دراسات اقتصادية

تأثيرات كورونا على التنافس الاقتصادي بين الصين وأمريكا

مقدمة

في ذروة التنافس التجاري والعقوبات المتبادلة بين الصين وأمريكا ظهر فيروس كورونا (كوفيد19) في ديسمبر/كانون الأول الماضي في الصين، وتحديداً في مقاطعة ووهان؛ المعقل الصناعي الأضخم في الصين، متسبباً بانخفاض كبير في الإنتاج، وتوقف العديد من المصانع وحركة المواصلات نتيجة الإجراءات التي فرضتها السلطات في محاولة للحد من انتشاره وتقليل الخسائر المترتبة عليه، لكنها أخفقت في محاصرته، وهو ما تسبب في انتشاره في أغلب دول العالم. وقد تجاوز المصابون به (ضحاياه)، حتى منتصف يوم 21 مارس/آذار 2020، ربع مليون على مستوى العالم، من ضمنها الولايات المتحدة وأوروبا ودول المنطقة العربية وجوارها، وبلغ عدد الوفيات من جراء هذا الفيروس (11,842)، والمصابين ( 284,724)، والمتعافين (93,576)، فضلاً عما سببه من حالة هلع وقلق نفسية، وشلل في حركة المواصلات والملاحة؛ نتيجة توقيف الدراسة والدوام، وإغلاق العديد من الدول حدودها وفرض حظر التجول والتجمعات، وقد صنفته منظمة الصحة العالمية جائحة عالمية.

وكانت الحكومة الصينية اتهمت الولايات المتحدة (في 3 فبراير/شباط 2020) بالمبالغة في رد الفعل على التفشي وتأجيج الذعر. وتستنكر الصين كذلك إصرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تسمية كورونا بالفيروس الصيني. من جهتها نفت الولايات المتحدة تلك الاتهامات، ومن ضمنها تلك التي وردت في تغريدة الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو لي جيان، في تويتر ونقلتها وكالة (رويترز)، وتتهم الجيش الأمريكي بجلب فيروس كورونا إلى مدينة ووهان التي كانت الأكثر تضرراً من هذا الفيروس.

يبحث تقدير الموقف في أثر تفشي الفيروس في الاقتصادين الصيني والأمريكي، بوصفهما الأكبر في العالم، وتأثيراته في سيرورة الصراع القائم بين البلدين، وما هي انعكاساته على الاقتصاد العالمي ككل؟

سياقات التصعيد الاقتصادي وتأثيرات الفيروس

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة استمر الاقتصاد الصيني في تحقيق معدلات نمو مرتفعة، خاصة في العقدين الماضيين، مكَّن الصين من تبوء المرتبة الثانية في الاقتصاد على المستوى العالمي، معتمدة تنوع سياساتها الاقتصادية وتبنيها لاستراتيجية (الحزام والطريق)، التي تتضمن محاور عدة؛ منها المحور التجاري الذي ترغب الصين من خلاله في المحافظة على مكانتها في التصدير على مستوى عالمي، والمحور النقدي الذي تحرص من خلاله على زيادة التبادل التجاري بالعملة الصينية؛ لتضمن تقليل تكلفة التبادل التجاري وتقليل مخاطر تقلبات أسعار الصرف بالنسبة لشركاتها مقابل العملات الأجنبية، والمحور الجيوسياسي، إذ تهدف الصين من خلال هذه الاستراتيجية إلى التوسع في التصدير عن طريق الحزام (الحدود البرية) والطريق (الحدود البحرية)، وهو ما يشير إلى عدم اقتصار الاستراتيجية الصينية على البعد الاقتصادي وحسب، بل إن لها أبعاداً سياسية قد تعمل على خلق تحالفات جديدة على مستوى العالم.

