بناء السلم في مرحلة ما بعد النزاعات المضامين والنطاقات

د. جمال منصر –قسم العلوم السياسية

جامعة 08 ماي 1945 -قالمة

ملخص:

حدث في السنوات الأخيرة تحول في التفكير حول النزاعات والسلام، فبدل التركيز على الوساطة والاتفاقيات الرسمية، يتم التوجه نحو مفهوم أكثر شمولا واتساعا لتحويل النزاعات وهو “بناء السلم”والذي يتطلب نجاح تطبيقه تفكيك السياسات التي تؤدي إلى تفاقم واستفحال النزاع واستمرار العنف واستبدال ذلك بآليات وعمليات ومؤسسات يمكن من خلالها اجتثاث الأسباب الجذرية للنزاعات والحيلولة دون عودة دورة العنف مجددا بعد إخمادها.

تقديـم:

تعلمنا من دروس التاريخ مرارًا أن نهاية الحرب لا تعني بالضرورة أن السلم قد استقر نهائيا،لذلك أجرى أخصائيو النزاعات بعض التغييرات المهمة خلال العقود الأخيرة على الطريقة التي يفهمون ويحللون بواسطتها موضوعي النزاع والسلام. فقد كانوا يميلون فيما مضى إلى اعتبار النزاع مجموعة من الأحداث التي يؤدي تراكمها وتطورها إلى حدوث أزمة سياسية على المستوى الدولي أو الوطني، وأنها تحتاج إلى وسطاء خارجيين يتمتعون بمهارات خاصة من أجل حل النزاع.

إلا أنهم يدركون الآن، أن النزاع بمفهومه العام، هو تعبير طبيعي للفروق والاختلافات الاجتماعية، وأنه جزء من النضال والكفاح الإنساني المستمر من أجل تحقيق العدالة وتقرير المصير.

ولا يكمن التحدي في إلغاء النزاعات، بل في وضع حد ونهاية للطبيعة الدائرية للنزاع العنيف، عن طريق الإقرار أولا بوجود مصالح مختلفة، ومن ثم توجيه جهود الأطراف في اتجاهات بناءة. وتنطلق مدرسة تحويل النزاع – التي ظهرت في التسعينيات – من أن حل المشكلات التي تسبب النزاع هي ذاتها أمر معقد، بلغير ممكن، ولذلك يجب التأثير في السياق المحيط بالنزاع، وتغييره، ويدعو هذا الاقتراب إلى التعامل مع المصادر الاجتماعية والسياسية المتنوعة للنزاع، والعمل على تحويل الطاقة السلبية التي تقف وراء الحرب إلى تغيير إيجابي في المجالات الاجتماعية والسياسية.

وبالتالي نقل التفكير من حل نزاع معين إلى عملية يمكن من خلالها تفادي النزاع في المستقبل، أي “الوصول إلى أصل المشكلات، واتخاذ إجراءات لتجنب النزاع، بما في ذلك التغيير في المؤسسات والسياسات الاجتماعية. وهذا ما يعبر عنه مفهوم “بناء السلم”، الذي أضحى واحدا من المفاهيم المركزية في حقل دراسات السلم والنزاع″ خصوصا مع خروجه من الجانب المفهومي والنظري إلى الجانب المؤسساتي بظهور لجنة بناء السلم التابعة للأمم المتحدة سنة 2005.

وهذا المفهوم ” بناء السلم” هو محور هذه الدراسة، التي تحاول توضيح المقصود به في أدبيات السلم والنزاع، وكذلك الوقوف عند مضامينه والنطاقات الزمنية والموضوعية التي يمكن إعمال المفهوم فيها.

$1I. تعريف بناءالسلم Peace-Building

يمكن القول إن الملامح المبكرة لهذا المفهوم – بناء السلم -قد بدأت(غربيا) مع نقاط ويلسون الأربع عشرة، التي كان ينظر إليها على أنها ركائز لديمومة السلم بعد الحرب العالمية الأولى، ووسيلة للحفاظ على المكتسبات التي تم إحرازها على طريق إرساء السلم، وذلك بواسطة إقامة سلم توفيقي وضمان ديمومته بإقامةمؤسسة دولية راعية له وهي عصبة الأمم.

لكن هذا المفهوم “بناء السلام” استخدم لأول مرة من قبل يوهان غالتونغ 1 Johan Galtung في مقال له عام 1975. حيث أدرجه ضمن ثلاثة نهج للسلام وهي: صنع السلام وحفظ السلام و بناء السلام.

ويستند فهم يوهان غالتونغ لبناء السلام على التمييز بين السلم السلبي ( نهاية العنف المباشر أو الفيزيائي) والسلم الإيجابي ( غياب العنف الهيكلي أو غير المباشر2). فبينما يحقق غياب العنف الجسدي أو الفيزيائي السلم السلبي من خلال حفظ السلام، يمكن تحقيق السلم الايجابي فقط من خلال غياب العنف الهيكلي عن طريق صنع السلام وبناء السلام. 3

وإن كان صنع السلام يهدف إلى حل النزاعات من خلال إزالة التوترات بين أطراف النزاع. فإن بناء السلم يهدف للوصول إلى سلم إيجابي من خلال إيجاد هياكل ومؤسسات للسلم القائم على العدل والمساواة والتعاون، وبالتالي معالجة – بشكل دائم- الأسباب الكامنة وراء النزاع ومنع دورة العنف من العودة مجددا.

وقد راج مفهوم “بناء السلم” بعد تبنيه مؤسساتياً، مع تقرير الأمينالعام الأسبق للأمم المتحدة ” بطرس غالي” الصادر عام 1992 المعروف ” بخطة للسلام” والذي قدم فيهرؤيته حول تعزيز وزيادة قدرة الأمم المتحدة على تحقيق مفهومٍ شاملٍ متكاملٍ لإرساء السلم والأمنالدوليين، مضمناً إياه أربعة مصطلحات رئيسية تشكل حلقة متكاملة تبدأ بالدبلوماسية الوقائيةوتستمر مع صنع السلم وحفظ السلم لتصل إلى مرحلة بناء السلم ، ومنذ ذلك التاريخ والمفهوممتداولٌ في أدبيات السلم والأمن الدوليين.

ومع ذلكفأبرزالتحدياتالتيتعترضدراسةهذاالمفهومتتمثلفيالافتقارلتعريفٍمحددٍمتفقٍعليهلبناءالسلم. و حتى التعريفات المتداولة أغلبها جاءت مضمنة في تقارير دولية.

فيوهان غالتونغ في عمله الرائد “ثلاثة مقاربات للسلم: حفظ السلم وصنع السلم وبناء السلم ” افترض أن: ” بناءالسلم لديه بنية مختلفة عن حفظ السلام و صنع السلام، و هو يستوجب إيجاد الهياكل التي تزيل أسباب الحروب وتقدم بدائل عنها، فهو مسعى يهدف إلى خلق سلم مستدام من خلال معالجة “الأسباب الجذرية” للنزاع العنيف وتوظيف القدرات المحلية للإدارة السلمية لمرحلة ما بعد النزاع.” 4

وفي تقريره المعنون “خطة للسلام” الصادر عام 1992 – والمشار إليه سابقاً- عرفهالأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بطرس غالي بأنَّه: ” العمل على تحديد ودعم الهياكل التي من شأنهاتعزيز وتدعيم السلم لتجنب العودة إلى حالة النزاع.” 5

وفي تقريره المقدم عام 1998 عن “أسباب النزاع والعمل على تحقيق السلم الدائم والتنميةالمستدامة في أفريقية” ذهب – بطرس غالي – إلى القول: “ما أقصده بعبارة بناء السلم بعد انتهاء النزاع هو. الإجراءات المتخذة في نهاية النزاع لتعزيز السلم ومنع عودة المجابهة المسلحة.” 6

وكان تقرير الفريق رفيع المستوى المعني بالتهديدات والتحديات والتغيير الصادر عام 2004 والمعنون ” عالم أكثر أمناً: مسؤوليتنا المشتركة” 7 قد عول كثيراً على هذا المفهوم انطلاقاً من قناعته، بأنه يحقق انسجام عمل الأمم المتحدة مع التحديات الجديدة التي أضحى الأمن الدولي عرضةً لها، وفي هذا التقرير انطلقت فكرة إنشاء هيئة مستقلة في منظومة الأمم المتحدة يوكل إليها مهمة بناء السلم 8، وتعززت هذه الفكرة مع تقرير قمة العالم عام 2005. 9

و مفهوم بناء السلم يشترك مع حفظ السلم بأن كليهما ليس له الطبيعة القمعية، كما أن تطوراً طرأ علىعمل قوات حفظ السلم، خاصةً بعد نهاية الحرب الباردة، جعل مهامها تكتسب بعداً جديداً ليسند إليهاجانب من مهام بناء السلم. وقد تطورت عمليات حفظ السلام مع بداية القرن الحادي والعشرين، فتضمنت العمليات عناصر من بناء السلام، مثل: نزع سلاح المحاربين القدماء وتسريحهم وإعادة إدماجهم في مجتمعاتهم، والمساعدة في إرساء مؤسسات الدولة وبنيتها الأساسية، مثل: سلطات القضاء وسيادة القانون وإعادة بناء سلطات الأمن، والتدريب، وحماية حقوق الإنسان، وإرساء العملية الديمقراطية بالمساعدة في إجراء انتخابات حرة ونزيهة لرئاسة الدولة والانتخابات التشريعية والمحلية, ومن أمثلة ذلك الانتخابات التي جرت في إطار عمليات حفظ السلام في كل من سيراليون، وليبيريا، وبوروندى، والكونجو الديمقراطية، خلال السنوات من 2004 إلى 2006، وذلك ضمن دور الأمم المتحدة في عمليات حفظ السلام بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والتنسيق مع مؤسسات التمويل الدولية والوكالات المتخصصة والبرامج والصناديق التابعة للأمم المتحدة.

أما مفهوم الدبلوماسية الوقائية الذي يدل على الجهود المبذولة لمنع نشوب النزاعات أصلاً، ومفهوم صنع السلمالذي يعتمد على التوفيق بين الأطراف المتنازعة عن طريق الوسائل السلمية بشكلٍ رئيسيٍ هماتقنيتان تعملان في المراحل السابقة لمرحلة بناء السلم.

وعليه فإن المفاهيم السابقة كلّها تتقاطع فيما بينها، بهدف تحقيق دعائم السلم الدولي وإرسائه إلا أنلكل منها طبيعته ونطاق تطبيقه الخاص.

بناء السلم إذن هو عملية تنطلق مع نهاية نزاعٍ مسلحٍ وتنطوي على جهود عدة أطراف دوليةومحلية بغرض الحفاظ على ما تم إنجازه من خطواتٍ أسفرت عن التوصل لإنهاء النزاع من جهة،والتأسيس لمرحلةٍ جديدةٍ من شأنها ضمان ديمومة هذه النتائج من جهةٍ أخرى.

مما سبق يمكن الوصول إلى أن بناء السلم هو مجموعة الإجراءات والترتيبات التي تُنفذ في مرحلةما بعد انتهاء النزاعات بهدف ضمان عدم النكوص أو الانزلاق إلى النزاع مجدداً، وذلك بإحداثتغيير في بعض عناصر البيئة التي شهدت النزاع لخلق بيئة جديدة، من شأنها تقليل المتناقضات التيدفعت إلى النزاع وتعزيز عوامل الثقة بين أطرافه وتعزيز القدرات الوطنية على مستوى الدولة من أجل إدارة نتائج النزاع ولوضع أسس التنمية المستدامة.

$1II. مقومات ومضامين بناء السلم:

نهاية العنف العلني عن طريق اتفاق السلام أو النصر العسكري لا يعني تحقيق السلم، وإن كانت “مرحلة ما بعد النزاع” تقدم “مجموعة جديدة من الفرص التي يمكن اغتنامها أو هدرها لبناء سلم مستدام. فبناء السلم عبارة عن مفهوم يحدد البنى ويدعمها، وهي بنى من شأنها تمتين السلم وترسيخه في سبيل تفادي العودة إلى النزاع .ومثلما ترمي الدبلوماسية الوقائية إلى الحيلولة دون نشوب نزاع معين، تبدأ عملية بناء السلم في أثناء سياق هذا النزاع لتفادي تكراره. 10

تكمن المهمة الفورية لبناء السلم بتلطيف تأثيرات الحرب في السكان .وتتمثل مهماتها الأولى في المساعدات الغذائية، ودعم الأنظمة في مجالي الصحة والنظافة، وإزالة الألغام، ودعم المنظمات الرئيسة على الصعيد اللوجستي .وفي هذه المرحلة أيضًا، من الأهمية بمكان أن ُتبذل الجهود الرامية إل ى تلبية الحاجات الفورية بطرق تعزز أهداف التطور الطويلة الأجل عوضًا عن المجازفة بها .وفيما يجري توفير الغداء، يجب التركيز على إعادة قدرات إنتاجه، وبالتزامن مع تسليم إمدادات الإغاثة، يجب إيلاء الاهتمام لتشييد الطرقات، وترميم منشآت الموانئ وتحسينها، وإقامة مخازن في المنطقة ومراكز للتوزيع. 11

و تتلخص استراتيجيات بناء السلم في كامل العمليات التي تسعى إلى التعاطي مع أسباب النزاعات والأزمات العنيفة الكامنة، في سبيل ضمان عدم تكرارها، وهي تهدف إلى تلبية الحاجات الأساسية للأمن والنظام، والحماية، والطعام، واللباس .فما تقوم به معظم المجتمعات بصورة عفوية هو بناء السلم – أي تطوير الأنظمة الوطنية والدولية الفاعلة الصانعة للقرار، وآليات حل النزاعات وتدابير التعاون لتلبية الحاجات الإنسانية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية الأساسية، وتسهيل المواطنة الفاعلة. وتتضمن إستراتيجية بناء السلم في فترة ما بعد النزاع ستة عناصر رئيسة:

ü إعادة إطلاق الاقتصاد الوطني.

ü استثمارات لامركزية مؤسسة على الجماعة.

ü إصلاح شبكات الاتصالات والمواصلات الرئيسة.

ü نزع الألغام )من المواقع المناسبة والمرتبطة باستثمارات أولية أخرى(.

ü تسريح المقاتلين السابقين وإعادة تأهيلهم.

ü إعادة دمج السكان المهجرين.

و تعتبر عملية بناء السلم متممة لعملية حفظ السلم .إذ يتطلب فض النزاع بذل الجهود على مستويات عدة . ففي حين يقتصر حفظ السلم على قوات عسكرية تمثل طرفًا ثالثًا في محاولة لاحتواء العنف أو الحيلولة
دونه، يشتمل بناء السلم على مبادرات مادية، واجتماعية وبنيوية من شأنها أن تساعد على إعادة الإعمار وإعادة التأهيل .فمعظم عمليات حفظ السلم التابعة للأمم المتحدة تستتبع عملية بناء السلم إلى حد معين.

تعد إستراتيجية بناء المؤسسات أولى الاستراتيجيات في عملية بناء السلم و تحقيق الاستقرار في الدول المنهارة و تتمثل أهداف هذه الإستراتيجية في:

$1· تعزيز الإدارة و إصلاحها.

$1· إنشاء مؤسسات لتسوية النزاعات.

$1· تحسين أنظمة التمويل و الضرائب.

كما أن بناء المؤسسات أمر لا يمكن الاستغناء عنه لكنه ليس كافيا، إذ أن بناء الهياكل الاجتماعية و السياسية المستقرة في المجتمعات التي مزقتها الحروب يتطلب أيضا الإستراتيجية المقنعة للتنمية الاقتصادية و مناهج متجهة من القاعدة إلى القمة و أنشطة لبناء المجتمع المدني.

و تتلخص إستراتيجيات بناء السلم في كامل العمليات التي تسعى إلى التعاطي مع أسباب النزاعات و الأزمات العنيفة الكاملة في سبيل ضمان عدم تكرارها، و هي تهدف إلى تلبية الحاجات الأساسية للأمن و النظام و الحماية و الطعام و اللباس. و تجري عملية بناء السلم على كافة الأصعدة على المستويين الوطني و الدولي و منها على سبيل المثال وضع أنظمة ضبط التسلح في مكانها، و زيادة عدد آليات بناء الثقة كمحاولات تضمن التعاون و السلم في الصفقات الوطنية و الدولية، كذلك المبادرات في داخل الوطن التي ترمي إلى تقليص الفجوات بين الأغنياء و الفقراء، و نشر مبادئ حقوق الإنسان و بناء عملية التنمية المستدامة.

$1III. نطاق عمل مفهوم بناء السلم:

إن تحديد النطاق الذي يعمل ضمنه مفهوم بناء السلم يشمل تحديد النطاق الزمني لهذا المفهوم، أياللحظة الزمنية – ذات الصلة بالنزاع المسلح – التي تشهد تطبيق ترتيبات بناء السلم، كما يشمل نوع النزاع المسلح بحد ذاته، إلى جانب تحديد النطاقالموضوعي المتمثل بأبرز الميادين التي يعمل من خلالها هذا المفهوم.

01 – النطاق الزمني لإعمال ترتيبات بناء السلم:

يتعامل مفهوم بناء السلم مع مرحلة ما بعد النزاعات المسلحة ولاسيما المرحلة التي تعقب النزاعمباشرةً، والتي قُدرت من قبل خبراء الأمم المتحدة كأول سنتين من المرحلة اللاحقة للنزاع، ففيهذه الفترة يظهر ما يخلفه النزاع من تحديات وثغرات بأجلى صورها، وفي الوقت نفسه تظهر فيهافرص معالجتها بشكل قد لا توفره المراحل التالية، فالقرارات والتوصيات المتخذة في هذهالمرحلة ستحمل تأثيرات في السلم على المدى الطويل والمتوسط. 13

ويستفاد من ذلك أن مفهوم بناء السلم ذو طبيعة علاجية، فمن خلاله تتم معالجة العديد من آثارالنزاع التي تؤدي إلى عدم استقرار المرحلة اللاحقة له وهشاشتها من الناحية الأمنية، كبقاء مرتكبيأفعال إجرامية في النزاع دون عقاب أو كوجود مشكلات عالقة ترتبط باللاجئين، أو النازحين الذينشردهم النزاع، لكن من جهة أخرى هذه الإجراءات ذات طبيعة وقائية، فالوصول إلى نهاية نزاع مالا يعني تحقيق السلم ما دامت بقية أسباب هذا النزاع متجذرة، الأمر الذي قد يدفع إلى دوامة العنفمجدداً.

02- نطاق تطبيق بناء السلم وفقاً لنوع النزاع:

إن مفهوم بناء السلم قابل للتطبيق فيما يتعلق بالنزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، وإن اختلفتأساليب التطبيق وآلياته في كلا المجالين، إلا أن الهدف يبقى معالجة مرحلة ما بعد النزاع وخلق مناخمن الثقة بين أطرافه السابقين، ومن الأنماط التي يمكن أن تتخذها تدابير بناء الثقة في أعقابالنزاعات المسلحة الدولية إنشاء مشاريع تعاونية مشتركة تربط بين أطراف النزاع المنتهي،كمشاريع تطوير الزراعة أو مشاريع الربط الطرقي أو الكهربائي وغيرها من المشاريع المشتركة.

وتختلف أدوات بناء السلم في إطار النزاعات المسلحة الدولية فتتمثل بأحكام القانون الدولي التييمكن أن تعالج آثار هذه النزاعات كالمعاهدات المتعلقة بتنظيم التسلح أو الأحكام الخاصة بحل المسائل القانونية المتنازع عليها نتيجة تلك النزاعات، في حين نجد مزيجاً من الجهود الدولية، والمحلية فيما يتعلق ببناء السلم الداخلي أي حالة النزاعات المسلحة غير الدولية، ودون أن يقتصر ذلك على أحكام القانون الدولي. 14

03 – النطاق الموضوعي لتطبيق ترتيبات بناء السلم:

ثمة ميادين رئيسية يعمل من خلالها مفهوم بناء السلم وجميعها تدور حول غاية واحدة، هي تحقيق العدل والأمنوالتنمية الاقتصادية، ومن خلال ذلك يمكن القول أن العمل في مجال بناءالسلم قد يشمل الآتي:

1 – العمل على استعادة قدرة مؤسسات الدولة على حفظ النظام العام وإرساء الأمن.

2 – تعزيز حكم القانون واحترام حقوق الإنسان، وفي حال كان النظام القضائي في الدولة منهاراً أوغير قادرٍ على ممارسة مهامه يمكن الاعتماد على ما يسمى ب”الحوافظ العدلية” التي هي قوانيننموذجية تعدها هيئات دولية، وتُستخدم في مثل هذه الحالات، ريثما يتم تجاوز مثل هذه المرحلة. 15

3 – دعم عودة المؤسسات السياسية الشرعية في الدولة.

4 – تعزيز الاستقرار الاجتماعي بما في ذلك ضمان عودة النازحين واللاجئين أو توطينهم، وحلالمشكلات القانونية المتعلقة بالملكية وتنازعها واستعادة اللاجئين العائدين لممتلكاتهم، وتوفير الأوضاع اللازمة للاستقرار و إرساء الأسس اللازمة لإطلاق عملية التنمية، إذ يجب أن تتضمن تشجيع النمو الاقتصادي وإعادةإيجاد الأسواق والتنمية المستدامة، كما يشمل ذلك وضع حد للعقوبات الدولية التي قد تكونمفروضة مسبقاً على البلد في حال استيفاء متطلبات رفعها.

ورغم أن عمليات حفظ السلم التابعة للأمم المتحدة يختلف نشاطها عن ميدان بناء السلم إلا أنالتطور الذي شهدته طبيعة هذه القوات جعل منها مؤهلةً للقيام بجانب من إنجاز مهمة بناء السلم،فقد كانت هذه العمليات بمفهومها التقليدي تقتصر على

مهام الفصل بين المتحاربين بمختلف صيغها، إلا أنها اكتسبت طابعاً جديداً متعدد الأبعاد تحت اسمقوات حفظ السلم متعددة الأبعاد، وذلك وفق ما يفوضها إياه مجلس الأمن 16 ، وهو ما مكنها من النهوض ببعض جوانب عملية بناء السلم التي تتطلبنوعاً من التخصص تمتلكه هذه القوات لارتباطه بجوانب عسكرية وأمنية تتمثل بما يأتي:

$1ü معالجة مسألة نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج

من خلال برامج تطبق على الصعيد الوطني بهدف إعادة إدماج الفئات المسلحة التي كانت طرفاً في النزاع في المجتمع، بعيداً عن صفتهم كمقاتلين سابقين، وذلك بماتمتلكه هذه القوات من خبرة فنية تتطلبها هذه العملية. ومن دون مثل هذه البرامج قد يتحولهؤلاء إلى الجريمة المنظمة أو إلى حد تشكيل معارضة سياسية مسلحة تهدد ما تم إنجازه مناستقرار، ناهيك عن ضرورة إعادة تنظيم القوات المسلحة الوطنية والشرطة الوطنية من جديدوبشكل يتناسب والمرحلة الجديدة التي يقبل عليها المجتمع. 17

$1ü نزع الألغام.

$1ü إصلاح القطاعات الأمنية و المساعدة في تعزيز نشر سلطات الدولة.

$1ü المساعدة في تسيير العمليات الانتخابية.

من الملاحظ أن الهدف من النشاطات التي ذُكِرت هو تمكين الدولة من استعادة قدرتها على إدارةشؤونها والنهوض بأعباء الحكم، إلا أن ذلك لا ينفي شمولها مجموعة كبيرة من الجوانب التي تهدف إلى مساعدة الفئات الأكثر تضرراً من آثار النزاع، كالنساء والأطفال18 ، والتأسيس لإطلاق العمليةالتنموية في مرحلة ما بعد النزاع، وذلك بالعمل المشترك بين الشركاء في عملية بناء السلم في هذه المرحلة كالأمم المتحدة و المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى والسلطات المحلية للدولة والمجتمع المدني الذي يؤدي دوراً بارزاً في الكشف عن المشكلات وتقديم الحلول في هذه المرحلة الحرجة، ومن ثم فهي تمثل شراكة حقيقة بين المجتمع الدولي والمحلي، ولاسيما المجتمع المدني الذي يوليه مفهوم بناء السلمأهمية كبيرة. 19

وعليه فإن بناء السلم يتطلب ما هو أكثر من الدبلوماسية والعمل العسكري، ومن هناانبثق التعبير الذي يصف عملية بناء السلم بأنها تعمل في منطقة ما بين الإغاثة الفورية لاحتياجاتمرحلة ما بعد النزاع والتنمية المستقبلية.

وعلى سبيل المثال في بوروندي تم التركيز في عملية بناء السلم على مجالات الحكم الرشيد وتعزيزسيادة القانون وإنعاش المجتمعات المحلية، أما في سيراليون فقد كان الاهتمام منصباً على مجالاتتنمية قدرات الشباب وتوظيفها والإصلاح في ميادين العدالة والأمن والحكم الرشيد وتنمية قطاعالطاقة. أما فيما يتعلق بالوضع في غينيا بيساو فكان تنظيم العملية الانتخابية أحد أبرز عناوين عملالأمم المتحدة في مجال بناء السلم إلى جانب تعزيز المصالحة الوطنية ومكافحة الاتجار بالبشروالمخدرات والجريمة المنظمة والحد من انتشار الأسلحة الصغيرة والخفيفة.

وقد حدث تحول هـام في عقد التسعينيات من القرن الماضي مـن فكرة بناء السلم من أعلى إلى أسفـل، و الذي يكون فيه – بناء السلم من أعلى- للمتدخلين من الخارج دور الخبير بتطبيق مفاهيمهم لحل النزاع وتجاهل الثقافات والقدرات المحلية والوطنية، حدث هذا التحول لصالح مجموعة من الممارسات والمبادئ أشير إليها بصفة إجمالية بمصطلح “بناء السلم من أسفل” 20

وتعني عملية “بناء السلم من أسفل” نقلة من تصور أن تدخل الطرف الثالث مسؤولية أولية تقوم بها وكالات خارجية، إلى إعطاء تقدير للدور الذي يقوم به الطرف الثالث (الوطني) من الداخل بدلا من قيام متدخلين من الخارج بتوفير المنبر لمعالجة النزاع بجهود وساطة.

والخلاصة من كل ماسبق أن جميع المجتمعات و من التاريخ المبكر عرفت آليات مختلفة لبناء السلم، سواء كانت مجالس الشيوخ أو الزعماء الدينيين أو المنتديات الأخرى المنظمة، إلا أن إضفاء الطابع المؤسسي على بناء السلم في المجتمع الدولي بدأ مع تأسيس عصبة الأمم، وتعزز مع نهاية الحرب العالمية الثانية و إنشاء الأمم المتحدة بهدفها الرئيسي وهو دعم وضمان السلم العالمي.

وبناء السلم (PeaceBuilding) يعتمد معايير طويلة المدى تهدف إلى وضع ميكانيزمات لإدارة سلمية للنزاع، مع إظهار الأسباب البنيوية المسببة للنزاع العنيف.

ومن ثم يمكن الاستنتاج أن عملية بناء السلم هي عملية متعددة الأبعاد، سواء من حيث الأطراف التي تنخرط فيها متمثلةً بالمجتمع الدولي من جهة والمجتمع المحلي داخل الدولة المعنية من جهة أخرى، أو من حيث الميادين التي تعمل فيها، كمجالات العدل وإصلاح القطاع الأمني وإرساء أسس عملية التنمية وغيرها من الميادين التي يفرض واقع كل حالة الحاجة إليها.

الهوامش :

$11. يوهان غالتونجمن مواليد سنة 1930، سوسيولوجي وعالم رياضيات نرويجي وأحد أهم المؤسسين لحقل دراسات السلام والنزاع، ومؤسس معهد دراسات السلام بأوسلو سنة 1959. الذي بقي مديرا له حتى سنة1970. وأصدر مجلة أبحاثالسلام سنة1964، كان له الفضل في تطوير العديد من المفاهيم المرتبطة بحقل النزاع والسلام كمفاهيم العنف الهيكلي و السلم السلبي و السلم الإيجابي و مفهوم بناء السلم.

$12. يمكنللعنفالبنيويأنيتمظهرمنخلالالأجورالضئيلةوالأميةوالتدهورالصحيوقلةالحقوقالقانونيةوالسياسية. وقدتمارسهالبنىالسياسيةوالاقتصاديةالثقافيةالمختلفة.يعملالعنفالبنيويببطءولكنه،كمايقولالبعض،يقتلعدداًأكبرمنالناسعلىالمدىالطويل.

$13. Wendy Lambourne, Post-Conflict Peacebuilding: Meeting Human Needs for Justice and Reconciliation, Peace, Conflict and Development – Issue Four, April 2004, p 03.

$14. Ibid, p 04.

$15. Agenda for Peace, Report of the Secretary-General of 17 June 1992, UN Doc. A/47/277 -S/24111.

$16. انظر” الأمم المتحدة” الوثيقةرقم: A/52/871-S/1998/ 318

$17. ضم هذا الفريق شخصيات اختيرت من مختلف أنحاء العالم ممن يمتلكون التجربة والخبرة الفنية، انظر وثيقة الأمم المتحدةرقم565/ 59/ A

$18. أنشئت لجنة بناءالسلام من قبل مجلس الأمن والجمعية العامة في القرارين: مجلس الأمن 1645 (2005)،والجمعية العامة

بالقرار A/RES/60/180.، و هي هيئة استشارية توصياتها تحمل وزنابفضل اتساع وتنوع عضويتها. وتتبع هذه اللجنة كلا

الجهازين، لتكون جهازاً يقدم توصيات بصفتها جهازاً ذا طبيعة استشارية.

$19. Thomas J. Biersteker, prospects for the UN peacebuilding commission, The united nations

Peacebuilding commission: origins and initial practice, disarmament forum, 2/2007, p39.

$110.مارتن غريفيثس وتيري أوكالاهان، المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية، ترجمة ونشر مركز الخليج للأبحاث الإمارات العربية ، 2008، ص 105.

$111.نفس المرجع ، ص 106.

$112.نفس المرجع، ص107.

$113.انظرفيذلكتقريرالأمينالعامفيالمرحلةالتيتعقبمباشرةًانتهاءالنزاع،والصادر في: 11/06/ 2009, الوثيقة رقم : S/2009/304 – S/63/881

$114. جاءذلكالتمييزمنغاريثإيفانزوزيرخارجيةاسترالياالأسبقفيكتابه:

Cooperating for peace: the global Agenda for the 1990’s and beyond, St. Leonards, NSW, Australia,Allen and Unwin, 1993, p. 9-15

$115. [1]- The Responsibility To Protect, Report of the International commission on intervention and states sovereignty, December 2001, p15. Available online at the special ICISS web site:

$1i. <http://www.iciss.gc.ca/menu-e.asp>

$116. David Atwood and Fred Tanner, The UN peacebuilding and international Geneva, The unitednations peacebuilding commission: origins and initial practice, Op.cit, p.27.

$117. The Responsibility To Protect, op.cit. p43

$118. انظرفيذلكالتقريرالصادرعنمنظمةاليونيسيفبإشراف Danieltoole مديربرامجالطوارئ:

Peace- building strategies: Transition from relief to development: why children and early interventionmatter, october 2006,

$119. Renske Heemskerk, The UN peacebuilding commission and civil society engagement, The unitednationspeacebuilding commission: origins and initial practice, Op.cit, p14. –

$120.أحمد محمد عبد الغفار ، فض النزاعات في الفكر والممارسة الغربية: دراسة نقدية وتحليلية.الكتاب الأول: الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام، الجزائر: دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع 2003، ص ص 51،52

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button