات مضت منذ بداية حركات الاحتجاجات السياسية في عام 1990، والتسابق محموم في تعديل الدساتير، وتأسيس الأحزاب، وإجراء الانتخابات التنافسية، وفى عام 1993، فقد أعلنت أكثر من 35 دولة أفريقية جنوب الصحراء عن إجراء العديد من التغييرات الرامية للتحول الديمقراطي، وبحلول ديسمبر 1994 أعلنت تلك الدول عن إتمامها لعملية تغير نظم حكمها، وبحيث بلغ متوسط الفترة الزمنية بين بداية التحول والوصول إلى منصب الحكومة الجديدة حوالي 35 شهرا ( وبلغت في ساحل العاج 9 شهور فقط ) وبالمقارنة مع التجارب المعاصرة، ومنها تجربة بولندا في أوروبا، والبرازيل في أمريكا اللاتينية، فان إضفاء الطابع الديمقراطي أخذ في التطور التدريجي في مثل تلك الدول، وعلى فترات لا تقل عن عقد من الزمان، ومن ثم فان تحولات نظم الحكم الأفريقية بدت محمومة ومتسرعة في الوقت الذي اقترنت عملية إضفاء الطابع الديمقراطي، بإضفاء الطابع المؤسسي لعمليات إقامة حكومات شعبية، وذلك في وقت قليل لا يتناسب مع عظم الإجراءات، ومتطلبات المؤسسات المراد ترسيخها في الدول الأفريقية.
ومن ثم فإن التحولات الديمقراطية المبتغاة والتي تكفل تداولاً سلمياً للسلطة وتمثيلاً صادقاً للإرادة الشعبية في دوائر صنع القرارات، ووجود آليات للمساءلة والمحاسبة، لا يمكن أن تأتي من فراغ، أو من تخبط عشوائي، أو من خلال مجرد التجريب وفقاً لقاعدة المحاولة والخطأ Tray & Error فقد ظلت تلك الدول طوال عدة عقود مضت منذ الاستقلال وهي تخضع لتلك القاعدة، وآن لها أن تستثمر محاولاتها الفاشلة وأخطاءها السابقة، وأن تكون لها رؤية إستراتيجية شاملة تستهدف من وراء إحداث تلك التحولات الديمقراطية المصالح العليا لها، ويشارك في وضعها وتنفيذها جميع المؤسسات والقوى والتنظيمات السياسية، وتحوز رضى القوى والقواعد الشعبية وقبولها، وتحدد غاياتها وأولوياتها وتوضحها، وفقاً لقدراتها وإمكاناتها الذاتية الحالية والمحتملة.
4. اختلال التحولات الديمقراطية
يشير البعض إلى أن إدعاءات الدول الأفريقية ومزاعمها بإحداث تحولات ديمقراطية فعلية، ينبغي أن يبرهن عليها باعتماد دستور يشارك في وضعه عناصر المجتمع كافة، وتوضيح العلاقة القائمة بين السلطات الثلاث مع ضرورة احترام استقلال كل منها، وزيادة مستويات المشاركة السياسية لجميع القوى الشعبية داخل الدولة، وتفعيل دور المرأة والأقليات إن وجدت، والسماح بالتعددية السياسية/ الحزبية التنافسية، وإجراء انتخابات حرة وعادلة إجراءً دورياً ومنظماً، وتشجيع التأسيس لمنظمات المجتمع المدني وتفعيل أدوارها، ومراعاة حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية…وغيرها، ومكافحة الفساد السياسي والإداري بهدف القضاء عليه، واحترام حرية وسائل الإعلام المتنوعة وتعزيزها وتمكينها من التعبير عن الآراء والمواقف ذات الصلة بالأهداف والمصالح العليا للدولة، وأن تسود الشفافية في التعامل بين جميع المؤسسات وداخلها وعلى مستوى جميع مراكز ودوائر اتخاذ القرارات والسياسات، وتحديد المسؤوليات والمحاسبة عن القيام بها وتحمل تبعاتها في جميع المستويات الوظيفية.
وأنه لتعزيز التحرك في عملية التحول على النحو السابق وتفعيلها، فإنه ينبغي بالتوازي مع ذلك ضرورة إنجاز مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية تتمثل في: التحول إلى نظام السوق (الخصخصة)، وعدم تدخل الدولة في فرض الأسعار وترك ذلك لقوى السوق (العرض والطلب)، ورفع معدلات أسعار الفائدة وخفض معدلات الضرائب بهدف تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، وخفض الإنفاق الحكومي، ولاسيما الإنفاق العسكري، والأخذ بمبدأ حرية التجارة والتبادل التجاري التنافسي، ورفع أسعار المحروقات المستهلكة محلياً، ورفع الدعم عن السلع الأساسية.
ويتضح مما تقدم أن أجندة الأعمال والمطالبات بالنسبة للدول الأفريقية، على المستويين السياسي والاقتصادي، هي متعددة ومتنوعة الأشكال والجوانب، والمدافعين عن ذلك يرون أن هذا هو السبيل نحو إرساء التحولات الديمقراطية الحقيقية والتي تؤدي بدورها إلى ما يسمى بالحكم الصالح (الرشيد/ الجيد). والتساؤل الذي يظل يفرض نفسه في مثل هذه المناسبة، هل بإمكان الدول الأفريقية إنجاز ذلك؟ وإذا كانت غالبية الدول الأفريقية تعاني هذا الكم الكبير والمتنوع من المشكلات، فهل سيكون بمقدورها إحداث ولو الحد الأدنى من التحولات بطريقة منتظمة ومتوازنة؟
إن توجهات التحول لأنظمة الحكم في أفريقيا لم تكن خطية Liner، كما أن المؤسسات المسؤولة عن إحداث التحول كانت تعانى من الاختلال أو عدم التوازن، وربما يرجع ذلك إلى غلبة الطابع الشكلي، والمتسرع لعملية التحول تلك، بالإضافة إلى أن تدهور الحريات المدنية حتى بعد عام 1992، والذي أدى في مجمله إلى الإعاقة الحقيقية لليبرالية السياسية، لا يعكس فقط إعادة الانغلاق لبعض النظم الحاكمة السياسية في أفريقيا، بعد أن تعهدت بالانفتاح، ولكن يعكس أيضا العديد من الانتكاسات لحقوق الإنسان، في دول مثل: الصومال، ورواندا، وبوروندي، وغيرها، كما أن موجة التحكم تلك التي اجتاحت نظم الحكم في أفريقيا، والتي بلغت ذروتها خلال عام 1993، لم ينجم عنها سوى الظهور لديمقراطيات هشةFragile .
5. الوضع الراهن للتحولات الديمقراطية في أفريقيا
إذا كانت أفريقيا خالية في الوقت الراهن من الهيمنة الاستعمارية، ومن التفرقة العنصرية، والتمييز العنصري. لكن هناك مجموعة جديدة مِنْ التحديات التي يَجِبُ الاهتمام بها ومواجهتها مثل: الفقر، والايدزHIV، والنزاعات الإقليمية، والعولمة. وجميعها تَتطلّبُ استجابات جذريةُ وعاجلةُ. ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى بعض القضايا ذات الصلة كالتالي:
أ. القضايا الراهنة
(1) القضايا الداخلية للدول الأفريقية
على الرغم من أن قضايا الأمن بأبعاده ومجالاته المختلفة تعد من الأولوياتالمهمة لبدء أية عمليات تحول سياسي وديمقراطي، حيث لا يتوقع أو حتى يفترض التفكير في التحرك ببذل المساعي والجهود للتأسيس لمثل تلك العمليات، فيظل افتقاد النظام والقانون وفي ظل غياب الأمن والاستقرار، فالأمن يبدأ في هذا المجال من حماية الأيديولوجيا الليبرالية فكرة وحركة، وحماية معتنقيها، ومؤيديها، والعمليات والآليات والممارسات المرتبطة بها، ومن ثم فإن افتقاد هذا الأمن يعني انعدام الفرص الحقيقية التي تساعد على تأسيس الديمقراطية وتعزيزها وضمان استمرارها.
وإذا كان مفهوم الأمن وقضاياه والذي يمكن أن ينتج عنه الاستقرار هو مفهوم تتعدد أبعاده ومجالاته، فإن من أهم القضايا ذات الصلة، والتي تمثل الحدود الدنيا له تتركز فيما يلي:
(أ) قضية الأمن الإنساني (البيولوجي)
وتتمثل تلك القضية في الكيفية التي يمكن بها للأنظمة الحاكمة المتحولة ديمقراطياً، وفقاً لتصورات الدول الليبرالية والمنظمات الدولية المانحة، أداء دور ملموس فيما يتعلق بالقطاعات والمستويات الشعبية المختلفة وخصوصاً القاعدة الشعبية العريضة، داخل الدول الأفريقية، والتي ترتبط ببقاء العنصر البشري واستمراره، من خلال توفير الحاجات الإنسانية/ البيولوجية للمواطنين وإشباعها، ولعل هذا هو المحك، بل والتحدي الرئيس، الذي يواجه أي نظام حاكم يبحث عن الشرعية السياسية المفتقدة، وهو أيضاً الدليل المرشد لكيفية استعادتها، فغالب الشعوب في الدول الأفريقية والقواعد الشعبية خاصة التي تمثل الأغلبية الفعلية وتجسدها في تلك الدول، لا تعنيها السلطة ولا حتى الثروة، إذ هما بالنسبة للسواد الأعظم منهم مجرد أضغاث أحلام، وإنما يعنيهم بالدرجة الأساسية، وجود المشرب، والمأكل، والمسكن، والزواج بالطريقة الميسورة والمناسبة.