تقرأ الولايات المتحدة الأمريكية التحركات الصينية الاقتصادية بتوجس، خصوصاً أن حراكها الاقتصادي نما باطراد رغم الأزمات الاقتصادية العالمية. تنبهت إدارات واشنطن المتعاقبة على نمو الاقتصاد الصيني منذ وقت مبكر، لكن اتخاذ خطوات عملية لتأخير عملية نموه وإبطائها لم تكن إلا خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب؛ إذ فُرضت رسوم جمركية تبلغ 50 مليار دولار أمريكي على السلع الصينية، بموجب المادة 301 من قانون التجارة لعام 1974 المتعلق بـ«الممارسات التجارية غير العادلة» وسرقات الملكية الفكرية.

بالمقابل فرضت الصين رسوماً جمركية على أكثر من 128 منتجاً أمريكياً، ومن ضمنها الألومنيوم والطائرات والسيارات ولحم الخنزير وفول الصويا والفواكه والمكسرات والصلب.

ورداً على إجراءات الصين فرضت واشنطن رسوماً إضافية بنسبة 25% على كل من الطائرات والسيارات المستوردة من الصين، إضافة إلى فرض 100 مليار دولار إضافية من الرسوم الجمركية على الصين في 5 أبريل/نيسان 2018. ونتيجة لهذه القصوفات التجارية بين البلدين خفَّض صندوق النقد الدولي، في أبريل/نيسان 2018، توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي لعام 2019 إلى 3.3%، مقابل 3.5%، لاستمرار التوترات التجارية العالمية بين البلدين.

في 15 يناير/كانون الثاني 2020 وقع الطرفان أول مرحلة من الاتفاق التجاري الذي يتضمن إجراءات حول “حقوق الملكية الفكرية ونقل التكنولوجيا والمنتجات الغذائية والزراعية، والخدمات المالية وسعر الصرف والشفافية وزيادة التجارة والتقييم المتبادل وتسوية المنازعات”، تعهدت الصين فيه بشراء بضائع أمريكية إضافية بقيمة 200 مليار دولار خلال السنتين المقبلتين تتضمن المنتجات الزراعية الأمريكية، والحفاظ على استقرار عملتها، وفتح أسواق الخدمات المالية أمام الشركات الأمريكية، مقابل إلغاء الولايات المتحدة الأمريكية الرسوم الجمركية المفروضة على سلعها، ومن بينها الهواتف الذكية بنسبة 16% مقارنة بـ25% التي فرضت سابقاً.

ووفقاً لتقارير تداعيات تفشي فيروس كورونا في العالم فقد يلغي النتائج المتحققة من هذا الاتفاق، خصوصاً أن قطاعات مهمة تضمنها الاتفاق، كالزراعة والتصدير، توقفت ضمن الإجراءات المتخذة للحد من تفشي الفيروس في العالم. وترتبط مخاوف الصين من وقف حركة التصدير بينها وبين واشنطن والدول الأخرى، إذ تعتمد بكين بشكل رئيس على واردات البضائع المصدرة إلى الخارج، التي تشكل عصب الاقتصاد، ومع تفشي هذا المرض والقدرة على انتقاله إلى خارج الحدود، يمكن القول إن توقع انخفاض الصادرات الصينية، خاصة إلى واشنطن، سيكون حتمياً؛ بسبب إجراءات الحجر الصحي والتخوف من تداعيات تفشي الفيروس، وهو ما سيضر بالاتفاق التجاري بين البلدين، وسيلقي بظلاله على الاقتصاد العالمي ككل.

تأثير الفيروس في الاقتصاد الصيني

على الرغم من مواجهة الصين لتحدٍّ وبائي مسبقاً، المتمثل بأزمة (سارس) في 2003، فإن تداعيات فيروس (كورونا) على اقتصادها تختلف، فالصين في 2003 لم تكن مؤثرة بالاقتصاد العالمي مثل الصين في 2020، إذ شهد الاقتصاد الصيني قفزات مذهلة خلال الفترة السابقة؛ ففي عام 2000 تجاوز الناتج المحلي الإجمالي للصين نظيره الإيطالي، وفي عام 2005 تجاوز نظيره الفرنسي، وفي 2007 تجاوز المملكة المتحدة، وفي 2009 تجاوز اليابان، ليستقر بعد ذلك كثاني اقتصاد على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

 وعلى الرغم من مسارعة الصين لتطبيق إجراءات صارمة من أجل الحد من تفشي الوباء، فإنها لم تتمكن من تلافي الأضرار الاقتصادية الناجمة عن تطبيق تلك الإجراءات، إذ تضررت قطاعات اقتصادية هامة، أبرزها قطاع السياحة والطيران، ونظراً لارتباطها بأسواق عالمية في التصنيع والتصدير، أثَّر انتشار الفيروس وحالة فرض وقف الاستيراد والتصدير منها في نموها الاقتصادي بشكل كبير. ويرجح العديد من الخبراء أن تفشي الفيروس قد يؤدي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي الصيني بنسبة تقارب 1.2٪، ويقدر الناتج المحلي للصين بنحو 13.6 تريليون دولار في عام 2018، بما يمثل نسبة 15.8% من الناتج المحلي العالمي، ومن هنا تشير كثير من التقارير إلى أن انتشار فيروس كورونا سيكون له تأثيرات كبيرة في الاقتصاد العالمي، ولذا خفضت الوكالة الدولية توقعاتها بنمو الاقتصاد الصيني إلى 4% مقابل 5.6% في توقعات سابقة للربع الأول من العام الحالي، وتتوقع (أوكسفورد إيكونومكس) انخفاض النمو الصيني إلى 5.4% خلال عام 2020، وهو الأدنى لها منذ عام 1990.

تأثير الفيروس في الاقتصاد الأمريكي

وفقاً لوزارة الخزانة الأمريكية بلغ عجز الميزانية الاتحادية للسنة المالية 2019 حتى شهر سبتمبر/أيلول، نحو 984 مليار دولار، أي ما يوازي 4.6% من إجمالي الناتج الداخلي. يعد هذا العجز الأكبر منذ عام 2012 عندما بلغ العجز 1100 مليار دولار في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، حينما كان أول اقتصاد في العالم يخرج من الأزمة المالية ومن الانكماش الكبير. وعلى الرغم من أن سياسة الرسوم الجمركية العقابية التي فرضت على السلع الصينية في إطار المواجهة التجارية التي تخوضها إدارة ترمب مع بيجين، قد حققت عائدات قياسية بلغت ثلاثين مليار دولار، بزيادة نسبتها 70% عن الأحوال العادية، ارتفع العجز إلى 205 مليارات دولار إضافية عن 2018.

إذ سجلت الواردات ارتفاعاً نسبته 4%، وبلغت 3462 مليار دولار، وهو مبلغ قياسي، لكن وتيرة زيادة النفقات كانت ضعف ذلك، أي 8%، لتبلغ 4447 مليار دولار، وهو رقم يعد قياسياً أيضاً. وعزت الخزانة الأمريكية السبب في ارتفاع النفقات إلى شيخوخة السكان وارتفاع رواتب التقاعد (6%)، ونفقات التأمين الصحي (8%) للأكثر فقراً والأكبر سناً. 

ويشير لاري كودلو، المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض، إلى أن تفشي فيروس كورونا في الصين قد يقلص الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الربع الأول بواقع 0.2 إلى 0.3 بالمئة. ووفقاً لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) تسبب فيروس كورونا بحدوث انكماش بنسبة 2% في إنتاج الصين، وهو ما أثر في مجمل انسياب الاقتصاد العالمي، ومن جراء ذلك بلغت خسائر الولايات المتحدة الأمريكية قرابة 5.8 مليارات دولار خلال شهر فبراير/شباط وحده.

مؤشرات يفرضها كورونا على المستوى العالمي

رغم أن الصراع الاقتصادي القائم بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين قد ألقى بظلاله على الاقتصاد العالمي ككل، يبدو أن تأثيرات تفشي فيروس كورونا ستكون هي التحدي الأصعب الذي يواجه الاقتصاد العالمي في المرحلة القادمة، إذ يشير تقرير وكالة أونكتاد (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) إلى أن الأزمة التي تسبب بها كورونا ستؤدي إلى ركود في الاقتصاد العالمي، وهو ما سيتسبب في انخفاض النمو السنوي العالمي لهذا العام بنسبة 2,5%، وقد يسوء الوضع إلى درجة تسجيل عجز في الدخل العالمي بقيمة 2000 مليار دولار، وذلك يعني انهيار الاقتصاد العالمي ككل، فيما يشبه الكساد الكبير الذي أعقب الأزمة الاقتصادية لعام 1929 من القرن الماضي، حيث كان تأثير تلك الأزمة مدمراً على كل الدول بلا استثناء، خصوصاً أن الاقتصاد العالمي لم يتعافَ بعد من تأثيرات الأزمة المالية التي حدثت في عام 2008، الذي حدث نتيجة للهشاشة المالية للنظام الاقتصادي العالمي.

من جراء إجراءات الحجر الصحي بغية مكافحة تفشي الفيروس، تأثرت قطاعات اقتصادية بشكل كبير، خصوصاً قطاع الطيران والسياحة وأسواق الأسهم والنفط، ووفقاً لتقرير أونكتاد فمن المتوقع أن تنكمش صادرات الصين من قطع الغيار والمكونات الحيوية لمنتجات تتراوح بين السيارات والهواتف الخلوية بنسبة 2% على أساس سنوي في فبراير/شباط الماضي، وهو ما يكلف دولاً أخرى وصناعاتها 50 مليار دولار، ونتيجة لتفشي الفيروس في الصين، التي تشكل 20% من التجارة العالمية في المنتجات الوسيطة تأثرت 75 دولة، وتعد دول الاتحاد الأوروبي المتضرر الأكبر من تفشي هذا الفيروس، حيث تبلغ خسارته قرابة 15.6 مليار دولار، في حين تضررت اليابان بنسبة (5.2 مليارات دولار)، وكوريا الجنوبية بنسبة (3.8 مليارات دولار)، وتايوان بنسبة (2.7 مليار دولار)، وفيتنام بنسبة (2.3 مليار دولار).

خاتمة

تجاوزت آثار فيروس كورونا الصين اقتصاداً وصحة وتحول إلى وباء عالمي ضحاياه تجاوزت ربع مليون إنسان رغم محدودية الوفيات بحدود 12 ألفاً حتى 21 مارس/آذار الجاري، وعلى المستوى الاقتصادي فقد أحدث شللاً وخسائر تقدر بمئات المليارات وفق التقديرات الأولية. أما فيما يتعلق بالاقتصاد الصيني فيبدو أنه المتضرر الأكبر من جراء هذا الفيروس؛ نتيجة للإجراءات الصارمة التي اتُّخِذت من أجل مكافحة الفيروس، إضافة إلى عدم قدرتها على الاستفادة المباشرة من مخرجات المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري بينها وأمريكا، وتضرر سمعتها، التي تحتاج إلى وقت لتجاوزها. لكن وفقاً لتقارير حديثة فإن الإجراءات الصارمة التي اتخذتها الصين في مكافحة الفيروس، إضافة إلى تقديمها مساعدات طبية، وإرسال خبراء للدول المنكوبة، كصربيا وإيطاليا، قد تمكنها (الصين) من تحويل كارثتها الاقتصادية إلى فرصة سياسية لمنافسة الولايات المتحدة الأمريكية التي أخفقت- ولأول مرة- في الاضطلاع بدورها العالمي في جانب الإغاثة الإنسانية، على غرار دورها خلال فترة تفشي فيروس سارس وإيبولا.

وأياً تكن الآثار والتداعيات التي سيخلفها الفيروس فمن المؤكد أن التنافس الاقتصادي بين البلدين لن يتوقف، لكن الفواتير الباهظة التي سيدفعها الطرفان قد تدفعهما إلى التوافق على آليات تضمن إعادة إنعاش القطاع الاقتصادي من أجل تعويض الآثار التي خلفها انتشار فيروس كورونا، ثم معاودتهما (الصين وأمريكا) التنافس الاقتصادي.

تحميل الدراسة

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى