تأثير حرب كورونا (كوفيد 19) على منظومة الأمن القومي الإسرائيلي

بقلم العميد: أحمد عيسى

المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي

 

ملخص

تسعى هذه الورقة الى فحص مدى تأثير حرب كرونا على الأمن القومي الإسرائيلي  وذلك من زاوية  الركائز التي تقوم عليها منظومة الأمن القومي، لا سيما ركيزة تموضع إسرائيل في النظام الدولي والحاجة الدائمة لرعاية دولة عظمى.

وفي سعيها هذا طبقت الورقة نموذج تحليلي يرسم ابتداءً صورة للعالم عشية إندلاع الحرب، ويلقي الضوء على المساهمات الأكاديمية التي تناولت الحرب وتنبأت بأثارها على النظام العالمي والسياسة الدولية، ويستعرض في السياق العلاقة بين صناعة إسرائيل في المنطقة والتحولات التي شهدها النظام العالمي في القرن الماضي، ثم يتوقف النموذج عند منظومة الأمن القومي الإسرائيلي مبرزاً في الوقت ذاته اعتماد هذه المنظومة على جعل رعاية دولة عظمي كأحد الركائز الأصيلة التي تقوم عليها المنظومة. وبعد ذلك يستعرض النموذج واقع إسرائيل الإستراتيجي عشية إندلاع الحرب موضحا التحديات والتهديدات التي تواجه الدولة في العام الجاري 2020، وانتهاء يتوقف النموذج عند التحديات والتهديدات وكذلك الفرص التي تضمنتها الحرب للأمن القومي الإسرائيلي.

وقد خرجت الورقة بجملة من النتائج أهمها: كشف الحرب لضعف وعدم إستعداد العالم لمواجهة التهديدات غير العسكرية (الوبائية) مما أسفر عن صقوط عدد كبير من الضحايا في صفوف البشر حول العالم، علاوة على إدخالها للإقتصاد العالمي في حالة من النمو السلبي والركود الإقتصادي المتوقع أن تجعل العالم أكثر فقراً لسنوات طويلة قادمة، الأمر الذي يجعل من هذه الأثار كافية للتأسيس لنظام عالمي جديد من المتوقع أن لا تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية. ومن جهتها إسرائيل ستكون أول المتأثرين بهذا التحول لجهة العلاقة الطردية بين صناعتها في المنطقة وتحولات النظام العالمي، ولجهة اعتماد الرعاية الأمريكية لها كأحد ركائز منظومة أمنها القومي. وفيما وجدت الدراسة أن الحرب قد خلخلت هذه الركيزة وأضعفت من عناصر القوة الإستراتيجية الإسرائيلية خاصة الإقتصاد، إلا أن مبدأ الإفتنان بالقوة الذي يقوم عليه فكر وسياسات التيار النيوصهيوني بزعامة رئيس الوزراء نتنياهو (الذي نجح مؤخراً في تأمين أغلبية برلمانية تمكنه من مواصلة الهيمنة على حكم الدولة وتحديد سياستها من خلال التحالف مع حزب أزرق أبيض بزعامة بني جانتس)، لا يسمح لهذا التيار إلا رؤية ما وفرته الحرب من فرص وآمال لدولة إسرائيل لإكمال ما لم يكتمل في صناعة الوجود، ويدفع هذا الفكر بالمقابل هذا التيار للتحايل على ما انطوت عليه الحرب من تهديدات من منطلق رؤيته لها كتهديدات مجردة ونظرية، إذ يؤمن هذا التيار أن ما بلغته إسرائيل من قوة عسكرية وتكنولوجية وإستخباراتية وديبلوماسية يمكنها من الإعتماد على الذات في صياغة منظومة أمنها القومي دون رعاية دولة عظمى.

وعلى ضوء هذه النتائج  تتوقع هذه الورقة أن إسرائيل النيوصهيونية ما بعد حرب كورونا ستكون أقل ديمقراطية، وأكثر عنصرية، وأشد عدوانية ليس ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية ومناطق العام 1948 وحسب، بل ضد حزب الله في لبنان والتواجد الإيراني في سوريا والعراق، فضلاً عن أنها ستكون شريكاً مثالياً لكثير من الأنظمة في العالم العربي.

العالم عشية إنلاع حرب كورونا

تكمن أهمية تأثير حرب كورونا على النظام العالمي والسياسة الدولية ومركباتها، في تزامن إندلاع الحرب مع بلوغ حالة تحول النظام العالمي إلى نقطة الذروة، نتيجة لعدة عوامل، يقع في القلب منها جملة الإجراءات والمراسيم والقرارات المخالفة للقيم والمبادئ التي يقوم عليها النظام الدولي، والتي شرع بها الرئيس الأمريكي ترامب منذ وصوله لسدة الحكم العام 2016، ضد الحلفاء والخصوم معاً، حيث أضحى العالم على إثر هذه الإجراءات أقل انتظاماً، وأكثر غياباً للمنظمات الدولية، كما أصبحت وحداته لا سيما الدول أكثر رفضا وتمرداُ على القواعد الناظمة للعلاقات الدولية، مما دفع البعض الى تشبيه “العلاقات الدولية في اللحظة الراهنة بتلك التي كانت سائدة في فترة ما بين الحربين الأولى والثانية”[1].

فمن جهتها الصين القوة العظمى المنافسة للولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تُخفي (قولاً وعملاً) رفضها للقواعد والمبادئ التي أرستها وهيمنت من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية على النظام العالمي وحسب، بل علاوة على ذلك تقدم مقاربة لنظام عالمي يقوم على مبادئ التعددية والتعاون والتناغم كما يتجلى في مبادرة الحزام والطريق، كمبادئ بديلة لمبدأ مراكمة المصلحة من خلال التنافس والصراع الذي تقوم عليه النيوليبرالية والعولمة[2].

ومن جهتها روسيا الإتحادية وريث الإتحاد السوفيتي، لم يختفي تأثيرها على النظام العالمي، على الرغم من مرور ثلاثة عقود على خسارة الحرب الباردة وانهيار وتفكك الأخير، حيث يتوسع نفوذها اليوم، ويمتد من محيطها الحيوي الى قلب الشرق الأوسط وشواطئ المتوسط، فضلاً عن تموضعها إلى جانب الصين الرافضة للهيمنة الأمريكية على النظام العالمي[3].

بالمقابل يشهد (الغرب الديمقراطي) الشريك الأكبر للحركة الصهيونية في مشروع صناعة إسرائيل في المنطقة أزمات سياسية وإقتصادية وإجتماعية غير مسبوقة، زادت حرب كورونا من حدتها وأثارها، إذ وسعت من الفجوة الموجودة أصلاً، بين توقعات المواطنين، وقدرة الحكومات، الأمر الذي يتجلى أيما تجلي في فشل مواجهة دول مثل أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وأسبانيا، وألمانيا لهجوم كرونا.

ومن جهة أخرى تشهد المنظمات الدولية عجزاً بيناً في معالجة الأزمات الدولية والإقليمية المنشرة  حول العالم، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، حيث لم تنجح هذه المنظمات في وقف الحرب على اليمن وسوريا وإنهاء الحروب الداخلية في ليبيا، علاوة على فشلها الواضح في توقع حرب كورونا ومعالجة ما أنتجته من أزمات صحية واقتصادية واجتماعية.

وبدورها تعيش منطقة الشرق الأوسط أزمة مركبة ومتعددة الأبعاد، حيث تشهد حالة من عدم الإستقرار لا زالت متواصلة منذ مطلع العقد الجاري، أدت الى إنهيار عدد من دول المنطقة وتحويل أخرى الى دول فاشلة،  فضلاً عن إنتاج المنطقة كساحة للعنف ومصدر للإرهاب، وقد زادت هذه الحالة من اللا استقرار عقب إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عزمها سحب قواتها من المنطقة والتوجه نحو الشرق، الأمر الذي أجج بدوره الصراع بين قوى المنطقة التقليدية (إيران، تركيا، مصر والسعودية) الساعية لملئ الفراغ الذي ستتركه أمريكا بعد مغادرة المنطقة.

ومن جهتها إسرائيل (الدولة غير العربية وغير الإسلامية الوحيدة في المنطقة)، والتي أعلن عن قيامها عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، تزاحم القوى الرئيسية التقليدية للهيمنة على المنطقة، طبقاً لمنطوق الإتفاق (الإعلان) الثلاثي العام 1950، الذي اتفقت من خلاله كل من أمريكا وبريطانيا وفرنسا على حفظ استقرار المنطقة بما يضمن استمرار التدفق الآمن للنفط، وإبقاء التوازن الإستراتيجي في المنطقة دائماً لصالح أمن إسرائيل[4].

وقد فرض ذلك على إسرائيل موائمة منظومة أمنها القومي مع تحولات المنطقة، إذ بات واضحاً أن أمن إسرائيل أصبح أكثر إعتماداً على جيرانها، الأمر الذي يستدعي بناء تحالفات وإصطفافات إقليمية جديدة، ويبرز في هذا الشأن ثلاث اتجاهات رئيسية في المنطقة، إذ يرفض الإتجاه الأول بزعامة إيران وجود سرائيل ويعلن أنه في حالة حرب وعداء معها، ويقر الإتجاه الثاني الذي أصبحت تقوده المملكة العربية السعودية والإمارات بوجود إسرائيل ويسعى الى تطبيع علاقاته معها، وفيما يقر الإتجاه الثالث الممثل بتركيا وقطر (الإخوان المسلمين) بوجود إسرائيل ويحافظ على علاقات ديبلوماسية مغها، إلا أنه لا يبدو مندفعاً كالاتجاه الثاني نحو تطبيع العلاقات[5].

حرب كورونا: جدل سياسي وبداية محاورة تنظيرية جديدة

لم تصل حرب كورونا الى نهايتها بعد، إلا أن سرعة تدفق ما أنتجته من أثار اقتصادية واجتماعية، قد مست معظم ميادين العلاقات الدولية، حيث أجبرت أكثر من 90% من سكان الأرض على عدم مغادرة منازلهم ومباشرة أعمالهم، الأمر الذي قلل من العرض والطلب كأهم محركات للتنمية الإقتصادية، مما جعل من الحرب أكبر من قدرة الأطر التحليلية السائدة على تفسير أثارها واستبصار تداعياتها على السياسة الدولية، حيث دفع ذلك المتخصصين في حقل العلاقات الدولية الى إثارة جملة من التساؤلات لغايات المساعدة في إستبصار ما أضافته الحرب من دلالات على المفاهيم القائمة كالقوة، والتهديد، والأمن، والمحاور، والتحالفات وغيرها من المفاهيم[6].

 وقد دفعت سرعة تدفق هذه الأثار البعض من خبراء العلاقات الدولية لتوقع أن تشهد مرحلة ما بعد الحرب محاورة تنظيرية جديدة في حقل السياسة والعلاقات الدولية تشبه الى حد كبير المحاورات التي اعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث حاجج بعد الحرب العالمية الأولى أصحاب المنظور الواقعي ضد المنظور المثالي، وحاجج بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أصحاب المنظور السلوكي ضد المنظور الواقعي، وشهدت بدورها فترة ما بعد الحرب الباردة صراعاً في الحقل الأكاديمي دفعت البعض للقول “نحن لا نشهد صراعاً بين الأمم حول المفهوم بل نشهد صراعاً بين المفاهيم”[7].

وفي هذا الشأن انقسم خبراء العلاقات الدولية حول الأثار بعيدة المدى لحرب كورونا على النظام الدولي الى فريقين، حيث يرى الفريق الأول أن النظام العالمي ما بعد حرب كورونا سيشبه الى حد كبير النظام العالمي الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الأولى الذي برزت فيه الدولة-الأمة على انقاض الإمبراطوريات الكبرى، الأمر الذي يعني أن نزعات الشعوب القومية ستدفعها للإنغلاق خلف حدودها[8].

بالمقابل يرى الفريق الثاني أن الأنماط والإتجاهات العميقة التي كانت تحرك تحول النظام الدولي ما قبل إتدلاع الحرب، خاصة الأنماط والإتجاهات التي بدت الولايات المتحدة الأمريكية منذ تولي الرئيس ترامب سدة الحكم العام 2016، وكأنها تتحكم في ايقاعها ستتأثر بشكل كبير حيث يتسائل هذا الفريق، أي من هذه الاتجاهات والأنماط ستزيد الحرب من سرعة تأثيرها على النظام الدولي؟ وأي منها ستتباطئ سرعتها وأي من هذه الأنماط ستظل تحت سيطرة أمريكا، وأي منها ستفلت من سيطرتها[9]؟

ولمزيد من الفحص والتمحيص لمدى تأثير الحرب أثار الخبراء جملة من الأسئلة في سعيهم لتفسير ما يحدث، ومن أبرز هذه الأسئلة: هل كسبت الصين الحرب على كورونا، وخسرتها بالمقابل الولايات المتحدة الأمريكية؟ وكيف سيكون تأثير الحرب على المنافسة المحتدمة بين القوى العظمى حول البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات؟ وما هو مستقبل المؤسسات والمنظمات الدولية؟ وهل ستبقى خطوط الإمداد معطلة لفترة طويلة؟ وما هي المعوقات التي ستضعها الحرب أمام نمو الإقتصاد العالمي[10].

ومقابل ذلك يجادل أخرون ان عام 2020 لم يكشف عن فشل منظمة الصحة العالمية في مواجهة جيش كورونا وحسب، بل سيكون العام الذي سيشهد سقوط النظام النيوليبرالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه سيكون العام الذي سيشهد بداية لفترة ركود جيوسياسي، ويؤكدون في نفس الوقت أن العالم بعد حرب كورونا أصبح أكثر حاجة لنظام ديمقراطي اجتماعي يكون الإنسان والمجتمع مركز اهتمامه بدل الربح وجني الأموال التي تقوم عليهما النيوليبرالية والعولمة[11].

وعلى الرغم مما يبدو عليه الوسط الأكاديمي من انقسام، إلا أن فحص مساهمات الفريقين يكشف أن الإختلاف بينهم إنما يدور حول المنهجيات المطبقة في قراءة الحرب والتنبؤ بتداعياتها، ويؤكد بالمقابل أنهم في الواقع يتفقون على أن الحرب ستغير النظام العالمي كلياً، لا سيما وأن نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى يختلف عن نظام القطب الواحد المهيمن على النظام الدولي في الفترة الراهنة، كما أنهم يجمعون تقريباً على ان العالم ما بعد حرب كورونا سيصبح “أقل انفتاحا وأقلّ حرية وأكثر فقراً”[12].

إسرائيل وتحولات النظام الدولي

تعتبر إسرائيل من الدول التي تمت صناعتها بالتزامن مع تحولات النظام الدولي التي جرت خلال القرن الماضي، حيث نشأت في مراحل التحول هذه دولاً جديدة لم تكن قائمة من قبل (كانت دولة إسرائيل من أبرزها، إذ أعلن عن قيامها في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية ونشأة نظام القطبين)، فيما تفككت واختفت بالمقابل دولاً كانت قائمة (كان من أبرزها الإتحاد السوفييتي الذي تفكك الى اثني عشر دولة، وتشيكوسلافاكيا التي تفككت الى دولتين، ويوغسلافيا التي جرى تقسيمها الى خمسة دول، وذلك في أعقاب نهاية الحرب الباردة العام 1991، ونشأة نظام القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية)[13].

وتفيد مراجعة مسيرة صناعة إسرائيل في المنطقة، أن هذه المسيرة قد مرت بأربع مراحل، انتهت ثلاث منها، فيما لا زالت المرحلة الرابعة لم تصل الى نهايتها بعد.

 وكانت المرحلة الأولى قد بدأت العام 1917 الذي شهد صدور وعد بلفور الذي تعهدت فيه الدولة العظمى المهيمنة على النظام الدولي في حينه (بريطانيا العظمى) ثم عصبة الأمم لاحقاً، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبدأت المرحلة الثانية في العام 1948 الذي شهد النكبة الفلسطينية والإعلان عن قيام دولة إسرائيل، ونشأة نظام دولي جديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية التي بدورها استثنت الشعب الفلسطيني من المصير العام، فيما كانت تعيد صياغة العالم الجديد وفقاً لنص وثيقة الإستقلال الفلسطيني الصادرة عن المجلس الوطني الفلسطيني العام 1988[14].

وبدأت المرحلة الثالثة في العام 1991، الذي شهد نهاية الحرب الباردة وإنهيار الإتحاد السوفيتي، ونشأة نظام القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، التي شرعت بدورها في مسيرة تسوية الصراع العربي الإسرائيلي من خلال المفاوضات عبر مؤتمر مدريد العام 1992، حيث نجحت هذه التسوية على المسار الأردني، فيما وصلت “لنقطة اللاعودة على المسار الفلسطيني”[15].

أما المرحلة الرابعة (التي لم تصل الى نهايتها بعد) فتجادل هذا الورقة أنها بدأت مع وصول الرئيس الأمريكي ترامب لسدة الحكم العام 2016، محمولاً على شعاره الإنتخابي “أمريكا أولاً”، الشعار الذي اتضح لاحقاً انه يعني تأمين مصالح أمريكا وحلفائها من خلال إعادة بناء النظام العالمي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد عبرت إستراتيجية الأمن القومي للرئيس ترامب التي جرى الإعلان عنها في 18 كانون أول/ديسمبر 2017، عن هذا المعنى عندما صنفت التهديدات التي تهدد زعامة الولايات المتحدة الأمريكية للنظام العالمي في ثلاث مجموعات، تضم المجموعة الأولى دول سيادية منافسة كالصين وروسيا، وتضم المجموعة الثانية دول مارقة كإيران وكوريا الشمالية، وتضم المجموعة الثالثة مجموعات غير دولانية كمنظمات الجريمة المنظمة ومنظمات الجهاد الإرهابية العابرة للحدود[16].

وفيما يخص مصالح الحلفاء، فقد أظهرت إستراتيجية الرئيس الجديدة أن إسرائيل قد أحتلت المرتبة الأولى في قائمة الحلفاء التي تسعى أمريكا لتأمين مصالحها في سياق إعادة بناء النظام العالمي، وذلك من خلال حسم صناعة وجودها في المنطقة، الأمر الذي تجلى في المكانة التي خصصتها الإستراتيجية الجديدة للشرق الأوسط، حيث نصت الإستراتيجة على أن إسرائيل ليست مصدر اللا استقرار في المنطقة بل ايران هي المصدر الرئيسي لعدم الإستقرار، وأضافت الإستراتيجية أن زعماء المنطقة يدركون هذه الحقيقة ويعربون عن استعدادهم للتعاون مع اسرائيل لمواجهة التهديد الإيراني، كما أكدت الاستراتيجية أن الولايات المتحدة لن تسمح لقوة معادية للولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة على المنطقة، فضلاً عن أنها لن تسمح بأن تصبح المنطقة ملاذاً آمناً وأرضاً خصبة للمنظمات والأيدولوجيات الإرهابية وستحافظ على ان تبقى المنطقة سوق عالمي للطاقة[17].

وفيما شرع الرئيس ترامب في تنفيذ إستراتيجيته الجديدة إبتداء من منطقة الشرق الأوسط عبر اعتبارها المحطة الخارجية الأولى لرحلة الرئيس الخارجية الأولى، وذلك لأول مرة في تاريخ الزيارات الخارجية الأولى لرؤساء أمريكا، ثم لإتخاذه سلسلة من المراسيم والقرارات الخاصة بالمنطقة والتي كان آخرها الكشف عن رؤيته المعروفة بصفقة القرن، اندلعت حرب كورونا التي بدورها أسقطت أو تكاد النظام النيوليبرالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وأدخلت العالم في حالة من غياب الزعامة والركود الجيوسياسي.

ويضع هذا الوضع الجديد كثير من الشكوك حول قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على مواصلة التفرد بزعامة للنظام العالمي، ويقلل من جهة أخرى من فرص الرئيس ترامب للفوز في جولة الإنتخابات الرئاسية التي ستجري في نوفمبر القادم، مما سيحرم إسرائيل من التمتع بالدعم والرعاية الأمريكية ويجبرها بالمقابل للمرة الأولى في تاريخها للإعتماد على قدراتها ومواردها في مواجهة التهديدات والتحديات الخارجية، الأمر الذي سيبقي المرحلة الرابعة من مراحل صناعة إسرائيل في المنطقة مناطة بالمآلات النهائية للحرب وآثارها على النظامين الدولي والإقليمي.

إسرائيل وصياغة منظومة الأمن القومي

يعتبر الأمن أحد أهم مركبات السياسة الدولية، ولذلك لطالما وظفه الباحثون من الإتجاهين التقليدي والمعاصر في حقل العلاقات الدولية، كنقطة انطلاق منهجية في تفسير التحولات الدولية المتعاقبة، لا سيما وأن كل مرحلة من مراحل تحول النظام الدولي إنطوت على جملة من التحديات الإقتصادية والأمنية والقيمية، مما فرض على الدول تجديد صياغة منظوماتها للأمن القومي للتكيف مع ما تضمنته التحولات من تحديات وتهديات جديدة[18].

ويفسر ذلك ميل الدول السيادية منذ اتفاقية ويستفاليا العام 1648، (التي جعلت من الدولة القومية وحدة التحليل الأساسية في تفسير العلاقات الدولية)، الى صياغة منظومات أمنها القومي وفق فهم الدولة للمعنى الإجرائي لمفهوم الأمن القومي، الذي يقوم على “إدراك الدول لبيئتها الأمنية الداخلية والخارجية، ويستند الى مقومات الدولة وامكاناتها الداخلية، ويرتبط بتموضع الدولة في النظام الدولي”[19].

من جهتهم المؤسسون الأوائل لدولة إسرائيل (على رأسهم رئيس الوزراء الأول دافيد بن غوريون) لم يبتعدوا عن هذا المعنى عند صياغة منظومة الأمن القومي للبلاد، إذ قامت هذه المنظومة على مجموعة من الركائز (كالردع، والإنذار المبكر، والحسم)، الأمر الذي جعل من تموضع الدولة في النظام الدولي ورعاية قوة عظمى لها ديبلوماسياً وإقتصادياً وعسكرياً أحد ركائز منظومة الأمن القومي للبلاد، لا سيما وأن احتياجات الأمن القومي للدولة أكبر من قدراتها وإمكاناتها، وذلك لصغر مساحتها وقلة عدد سكانها ومحدودية موارها الطبيعية مقارنة بجيرانها من الدول العربية التي أعلنت في حينه أنها في حالة حرب مع الدولة الجديدة الناشئة في المنطقة[20].

وقد ظلت هذه الركيزة باهظة التكاليف ثابتة في منظومة الأمن القومي الإسرائيلي على مر العقود، وذلك على الرغم من النجاحات الذي حققتها الدولة في المجالات الإقتصادية والعسكرية والتكنولوجية في العقود الأربعة الأخيرة، علاوة على نجاحها في توقيع ثلاث معاهدات سلام مع مصر في العام 1978، ومنظمة التحرير الفلسطينية العام 1993، والأردن العام 1994[21].

وفي هذا الصدد كشف دافيد فرانسيس في صحيفة Christian Science Monitor الأمريكية أن إسرائيل قد حصلت على مساعدات عسكرية وغير عسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة 1973-2002 بقيمة 1,6 ترليون دولار، أي بواقع 5,700 دولار لكل مواطن طبقا لعدد سكان الدولة في تلك الفترة[22]. وذكرت مصادر أخرى أن إسرائيل قد حصلت منذ الإعلان عن قيامها العام 1948 على ما نسبته 55% من اجمالي المساعدات الأمريكية الخارجية، واضافت هذه المصادر أن المساعدات الأمريكية لإسرائيل تشكل ما نسبته 23-25% من الموازنة الكلية لوزارة الدفاع[23].

وتجدر الإشارة هنا أن المساعدات الإقتصادية والعسكرية الأمريكية ثابثة من حيث المبدأ وغير ثابثة من حيث القيمة المادية، إذ تزداد طبقاً للحاجة ووفقاً للزمن، حيث بلغت قيمة المساعدات المخصصة للفترة الزمنية 2018-2028 ما مجموعه 38 مليار دولار، فيما بلغت في الفترة 2008-2018 31 مليار، اي هناك زيادة بواقع 22,5%، وذلك طبقاً لما نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية يوم الأحد الموافق 22/10/2019، وذكرت الصحيفة أن هذه المساعدات هي الأكبر التي تقدمها أمريكا لإسرائيل منذ العام 1948، كما أضافت أن الاتفاق يسمح لإسرائيل بتخصيص ما نسبته 26,3% من هذا المبلغ لشراء معدات عسكرية من السوق المحلي الإسرائيلي، الأمر غير المسبوق في سياسة المساعدات الخارجية الأمريكية[24].

ولا تقل أهمية الدعم الديبلوماسي الذي تقدمه الدولة العظمى الراعية (أمريكا) عن الدعم الإقتصادي والعسكري، إذ فيما يجرى استثمار الدعم الإقتصادي لترميم الجبهات وتوفير بيئة إستراتيجية مستقرة، والدعم العسكري لضمان تفوق نوعي مقابل جيوش المنطقة، يجرى إستثمار الدعم الديبلوماسي لتوفير الحماية المطلوبة للدولة على الصعيد الشعبي من خلال منظمات المجتمع المدني غير الحكومية لمواجهة حملة نزع الشرعية عن إسرائيل المعروفة بحملة (BDS)، وكذلك على الصعيد الرسمي من خلال المنظمات الدولية خاصة مجلس الأمن، وذلك إما لمنع صدور قرارات معادية لإسرائيل، أو لإصدار قرارات تحول فشل إسرائيل في تحقيق حسم إستراتيجي في حروبها إلى سياق سياسي يحتوي إنجازات صمود الطرف الآخر كما كان الحال مع حزب الله العام 2006، وكما كانت الحال في الحروب على حركة حماس في غزة[25].

وضع إسرائيل الإستراتيجي عشية اندلاع حرب كورونا

كشف المسح الإستراتيجي السنوي الذي أعده ونشره معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي في شهر يناير من العام الجاري أن وضع إسرائيل الإستراتيجي للعام الجاري 2020 يتطوي على عناصر ايجابية تعزز الأمن القومي للدولة وأخرى سلبية تهدد الأمن القومي[26].

وتتكون العناصر الإيجابية من:

  • محافظة إسرائيل على قوة ردع قادرة على ردع الآخرين من المبادرة لشن حرب على إسرائيل، فضلاً عن عدم بروز تهديدات وجودية جديدة، حيث ظلت التهديدات التقليدية محدودة.
  • محافظة إسرائيل على وضع إقتصادي مستقر، علاوة على إحراز تطور ملموس في مجالات السايبر والتكنولوجيا ومكافحة الإرهاب.
  • تحالف إستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية زادت قوته في عهد الرئيس ترامب، في الوقت الذي عززت فيه علاقاتها مع كل من الصين وروسيا.
  • تعزيز علاقات إسرائيل بالدول العربية (المعتدلة) كمصر والأردن ودول الخليج.
  • نجاح إسرائيل في إعاقة تمدد إيران في المنطقة وتشويش خطوط تزويد حزب الله بالصواريخ الدقيقة.
  • نجاح إسرائيل في إبقاء الإنقسام في الساحة الفلسطينية، علاوة على نجاحها في المحافظة على حرية نشاطها العسكري والسياسي ضد كل من السلطة الفلسطينية في رام الله وحركة حماس في غزة.
  • نجاح إسرائيل في المحافظة على مستوى منخفض لأعمال المقاومة في الضفة الغربية بالتزامن مع نجاحها في ردع حماس من ممارسة القوة العسكرية.

بالمقابل تشمل قائمة السلبيات العناصر التالية:

  • عدم نجاح إسرائيل في تحويل ما بحوزتها من عناصر قوة لإنجازات سياسية، علاوة على اتضاح أن إسرائيل ينقصها إستراتيجية شاملة ومتكاملة لمواجهة التحديات التي تواجهها.
  • إنخفاض درجة الإهتمام الدولي بمنطقة الشرق الأوسط.
  • عدم نجاح إسرائيل في الحد من الإنقسامات السياسية والإثنية والدينية في المجتمع الإسرائيلي، الأمر الذي يضعف قدرة الدولة على اتخاذ قرارات حاسمة.
  • إزدياد المؤشرات الدالة على نقص مناعة المجتمع الإسرائيلي، فضلاً عن زيادة الدلائل على عدم جاهزية الجبهة الداخلية لتحمل الدمار الذي ستسببه المواجهة العسكرية المحتملة.
  • تنامي جرأة إيران على مواصلة التمسك ببرنامجها النووي وخطتها في مد وتوسيع نفوذها في المنطقة، علاوة على زيادة المؤشرات الدالة على قوة محور المقاومة بزعامة إيران، وقدرته على توظيف أدوات متعددة ضد إسرائيل.
  • نجاح حزب الله في تطوير ترسانته من الصواريخ الدقيقة رغم كل محاولات إسرائيل للإعاقة.
  • تزايد إحتمالات أن تكون المواجهة العسكرية الشاملة القادمة كل الجبهات، لا سيما في ظل استمرار تطبيق إستراتيجية (حملة بين الحروب).
  • زيادة المؤشرات الدالة على عدم إستقرار النظام الفلسطيني وذلك نتيجة لإنسداد الأفق السياسي، وتدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في غزة.

تهديدات الأمن القومي الإسرائيلي عشية إندلاع الحرب

توافق تقرير التقييم الإستخباري السنوي لشعبة الإستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي (أمان) مع تقارير المؤسسات البحثية المتخصصة في دراسات الأمن القومي خاصة معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي (INSS) حول تحديد وترتيب التهديدات التي تهدد الأمن القومي الإسرائيلي للسنة الجارية 2020، إلا أنه كان من اللافت في هذا العام “إضافة تركيا لقائمة التحديات التي تواجه إسرائيل في التقرير الصادر عن شعبة الإستخبارات في الجيش الإسرائيلي، فيما خلى تقرير معهد أبحاث الأمن القومي من ذلك”[27].

وحدد التقريرين قائمة التهديدات بست تهديدات تبدأ بالجبهة الشمالية (سوريا ولبنان)، ثم البرنامج النووي الإيراني، يليهما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ثم حركة حماس، يليها حملة نزع الشرعية عن إسرائيل وأخيراً النشاطات الإرهابية.

وجائت نتائج مسح الرأي العام الخاص بمقياس الأمن القومي للعام الجاري 2020 الذي ينفذه معهد دراسات الأمن القومي سنوياً، مطابقة لقائمة التهديدات وترتيبها حيث يرى 32% من المواطنين اليهود في إسرائيل الجبهة الشمالية التي تشمل الحدود مع لبنان وسوريا كتهديد، ويرى 26% منهم البرنامج النووي الإيراني كتهديد، فيما يرى 14% من المواطنين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كتهدييد، ويرى 12% حركة حماس كتهديد، ويعتقد 8% من المواطنين أن التهديد يكمن في حركة (BDS) التي تقود حملة نزع الشرعية عن إسرائيل، وترى نسبة مشابهة من المواطنين ان التهديد يكمن في العمليات الإرهابية الكبرى[28].

وحول مدى قدرة إسرائيل على مواجهة التحديات بنجاح وفقاً لنتائج مسح الرأي العام الخاص بمقياس الأمن القومي يرى غالبية المجتمع اليهودي في إسرائيل أن الدولة قادرة على مواجهة التحديات بنجاح، إلا أن درجة قدرة الدولة على المواجهة تختلف من تحدي لآخر، إذ فيما يرى ما نسبته 81% من المواطنين اليهود في إسرائيل أن الدولة قادرة على مواجهة تحدي إندلاع موجة متواصلة من (العمليات الإرهابية)، يرى ما نسبته 73% من المواطنين أن الدولة قادرة على مواجهة تحدي إندلاع مواجهة عسكرية على كل الجبهات في وقت واحد، ويرى 72% ان الدولة قادرة على مواجهة تحدي الإستقطاب الداخلي، ويرى ما نسبته 62% أن الدولة قادرة على مواجهة الفساد في أوساط الحكومة، ويرى ما نسبته 56% ان الدولة قادرة على مواجهة العزل الدولي، ويرى ما نسبته 55% ان الدولة قادرة على مواجهة تقليص الدعم الأمريكي لإسرائيل.

الأمن القومي الإسرائيلي بعد أندلاع حرب كورونا.. التهديدات..التحديات.. الفرص

سواء كان سلاح الحرب (فيروس كورونا) من صنع الإنسان أم من صنع الطبيعة، فقد أجبرت الحرب أكثر من 90% من سكان الأرض على عدم مغادرة منازلهم أو الإختلاط بغيرهم من الأهل والإصدقاء، علاوة على إجبارها أصحاب المنشآت الإقتصادية الإنتاجية منها والخدماتية على إغلاق أبواب منشآتهم مما رفع من نسب البطالة حول العالم وكبد الإقتصاد العالمي خسائر فادحة غير مسبوقة سيصعب عليه التعافي من آثارها خلال عقد من الزمن طبقاً لتقديرات المؤسسات الدولية المتخصصة[29].

وقد فرض واقع الحرب وما تنطوي عليه من تنبؤات على كل دول العالم القوية منها والضعيفة، الكبيرة منها والصغيرة على إعادة خططها واستراتيجياتها قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى للتكيف مع الواقع الجديد وتنبؤاته، حيث تسعى الدول في المدى القصصير الى الحد من انتشار الوباء والتقليل من الخسائر البشرية والإقتصادية، وإعاددة تنظيم الإنتاج لغايات التعافي الإقتصادي على المدى المتوسط، أما على المدى البعيد فتسعى الدول إلى إعادة التموضع في النظام الدولي الذي لن يعود إلى ما كان عليه قبل إندلاع الحرب.

وتفيد التجارب السابقة أن تحولات النظام الدولي تنطوي على فرص وتهديدات للدول، حيث جادل في هذا الشأن رئيس وزراء إسرائيل الحالي بنيامين نتنياهو في مطلع تسعينات القرن الماضي بالقول “أن اللحظة التاريخية التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، قد انطوت على آمال وأخطار معاً، فالنظام العالمي القديم قد إنهار في أعقاب الحرب، في حين ما زال النظام العالمي الجديد بعيدأ عن القدرة على الوقوف على قدميه، وأن الضمان الوحيد لبقاء دولة صغيرة كإسرائيل في فترات عاصفة كهذه يكمن في قدرتها على التحرك بصورة صحيحة بين التيارات المتلاطمة في هذا الواقع”[30].

تشبه اللحظة الراهنة لا سيما من حيث الأثار التي أنتجتها حرب كورونا على النظام العالمي، تلك اللحظات التي رافقت تحولات النظام الدولي منذ بداية القرن الماضي، حيث تتضمن مخاطر وتهديدات للدول، ربما تفوق في حجمها ما تنطوي عليه من فرص وآمال، ما يجعل من صحة تموضع إسرائيل بين التيارات المتلاطمة في اللحظة الراهنة غاية قومية عليا طبقاً لقول نتنياهو، ويعتمد نجاح الدولة في تحقيق هذه الغاية وفقاً لرأي لجنة فينوجراد التي كُلفت بالتحقيق في نتائج حرب العام 2006 على لبنان، على حسن القيادة وجودة قراراتها في إدارة الحرب، الأمر الذي يرى البعض في إسرائيل أنه ليس واقع حال قيادة الدولة في اللحظة الراهنة[31].

وتتجلى باقي التهديدات والتحديات التي أنتجتها حرب كورونا الأمن القومي الإسرائيلي في ثلاثة ابعاد، الأول صحي والثاني إقتصادي والثالث جيوسياسي يتعلق بتموضع إسرائيل في النظام الدولي وعلاقتها بالدولة العظمى الراعية.

فعلى الصعيد الصحي كانت إسرائيل من أوائل الدول التي إنتقلت اليها العدوى بعد الصين، حيث أعلنت إسرائيل عن اول إصابة بالمرض في نهاية شهر شباط/ فبراير الماضي. وتحتل إسرائيل الآن المرتبة الثالثة من حيث عدد الإصابات في الشرق الأوسط بعد تركيا وإيران، إذ بلغ عدد الإصابات فيها حتى لحظة إعداد هذا الورقة وفق إحصاءات وزارة الصحة الإسرائيلية 13,654 إصابة فيما بلغ عدد الوفيات 173 حالة.

وفيما تعتبر هذه الأرقام مؤشراً على نجاح  إسرائيل في تطبيق إستراتيجيات ثبت فعاليتها في الحد من إنتشار المرض والتقليل من عدد الإصابات والضحايا، إلا أن هذه النجاح يغيب عنه التخطيط الشمولي، إذ كان على حساب جوانب حيوية أخرى كالإقتصاد والأمن، حيث أدى تخصيص الموارد لمواجهة الحرب إلى تجميد أو تأجيل تنفيذ خطة تطوير الجيش متعددة السنوات التي كشف عنها مؤخراً رئيس الأركان أفيف كوخافي[32].

أما على الصعيد الإقتصادي فقد تركت الحرب أثاراً قاسية على الإقتصاد العالمي، إلا أن هذه الأثار كانت أكثر قساوة على الإقتصاد الإسرائيلي، لا سيما وأن الإقتصاد في إسرائيل يعتبر أحد عناصر القوة التي تعزز من واقع إسرائيل الإستراتيجي في مواجهة عناصر الضعف، وفقاً للتقييمات الإستخبارية السنوية للعام الجاري 2020، الصادرة عن الجيش ومعهد الأمن القومي.

لا سيما وأن إسرائيل قد طبقت منذ البداية النموذج الصيني في مواجهة جيش كورونا الذي يقوم على الحجر والإغلاق وتقييد حركة المواطنين، مما أدى الى إغلاق معظم المنشآت الإقتصادية ووقف عجلة الإنتاج، الأمر الذي رفع بدوره من نسبة البطالة، حيث وصلت نسبتها حتى تاريخ 19/4/2020 الى 26,25%، إذ بلغ عدد العاطلين عن العمل ما مجموعه 1,039,465 شخص، اي أن نسبة البطالة في إسرائيل قد إرتفعت بواقع 22,25% مقارنة بنسبة البطالة المسجلة في نهاية العام الماضي 2019، والتي كانت قد بلغت 4%، مما يعني أن هناك زيادة بواقع 22,75% عن متوسط البطالة العالمي وفق معايير (OECD) منظمة دول التعاون الإقتصادي[33].

وفي ذات السياق ذكر سيفر بلوتسكر محرر النشرة الإقتصادية في صحيفة يديعوت أحرنوت، أن إسرائيل ستعاني في العام الجاري من أسوأ ركود إقتصادي في تاريخها، حيث سيستقر معدل البطالة بعد إنتهاء الأزمة واسترداد الإقتصاد كامل عافيته عند نسبة 12% وذلك طبقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، في حين يتوقع بنك إسرائيل المركزي أن تستقر نسبة البطالة عند حدود 6% بعد إنتهاء الأزمة، ومقابل ذلك يتوقع بنك إسرائيل أن يشهد الإقتصاد الإسرائيلي في العام الجاري انخفاضاً بنسبة 5,3% من إجمالي الناتج المحلي[34].

وحول المنشآت الإقتصادية تتوقع منظمة BDI الإسرائيلية حسب تقرير نشرته قناة التلفزيون الثانية عشر الإسرائيلية يوم الأحد الموافق 19/4/2020، أن تنهار ما مجموعه 20,000-25,000 منشأة إقتصادية في إسرائيل حتى نهاية العام 2020، إذ من المتوقع أن تغلق 65,000 منشأة إقتصادية أبوابها في نهاية العام الجاري، أي ستكون هناك زيادة بواقع 50% عن المؤسسات التي أغلقت أبوابها في العام الماضي والتي بلغ عددها 40,000 مؤسسة اقتصادية، وبذلك ستكون إسرائيل الدولة الأولى في الترتيب العالمي من حيث عدد المنشأت الإقتصادية التي ستنهار خلال العام الجاري، يليها في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية بواقع 39%، ثم هولندا وهونكونج وبريطانيا بواقع 35% ثم ألمانيا بنسبة 15%، والسويد بواقع 10%[35].

وكانت الحكومة المؤقته برئاسة نتنياهو قد إعتمدت خطة إنعاش إقتصادي في نهاية شهر مارس الماضي يقيمة 80 مليار شيكل، إلا أن هذه الخطة قد لاقت رفضاً شديداً من أصحاب المنشآت الإقتصادية المتضررة الذين نظموا احتجاجات عارمة في شوارع تل أبيب إتهموا فيها رئيس الوزار بالفشل في مواجهة حرب كورونا، وعلقت مراسلة الشؤون الإقتصادية في التلفزيون الإسرائيلي القناة 12 أن سبب هذه الإحتجاجات يعود لتدني سقف التسهيلات التي ستقدمها البنوك للمنشآت الإقتصادية، حيث لا يتجاوز هذا السقف نسبة 15% من قيمة اصول المنشأة في حين بلغ سقف التسهيلات في ألمانيا 90%، وبلغ في السويد 85%، وأسبانيا 80% وبلجيكا 77% وبريطانيا 60%[36].

 أما حول التهديدات الجيوسياسية فتُستمد جلها من الأثار المتوقع أن تخلفها الحرب على الإقتصاد الأمريكي ومكانتها في النظام العالمي وما ستتركه هذه الأثار من تداعيات على الرعاية الأمريكية لإسرائيل، إذ من المتوقع أن يشهد الإقتصاد الأمريكي تراجعاً أو نمواً سلبياً خلال العام الجاري، كما من المتوقع أن لا يتمكن الإقتصاد الأمريكي من التعافي خلال العقد القادم، الأمر الذي سيترك أثاراً سلبية على الإقتصاد العالميي لا سيما على إسرائيل، حيث من المتوقع أن تشهد فترة ما بعد الحرب تراجعاً في حجم المساعدات الأمريكية لإسرائيل وربما توقفها تماما[37].

 ومن المتوقع كذلك أن تقلص الإدارة غير الناجحة للرئيس ترامب للحرب من فرص فوزه بالإنتخابات الرئاسية التي ستجري في نوفمبر القادم، الأمر الذي سيحرم إسرائيل من الدعم غير المسبوق الذي حظيت به في عهد الرئيس ترامب، لا سيما وأن الحزب الديمقراطي يتبنى إستراتيجيات مخالفة لإستراتيجية الرئيس ترامب نحو الشرق الأوسط لا سيما فيما يخص كل من إيران والفلسطينيين[38].

ومن حيث الفرص التي يمكن أن توفرها الحرب للأمن القومي الإسرائيلي فتكمن في مدى قدرة إسرائيل على توظيف تطورها التكنولوجي في الصناعات الطبية لتطوير علاج (سلاح) قادر على هزيمة جيش كورونا غير المرئي، الأمر الذي سيقدم إسرائيل على أنها الدولة المنقدة للإقتصاد والصحة العالمية، فضلاً عن مساهمة هذا الإنجاز في موضعة إسرائيل في مصاف الدول العظمى التي تتربع على رأس النظام العالمي.

وتتجلى الفرص التي وفرتها الحرب في نجاح رئيس الوزراء الحالي نتنياهو الذي يتزعم التيار النيوصهيوني المهيمن على الحكم في إسرائيل منذ أكثر من عقد، بالاتفاق مع حزب أزرق ابيض بما يضمن بقائه على رأس الحكومة لسنة ونصف قادمة، منهياً بذلك حالة الفراغ الحكومي المتواصلة في إسرائيل منذ نيسان/ أبريل العام 2018، حيث فشل أي من الأحزاب في إسرائيل في تأمين أغلبية برلمانية تمكنهم من تشكيل حكومة مستقرة، على الرغم من إجراء ثلاث جولات برلمانية عامة في أقل من سنة.

وقد وفر نجاح بقاء التيار النيوصهيوني على راس الحكم في الدولة فرصة لتنفيذ ما نصت عليه رؤية ترامب، لا سيما ما يتعلق بضم غور الأردن وأجزاء واسعة من الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية، حيث يؤمن هذا التيار أن حالة الجمود السياسي التي أنتجتها حرب كورونا على المستوى العالمي تزيد من فرص إسرائيل على فرض أمر واقع جديد في المنطقة لا يمكن لأي نظام عالمي قادم تجاهله.

الخاتمة

تواجه إسرائيل جيش كورونا الخفي، فيما يهيمن على الساحة الفكرية والسياسية فيها التيار النيوصهيوني الذي نجح منذ بداية القرن الجاري في وسم الدولة برمتها بمبادئه، بعد أن كانت لعقود طويلة تتسم بمبادئ الصهيونية الكلاسيكية التي اعتنقها المؤسسون الأوائل للدولة كأحزاب مباي والعمل.

ويتكون هذا التيار من تحالف الأحزاب الدينية القومية كحزب يمينة، وأحزاب المتدينين المتشددين كحركتي شاس ويهدوت هتوراة، والأحزاب اليمينية العلمانية كحزب الليكود، ويؤمن هذا التيار أنه صاحب التفسير الايدلوجي الأصدق للصهيونية.

ويقوم الأساس الفكري لهذا التيار على إعتبار قيم القوة والإفتنان بالذات القومية الدينية، هي القيم الأصيلة التي يجب أن تحرك السياسة الإسرائيلية، ويعتبر بالمقابل أن قيم الليبرالية التي تقيم وزناً للرأي العام العالمي ليست إلا كوابح ومعيقات منعت ولا زالت تمنع المشروع اليهودي في فلسطين من الإكتمال.

ويؤمن هذا التيار أن القوة العسكرية والإقتصادية والتكنولوجية والإستخبارية والديبلوماسية التي تتمتع بها إسرائيل في اللحظة الراهنة تمكنها من إكمال ما عجزت الصهيونية الكلاسيكية عن تحقيقه في صناعة إسرائيل في المنطقة كدولة يهودية بحكم الأمر الواقع، لا سيما وأنها تتلقي في ذلك الدعم المطلوب من الدولة الراعية أمريكا.

يفسر ما سبق عدم إقامة هذا التيار أي وزن يذكر للأصوات التي تخرج من الأكاديميين، والإعلاميين، ورجال الأمن والإقتصاد، وضباط الجيش في إسرائيل محذرة من التهديدات والمخاطر التي تنطوي عليها حرب كورونا لإسرائيل ومستقبلها، سياسات هذا التيار، إذ يؤمن هذا التيار أن الجدار الحديدي الذي دعا اليه جابوتنسكي قد إكتمل بنائه ما يجعل من التهديدات بعيدة المدى التي يحذر منها الآخرين، تهديات نظرية ومجردة يمكن مواجتها والقضاء عليها اعتماداً على القوة التي عليها إسرائيل، الأمر الذي يسمح لهذا التيار برؤية أن حجم الفرص التي تنطوي عليها حرب كورونا أكبر من حجم ما تنطوي عليه من تهديدات حتى وإن ضعضعت الحرب من مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في تزعم النظام العالمي، لا سيما وأن أكثر من نصف المجتمع في إسرائيل يؤمن ان الدولة بقيادة التيار النيوصهيوني قادرة على مواجهة تحدي تراجع دعم الدولة الراعية بنجاح.

[1] Yaakov Amidror, The World in 2020, The Jerusalem Institute for Strategy and Security, Israel, Jerusalem, April 2020, available at www.jisc.org.il, visited at 10/4/2020.

[2]  السيد شلبي، الصين والعالم: رؤية الصين للعالم ورؤية العالم للصين، عالم الكتب، القاهرة، مصر، ط1، 2019، ص 13-25.

[3] Yaakov Amidror, Ibid.

[4] Hilal Khashan, The Myth of the Middle East Regional Power, Geopolitical Futures, April 2020, www.geopoliticalfuture.com, visited at 15/4/2020

[5] Stratfor Global Intelligence Center, In its Search for Security Israel keeps the Door Open t its Neighbors, Feb 16, 2017, available at www. Stratfor.com, visited at 20/4/2020.

[6]  عز الدين عبد المولى، القوة الحيوية؟ كورونا واختبار المفهوم التقليدي لقوة الدولة، مركز الجزيرة للدراسات، مارس 2020، متوفر على الموقع التالي: www.studies.aljazeera.net، تمت زيارته في 8/4/2020.

[7] ستيفن والت، ترجمة عادل زقاغ، العلاقات الدولية: عالم واحد نظريات متعددة، الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والإستراتيجية، 2019، متوفر على موقع www.politics-dz.com، تمت زيارته بتاريخ 16/4/2020.

[8] Hilal Khashan, Ibid.

[9] Rodger Baker, Thinking Beyond COVID-19, Global Intelligence Center, Washington, USA, 2020.www.stratfor.com. Visited at 8/4/2020

[10] Rodger Baker, Ibid.

[11] محمد الشرقاوي، التحولات الجيوسياسية لفيروس كورونا وتآكل النيوليبرالية، مركز الجزيرة للدراسات، قطر، الدوحة، 2020.   www. studies.aljazeera.net, Visited at 3/4/2020.

[12] John Allen, and Others, How the World Will Look After the Coronavirus Pandemic, Foreign Policy Magazine, 2020, www.foreignpolicy.com, Visited at 21/3/2020.

[13] David Newman, Ghazi Falah, Bridging the Gap: Palestinian and Israeli Discourses on Autonomy and Statehood, Institute of British Geographers, 1997, p.111-129.

[14] المجلس الوطني الفلسطيني، وثيقة إعلان الإستقلال، نوفمبر 1988، متوفر على موقع  www.palestinepnc.org، تمت زيارته بتاريخ 16/4/2020.

[15] صائب عريقات، العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، نقطة اللاعودة، دائرة شؤون المفاوضات، منظمة التحرير الفلسطينية، رام الله، فلسطين، 2015.

[16]  The White House, National Security Strategy of the United State of America, December 2017, p.2-3.

[17] Ibid, p.48-50.

[18] خالد جندلي، التنظير في الدراسات الأمنية لفترة ما بعد الحرب الباردة، بحث لنيل درجة الماجستير، جامعة باتنة، الجزائر، 2007/2008.

[19] خالد جندلي، مصدر سابق.

 [20]. معهد ريئوت للتخطيط الإستراتيجي، ترجمة مركز مدار للدراسات الإسرائيلية، تحدي نزع الشرعية: تهديد مصيري لإسرائيل، أوراق إسرائيلية، عدد 51، 2010، ص 24-28.

[21] Gadi Eisenkot, Gabi Siboni, Guidelines for Israel`s National Security Strategy, The Washington Institute for Near East Policy, 2019, p. vii.

[22]عوض منصور، دليل إسرائيل العام 2011: المؤسسة الأمنية والعسكرية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، لبنان، 2011، ص 595

[23] زهير أندراوس، 38 مليار دولار حجم المساعدات الأمريكية لإسرائيل…، صحيفة رأي اليوم الإلكترونية، لندن، بريطانيا، سبتمبر 2016، متوفر على www.raialyoum.com تمت زيارته بتاريخ 10/4/2020.

[24] دنيا الوطن، إسرائيل تكشف حجم المساعدات الأمريكية العسكرية، موقع دنيا الوطن الإلكتروني، 2019، متوفر على www.alwatanvoice.com، تمت زيارته بتاريخ 10/4/2020.

[25] عوض منصور، مصدر سابق، ص 597.

[26] Israel Institute for National Security Studies, Strategic Survey for Israel 2019-2020 Tel Aviv, Israel 2020, P. 12.    

[27] The Times of Israel, In First, Turkey Leader`s Hostility Noted as Challenge in Annual Intel Report, January 2020, available at www.timesofisrael.com, visited at 10/4/2020.

[28]National Security Index: Public Opinion Study 2019-2020, The Institute for National Security studies, Israel, Tel Aviv, 2020.

[29] Organization for Economic Cooperation and Development OECD, Economic Interim Report March 2020, Available athttp://www.oecd.org/economy/

[30] بنيامين نتنياهو، مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم، ترجمة محمد الدويري، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 1997، ط1، ص 19.

[31] Assaf Orion, Contagion, War, and Strategy, INSS Insight No 1278, March 27, 2020.

[32] Amos Harel, Coronavirus Dictate New Reality for Israeli Army, haartz Newsletter, March 14, 2020, available at, https://www.haaretz.com/israel-news/.premium

[33] عرب 48، ارتفاع نسبة طالبي العمل العرب، صحيفة عرب 48 الإلكترونية، يناير 12، 2020، متوفر على WWW.arab48.com، تمت زيارته بتاريخ 1/4/2020.

[34]  محمد وتد، بسبب كورونا: إسرائيل قد تعاني من أسوأ ركود إقتصادي منذ النكبة، الجزيرة نت، أبريل 18، 2020.

[35] Amalia dwak, Israel Television, N12 live, Evening Main News Bulletin, April 19, 2020.

[36]Kern Marciano, Israel Television, N12 Live, Evening Main News Bulletin, April 19, 2020.

[37] Itai Brun, Yael Gat, The Corona Crisis and Israel`s National Security, The Institute for National Security studies, March 17,2020.

[38]  Alayna Treene and Barak Ravid, Top 20 Dems wouldn`t reverse Trump`s Jerusalem embassy decision, Axios, Jul 15. 2019, www.axios.com, visited at 19/4/2020.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button