وإذا نجح أي نظام حاكم في التعامل مع تلك الحاجات الإنسانية وتحقيقها بشكل متناسب، ومتكامل لاستطاع أن ينجز أهم وظيفة في حياة الدولة تجاه مواطنيها، ولنجح في بث الثقة في نفوسهم، فضلاً عن قيم الولاء والانتماء، التي باتت معرضة للتآكل والانكماش المستمر. وهذا الأمر برمته يدخل ضمن القضية الرئيسة في تكوين الأنظمة السياسية المعاصرة، بل ويأتي على رأس متطلباتها وهي قضية المواطنة، أو ما يسمى بعملية إعادة بناء المواطن.
إن هذا التوجه العام يرتبط أيضاً بقضايا السلام والديمقراطية والتنمية في أفريقيا، حيث إنه من الصعب تلبية حاجات المواطنين الأساسية في دولة ما، في ظل شيوع الصراعات والحروب وحالات عدم الاستقرار والاستبداد، وإذا كان مشروع حقوق الإنسان وحرياته يواجه تحديا خاصا في سياق حالات حقوق الإنسان على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، لاسيما في المواقف الطارئة، وفى إطار السعي والنضال من أجل بناء المجتمعات وإعادة بناء الدول، فإن دور الدولة في حماية حقوق الإنسان على درجة كبيرة من الأهمية، لأن الدول لا يمكن لها على المدى الطويل الادعاء بأن الطريق الذي رسمته لمواطنيها هو دائما أمر داخلي، إن واجب الدولة في حماية حقوق مواطنيها وحرياتهم لا يدخل فقط ضمن اختصاصاتها دائماً، وإنما هو واجب مقرر على المجتمع الدولي بأسره، ومن ثم هناك رابطة أساسية بين حقوق الإنسان والسلم والأمن الدوليين.
(ب) قضية الأمن الاجتماعي
إن استقرار العلاقات الداخليةِ وحمايتها من التقلبات وفقاً لمعايير وأساليب وآليات لا تخل بتماسك العناصر المكونة للمجتمع داخل الدولة، والنجاح في بناء الدولة الأمة، أو ما يسمى بإحداث الاندماج الوطني/ القومي، والذي في ظله يعلو الانتماء والولاء الوطني/ القومي على ما عداه من ولاءات تحتية/ دونية، يعد أحد التحديات التي تواجه إرساء ديمقراطية حقيقية، ومن ثم فإن استمرار وجود المجتمعاتِ المنقسمةDivided Societies وافتقاد الثقة فيما بينها، وكذلك افتقاد التفاعلاتُ الإيجابية المؤثرة فيما بين تلك الجماعات واستمرارها سيؤثر بمرور الوقت على إمكان وجود الديمقراطيةُ الناجحُة. وإذا كانت التفرقة العنصريةِ في جنوب أفريقيا، قد مثلت تحدياً أمام جمهورية جنوب أفريقيا وتصنيفها لسنوات طويلة ذات ديمقراطية منقوصة أو معيبة، فإن عملية التغيير السياسي التي حدثت في البلاد في أوائل تسعينيات القرن الماضي، والتي من أبرز مظاهرها إلغاء قوانينِ التفرقة العنصريةِ الصارمةِ، واستبدال الزعماء السياسيين الذين ظلوا يدافعون عن تلك القوانين بزعماء قوميين، واتخاذ العديد من الإجراءات الدستورية والقانونية ساعدت في إرساء ديمقراطية مناسبة.
أما على المستوى الأفريقي العام فإن الأمر في العديد من الدول الأفريقية الأخرى على درجة أكبر من الصعوبة، فإن تحايل زعماء الدول الأفريقية ليس على التحرك نحو إجراء تغييرات أو تعديلات دستورية فحسب كما هو الحال في أوغندا، وإنما يمتد حتى إلى الدساتير المستحدثة، كما حدث في ناميبيا عندما قرر الرّئيسِ الناميبيِ سام نجوما Nujoma الإعلان عن رغبته في إعادةِ انتخابه لفترة ثالثة ـ وهو ذات الأمر الذي حدث في دول أفريقية أخرى عديدة ـ على الرغم مِن أن الشروط الدستورية لا تسمح سوى بالترشح لفترتين اثنتين مدة كل منهما خمس سَنَواتِ، وهو الأمر الذي يضعفَ الأساس الدستوريَ الذي تقوم عليه عمليات التحول الديمقراطي في القارة الأفريقية.
(ج) قضية الأمن الاقتصادي
على الرغم من انتهاء الحرب الباردة، واختفاء حدة الصراع الأيديولوجي العالمي، ودخول القارة الأفريقية إلى ما يعرف بموجة التحولات السياسية/ الديمقراطية، والاقتصادية/ الرأسمالية، وشيوع قدر من التفاؤل بأن مرحلة جديدة من الأمن والاستقرار ستنعم بها أفريقيا بعد تلك السنوات الطويلة من النزاعات والصراعات والحروب الأهلية، إلا أن الجدل حول طبيعةِ الدولة الأفريقيةِ وما يدور تداوله وتفاعله بين مكوناتها داخلياً، وما يتخذ بشأنها خارجياً من قرارات وسياسات وممارسات تصاعد من جديد عقب الانهيار الذي لحق بالاقتصاديات الأفريقيةِ في ثمانيناتِ القرن العشرين، كما أن حالات فشل المؤسساتِ الليبراليةِ العالميةِ في تسعينياتِ القرن الماضي من أجل تَحسين الشروطِ الاجتماعية/ الإنسانية للأغلبية من الشعوب الأفريقية بسبب الشروط السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية.
يدخل في إطارذلك برامجِ التكيف الهيكلي (التقشف Austerity Programs)، والتهميش Marginalization المنظّم لأفريقيا منذ السبعينياتِ داخل الاقتصاد السياسيِ الدوليِ، والتكالب الاستعماري الجديد وكذلك الحروب الأهلية في كل من غرب أفريقيا، وفي منطقة البحيرات الكبرى، وفي القرن الأفريقي، وفي الوسط الأفريقي وفي منطقة الجنوب الأفريقي في نهايةِ فترة الحرب الباردةِ.
وفي الوقت الراهن بينما تتحمّل الدولة الأفريقية تحديات التحول الديمقراطي، فهي تدفع أيضا لحتمية التعامل مع نتائج الاعتماد الاقتصادي المتزايد في إطار ما يعرف بالعولمة, وهو الأمر الذي يعني في بعض جوانبه التعرض للمزيد من الضغوط والخسائر النسبية الناجمة عن ما يسمى بالعولمة السياسية، في إطار الدفع بحتمية الأخذ بالأيديولوجية الليبرالية، واستيفاء الشروط السياسية، وكذلك العولمة الاقتصادية من خلال عدم التراخي في اعتماد برامج التكيف الهيكلي بكل ما تتضمنه من الخضوع الطوعي للسيطرة المالية، والسلطة المتزايدة للأسواق التي تخدم أهداف الدول الصناعية الفاعلة في العالم ومصالحها.
وهو ما يعني أن العولمة باتت تمثل إحدى التحديات الرئيسة التي تواجه أفريقيا في الوقت الراهن، لاسيما في ظل أساليب الهيمنة الرأسمالية العالمية وممارساتها على قطاعات المال والأعمال، وما ينجم عن ذلك من تأكيد التفاوتات في القدرات المختلفة، وفي مستويات الثراء والتقدم، وفي المستويات المعيشية للشعوب عالمياً، ويحدث ذلك على الرغم من المزاعم والادعاءات بأن العولمة ستزيد من الترابط والتقارب والتداخل بين الدول على المستوى العالمي.
ومن ثم فإن العولمة لا تدفع باتجاه زيادة قدرات الدول الفقيرة والنامية، وإنما تضغط في اتجاه الإبقاء على علاقات الاستغلال والسيطرة والتبعية الاقتصادية لصالح القوى الامبريالية العالمية، ولا تقف حدود العولمة عند الأوضاع السياسية والاقتصادية، وإنما تنصرف أيضا إلى العولمة الثقافية من خلال التأثير والتجزئة بل والتفتيت للثقافات المحلية/ الوطنية/ القومية لصالح تثبيت شأن ثقافة الهيمنة العالمية وإعلائها، وإن كان بأساليب مستحدثة، ودون مراعاة للجوانب التنموية والاجتماعية والخصوصيات الثقافية للدول النامية وعلى رأسها الدول الأفريقية.
يبدو جلياً أن قضية الاستقرار والأمن الاقتصادي لا تقل في أهميتها وحيويتها عن الأمن والاستقرار السياسي، ولذا فإن الاهتمام بالأمن والاستقرار الاقتصادي لا ينطوي على مجرد توجيه قدر كبير من الدعم لبعض مشروعات البنية الأساسية أو الإنتاجية، وإنما يتوجب على صناع القرارات ومتخذيها إعطاءه الأولوية، ليس بمعطيات واستراتيجيات الفترة مابين خمسينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث كثر الترويج للخطط والاستراتيجيات التنموية المختلفة، والتي لم تفض سوى لمزيد من التدهور والانهيار الاقتصادي، وإنما وفقاً لتصورات واستراتيجيات مصيرية، يتوقف على الالتزام بها ووضعها موضع التنفيذ الفعلي بقاء واستمرار الدولة أو انهيارها وتلاشيها.
ويشير البعض إلى أن البيئة الدولية ليست بمنأى عن حالة عدم الاستقرار وافتقاد الأمن الاقتصادي، فما يسمى بتقسيم العمل الدولي وعملية صنع القرارات والسياسات واتخاذها داخل النظام العالمي، والتحكم غير العادل من جانب الدول الصناعية الكبرى والشركات متعددة الجنسيات في أسعار كل من المواد الخام والسلع المصنعة (الاستهلاكية والاستثمارية)، وعدم الاكتراث بمضاعفات أزمة الديون، ومثل تلك الأمور وغيرها لا تعيد سوى إنتاج الفقر، وما يترتب على تعاظمه من مشكلات، كما أن الفساد التي تدعى الدول الليبرالية أنها تسهم في مقاومته والحيلولة دون استشرائه داخل الدول الأفريقية من خلال ما تروج له من إصلاحات سياسية/ ديمقراطية واقتصادية/ رأسمالية ليست الأنظمة الحاكمة الأفريقية مسؤولة مسؤولية مطلقة عنه بمفردها، ولكن هناك العديد من الحكومات والمؤسسات والشركات الأجنبية المتورطة في العديد من أسباب وجوده واستمراره، ومن ثم فإن على الدول والمؤسسات المانحة في سياق تعاملها مع الدول الأفريقية أن تنظر إلى محاولات تلك الدول للتخلص من الفقر وتحسين مستويات نموها الاقتصادي ليست استجداءً، وأن ما تطلبه تلك الدول، وما تقدمه الدول والمؤسسات المانحة إنما تمثل اعتذاراً أو حتى وفاءً عملياً عن استنزاف ثروات القارة ومواردها لسنوات طويلة.
(د) قضية الأمن السياسي
تتعدد جوانب الأمن على المستوى السياسي في دول القارة الأفريقية ومن ذلك ما يلي:
·      الافتقاد إلى البيئة الآمنة المناسبة لوجود الديمقراطية واستمرارها
تتسم البيئة الأفريقية في معظم دولها بعدمِ الأمان والاستقرار، وندرة الموارد الماليةِ والتمويلية، كما تفتقد عمليةِ التفاعلاتِ بين مكونات النظام السياسي للتنظيم والفعالية، وكذلك غياب القدرة على المشاركة ومحدودية المنافسةِ. ففي دولة مثل الصومال حيث تشهد البلاد حرباً أهلية منذ عام 1991، في أعقاب الإطاحة بنظام حكم محمد سياد بري، فإن الوضع السائد منذ ذلك الحين هو شيوع حالة عدم الاستقرار والافتقاد للأمن، وتلاشي مؤسسات الدولة، وعلى الرغم من إقامة عدة حكومات (انتقالية وغير انتقالية) فقد فشلت في الإدارة وتسيير أمور الدولة، واستمر التدهور الاقتصادي، وتعاظم حالة الفقر، فهل في ظل مثل تلك الأوضاع يمكن القبول بالحديث عن ما يسمى بالتحول الديمقراطي أو التعامل معه شيئاً واقعاً، وذات الشيء يذكر وإن كان بنسب وبمستويات مختلفة ومتباينة في دول أخرى مثل: ساحل العاج، و ليبريا، وسيراليون، وزمبابوي، ونيجيريا، وأنجولا، وتشاد، وبوركينا فاسو، والسودان وإثيوبيا والكونغو الديمقراطية وغيرها من الدول التي يصعب إدراجها في قائمة التحول الديمقراطي.
·      الافتقاد لوجود أنظمة حاكمة قوية تتمتع بالشرعية السياسية
إن وجوددول أفريقية ذات أنظمة حاكمة ضعيفة، وتَفتقرُ إلى الشرعيةِ السياسيةِ، ومن ثم فهي غير عابئة كثيراً بتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ولا تعبر عن المصالحِ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية الحضاريةِ لهم، ستواجه صعوبات حقيقية في التعامل مع قضايا الديمقراطية ومسؤولياتها ومشكلاتها. فعلى خلاف نظيرِتها من الدول القويِة نسبياً (التي تتسم بالتماسكِ الاجتماعي، وبوجود المؤسسات العامّة الفعّالة، والقدرة على الإدارةِ الاقتصادية الناجحة)، فإن الدول الضعيفة تَفتقرُ إلى وجود القدرةِ حتى على إدارة سياساتها وقراراتها، بل حتى على قوانينِها ووضعها عملياً موضع التنفيذ الفعلي في أنحاء أقاليمها كافة وتحت سلطتها القضائية. فضلاً عن كونها في أغلب الأحيان غير قادرة على ضمان القيام بوظائفِها التنظيميةَ والتوزيعيةَ وتطبيقها بأسلوب عادلِ في أنحاء البلادِ كافة. علاوة على ذلك، فهي غير قادرة تقريباً على مَنْع تفشي الفساد والعنف داخل البلادِ.
ومن هنا يمتد ضعف الدولة، وضعفِ مركزِها وهيبتها السياسيِة في مواجهة التهديدات التي تتعرض لها الأقليات داخل مجتمعات تلك الدول، ولذا فإنّ التأثيرَات الناجمة عن ذلك تسهم في خْلقَ الارتياب وعدمَ الأمان تجاه الأنظمة الحاكمة وتجاه افتقاد الثقة في صدقها، وهو ما يَجْعلُ الأمر صعباً للدولة في التعامل مع مشكلات الديمقراطية والسعي لإيجاد تسويات مناسبة لها، ويقلل من قدرتهاِ على الالتزام طويل المدى بها. كما أن فشل الدولة في الالتزام بقواعدَ العقدِ الدستوريِ وعدمِ قابليته أَو جاهزيته Unpreparedness للتطبيق الفعلي بوصفه حامياً أساسياً للحقوق والحريات والمسؤوليات لا يضعف من قوة الدولة ومن فاعليتها فحسب وإنما يضعف بدرجة أساسية من شرعيتِها السياسيةِ، وقد يؤدي هذا الوضع ليس فقط إلى عزلتها وتدني شرعيتها السياسية فقط، وإنما أيضاً إلى عزلتها الدولية، وأن تتدنى أيضاً شرعيتها الدولية.
إذن ففي ظل شبكاتِ المجتمع المدني ومنظماته السيئة بعامة، وحكم الأقلية متمثلة في النخب الحاكمة (كما هو الحال في إثيوبيا وغيرها) وأساليب السيطرة التي تمارسها داخل مجتمعاتها، وفي ظل التحالفات والصفقات السياسية التي تتمادى فيها النخب الحاكمة مع جماعات المعارضة والجماعات المؤثرة داخل تلك المجتمعات، فإن أية ضغوط من أجل إجبار الأنظمة الحاكمِة على الالتزام بالمعاييرِ والقِيَمِ الدستوريةِ لن تأتي بنتائج مجدية.
يحدث هذا في الوقت الذي طالت تجارب الشعوب الأفريقية مع أنظمتها الاستبدادية/ السلطوية والفاسدة، لكن هناك فرصة لها إن هي حفزت رغبتها وإرادتها للتغيير السياسي الفعلي، من خلال ممارسة ضغوط مؤثرة Counterpressure ذات مغزى وإيجابية تَختلفُ عن مجرد التمنيات والمناشدات والمطالبات. وفي هذا المجال يمكن ـ إلى حدّ ما ـ لمنظمات المجتمع المدني أَنْ تعبّئَ جموع المواطنين للقيام بدور القوى المقاومةCounterforce للأنظمة الحاكمة المستبدة في دول القارة المختلفةِ، إن مثل هذه الجهود التي تبذل والأدوار التي تؤدي من جانب القوى الشعبية والتنظيمات والحركات السياسية المختلفة لا غنى عنها في تطور النظم السياسية، وفي إيجاد الاستقرار والإبقاء على التمسّكِ السياسيِ للقواعدِ والمؤسسات السياسيةِ.
كما يمكنهم أَنْ يَتصرّفوا أيضاً على نحو خلاق باتجاه تحقيق المصالحات العرقية/ الإثنية، ووضع حد للسياسات التمييزية كما حدث في جنوب أفريقيا، أَو أنه يكون بإمكاِنهم أَنْ يُشجّعوا العودةَ وإعادةَ التوطين للاجئين، كما حُدِثَ في ناميبيا. ولكن رغم ذلك فلا يجب الإفراط في التفاؤل بشأن عناصر منظمات المجتمع المدني، ولا أن يعول عليها كثيراً لأداء دور إيجابي في استنهاض عزائم الشعوب وقيادتها، أو لعب أدوار جوهرية في تَحَمُّل أعباء الديمقراطيةِ، حيث إنها منظمات محدودة العدد، مرتبطة بالحضر في الغالب، وفي كثير من الأحيان تكون موضع ريبة وشك من جانب الأنظمة الحاكمة والشعوب في ذات الوقت، وخصوصاً إذا ارتبط الأمر بالتساؤل حول أهداف ومصادر تمويل هذه المنظمات، أو أن يثبت أنها تتلقى دعماً مالياً خارجياً.
أخيراً، فإن قيم الناتج المحلي الإجمالي والتوزيعاتِ الظالمةِ لعوائد موارد الدولة يُمْكِنُ أَنْ يُعقّدا من تعزيزَ عملية التحول الديمقراطيَ وتثيرا تَوَتّراتَ العرقيةَ. لاسيما وأن الشعوب داخل الدول الأفريقية تتوقّعُ، نتيجة للبدء في التحولات الديمقراطية، وفي ظل الحملات الدعائية والترويجية الداخلية والخارجية، أَنْ تَكُونَ هناك نتائجُ اقتصادية إيجابيةُ وملموسة. حيث ينظر إليها أيضاً بوصفها إحدى الوسائل الرئيسة والمهمة لتَسهيل أنواع الدعمِ والمساعدات تقديمها من جانب المتبرعِين والمانحين الغربيين، لَيسَ فقط من جانب الحكوماتَ الليبرالية، وإنما أيضاً من المنظمات غير الحكوميةَ الغربيةَ، ووكالات الإغاثة، وتحفيز وتنشيط دور المؤسسات الصناعية والشركات التجارية في إنعاش الاقتصادات الوطنية داخل تلك الدول، وإقامة مشروعات البنية الأساسية Infrastructural وتطويرِها في أنحاء البلاد كافة.
(ه) قضية الفاعلية الدستورية والمؤسسية
مع التسليم بضرورة الفاعلية الدستورية والمؤسسية وأهميتها في البناء وإعادة بناء الدول، على أسس قوية وموضوعية، وعلى الرغم من أن عملية صناعة الدساتير وإضفاء الطابع الدستوري Constitutionalism على واقع الأنظمة السياسية في القارة الأفريقية، يحتل في الوقت الراهن أهمية كبيرة أكثر من أي وقت مضى، وبالتحديد في ظل تلك الظروف والمتغيرات الجديدة التي يمر بها العالم عامة والدول الأفريقية خاصة، فليس مستغرباً أن تكون هناك موجة من التعديلات والتغييرات الدستورية في تلك المنطقة من العالم التي ظلت لسنوات يتجاذبها الصراع الأيديولوجي، فهذا الواقع يدفع إلى التكيف مع الانفتاح الإيجابي Positive Openness، وعدم الانغلاق على الذات Closeness في إطار التعامل والتفاعل مع قضايا الديمقراطية المعاصرة ومنها ما يتعلق بالمساعي والجهود المبذولة للاستحواذ على دساتير ومؤسسات قوية ومؤثرة. لقد شهد العقد الأخير من القرن العشرين تّزايدَاً مستمراً في عدد العملياتِ الدستوريةِ التي تَحْدثُ حول العالم، ومنها الدول الأفريقية.
وعلى الرغم من أن البعض يرى أَنّ هذا الاتجاه مؤهلُّ للتصاعدْ في السَنَوات القادمة، حيث تَغيّر ميزان القوى والنفوذ والتأثير السياسي، فيما بين دول العالم، لاسيما بعد تلاشي المعسكر الشرقي/ الماركسي، وتعاظم مكانة المعسكر الغربي/ الليبرالي، وهو الأمر الذي أفضى في جملته إلى تنامي الضغوط الغربية وتواصلها من أجل إفساح المجال أمام التَعديلات والتغييرات السياسيِة/ الاقتصادية الجذرية، وعلى رأسها كل ما يتعلق بالدساتير بحسبانها أهم التحديات التي تواجه عملية التغيير الكبير المرتقبة في أرجاء دول القارة الأفريقية مجتمعة. فإن هناك ضرورة إن لم يكن حتمية في هذا المجال، وهي أَنْ تتعاملَ الدساتير المستحدثة مع فوضى القضايا الداخلية/ المحليّةِ المعقّدةِ، والتعاطي والإدراك للقضايا الإقليمية والدولية، وكذلك التحديات الأفريقية الجديدة المصاحبة لظهور النظام الدولي الجديد والعولمةِ.
إذن ففي إطار محاولات الربط بين أولويات الإصلاح السياسي أو الاقتصادي، فإن السؤال الذي يمكن أن يثار في هذا الصدد، كَيفَ تُؤثّرُ الهياكل السياسية على اختيار السياساتِ الاقتصادية؟ ويمثل هذا أحد الأسئلةِ المركزيةِ التي تتدافع في سياق التعامل المؤسسي والأداء الحكومي مع القضايا والممارسات في المجالات الاقتصادية من منظور الاقتصاد السياسي التنموي. وربما مما يحسب لموجة التحولات نحو الديمقراطية في إطار التوجه العام للإصلاح السياسي خلال مرحلة التسعينياتِ من القرن العشرين، هو اقتران ذلك بالاهتمام المتنامي بضرورة المحاولات وأهميتها والتجاربِ المتعلقة بالتطويرِ وإعادة البناء المؤسسي لجميع هياكل السلطة في دول أفريقيا بوصف ذلك مقدمة أولى نحو الإدارة السليمة والجادة للإقتصادات الوطنية، والإصلاح الاقتصادي، بمعنى الربط التام بين كل من الإصلاحِ السياسي الذي يأتي بمؤسسات جديدة تدار بأساليب وبآليات ديمقراطية والإصلاح الاقتصادي وبهدف تحقيق استراتيجيات اقتصادية وتنموية أفضل، وذلك من منطلق أن أية عملية إصلاح اقتصادي إنما هي نتاج لفعاليات الأداء داخل الهياكل والمؤسسات السياسية للدولة.
وينبغي الإشارة في هذا الصدد إلى مسألة على درجة كبيرة من الأهمية ترتبط ارتباطا وثيقاً بالفعالية المؤسسية وهي مسألة الكفاءة الإدارية Managerial efficiency والهدفَ الرئيس منها أَنْ تعْملَ القطاعات العامة ـ والتي ينسب إليها العديد من أزمات الدول في أفريقيا ـ مثل المَشاريع التجارية الحديثةِ، وعلى الرغم من أنَّ الطرق المعتمدة تَتفاوتَ إلى حدٍّ كبير فيما بين الدول. فإن من بين طرق إدارةِ العملِ الّتي يمكن استَعمالُها في تَغيير حالات وأوضاع الدول هو توافر ثقافة إدارية Administrative Culture تَتضمّنُ لا مركزيةَ الأنظمةِ الإداريةِ Decentralization of Management Systems خلال التحولِ من بيروقراطيةِ الخدمة المدنيةِ الكبيرةِ إلى الوكالاتِ التنفيذيةِ Executive Agencies. كما يتطلب هذا الأمر مديرين Managers قادرين على تحمّل المسؤوليات، وإدارة ميزانياتُ غير مركزيةُ، ويَتمتّعونَ بالمرونةِ الكبيرةِ في تَخصيص الموارد وتوظيفها، وفي ظل متابعة ومراجعة وتقييم لأدائهم يتسم بالشفافية والموضوعية كما يتسم بالسرعة والحزم، مع ربط الرواتب والحوافز والترقيات بنتائج هذا الأداء، وذلك على مستوى جميع المستويات الإدارية وفي مقدمتها مستويات الإدارة العُليا، ولعل سمات مثل تلك الإصلاحاتِ الإداريةِ الجديدةِ يمكن متابعتها في بعض الدول الأفريقية مثل غانا وأوغندا وزامبيا وتنزانيا وموزمبيق.
ويبدو أن مثل تلك التصورات وإن كانت تلقى استحساناً واهتماماً من جانب هؤلاء، لكن تظل حقائق الواقع المعاش في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تنعكس تأثيراتها السالبة على مجمل نواحي الحياة الإنسانية والمجتمعية، تأبى التسامح أو التصالح مع تلك الأطروحات الأقرب إلى المثالية منها إلى الواقعية، فأية انتخابات وأحزاب وأي مرشحين وناخبين، وأي تنافس ونتائج، وبأية كيفية وضمانات، وفي أي عدد من السنوات وبأية إمكانات ستتم تلك العملية لكي تنتج القيادات والمؤسسات الصاعدة الواعدة التي ستتبدل وستتغير الأوضاع الاقتصادية عن طريقها، خصوصاً في ظل استشراء هذا الكم من المشكلات المستعصية، والتي تتطلب ليس فقط إرادة أفريقية، وإنما إرادة المجتمع الدولي الفاعل.
(2) القضايا الخارجية المؤثرة على الدول الأفريقية
(أ) استمرار وتصاعد الضغوط من أجل الإبقاء والترسيخ للتحولات الديمقراطية
بعد مرور عقدين من السنوات على بداية التحولات الديمقراطية في أفريقيا فإن هناك العديد من التساؤلات التي تتدافع للإحاطة بهذه الظاهرة أو التجربة، ومنها: هل حققت الضغوط الليبرالية على الدول الأفريقية أهدافها؟ وعلى ضوء التقييم والنتائج المحققة فهل الدول الليبرالية على استعداد لمواصلة ضغوطها؟ وهل بعد تلك الحقبة الزمنية من تقبل الضغوط الليبرالية ومحاولة التكيف معها، فإلى أي مدى يمكن أن يظل الحال على ما هو عليه؟ وهل التجربة الأفريقية في مجال التحولات الديمقراطية تشجع على الإبقاء والترسيخ لها أم الانصراف والارتداد والتخلي عنها؟
ويبدو أن الضغوط التي تمارسها الدول الليبرالية على الدول الأفريقية سوف تستمر في المستقبل المنظور، حيث تتعامل تلك الدول مع الواقع الدولي/ الأفريقي على أنه الفرصة المواتية، لتؤمن الدول الأفريقية بالليبرالية وتطبقها، وهو أمر يبدو مصيرياً في سياق تحقيق الأهداف والمصالح العليا للدول الليبرالية من نواحي شتى أيديولوجية وسياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية…وغيرها، لاسيما أن تلك الدول تعطي أوزاناً ثقيلة لمنظومة الفرص الحالية والمحتملة، كما أنها تولي أهمية كبيرة للتهديدات الآنية والمتوقعة في ظل حسابات تفصيلية ودقيقة للأرباح والخسائر على مستويات الآجال المختلفة، وهي في هذا الشأن تتحرك وفق معادلة نفعية/ رأسمالية تتمثل في تحقيق الأهداف والمصالح المستهدفة بأعلى العوائد والمنافع، وبأقل التكاليف وبأقل الخسائر/ التضحيات الممكنة. وعلى هذا الأساس فليس متوقعاً على سبيل المثال أن يكون هناك سخاءً ليبرالياً من أجل دعم التحولات في أفريقيا، وفي ذات الوقت ليس من السهولة توقع أن يكون هناك فراقاً ليبرالياً، وأن تترك الدول الأفريقية لتفعل ما تشاء اختياراً.
إن من الأمور الجديرة بالملاحظة والمتابعة أن الدول الليبرالية المانحة في إطار ممارستها لضغوطها من أجل إحداث ما تزعمه بالتحولات الديمقراطية في الدول الأفريقية تذهب إلى تحفيز وتشجيع الانشقاقات والتصدعات سواء بين النخب التقليدية داخل الأنظمة الحاكمة، وبداية حدوث ذلك تصنيفهم بين معتدلين/ إصلاحيين ومتشددين/ متطرفين، وكذلك بين تلك الأنظمة وبين التنظيمات والأحزاب السياسية وحركات المعارضة المختلفة، أو فيما بين تلك الأنظمة والتنظيمات والحركات السياسية المختلفة وبعضها البعض، أو حتى داخل كل منها، وهي تهدف من وراء ذلك إضعاف تلك الأنظمة الحاكمة من ناحية، وتعزيز الجماعات والحركات والتنظيمات المناوئة لتلك الأنظمة والموالية لها، ومن ثم فهي تضمن إما ولاء وتبعية الأنظمة الحاكمة، وأن تستجيب لمطالبها وضمان مصالحها، وإما تمكين الجماعات والتنظيمات السياسية المعارضة وبذات الشروط المتعلقة بضرورة الولاء والتبعية.
ومثل تلك السياسات والممارسات التي تنتهجها الدول الليبرالية المانحة سيترتب عليها ليس إحداث تحولات نحو تطبيق التحولات الديمقراطية، وإنما استغلال تلك التحولات في إثارة العديد التي لن تفضي في النهاية سوى بتزايد الانقسامات التي تتبعها النزاعات والصراعات وتنتهي إما بحدوث انقلابات وتمردات عسكرية (كما حدث في موريتانيا، وغينيا بيساو)، أو بنشوب حروب أهلية (كما حدث في ساحل العاج)، ومن ثم فإن الدور الذي تقوم به الدول الليبرالية والمنظمات الدولية المانحة على درجة كبيرة من الخطورة لأنه يدخل دول القارة الأفريقية في مرحلة جديدة من مراحل عدم الاستقرار والنزاعات والصراعاتوالتي تحدث هذه المرة بسبب التحولات الديمقراطيِة المزعومة.
(ب) التدخّل الدولي لمَنْع انهيار التحولات الديمقراطيِة
إن من الضروري لإرساء ديمقراطيةِ فعلية أن توجد داخل الأنظمة السياسية الأفريقية هياكلَ للحكم ولممارسة السلطة وفقاً لمفاهيم ولمعايير الشرعيةَ السياسية/ الدولية، كما يقترن بذلك ضرورة توافر قدر كاف من السلامِ والأمن والاستقرار، ولذلك فإن التساؤل الذي يمكن إثارته هَلْ يُمْكِنُ للأطراف الخارجية ذات الصلة والاهتمام بمسألة التحولات الديمقراطية في أفريقيا أنْ يتحول دون حْدوث انهيار لتلك التجربة الناشئة ِ؟ ويبدو أن التدخّل الخارجي في المجال الديمقراطي هو أمر يتسم بدرجة عالية من التأكيد، بحسبان أن الديمقراطية هي أحد روافد الليبرالية السياسية، التي يسعى جاهداً لنشرها عبر أرجاء العالم المختلفة، ربما كلغة تخاطب مشتركة تيسر تحقيق الأهداف والمصالح المبتغاة، وعلى الرغم من الحديث عن الشروط والآليات والمتطلبات لقيام تحولات ديمقراطية فعلية، إلا أن العنصر الخارجي ليس مستعداً للتراجع عن مشروعه الديمقراطي المستهدف في أفريقيا، رغم وجود الصعوبات والتحديات، ولذلك فإن هناك درجة من الحرص على انتهاج ما يمكن تسميته بسياسة التخفيف من التصادم Buffering بين ما هو ممكن وما هو مستحيل بالنسبة للعديد من الدول الأفريقية.
ولذلك ففي بَعْض الظروفِ، فإن البعض يرى أن الأطراف الخارجية (الدول والمنظمات الليبرالية) قامت بدور بنّاء في صِناعَة الأنظمةِ الديمقراطيةِ أَو إعادة بنائها. ويدللون على ذلك بأن الدعم الأمريكي واليابانيِ، والألماني، هو الذي أسهم في تأسيس الديمقراطية الإيطالية بَعْدَ مرحلة انتقالية مِنْ الحكم الاستبدادي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد أضحتَ واحدة من الديمقراطيات القوية. كما أن هناك أنظمة حاكمة التزمت مبكراً بالإصلاحات الدستورية في أعقاب المفاوضاتِ بين المستعمرِ والحكومات الوطنية، وقد تمكنت تلك الحكومات في بلدانِ مثل بوتسوانا، موريشيوس، وناميبيا أن تثبت أنها قادرة على إحداث قدر من التطور الديمقراطي داخل أنظمتها السياسية، ولكن ما زال الأمر يتسم بصعوبات بالغة بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية الأخرى. ويلاحظ في هذا الخصوص أنه على الرغم من أن التحضيرِ للتحولات الديمقراطيةِ قد بدأ منذ أوائل تسعينياتِ القرن الماضي، إلا أن ما يحسب على الأطراف الدولية أنها التزمت وبالغت في ممارسة ضغوطها وشروطها Conditionality على العديد من الدول الأفريقية، ولكنها في ذات الوقت لم تلتزم بتقديم الدعم والمعونة الماليةِ اللازمة لبناء الديمقراطية Democracy Building وعلى سبيل المثال فإن مبَلغَ 250 مليون دولار أمريكي فقط هي التي التُزِم بإنفاقها فعلياً (وهي تمثل نسبة 5.4 %) من أصل مبلغ 4.514 مليون دولار أمريكي كان مخصصاً مساعداتٍ لبناء الديمقراطية في أفريقيا للفترة ما بين عامي 1997 ـ 2000. ولعل هذا يوضح إلى أي مدى يتعامل العنصر الخارجي/ الدولي مع عملية التحولات الديمقراطية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكن يلاحظ أيضاً أن تقديم تلك المساعدات يتسم بالانتقائية سواء فيما يتعلق بأنواع الإصلاحات المطلوبة أو حتى الدول ذاتها (وهو أمر يتضح بخصوص دول مثل: كينيا، وملاوي، وزامبيا، وزمبابوي، وإثيوبيا وأوغندا).
ب. رؤية مستقبلية للتحولات الديمقراطية في أفريقيا
سيظل الإشكال الرئيس الذي يمثل المحور والمحك في تناول التحولات الديمقراطية والتعامل معها، تحكمه وتتداخل معه ثلاثة إشكالات فرعية يمكن بلورتها كالتالي:
·       الأول يتصل بالمتطلبات اللازمة لتحقيق التحولات الديمقراطية، ولكن السؤال الذي يثار في هذا الشأن هل سيكون بالإمكان الانتظار لحين استيفاء تلك المتطلبات، وتأجيل الأخذ بالإصلاحات الديمقراطية؟ أم أن هناك فرصة للأخذ بما يمكن إدراكه، وبدون ترك الأحوال على ما هي عليه؟.
·       الثاني أن الذي يضغط خارجياً من أجل فرض التحولات الديمقراطية طوعاً وترغيباً أو كرهاً وترهيباً هي تلك الدول صاحبة القوة والنفوذ سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على المستوى العالمي، وهذا الأمر في حد ذاته يفرض على الدول الأفريقية، التعامل معه بدرجة عليا من الحرص والحذر، لما يمكن أن تواجهه من صعوبات، أدناها خطراً العزلة الدولية وتصعيد التهميش لها داخلياً وإقليمياً ودولياً.
·      الثالث أن التحولات الديمقراطية التي أخذت بها غالبية الدول الأفريقية، مازالت تقترن بالعديد من الممارسات السيئة، والتي تفرغ تجارب التحول المزعومة من مضامينها، وعلى سبيل المثال فإن ما يذكر بشأن الانتخابات الحرة التنافسية وغيرها يقترن في الواقع الفعلي بفساد كبير، مع تشويه واسع لإرادة الناخبين وتشكيك في أي قدر من الثقة والصدقية حولها، وهكذا الحال ذاتها بالنسبة لباقي مفردات عمليات التحول.
ومن ثم فعلى الرغم من أن الاتجاه نحو الليبراليةِ السياسيِة في أفريقيا أثناء التسعينياتِ كَانتْ مشجّعُة من ناحية تغييرِ الأنظمِة الاستبدادية، وتنامي التعامل مع قضايا الشفافيةَ، والمسؤولية والمحاسبة، وتحسن في علاقات وتنظيم الدولة ـ المجتمع State – Society، إلا أن العملية برمتها بَدتْ ناقصةَ وهشّةَ بعض الشّيء مع هذا، فالنجاحات النسبية ذات الطابع الديمقراطي في دول مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا قابلها انتكاسة الانقلابات العسكرية منذ أواخر تسعينياتِ القرن الماضي في دول مثل: ساحل العاج، وجزر القمر، وغينيا بيساو، والنيجر وموريتانيا. وقد كان الانقلاب في ساحل العاج موجعاً لتجربة أفريقيا الديمقراطية. حيث أثارَ تَوَتّراتَ دينيةَ وعرقيةَ مستترةَ في هذه البلادِ التي كانت تعد واحدة من الدول الناجحةِ ديمقراطياً ولو بدرجة نسبية، وهو أمر يشير إلى عدم غياب الجيش عن الحياة السياسية الأفريقية حتى في ظل التحولات الديمقراطية التي تشهدها دول القارة.
إن النكسات التي تواجهها عملية التحول الديمقراطي يُمْكِنُ أَنْ توضّحَ حجم القيودِ الموَضوعَة على كاهل الحكومات الأفريقيةِ، بما في ذلك وضعها ومكانِتها السياسيِة والاجتماعية غير الآمنِة داخل دولها، فضلاً عن استمرار وتنامي النزاعات الحادّة (التي تَتضمّنُ الأصوليَّةَ الدينيةَ، والنزاعات والصراعات القومية الإثنية/ العرقية، والعَدَاوَات الطَبَقِيَّة، والتفاوت في تخصيص الموارد… وغيرها)، علاوة على صعوبات إيقاف التدهور الاقتصادي لدول القارةَ، وصعوبة استمرار شبكاتِ العملاء Clientelistic، القادرين على الانتشار والترويج للمعاييرِ والقِيَمِ الليبرالية وتناميها، وكذلك افتقاد قنوات الاتصال السياسيِ بين المكونات الأساسية للمجتمع، ومن ثم فإن هناك مشكلاً في كيفية تَأسيس نظم سياسية متجاوبةِ مع الأيديولوجيا الليبرالية، كما أن هناك عقبات في إبْقاء المجتمع المدني الدينامي/ الفعال Dynamic Civil Society. بسبب تدني الإجماعِ بين القوى الشعبية المختلفة على المعاييرِ والقِيَمِ الديمقراطيةِ، وبسبب هشاشة الضغوط Counterpressure التي يمكن أن تمارسها منظمات المجتمع المدني وعدم كفايتها.
كما أن إخفاق الأنظمةُ الديمقراطية عن إعْطاء انتباه كافٍ للمنافع والمكاسب التي يمكن أن تستفيد منها جميع القوى الشعبية والتنظيمات السياسية، ومحاولة طمأنة هؤلاء أن حقوقهم وحرياتهم ومكاسبهم بالإمكان ضمانها وتعزيزها، والسعي الجاد للسيطرة على مخاوف الجماعات الإثنية/ العرقية مِنْ استبداد الأغلبية، والمكافحة الحقيقية للفساد، واحترام مطالب الجماعات المختلفة بالحقوقِ السياسيةِ والاجتماعية المشروعة. لاسيما فيما له صلة بالتأسيس للتنظيمات السياسية وبالانتخابات التنافسيةِ وبالتداول السلمي للسلطة، وإلا فإن البديل سيكون إحجام جماعات الأقليات عن المشاركة والإسهام في العملية السياسية وهو ما يمثل بدوره واحداً من أهم التحديات التي تواجه مستقبل التحولات الديمقراطية في أفريقية في السنوات القادمة.
المصادر والمراجع
أولاً. المراجع باللغة العربية:
أ‌. الوثائق:
1.  الأمم المتحدة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (نيويورك: الأمم المتحدة، 1948.)
2.  منظمة الوحدة الأفريقية، الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب (نيروبي: منظمة الوحدة الأفريقية،  1989).
3.  منظمة الوحدة الأفريقية، القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي،(لومي: منظمة الوحدة الأفريقية،  11 يوليو 2000 ). 
4.  إبراهيم نصر الدين، “في نقد العقل و الممارسات الغربية: نحو رؤية جديدة لتنمية أفريقيا”، الخطاب الرئاسي لرئيس الجمعية الأفريقية للعلوم السياسية، ديربان: المؤتمر الرابع عشر للجمعية الأفريقية للعلوم السياسية، 26 –  28 يونيه 2003.
ب. الكتب:
1.  أحمد إبراهيم محمود، “الحروب الأهلية في أفريقيا”، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام، القاهرة، 2001.
2.  أكوديبا نولي، ترجمة مجموعة من الباحثين، “الحكم والسياسة في أفريقيا”، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003.
3.  الصديق محمد الشيباني، “أزمة الديمقراطية الغربية المعاصرة”، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، طرابلس، 1990.
4. إيمانويل تود، ترجمة وتقديم رجب أبو دبوس، “بعد الإمبراطورية: دراسة في تفسخ النظام الأمريكي”، أكاديمية الفكر الجماهيري، طرابلس، 2004.
5.  بول كينيدي، ترجمة محمد عبد القادر وغازي مسعود، “الاستعداد للقرن الحادي والعشرين”، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، 1993.
6.  بيتر نيانجو (تحرير)، “من تجارب الحركات الديمقراطية في أفريقيا والوطن العربي” مركز البحوث العربية، القاهرة، 1995.
7.  توفيق المديني، “التوتاليتارية الليبرالية الجديدة والحرب على الإرهاب”، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003.
8.  جابرييل إيه. آلموند و جي. بنجهام باويل الابن، ترجمة هشام عبد الله و سمير نصار، “السياسات المقارنة في وقتنا الحاضر: نظرة عالمية”، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1998.
9.  جمال محمد السيد ضلع، “أزمة الشرعية في أفريقيا”، كتاب تحت النشر.
10. جمال محمد السيد ضلع، “قضايا الإصلاح السياسي كمدخل لإعادة بناء الدولة في أفريقيا”، الدار الجامعية للنشر والتوزيع والطباعة، غريان، 2008.
11. جورج بوردو، ترجمة وتقديم رجب بودبوس، “الدولة”، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، طرابلس ـليبيا، 2008.
12. حمدي عبد الرحمن، “أفريقيا والقرن الواحد والعشرون – رؤية مستقبلية” مركز لبحوث والدراسات بكلية الاقتصاد  والعلوم السياسية جامعة القاهرة، يونيه 1997.
13. عبد الملك عودة، “الانتخابات في الدول الأفريقية”، مؤسسة الأهرام، كتاب الأهرام الاقتصادي، العدد 223، القاهرة، ابريل 2006.
14. ـ عبد الملك عودة، “المتغيرات السياسية في أفريقيا 2004″، مؤسسة الأهرام، كتاب الأهرام الاقتصادي، العدد 208، القاهرة، ابريل 2005.
15. عبد الملك عودة، “قضايا الديمقراطية في الدول الأفريقية”، مؤسسة الأهرام، كتاب الأهرام الاقتصادي، العدد 196، القاهرة، ابريل 2004.
16. عبد الملك عودة، “مشكلات أفريقيا فى عالم متغير”، مؤسسة الأهرام، كتاب الأهرام الاقتصادي، العدد 157، القاهرة، فبراير 2001.).
17. عبد الملك عودة، “أفريقيا ومتغيرات 94″، مؤسسة الأهرام، كتاب الأهرام الاقتصادي، العدد 87، القاهرة، إبريل 1995.
18. عبد الملك عودة، “التعاون والأمن في أفريقيا”، مؤسسة الأهرام، كتاب الأهرام الاقتصادي، العدد 76، القاهرة، مايو 1994.
19. عبد الملك عودة، “السياسة المصرية وقضايا أفريقيا”، مؤسسة الأهرام، كتاب الأهرام الاقتصادي، العدد 59، القاهرة، يناير 1993.
20. علي المزروعي، “أفريقيا والعولمة”، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، طرابلس، 2002.
21. عمران محمد المرغني الجداري، تقديم يوسف الصواني، “العولمة وأثرها على سيادة الدولة”، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، طرابلس، 2008.
22. سمير أمين وآخرون، “العولمة والنظام الدولي الجديد”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004.
23. صاموئيل هنتغنتون، ترجمة عثمان الجبالي المثلوثي، مراجعة وتقديم يوسف محمد الصواني، “أمريكا: الأنا والآخر من نحن؟ الجدل الكبير في أمريكا”، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، طرابلس، 2006.
24. كريستوفر كلافام، وآخرون، ترجمة كاظم هاشم نعمة، “أفريقيا بعد 11 سبتمبر: إستراتيجيات الانخراط والتعاون”، أكاديمية الدراسات العليا، طرابلس، 2005.
25. كمال المنوفي ويوسف محمد الصواني (تحرير)، ندوة الديمقراطية والإصلاح السياسي في الوطن العربي، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، طرابلس، 2006.
26. ميشيل بوجنون موردانت، ترجمة حامد فرزات، “أمريكا المســتبدة: الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم”، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001.
27. وليم توردوف، ترجمة كاظم هاشم نعمة، “الحكم والسياسة في أفريقيا”، أكاديمية الدراسات العليا، طرابلس، 2004.
المقالات والبحوث المنشورة:
1.  إبراهيم أحمد نصر الدين، “التنمية والإصلاح السياسي وتعزيز حقوق الإنسان كمداخل وقائية لحل مشكلات اللاجئين في أفريقيا”، بحـث مقــدم إلـى نـــدوة قضايا اللاجئين في أفريقيا التحديات الراهنة وسبل المواجهة، برنامج الدراسات المصرية الأفريقية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، القاهرة، 20 يونيه 2005.
2.  إبراهيم أحمد نصر الدين، “ظاهرة الحروب الأهلية فى أفريقيا بين أزمة الاندماج الوطني والتحول الديمقراطي”، ورقة عمل مقدمة على ندوة الصراعات والحروب الأهلية فى أفريقيا، منظمة تضامن الشعوب الأفريقية – الآسيوية، القاهرة، 20 إبريل 2000.
3.  إبراهيم أحمد نصر الدين، “التحولات الديمقراطية في أفريقيا: السودان نموذجاً”، ندوة أمانة الشباب والطلاب بالحزب الاتحادي الديمقراطي فرع مصر، جريدة الاتحادي الدولية، الخرطوم، 15 ديسمبر 1998.
4.  المومني ندير، “المواكبة الدستورية للانتقال للديمقراطية‏ ـ حالتا أسبانيا وأوروبا الشرقية‏‏”، مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، 2005.
5.  جمال محمد السيد ضلع، “الفرنكفونية في ظل التنافس الفرنسي/ الأمريكي في أفريقيا”، بحث مقدم إلى مؤتمر الفرنكفونية في أفريقيا بين الأمس واليوم، معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة وكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، القاهرة، يومي 25 و 26 مايو 2003.
6.  حمدي عبد الرحمن حسن، “ظاهرة التحول الديمقراطي في أفريقيا والقضايا والنماذج وآفاق المستقبل”، السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، العدد 113، القاهرة، يوليه 1997.
7.  سيدي محمد ولديب، “صعوبات الإصلاح الديمقراطي في ظل العولمة”، دراسات، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، العددان 25و26،  طرابلس، صيف 2006.
8.  صبحي قنصوه، “التحولات الديمقراطية في أفريقيا: الأسباب, الأبعاد, واحتمالات المستقبل”، في: إبراهيم احمد نصر الدين (وآخرين), “الموسوعة الأفريقية”، معهد البحوث و الدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، مايو 1997.
9.  عبد الملك عودة، “الاتجاهات السياسية للدساتير الأفريقية الحديثة” السياسة الدولية، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام، العدد 16، القاهرة، أبريل 1969.
10. محمد الفرجاني الحصن، “آثار العولمة على القارة الأفريقية”، دراسات، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، العدد الثاني عشر، طرابلس، الصيف، 2003.
11. مصطفى عبد الله خشيم، “البيئة العالمية للإصلاحات السياسية والاقتصادية في الدول النامية: دراسة وصفية ـ تحليلية مقارنة”، دراسات، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، العددان 25 و26، طرابلس، صيف 2006.
12. سعيد أوجموبى، “بناء المستقبل: أفريقيا وتحديات الديمقراطية والحكم الرشيد في القرن الواحد والعشرين”، في: “التنمية والتقدم الاقتصادي”، منظمة تضامن الشعوب الأفريقية والأسيوية، العدد 75، القاهرة، يناير/ مارس 1999.
13. عبد الحميد غانم، “الهيمنة الأمريكية في ظل النظام العالمي الجديد”، الوحدة، المجلس القومي للثقافة العربية، العدد 99، الرباط، ديسمبر 1992.
14. محمد بشير حامد، “الشرعية السياسية وممارسة السلطة: دراسة في التجربة السودانية المعاصرة”، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 94، بيروت، ديسمبر 1986.
15. نصير نوري محمد، “العالم الثالث والنظام العالمي الجديد”، الوحدة، المجلس القومي للثقافة العربية، العدد 99، الرباط، ديسمبر 1992.
16. هاري جولبورن، ترجمة مصطفي مجدي، “الدولة والتنمية وضرورة المشاركة الديمقراطية في أفريقيا”، الجمال، في: بيتر نيانجو (تحرير)، “من تجارب الحركات الديمقراطية في أفريقيا والوطن العربي”، مركز البحوث العربية، القاهرة، 1995.
التقارير
1. مركز البحوث الأفريقية، التقرير الاستراتيجي الأفريقي، معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، أعداد متنوعة.
الرسائل العلمية
1.  جمال محمد السيد ضلع، “النظام السياسي الإثيوبي منذ عام 1960″، رسالة دكتوراه، معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، 1997.
2.  هالة جمال ثابت،  “ظاهرة التحول الديمقراطي في أوغندا: 1986– 1996 – دراسة تحليلية في الأسباب والنتائج”، رسالة ماجستير كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، 1999.
الشبكة الدولية للمعلومات
1.  الجزيرة نت، “قمة أفريقية لدعم الديمقراطية وجذب الاستثمارات”، الجزيرة نت، 26 مارس 2002.
2.  خالد حنفي علي، ” ليبيريا.. محاولة للفهم” المعرفة”، 3 أكتوبر 2004، http://www.aljazeera.net
3.  عربيات، “اتفاق سلام بين متمردي ليبريا والحكومة”،
 http://www.arabiyat.com/forums/showthread.php?s=&threadid=69048
4.  الجزيرة نت، “المراقبون يشيدون بسير انتخابات ليبيريا”،  http://www.aljazeera.net/News
5.  الجزيرة نت، “الليبيريون يتوجهون لمراكز الاقتراع لانتخاب رئيس جديد”، www.aljazeera.net/News
6.  هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، “الناخبون يقبلون على الانتخابات في ليبيريا”
http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/world_news/newsid
7.  عنان يقول إن انتخابات ليبريا بعد سنوات من الصراع يمكن أن تجلب السلام للبلاد
http://www.un.org/arabic/news/2005/10/11
8.  الجزيرة نت، “تقارب شديد بين سيرليف وويا في انتخابات رئاسة ليبيريا 13″، أكتوبر 2005.
www.aljazeera.net/News
9.  ليبيريا تحتاج إلي 17 مليون دولار لإجراء الانتخابات في 2005.
http://62.210.150.98/newsara.asp?code=ara1009&dte=21/12/2004
10. الجزيرة نت،  “مرشحان يتنافسون الثلاثاء على رئاسة ليبيريا”، http://www.aljazeera.net/News
11. علاوي اليوفي، “وياه يقترب من رئاسة ليبيريا”، 1-08-2005,
 http://www.juventusmania.net/fm/archive/index.php/t-29227
12. دوليات: “في انتخابات تاريخية.. ليبريا.. لاعب كرة قدم سابق ومسئول أممي يتنافسان للحقول على كرسي الرئاسة”، السنة التاسعة، العدد ۲۳2۳، 12/10/2005.
13. وياه وإيلين يتنافسان في جولة الإعادة لرئاسة ليبيريا، 22 اکتوبر 2005،
 http://www.ana.ir/ar/viewnewsdetails.aspx?newsid=1479
14. النهار، “جونسون سيرليف تتقدم وياه لتصير أول رئيسة في ليبيريا وأفريقيا”، النهار، 12 نوفمبر 2005.
http://www.annaharonline.com
15. جينداي إي. فريزر, “الشؤون الإفريقية”، 2007، http://www.state.gov
ثانياً. المراجع باللغة الإنجليزية
Documents:
1.      The Constitution of Kenya (Nairobi: government printer,  1992)
2.      The Constitution of Kenya, (Nairobi: Government printer, 1998(
3.      The Constitution of the Federal Democratic Republic of Ethiopia (Addis Ababa: NegaritGazeta, 8 December 1994(
4.      Constitution of the Republic of Liberia, (Monrovia: approved. On January 6, 1986(.
5.      National Elections Commission, Polling Procedures for the Election of the President, the Senate and Members of the House of Representatives of the Republic of Liberia,(Monrovia: National Elections Commission, 11 October 2005(.
Books
1.      Abraham, Kinfe, Ethiopia from Bullets to the Ballot Box the Bumpy Road to Democracy and the Political Economy of Transition (New Jersey: The Red Sea Press, Inc. 1994.).
2.      Ayittey, George B. N., Africa Betrayed (New York, St. Martin’s press, 1992).
3.      Bratton, Michael & Nicolas Van De Walle, Democratic Experiments in Africa,(Cambridge: Cambridge University Press, 1997.).
4.      Dov Ronen, Democracy and Pluralism in Africa, (Colorado: Lynne Rienner publishers inc., 1986)
5.      Englebert, Pierre, State Legitimacy and Development in Africa, ( London: Lynne Rienner Publishers, 2000.).
6.      Ergas, Zaki, The African State in Transition,(London: Macmillan press, 1987).
7.      Eriksen, Stein Sundstol, The State in Africa: Theoretical Perspectives and Empirical Cases, (Oslo: The Norwegian Institute of International Affairs, 2000)
8.                                          Gedlu, Mesfin, Reassessing Post-Cold War Political Transitions in Africa (Prague: Institute of International Relations,   September 2002.(
9.      Gyimah – Boadi, E. (ed.,), Democratic Reform in Africa: The Quality of Progress,(London: Lynne Rienner Publishers, 2004)
10.  Hodder – Williams, Richard, An Introduction to the Politics of Tropical Africa, (London: George Allen &Unwin, 1984).
11.  Kpundeh, Sahr John (ed.,) Democratization in Africa: African View, African Voices (Washington, D.c., National Academy Press, 1992.).
12.  Nelson, Harold D., Kenya: A Country Study (Washington DC.,: American University, 1984)
13.  Nyong’o, P. Anyang’, The Study of African Politics, (Nairobi: Bookprint Creative Services LTD, 2002)
14.  Ojo, Bamidele A, Africa’s Triple Dilemma: The State, Democratization and the Challenges of Globalization (New Jersey: School of Political & International Studies Fairleigh Dickinson University, 2004).
15.  Organization for Economic Co-operation and Development, Security System Reform and Governance, (Paris: Organization for Economic Co-operation and Development,2005).
16.  Quantin, Patrick, Sub-Saharian Democratic Transitions as Political Crisis 1990-1994 (Washington DC.,: World bank, 1997).
17.  Suttner, Raymond (ed.,), Africa in the New Millennium,( Uppsala: Nordiska Afrikainstitutet, 2001)
Articles:
1.      Adar, KorwaG.,”Constitutionalism in Kenya” Conflict Trends (No. 1/2002(.
2.      Agbu, Osita,” Human Rights Implications of African Conflicts” African Journal of Political Science ( Harare : African Association of Political Science, Vol 5, No.1, June 2000(.
3.      Ayuk, Elias T. & Basil Jones: “Building Institutional Capacity for Economic Policy Research in Africa: Myth or Reality?” a Paper for the International conference African Economic Research Institutions and Policy Development: Opportunities and Challenges,(Dakar: Secretariat for Institutional Support for Economic Research in Africa (SISERA)  January 28-29, 2005(
4.      Backer, E David & Ken Kollman,” Electoral Laws Under Extreme Conditions: the Case of Africa”, a Paper Presented at the Annual Meeting of the Midwest Political Science Association,(Chicago: The Midwest Political Science Association, IL April 3, 2003.(.
5.      Bangura, Yusuf,” New Directions in State Reform: Implications for Civil Society in Africa ” United Nations Research Institute for Social Development Discussion Paper(Geneva: United Nations Research Institute for Social Development UNRISD, No. 113, October 1999.).
6.      Barkan, Joel, D., “Toward a New Constitutional Framework in Keny ” in, Africa Today  (Boulder : Lynne Rienner publishers , Vol 45 ,No 2, April – June1998).
7.      Basedau, Matthias,” Stagnation on Low Levels: Political and Economic Transformation in Central and West Africa” Strategic Insights (California: Center for Contemporary Conflict, Volume IV, Issue 12, December 2005).
8.      Bates, Robert H., “Political Reform”, Working Paper presented in Center for International Development,(Harvard University, CID Working Paper No.114, January 2005).
9.      Berthélemy, Jean-Claude, Céline Kauffmann, Laurence Renard and Lucia Wegner, “Political Instability, Political Regimes and Economic Performance in African Countries ”  a Paper Submitted to The African Development Bank (ADB), (Paris: The African Development Bank (ADB) & The OECD Development Centre, 11 March 2002.).
10.  Block, Steven, Smita Singh & Karen E. Ferree,” Multiparty Competition, Founding Elections and Political Business Cycles in Africa” Working Paper Presented at Center for International Development- CID,( Cambridge: Center for International Development- CID at Harvard University  CID Working Paper No. 80 October 2001)
11.  Bratton, Michael & and Robert Mattes, ” Support for Democracy in Africa: Intrinsic or Instrumental?” a Paper Prepared for Center for the Advanced Study of International Development (CASID) (Michigan: CASID, Michigan State University, Paper No. 1, April 2000).
12.  Bratton, Michael,” Deciphering Africa’s Divergent Transitions “in, Political Science Quarterly (New York: the Academy of Political Science, Vol. 112. 1 Spring 1997).
13.  Chege, Michael, “Between Africa’s Extremes” Journal of Democracy, (Baltimore, Johns Hopkins University, Vol.6, No.1 January, 1995).
14.  Danielson, Anders, “Economic and Institutional Reforms in French-speaking West Africa: Impact on Efficiency and Growth” Study Prepared within the United Nations University / WIDER Project on Institutional Capabilities, Reform (United Nations University, Discussion Paper No. 2001/28, July 2001.(.
15.  Deegan, Heather,” Elections in Africa – The Past Ten Years” (London: The Royal Institute of International Affairs,  Paper No. 2 April 2003(.
16.  Ebrahim, Hassen,” Constitution-Making in Southern Africa – Challenges for the New Millennium “a Paper Presented at John F. Kennedy School of Government (John F. Kennedy School of Government Harvard University, May, 2002(.
17.  Edward R. McMahon,” The Role of Political Parties in Democratic Development in Africa: Part of the Problem or Part of the Solution?” a Paper Presented in Center of Democratic Performance Department of Political Science,(New York: Center of Democratic Performance Department of Political Science, Binghamton University, 2001(
18.  Engedayehu, Walla, “Ethiopia: Democracy and the Politics of Ethnicity” Africa Today, (Vol.40, No.2, 1993(.
19.  Gordon, David and Carol Lancaster, “The Implications of Political Change in Africa for the Special Program for Africa (Spa) Donors” a Paper Presented at the USAID-Sponsored Workshop for SPA, Donors on “Economic Reform in Africa’s New Era of Political Liberalization, April 14-15, 1993, (Washington, D.C.,: USAID, Working Paper No. 7, April 1994(.
20.  Garuba, Dauda S., “Reconceptualising African Security in the New Millennium”, A Paper Presented at the 13th Biennial Congress of the African Association of Political Science (AAPS) Held in Yaoundé, Cameroun from 19 to 22 June 2001 on the Project: African Politics in the New Millennium: Facing the Challenges(Yaoundé: the African Association of Political Science, 19 to 22 June 2001(
21.  Gordon, David and Carol Lancaster, “The Implications Of Political Change in Africa for the Special Program for Africa (Spa) Donors” a Paper Presented at the USAID-Sponsored Workshop for SPA, Donors on “Economic Reform in Africa’s New Era of Political Liberalization, April 14-15, 1993, (Washington, D.C.,: USAID, Working Paper No. 7, April 1994(.
22.  Hameso, Seyoum, “Issues and Dilemmas of Multi-Party Democracy in Africa” West Africa Review (Africa Resource Center, Inc.Vol.3,No.2 2002(.
23.  Harbeson. John W., “Constitutions and Constitutionalism in Africa: a Tentative Theoretical Exploration “in, Dov Ronen, Democracy and Pluralism in Africa (Colorado: Lynne Rienner publishers inc., 1986(
24.  Herbst, Jeffrey: “African Militaries and Rebellion: The Political Economy of Threat and Combat Effectiveness” Paper Presented at the Conference on Civil War Duration and Post-Conflict Transitions, (Irvine: University of California, 18-20 May 2001.).
25.  Jackson, Robert H. & Carl G. Rosberg: “why Africa’s Weak State Persist the Empirical and Juridical in Statehood” in, World Politics (Princeton: The Trustees of Princeton University, Vol .35 No .1. October 1982)
26.  Joireman, Sandra Fullerton, ” Opposition Politics and Ethnicity in Ethiopia: We will All go down Together ” in, The Journal of Modern African Studies (Cambridge: Cambridge University press, Vol., 35, No. 3, 1997).
27.  Joseph, Richard & Jeffrey Herbst, “Correspondence: Responding to State Failure in Africa” in, International Security (Vol. 22 No, Fall, 1997).
28.  Kefale, Asnake: ” Regime Transition and Problems of Democratisation in Post-insurgent African States: The Case of Ethiopia” A paper prepared for 13th Biennial Conference of the African Association of Political Science (Yaoundé: the African Association of Political Science, June 19 to June 22, 2001).
29.  Lewis, Herbert, “Ethiopia: Beginning Again”, Africa Report, (Vol.36, No.5, September-October, 1991).
30.  Lumumba-Kasongo, Tukumbi,” Reconceptualizing the State as the Leading Agent of Development in the Context of Globalization in Africa “(Abidjan:  Pan-African Studies and Research Center in International Relations and Education for Development (CEPARRED), 2002.).
31.  Lyons, Terrence,” Ethiopia in 2005: The Beginning of a Transition?”,Africa Notes (Washington, .D.C.,: Center for Strategic and International Studies, No.25, January2006).
32.  Matembe, Hon., “Inclusion of the Principles to Combat Corruption in National Strategies by African Countries ” Paper Submitted to 9th International Anti-Corruption Conference (IACC), (Durban, 10-15 October, 1999.).
33.  Mattes, Robert & Michael Bratton,” Explaining Democratic Attitudes in Africa: Culture, Institutions or Performance?” Paper prepared for a conference on The Consolidation of Democracy (Uppsala: Uppsala University, 8-9 June 2002).
34.  Mbaku, John Mukum,” Constitutionalism and Governance in Africa” West Africa Review (Issue 6, 2004.).
35.  McMahon, Edward R., “Assessing Democratic Development in Africa”, A Discussion Paper prepared for the Department of State /NIC Conference, “Africa: What Is To Be Done” (Washington, D.C.: Center of Democratic Performance,  December 11, 2000).
36.  McMahon, Edward R.,” The Role of Political Parties in Democratic Development in Africa: Part of the Problem or Part of the Solution?” a Paper presented at Center on Democratic Performance (CDP) (New York: Center on Democratic Performance, Binghamton University, 2001).
37.  Monga Celestin,” Eight Problems with African Politics” Journal of Democracy (Baltimore, John Hopkins University, Vol. 8,No July 1997)
38.  Morrison, J. Stephen, ” Ethiopia Charts: a New Course ” Journal of   Democracy (Baltimore: Johns Hopkins University Press, Vol., 3, No. 3, July 1992).
39.  Mutua, MakauWa, “Ethiopia: The New Oligarchy” Africa Report, (September-October, 1993).
40.  Ndlovu-Gatsheni, Sabelo J.,” Dynamics of the Zimbabwe Crisis in the 21st Century” Africa Journal in Conflict Resolution (No. 1, 2003)
41.  Nkurunziza, Janvier D. and Robert H. Bates,” Political Institutions and Economic Growth in Africa” Working Paper written to Center for International Development (CID), (London: Center for International Development, Harvard University, CID Working Paper No. 98, March 2003.).
42.  Nyong`o, Peter Anyang, “Africa: the failure of one – party rule” in, Journal of Democracy (Baltimore, johns Hopkins university press, vol.13 no.1 January 1992).
43.  Ronen, Dov, “ The state and Democracy in Africa” in, Dov Ronen: Democracy and Pluralism in Africa (Colorado: Lynne Rinner publishers inc, 1986).
44.  Rothchild Donald, ” Liberalism, Democracy and Conflict Management: The African Experience ” a Paper For presentation at the Conference on Facing Ethnic Conflicts: Perspectives from Research and Policy-Making, 14-16 December 2000, (Bonn: Center for Development Research, December 2000.).
45.  Schraeder, Peter J., “The Horn of Africa: Us Foreign Policy in An Altered Cold War Environment “The Middle East Journal (Vol. 46, Autumn, 1992)
46.  Wunsch, James S.:” Re- founding the Africa State and Local Self – Governance: The Neglected Foundation “in, The Journal of Modern African Studies (Cambridge, Cambridge university press, Vol. 38 No. 3, 2000).
Reports
1.      National Democratic Institute for International Affairs, War is behind us now” a Report on Focus Group Research in Liberia, (National Democratic Institute for International Affairs (NDI), October 2004)
2.      The International Crisis Group,Liberia’s Elections: Necessary but not Sufficient (The International Crisis Group, Africa Report N°98 – 7 September 2005).
Others
1.      The Ethiopian Herald, 26/8/1992, P.2, also, 2/3/1994.
2.      The World Fact bonk –Kenya htm .
Internet
1.      Bratton, Michael, “Building Democracy in Africa’s Weak States” Democracyatlarg (Vol., 1, No., 3, 2005)
2.       ,http://www.Democracyatlarg.org/vol1_no3/vol1_no3/_tol_africas_weak_states.htm.
3.      Daddieh, Cyril K.,”Beyond Governance and Democratization in Africa: Toward State Building for Sustainable Human Development.”
4.      http://www.kzoo.edu/africa/susfinal2.html.
5.      Jwang, T.B.D, Kenya’s Current Constitution – Making initiative: some thoughts .htm.
6.      Liebenberg, Ian,” Transition to democracy in Africa: No easy challenges” Conflict Trends (No.1, 2003) – http://www.accord.org.za.


[1] ربما شهدت سيراليون منذ انتهاء الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد، وتحديداً منذ عام 2002، تحسناً ملموساً، بفضل حالة الاستقرار السياسي في الوقت الراهن.

[1] ربما يؤثر على مدى فعالية مثل تلك الحركات وجود طبقة فلاحين كبيرة وسيّئة, وطبقة عامِلة صناعية صغيرة، ومجموعة مميّزة صغيرة جداً من رجال الدولة Statedependent سواء كانوا من البيروقراطيين، أو السياسيين المحترفين، أو رجال الأعمال وملاك الأراضي في معظم أنحاء دول أفريقيا.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى