دراسات سياسيةنظرية العلاقات الدولية

تأثير فكر النخبة الحاكمة الروسية في تطور العلاقات الدولية

 في هذا البحث سوف نتناول مطلبين الأول نتحدث فيه عن مراحل تطور مفهوم النظام السياسي للعلاقات الدولية . أما المطلب الثاني فستناول فيه الإستراتيجية الروسية والتغيرات التي طرأت عليها .

المطلب الأول –  مراحل تطور  مفهوم النظام السياسي للعلاقات الدولية

 ظهر للوجود  بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة ، نظام عالمي جديد تمثل في القطبية الثنائية  معتمدا على وجود قطبين متفوقين في مراكز القوى المؤثرة في الساحة الدولية . ويحيط بكل قطب قوى عدد من الدول التابعة التي تدور في فلكه، فكانت للإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الإمريكية دول قسمت العالم الى قسمين وفقا لمصالح كل دولة. هذه الدول قبلت طواعية أن يكون لهذين القطبين حق توجيه ورسم السياسات والإستراتيجيات وإتخاذ القرارات العامة . وقد حكم الصراع بين القوتين توازن للقوى في إطار عقائدي شديد التصلب والتشدد بما خلقه في ظروف كثيرة من مواقف سياسات متعارضة. فالرأسمالية والتي تبّناها الغرب بزعامة الولايات المتحدة الامريكية ترى أن هذه الآيديولوجية يجب أن تحكم العالم , والشيوعية التي كانت تخطو خطوات واسعة في نشر آيديولوجيتها في العالم تنادي بتحرر دول العالم الثالث من السيطرة الرأسمالية .

 وفي ظل هذا الصراع. أصبحت هناك ضرورة لبناء قوة عسكرية فاعلة تؤثر في نجاح السياسات والإستراتيجيات المتعارضة. وتبعا لعدم الثقة المتبادلة بين الدولتين فلم تؤدِّ المؤتمرات التي شاركتا فيها سواء قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية أو بعدها مباشرة، ولاسيما مؤتمرا يالطا في شباط 1945م وبوتسدام في تموز 1945م ، إلى الإتفاق على صورة عالم مابعد الحرب العالمية الثانية.  فالخلافات كانت قد اصبحت اعمق واشمل ولاسيما بعد ان انتهى تأثير السبب الذي دفع بالحلفاء الى التعاون. وبهذا فهي لم تؤدِّ إلى أن يكون مؤتمر بوتسدام آخر مؤتمر جمع بين قادة دول الحلفاء لفترة طويلة قادمة فحسب بل أيضا الى الإنهيار العملي للتحالف الغريب).  إن انهيار هذا التحالف اسس لنقطة النهاية لدور اوروبا في السياسة الدولية  ونقطة البداية لصراع علني بين دولتين تمركزت فيهما القوة وعلى نحو غير مسبوق منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية . وبذلك تأكدت تنبؤات عالم الإجتماع الفرنسي توكفيل   وكذلك  تنبؤات ادولف هتلر، فالأول ذكر في عام 1835م أنه (يوجد في العالم حاليا امتان عظيمتان بدأتا من نقطتين مختلفتين..أنني أشير الى الروس والأمريكيين. حيث ينموان دون ملاحظة أحد.  إن كلا منهما قد خطّ له القدر أن يسيطر على مصائر نصف العالم)(51). أما الثاني فقد أكد انه (بهزيمة الرايخ ستظل في العالم قوتان عظيمتان قادرتان على مواجهة بعضهما بعضا وهما الولايات المتحدة وروسيا السوفيتية. وسوف ترغم قوانين التاريخ والجغرافية هاتين القوتين الكبيرتين  على اختبار قوتهما.) (52) إن ماتقدم  يؤشر الى حقيقة هي أن كل مبدأ من المبادىء التي سارت عليها العلاقات الدولية يتميز بخصائص وفرضيات مغايرة للمبادىء الأخرى  وكل نظام دولي سيكوّن حكما مميزا بخصائصه ومخالفا بمعطياته عن النظام الذي سبقه وعن الذي يليه. إنما من الملاحظ أن هناك جامعا مشتركا بين جميع تلك المبادىء والأنظمة ويوحد بينها وهو أنه لم يتم استبدال مبدأ بمبدأ آخر والإنتقال من نظام لآخر إلا تحت عامل القوة  أو بتأثير منها

فالحرب العالمية الأولى وضعت حدا لمبدأ ونظام وكذلك فعلت الحرب العالمية الثانية . حتى أن العلاقات الدولية  ضمن نظام دولي كنظام الثنائية القطبية لم تتطور وتستمر إلا من خلال محطات أساسية كان أحد عناصرها وأهمها هو عامل القوة .

   الفرع الأول  – التعريف بالحرب الباردة ودوافعها

يقوم مصطلح الحرب الباردة على نقيضين هما الحرب  والباردة . تعد الحرب أكثر انواع القوة توليدا للكراهية والإزعاج وهما الوسيلة الوحيدة التي تسوى فيها التناقضات بالدم والعنف المسلح . ونقيضها الباردة التي تعمل للتخفيف من حدٍّة النقيض الأول. ليصبح مضمون هذا المصطلح عبارة عن حالة وسطية بين الحرب والسلم أو لتقوم العلاقات الدولية على وضع  لاحرب لا سلم. يفهم من وضع لاحرب  عدم نشوب القتال لتلتقي مع  وضع لا سلم الذي  لايعني أكثر من عدم نشوب القتال ليشكلا  معا حالة الحرب الباردة(53)  ومن هنا جاءت تسميتها بالحرب الباردة .

 ويمكننا أن نعرف الحرب الباردة بأنها الحرب التي تستخدم فيها الأطراف المتعادية كل أنواع القوة المستطاعة عدا القوة المسلحة بقصد إرغام العدو على التسليم لإرادة الطرف المنتصر وتسود خلال فترة الحرب حالة من التوتر الشديد في العلاقات بين الأطراف المتنازعة بحيث يشعر كل طرف بأنّه مهدد بمخاطر احتمال العدوان المسلح الامر الذي يقضي توطيد المجهود الحربي .

اتسمت هذه الحرب بسباق التسلح النووي وبتأسيس القواعد العسكرية المحاطة بالإتحاد السوفيتي  وباستخدام القوة في العلاقات الدولية ورفض كل المحاولات الجادة لحل النزاعات الدولية عن طريق المفاوضات. وعلى الرغم من عدم إستطاعة أغلبية الباحثين والعلماء في العلاقات الدولية اعطاء مدة زمنية محددة لبداية هذه الحرب إلا أن الغالبية من الباحثين يتفقون على أن تأريخ 5-3-1946 كان البداية، فدعا تشرشل في خطاب له الى تأسيس وتشكيل الإتحاد العسكري الإنجلو- امريكي لمواجهة خطرالشيوعية القادم من الشرق وبهذا فمن الصعوبة وضع تأريخ محدد لهذه الحرب. وهناك من يعد ان الحرب الباردة بدأت تلوح في مؤتمرسان فرانسيسكو وآخر يرى أن الحرب الباردة بدأت منذ انتصار ثورة أكتوبر وانقسام العالم إلى معسكرين  متضادين.  وبالنسبة الحرب الباردة فمنهم يرى أنها بدأت بنهاية الحرب العالمية الثانية  وآخرون يرون أن مبدا ترومان هو الذي يعد أساسا لهذه الحرب. ومهما اختلف الباحثون بهذا الصدد  فالحرب الباردة أو الساخنة هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى أكثر عنفا وتدميرا وبالتالي لابد من التوقف الجدي والعلمي لدراسة هذه الظاهرة (54).

 دوافع الحرب الباردة

لقد تعددت النظريات والآراء التي تناولت دوافع الحرب الباردة وأصولها. ومن تلك النظريات  والآراء  ماتنسب إلى عدد من الأسباب، أبرزها يكمن في التناقض الآيديولوجي وتباين المصالح وسوء الإدراك المتبادل . وكالآتي بإختصار: 1 ـ التناقض الآيديولوجي  لقد كانت الحرب الباردة صراعا آيديولوجيا حادا بين نظامين اجتماعيين قوامهما آيديولوجيتان متناقضتان في مضمونهما وغاياتهما

بعيدة المدى وهما الإشتراكية السوفيتية والرأسمالية الأمريكية. ولسنا بصدد تناول تفاصيل هاتين الآيديولوجيتين واختلافهما الجذري لإبتعاد ذلك عن موضوعنا. ومع ذلك يعد مفيدا الإشارة إلى أن جذور هذا التناقض تعود إلى تأريخ طويل سبق انضمام روسيا الى جبهة دول الحلفاء عام1941م, فضلا عن تطوره وتبلوره في المرحلة الإنتقالية التي لحقت بانتهاء الحرب العالمية الثانية. على أن الذي دفع الى انفجار هذا التناقض هو سعي الولايات المتحدة الامريكية والإتحاد السوفيتي الى توظيف قدراتهما الذاتية فكانت عظيمة بالمقارنة مع سواهما لتطويق حركة بعضهما للبعض الآخر سواء في اوروبا اواسيا أوعالم الجنوب وأضعافها سبيلا لتأمين الإنفراد بالعالم.

2 ـ تباين المصالح على اختلاف الحرب العالمية الإولى التي انتهت بعودة الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي الى الإنكفاء على الداخل وتبنى سياسة العزلة النسبية في الخارج، شهدت السياسات الخارجية لكل منهما بعد عام 1947م نزوعا نحو الإنغماس المكّثف في التفاعلات السياسية الدولية الملائمة التي تؤمن تحقيق الغاية النهائية لمشاريعهما الكونية .

3 : ـ سوء الإدراك-  يعد الإدراك الذاتي للواقع الموضوعي مدخلا أساسيا في عملية اتخاذ القرار فعلى ضوء نوعيته تتحدد مخرجات هذه العملية  سلبا أو أيجابا . وقد كان لهذا المتغيّر النفسي المهم دور مهم في الدفع بإتجاه اندلاع الحرب الباردة وتصعيدها فطرفاها عمدا الى تفسير حركتهما حيال بعض تفسيرا قوامه عدم الثقة بنوايا الطرف الآخر. ومما جعلهما أسرى له فانتهى بأنماط تفاعلاتهما إلى ان تأخذ نسقا من ردود الأفعال المعادية.

 الفرع  الثاني – خصائص الحرب الباردة

لقد اقترنت الحرب الباردة بخصائص متعددة، أبرزها على سبيل المثال الاتي: ـ

1  ـ  .الصراع

خلال الحرب الباردة تميزت العلاقة الأمريكية _السوفيتية بخاصية الصراع ولكن بمستويات من الحدّة تباينت طبيعتها تبعا لمضامين المراحل التي مرت بها هذه الحرب. وقدكانت هذه الخاصية محصلة لتأثير عاملين مهمين ، أولهما هو انطلاق كل من الدولتين الأمريكية والسوفيتية من منطوق اللعبة الصفرية في تفاعلهما مع بعض وتفيد هذه اللعبة أن الربح الذي يحققه أحد الأطراف لذاته يعد في الوقت ذاته خسارة صافية للطرف الآخر. وغني عن البيان أن الإصرار على تحقيق الربح على حساب الطرف الآخر لم يكن بمعزل عن التأثر بتلك الدوافع  التي أدت لإندلاع الحرب الباردة والتي سبقت الإشارة اليها. أما العامل الثاني فقوامه توافرهما على قدرة تأثيرية كان لها مفعول حاسم وخصوصا على صعيد رفضهما للقواعد التي كانت العلاقات الدولية قبل الحرب العالمية الثانية في عام 1939م تدار بموجبها فكلّ منهما رأي في ديمومتها تدميرا لمشروعه العالمي الشامل، لذا عمل على تغييرها على نحو يتوافق مع تفسيره الذاتي لحركة التأريخ. وتبعا لذلك لم يتوافرالإستعداد الذاتي لدى كل منهما لإجراء تعديل عليه لذا، دخل كل منهما في صراع شمل كل العالم تقريبا مع بعض وبكلفة كانت باهظة ومما ادّى إلى قناعة كلّ من الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي بسلامة تفسيره لحركة التأريخ، وإن المستقبل لابدّ أن يكون لصالحه. وتبعا لذلك عمدا للإنطلاق من أنماط حركة استراتيجية محددة. ويلخص ليرش ذلك بقوله أن الولايات المتحدة استراتيجية اختارت استغلال الفرصة  فيمااختار السوفيت العمل النهائي (55).

  55- ليرش او تشارلس , الحرب الباردة ومابعدها , تعريب  فاضل زكي محمد , دار الحرية للطباعة , بغداد 1976, 31

فالأولى كانت تسعى الى تحقيق الربح الآني مقابل نزوع الثاني الى الربح الإستراتيجي .

2  ـ .تجنب المواجهة العسكرية المباشرة

 لقد اقترنت السياسة الدولية عبرالتأريخ بتنافس القوى الكبرى أو العظمى وصراعاتها. ومع أن صراعات القرن العشرين تتماثل مع سواها، بيّد أنها اقترنت ببعد تدميري خطير بعد الحرب العالمية الثانية.  فبعد تمكن الإتحاد السوفيتي من كسر الإحتكار النووي الأمريكي جراء تفجيره لقنبلته النووية الأولى عام 1949م دخل الطرفان الأمريكي والسوفيتي خصوصا في سباق تسلح يستوي والحلقة المفرغة. ولم يؤد هذا السباق إلى تعاظم مخزونهما من السلاح النووي حسب, بل كذلك قدرتهما التدميرية، وهذه ارتقت الى مستوى يتيح تدمير العالم كله(56). لذا وعلى خلاف القرن التاسع عشر والقرن العشرين حتى عام 1939 حالت الخشية من التدمير الشامل المتبادل والمؤكد دون اندلاع الحرب بين الدول النووية. وتبعا لذلك قال المؤرخ الأمريكي جون لويس كادوس أن سنوات الحرب الباردة كانت بالمقارنة مع سنوات قبلها أكثر استقرارا وأمنا وجسدت بالتالي ما أسماه بالسلام الطويل (57).

  3  ـ  الحروب بالنيابة: ـ

وبها نقصد تلك الحروب الأهلية أو الإقليمية التي يؤدي كل من أطرافها أو بعضهم دورا بالنيابة عن غيرها خدمة لمصالحها في منطقة الحرب. وتؤشر تجربة الحرب الباردة أن الحروب بالنيابة أُريد بها أن تؤدي وظائف محددة قوام بعضها أما إسقاط النظام السياسي لإحدى الدول المناهضة لهذه الدولة العظمى او تلك وإبداله بنظام آخر موال لها أو زعزعة استقراره الداخلي سبيلا للتأثير في اتجاهاته السياسية الداخلية أو الخارجية خدمة لمصالحها. وتبعا لدور الدول العظمى في اندلاعها، عدّت الحروب بالنيابة أحد الأشكال غير المباشرة للصراع الأمريكي_السوفيتي، خصوصا وأنها جسدت نزوع طرفي هذا الصراع نحواستقطاب تلك الدول ذات التأثير في تفاعلات مناطق جغرافية لاتدخل بشكل صريح ضمن حصص أي منهما دعما لإستراتيجيتهما في إدارة الصراع. على أن هذا النمط من الحروب لم يكن اضافة الى ماتقدم بمعزل عن متغيرين مهمين، أولهما يكمن في الإستعداد الذاتي لأطرافها المباشرة لإداء الدور بالنيابة عن سواها, ونرى أن هذا الإستعداد له علاقة بالموقف الفكري أو الآيديولوجي أو السياسي لهذا الطرف من إحدى الدولتين العظميتين . فالدول التي ناهضت الولايات المتحدة الأمريكية كانت في العموم أكثر استعدادا للقيام بأدوار محددة ضدها. والشيء ذاته ينسحب على الدول التي وقفت بالضد من الإتحاد السوفيتي. وتبعا لذلك أشّرت تجربة الحرب الباردة أن كلا الدولتين العظميتين لم تجد صعوبة في توظيف الدول المناهضة لخصمها لصالحها حتى وإن كانت ذات نظم سياسية لاتتماثل مع نظمها السياسية وتوجهاتها، فطبيعة بعض النظم السياسية في أمريكا اللاتينية وآسيا لم تحل دون دعمها امريكيا كما أن الإتحاد السوفيتي لم يتوان هو الآخرعن دعم الدول المعادية للإمبريالية في عالم الجنوب على الرغم من  معاداتها للإمبريالية كانت توازي معارضتها للشيوعية (58).

وتنطوي هذه التجربة على مايفيد أن الدولتين العظميين لم تتوان عن تغليب المصلحة على الآيديولوجية عندما كانت متطلبات السياسية  الواقعية تقتضيها. اما المتغير  الثاني فيكمن في توضيف هذه الحروب لأغراض بيع السلاح فكانت  لدولتان  قد عمدتا الى بيع حلفائها واصدقائها في عالم الجنوب  أسلحة تجاوزت قدرتها الذاتية على استيعابها واستخدامها وذلك لتعقيدها  ولغايتين الأولى  دعم اقتصادياتها جراء بيع مخزونها من السلاح ولاسيّما الذي يكون قد تجاوزه التطور التكنولوجي ، أما الثاني فقوامه توظيفها لأغراض التأثير السياسي الخارجي سلبا او ايجابا .

4 : ـ عدم المساس بمناطق النفوذ المباشرة

لقد أفرزت تجربة الحرب الباردة أن المساس بمناطق النفوذ الاساسية للدولتين العظميين عد فعلا ينطوي على الاخلال بتوازن القوة العالمي ,ويهدد بخطر المواجهة المباشرة .ولهذا لم تتوان كل منهما عن بث رساله ردع الى الاخرى عندما عاشت بعض مناطق نفوذها أحداثا داخلية اقترنت بتهديد مباشر لوجودها ومصالحها فيها. فزرع الصواريخ السوفيتية متوسطة المدى في كوبا بعد اكتشافها في 15 تشرين الاول عام 1962م أدّى بالولايات المتحدة أن ترى  فيها تهديدا مباشرا لأمنها القومي. لذا دعت الإحاد السوفيتي إلى سحبها عبر التهديد الضمني بالحرب. والشيء ذاته أي عدم المساس بمناطق النفوذ المباشرة ينسحب على التدخل السوفيتي في جيكوسلوفاكيا بعد عام 1968م .فهذا وإن عبّر عن تطبيق ما يسمى بمبدأ بريجنيف في السيادة الناقصة لدول أوروبا الشرقية كان كما يقول أنور عبد الملك رسالة للولايات المتحدة الأمريكية افادت أن موسكو لن تسمح للغرب مهما كان الثمن، بسلخ أي جزء من المنظومة الإشتراكية في اوروبا(59). بيد أن الحرص على عدم المساس بمناطق النفوذ المباشرة لايفيد. أن كلا الدولتين لم تعمد الى توظيف الأحداث الداخلية المناوئة لأحدهما في منطقة نفوذها المباشر للتشهير السياسي بالآخر ولصالحها.

الفرع الثالث –    مراحل الحرب الباردة

لقد اقترنت الحرب الباردة طيلة المرحلة التي مرت بها بأنماط من التفاعلات بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي وتباينت مضامينها في الزمان تبعا لتباين درجة حدة العداء المتبادل صعودا او تراجعا. وجرّاء ذلك اختلفت المعاييرالمستخدمة لقياس هذا التباين تبعا لإختلاف رؤى الباحثين وتبعا لمعيارنا نرى أن الحرب الباردة مرت بخمس مراحل تميزت بسمات محددة و خصائصها كالآتي: –

أولا – مرحلة المواجهة ( 1947- 1953)

تعد هذه المرحلة من أخطر المراحل التي مرّت بها الحرب الباردة في عموم تأريخها، لأنها اقترنت بأحداث تراكمت آثارها مع ما سبقها على نحو أدّى لإندلاع صراع حادٍ بين الدولتين العظمتين وثم ليشمل العالم ويجعل غياب الشعور بالأمن سمته الأساسية،وهذا كان محصلة لأثر أحداث آسيوية أهمها :

1_ نجاح الثورة الصينية عام 1949م  إن النجاح الذي أدركته الولايات المتحدة على نحو يستوي والخسارة الوطنية، تفاعل مع عقد معاهدة التحالف الصينية السوفيتية عام 1950م، وبمحصلة جعلت

الصين أحد ألّد أعداء الولايات المتحدة  ولعقدين من الزمن تقريبا .

2– انسحاب فرنسا عام 1954 من الهند الصينية  أثرهزيمتها العسكرية مع حركة التمرد الفيتنامية، وبدأ الإنغماس الأمريكي يتصاعد لاحقا الى مستوى ( 537000) جندي بعد أن كان عددهم 685 جنديا (60) .  ولينتهي في عام 1975م الى خسائر عسكرية مذلّة في فيتنام.

3– الحرب الكورية في عام 1950 م إثر خسارة اليابان في الحرب العالمية الثانية عمدت الدولتان العظميتان الى تجزئة كوريا التي كانت تحت سيطرتهما، الى دولتين تتبنى كلّ منهما نظاما اجتماعيا مختلفا عن الآخر وتتبع سياسيا أما هذه الدولة او تلك. ولإعادة توحيد الأمة الكورية ذهبت كوريا الشمالية إلى توظيف الحرب سبيلا لذلك. وفي جلسة طارئة لمجلس الأمن في 25 حزيران 1950 م وبغياب المندوب السوفيتي، اتخذ قرارا يقضي بغتخاذ اجراءات عسكرية فورية ضد كوريا الشمالية  وخوّل الولايات المتحدة الأمريكية تنفيذ هذا القرار. ومع أن شبح حرب عالمية كان قد خيّم آنذاك على الأجواء إلّا أن الحرب الكورية سرعان ماتحوّلت الى حرب بالنيابة . كمّا أن تفاعلاتها دفعت الى طرح فكرة استخدام السلاح النووي ضد الحشود الصينية حسما لها.

إن مصالح الدول العظمى وإن افضت الى أن تنتهي هذه الحرب وباستمرار كوريا مجزئة  لحد الآن، بيد أنها افرزت إتجاها مهما سيتبلور لاحقا نحوأكثروضوحا. هو اتجاه الدول العظمى والكبرى نحو فض الحروب المحلية والإقليمية على وفق مصالحها). ولنوعية أحداث القارة الآسيوية  في عقد الخمسينات، فهي لم تنعم تبعا لذلك بحالة تتماثل والحالة الأوروبية آنذاك. فأوروبا وإن عاشت حالة القلق الأمني جرّاء الخشية من تصاعد الصراع الأمريكي  السوفيتي إلى مستوى الحرب إلّا أن امتلاك أطرافه للسلاح النووي وإدراكها لآثار استخدامه على مصالحها  جعلها تنعم بخصائص حالة انعدام الحرب.

 وخلافه إنعكس على آسيا، فكما في أوروبا عمدت الولايات المتحدة الأمريكية الى إحتواء الحركة السوفيتية في آسيا عبر سلسلة من الأحلاق، كحلف جنوب شرق آسيا عام 1945م والإتفاقيات العسكرية الثنائية أو متعددة الاطراف . كما  أقامت العديد من المشاريع الإستعمارية  كمشروع ترومان ،مشروع مارشال نمشروع دالاس، مبدا ايزنهاور، مشروع روجرز، مذهب نيكسون، مبدا كارتر ومشروع ريغان و.. إلخ من المشاريع الإستعمارية. وقد شمل هذا الجهد خسا وأربعين دولة من شتّى أنحاء العالم. كما أنه تعزز بنشاط مماثل آخر قامت به دول حليفة للولايات المتحدة الأمريكية كالمملكة المتحدة. ومثاله دورها في إنشاء حلف بغداد عام 1954م  أو الحلف المركزي كما سمّي بعد ثورة تموز 1958م.

ولايستطيع المرء القول أن هذا النشاط الغربي بمعزل عن إندلاع الحروب، وبضمنها الحروب بالنيابة في عالم الجنوب. ويؤشر تأريخ الحروب الدولية منذ عام 1945 م أنّه كان موطنها. ومما ساعد على ذلك بدء تشابك معطيات الصراع مابين الشرق والغرب مع صراع جديد آنذاك بين الشمال والجنوب . إنطلاقا من العلاقة الوثيقة بين الإقتصاد والسياسة الخارجية، انطوى سلوك الدول الأوروبية حيال مستعمراتها الآسيوية على تباين واضح. فعمدت مثلا المملكة المتحدة للتخلص من كلفة الإستعمار المباشرعبرمنح بعض مستعمراتها السابقة الإستقلال السياسي وربطها اقتصاديا،استمر البعض الآخركفرنسا متمسكا بها ولهذا عاشت آسيا في الخمسينات حروبا لأجل التحرر والإستقلال الوطني. ولدعم هذا النزوع سياسيا،

توّلت الهند في الخمسينات عملية نقله إلى منظمة الأمم المتحدة. وبذلك   تأسست النواة الأولى لمجموعة الدول الآسيوية في الجمعية العامة للأمم المتحدة ولعالم تمت تسميته آنذاك بالعالم الثالث تمييزا له عن العالم الأول الغرب والعالم الثاني الشرق. وبهذه المجموعة أُريد ان تكون اداة سياسية للدفاع عن قضايا هذا العالم وطموحاته. على أن تجنيد الولايات المتحدة الأمريكية لقدراتها التاثيرية داخل المنظمة الدولية ولصالحها ومناهضة الإتحاد السوفيتي لهاعبراستخدامه المكثف لحق النقض أدّى إلى ان يتأثر أداء المنظمة العالمية لوظائفها بتناقض المصالح والمواقف بين الدولتين العظميتين. فهذا جعلها عاجزة عن الحركة التي تلبي الأهداف المتوخاة من تأسيسها. ولهذا كان على قضايا العالم الثالث ان تنتظر الحل حتى تحسن العلاقة بين الدولتين بعد منتصف الخمسينات صعودا. حيث حصلت آنذاك جملة من المتغيرات التي بدات الدولتان العظميتان الخضوع لتاثيراتها, دفعت باتجاه مرحلة جديدة من مراحل الحرب الباردة هي مرحلة التعايش السلمي.

الجوانب العملية في سياسة الحرب الباردة

ظهرت لدى الغرب نظريات سياسية بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تهدف للحيلولة دون إنتشارالفكر الشيوعي في العالم. وأولى هذه النظريات (نظرية الإحتواء) التي صاغ وبلوّرإطارها العام الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان وتمّ دعم وتنفيذ هذه النظرية من قبل حكومة الرئيس الأمريكي ترومان المبنية على تحليل أهداف الإستراتيجية السوفيتية وتعيين الطريقة التي كان ينظر بها السوفيت إلى الغرب الرأسمالي. وقد بلغت الحرارة الباردة ذروتها بإعلان الرئيس الأمريكي ترومان تنفيذه والتزامه بسياسة الإحتواء لتكون حجر الزاوية للسياسة الخارجية الأمريكية وتعاملها مع السوفيت، وكان ذلك على إثر خطاب إلقاء الزعيم السوفيتي آنذاك ستالين أكّد فيه حتمية الصراع مع القوى الراسمالية ونبّه الشعب السوفيتي على اليقظة وعدم الإستكانة بأن انتهاء الحرب لا يعني استرخاء الأمة (61).

 أوّل إجراء عملي اتخذته القيادة الأمريكية تطبيقا لسياسة الإحتواء هو مواجهة الإضطرابات الداخلية في تركيا والحرب الأهلية في اليونان عام1947م على أنها بتدبير شيوعي. الأمر الذي أدّى بالرئيس الأمريكي ترومان أن يطلب من مجلس الكونغرس الأمريكي الموافقة على مدّ اليونان وتركيا بمساعدة قدرها 400 مليون دولار. وأشار في هذا الصدد  قائلا ( أعتقد أن سياسة الولايات المتحدة يجب أن تتجه لمساعدة الشعوب الحرّة المكافحة للخضوع للأقليات المزوّدة بالسلاح أو بالضغوط الخارجية (62)

وهذا يعني أن مبدأ ترومان يكاد أن يكون إغلاق الباب ضد أية ثورة، الأمر الذي يعني أنّه من الممكن مساندة أيّ نظام حتى لو كان دكتاتوريا مادام يدّعي أن القوى المضادة له هي قوة شيوعية. وبهذا الإعلان الأمريكي تكّرست القطيعة بين السوفيت والأمريكان. بعد أشهر قليلة أُعلن في الولايات المتحدة الأمريكية عن مشروع مارشال الذي يتلخص في وجوب مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية لأوروبا الغربية قبل انهيار اقتصادها، ولم يستثن من الدعوة لهذا المشروع حتى دول أووربا الشرقية الأمر الذي ادّى الى استياء حكومة الإتحاد السوفيتي حيث أكّدت أن هذا المشروع لايمكن أن يكون إلا نوعا من الإستعمار الجديد، أيْ استعمار الدولار الأمريكي وبموجب هذا المشروع انفقت الولايات المتحدة 12 مليون دولار في سبيل إعادة بناء اقتصاديات أوروبا الغربية. إن الاهداف الرئيسية لمشروع مارشال تتلخص بما يلي :

1 – القضاء على الأوضاع الإقتصادية والمعيشية المتدهورة في أوروبا.

2- إحتواء الحركات الراديكالية والثورية الساعية لإقامة حكومات اشتراكية متعاطفة مع الإتحاد السوفيتي.

3–ربط أوروبا الغربية بالإقتصاد الأمريكي وتمهيد تغلغل الشركات الأمريكية الإقتصادية في الأسواق الأوروبية (63)

وهكذا اتسع الخلاف بين الشرق والغرب. وفي خريف عام 1947 أعلن الإتحاد السوفيتي عن تأسيس منظمة أطلق عليها الكومنفورم أيْ ( مكتب الإعلام الشيوعي ) وكان هدفها يتجسد في توثيق الروابط بين دول شرقي أوروبا وإستقلالها إستقلالا تاما عن الغرب. لقد كانت الحرب الباردة على أشّدها في منتصف عام 1949 حيث اتخذت الدول الغربية أول خطوة لها لتنظيم الدفاع ضد الشيوعية هوتاسيس منظمة شمال الأطلنطي، انضّم لهذا الحلف العسكري كلّ من الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندة ولكسمبورغ  والنرويج  والدانمارك وايسلندة وايطاليا والبرتغال . ويختلف هذا الحلف عن الأحلاف السابقة فكان موجها بوضوح ضد الإتحاد السوفيتي . وبتأسيس هذا الحلف العسكري لم تقتصر الحرب الباردة على أوروبا وحدها بل تسربت إلى جميع أرجاء العالم،  وبالأخص في اسيا حيث انتصر الشيوعيون في الحرب الأهلية الصينية في العام نفسه 1949م وظهرت الصين الشيوعية في آسيا كماردٍ يهدد الإستعمار الغربي في الشرق الأقصى .

ومنذ عام 1950 حتى عام 1960 أخذت الحرب الباردة منحىً جديدا، فانتقل الصراع إلى الشرق الأقصى  ومنذ عام 1960 أصبحت الحرب الباردة متمثلة في بقية القارات. حيث ظهرت أزمات عديدة ومتنوعة كأزمة  الكونغو وكوبا والهند الصينية*. ومع ذلك فقد كانت تظهر بين الحين والآخر محاولات جدية وخاصة من جانب الإتحاد السوفيتي لإقامة التعايش السلمي بين المعسكرين .

أزمة الصواريخ الكوبية – هي الأزمة التي حدثت بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في عام 1962  عندما اكتشف الأمريكان قواعد صواريخ سوفيتية في كوبا. وقد انتهت  الأزمة بعد ان رضخ السوفيت لتهديدات الرئيس الأمريكي كنيدي فقاموا بسحب هذه القواعد وإرجاع الصواريخ المعدة لها . للمزيد حول هذه الازمة. انظر: ـ  – اسماعيل صبري مقلد و الاستراتيجية والسياسة الدولية ,ص 664-667.

وفي أواخرعام 1954 عندما ظهر اتجاه واضح لدى الدول الغربية مفاده تكريس سيادة المانيا وضمها إلى حلف الاطلسي** . وبانضمام المانيا الى الحلف والإعلان عنه ادّى إلى إثارة حفيظة السوفيات الذيندعوا لمؤتمر عام في ديسمبر 1954 بقصد حلِّ المسألة الألمانية  إلا أن هذا المؤتمر قد فشل، مما أدّى لصدور تحذير علني عن – الإتحاد السوفيتي والدول الإشتراكية الأخرى مفاده أنّ دول شرقي أوروبا ستضطر لإتخاذ تدابير دفاعية جماعية خاصة لمواجهة تهديد العسكرية الألمانية التي أحياها الغرب فيما إذا اصرت الدول الغربية على خطواتها بالتعاون المتكافئ مع المانيا الغربية في ظل حلف الاطلسي. وأمام هذه التطورات لابدّ وان يكون هناك ردّ سوفيتي وجماعي من قبل دول أوربا الشرقية, ويتمثل هذا الردّ في تأسيس منظمة حلف وارشو التي يعدها البعض ردة فعل سوفيتية مباشرة لحلف الأطلسي هذا لايتسق مع الواقع  من وجهة  نظرنا لأن هناك فاصلا زمنيا طويلا بين إنشاء الحلفين . ثم عادت الحرب الباردة لمنطقة الشرق الأوسط عام 1955، فتجسدت بأزمة السويس عام 1956. هذه التطورات والأحداث في مختلف المناطق أدّت الى توتر العلاقات الدولية بين المعسكرين. وبمقدم عام 1960 انتقلت الحرب الباردة لأفريقيا وأمريكا اللاتينية. في أفريقيا ظهرت دول حديثة الإستقلا ل بقيادة زعماء قد قاسوا مرارة الإستعمار وشاركوا في استقلال بلدانهم. وبطبيعتهم فكانوا يكرهون الغرب ويتطلعون للمساعدة السوفياتية ، من أشهرهم كوامي نكروما رئيس جمهورية غانا السابق، وأحمد سيكوتوري رئيس جمهورية غينيا السابق وباتريس لوموبا رئيس وزراء الكونعو السابق وغيرهم. وظهرت نتيجة لذلك أنواع جديدة من التوازنات, فبدا ظهور مصطلح توازن المصالح إلى جانب توازن القوى التي بنيت على أسس ونظريات استنبطت من الخبرات المكتسبة , وبعضها كان وليد أفكار لأشخاص ذوي ثقلٍ في المجال السياسي والإقتصادي والعسكري، إلى أن وصل الوضع الدوليّ الى حافة الهاوية  لينذر بحرب عالمية ثالثة . وهنا تنبه العالم الى الكارثة التي يمكن أن تحدث  إذا لم يبطيء الخطى في هذه النظرة الخطيرة لإستخدام القوة. وهنا  توقف العالم لفترة  ليلتقط أنفاسه وليعقد سلسلة من الإتفاقيات والتعهدات لعدم استخدام القوة, سواء التقليدية منها أوالنووية تجنبا للدمار الشامل،  ثم تقدم خطوة أخرى للسعي لتخفيض قواته وأسلحته خاصة أسلحة الدمار الشامل. وبدا واضحا الإرتباط بين توازن المصالح وتوازن القوى. حيث تمثّل توازن المصالح للكتلتين في مناطق معينة  على أن تسعى كلّ من الكتلتين لتحقيق أشكال توازن القوى في تلك المنطقة، باستخدام قدراتها العسكرية والإقتصادية لتحقيق مصالحها. وفي هذا المناخ المشحون بالتفاعلات المتناقضة فقد العالم نظام الأمن الجماعي الذي تحملت الأمم المتحدة مسؤولية تطبيقية (64). ولكن في ظل سوء استخدام حق الفيتو حدث شلل واضح في سلطة مجلس الأمن وتكرست حدّة إنقسام العالم بين القطبين الثنائيين.

إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكتف بهذا التحالف وحسب بل عقدت تحالفات عدة أخرى . كميثاق

ريو عام 1947 مع دول امريكا اللاتينية وضم 22 دولة  وميثاق الأمن المتبادل مع اليابان عام 1951ثم الحلف الثلاثي مع استراليا ونيوزليندا عام 1951  والمعاهدة الدفاعية مع الفيليبيين عام 1951 ومعاهدة الدفاع المتبادل مع كوريا الجنوبية عام 1953 ، وحلف جنوب شرقي اسيا عام 1954  ومعاهدة الدفاع المتبادل مع فرموزا عام 1954. وقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية تهدف بذلك لإثبات أنها قوة أعظم لها مكانتها الدولية في نظام القطبية الثنائية. وكانت المحصلة لهذه التحالفات هي تنظيم استخدام القواعد العسكرية، بموجب تواجد قوات امريكية على أعلى مستوى في الموانيء والمطارات والقواعد الجوية لهذه الدول ، بما يحقق الفتح الإستراتيجي المبكر لقواتها المسلحة لحماية مصالحها في مناطق التحالف . إضافة الى التواجد في البحار والمحيطات  تأكيدا لنفوذها في مناطق قريبة من مصالحها الإستراتيجية في اماكن متفرقة في العالم . وعلى الجانب الآخر  فقد حول الإتحاد السوفيتي اتفاقياته الثنائية الى شكل موحد من أشكال التحالف ، ممثلا في حلف وارسو إضافة لتحالفها السابق مع الصين عام  1950 .

لكن التقارب العسكري بينهما أدّى بهما الى بلوغ حالة من الإسترخاء. وقد جاء هذا التغيير بعد أن شهدت العلاقات ذروة التردي في الأزمة الكوبية والحرب الفيتنامية والكورية، الأمر الذي كان حافزا لدخول العلاقات بينهما مرحلة جديدة بتعبير آخر، الإنتقال من مرحلة المواجهة إلى مرحلة التعايش السلمي …

ثانيا – مرحلة  بداية  التعايش السلمي 1953- 1963

لقد استمر ستالين بدعوته للتعايش السلمي بعد الحرب وحدّد الأسس التي يجب أن يقوم عليها هذا التعايش،  بإعلانه أن التعايش السلمي بين  الشيوعية والرأسمالية ممكن تماما مادام هناك..

–  رغبة متبادلة في التعاون .

– استعداد للوفاء  بالإلتزامات السابقة .

– مراعاة لمبدأ المساواة .

–  امتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى .

وبعد وفاة ستالين عام 1953 أعلن مالينكوف بصفته رئيسا لمجلس وزراء الإتحاد السوفيتي أن الاتحاد السوفيتي متمسك بمبدأ لينين وستالين في إمكانية تعايش طويل الأمد وتنافس سلمي بين نظامين مختلفين الرأسمالية والشيوعية. وبوصول خروتشوف إلى زعامة الإتحاد السوفيتي في منتصف الخمسينيات، تبلوّر التصور السوفيتي أنه اذا مانشبت حرب نووية بين القوتين، فأنها ستنتهي بتدميرها نهائيا تدميرا شاملا وهو يعني للعالم كارثة محققة. وكانت هذه النظرة الجديدة هي الأساس في التحول إلى نظرية التعايش السلمي بحيث تتجنب المواجهة المسلحة بالحرب نتيجة التناقضات والإختلافات بين الأنظمة السياسية والإجتماعية المختلفة . واعتبر المراقبون خطابه الذي القاه في المؤتمر العشرين أهم بيان شيوعي صدر بعد الحرب العالمية الثانية  لطرحه شعار التعايش السلمي بين الدول ذات الأنظمة الإجتماعية المختلفة كمبدأ أساس في السياسة الخارجية للإتحاد السوفيتي وبإعلان تخليه نهائيا عن الأساليب الستالينية المتسمة بالتعصب الحزبي والتشدد في السياستين الداخلية والخارجية. وكان هذا المؤتمر قد سجّل علامة بارزة في طرحه  لمبدأ التعايش السلمي كبديل لحتمية الحرب بين الأشتراكية والراسمالية  وإمكانية الإنتقال السلمي إلى الإشتراكية مع تعدد الطرق في سبيل تحقيقها دون أن يلغي الصراع الآيديولوجي بين النظامين. كما أوضح خروتشوف في خطابه  المتغيرات السياسية التي دعت الحزب  لرسم هذه التوجهات . فتقرير المؤتمر العشرين يقول ( معلوم أن ثمة الفكرة الماركسية اللينينية القائلة بأن الحرب لابدّ منها طالما الإستعمار العالمي موجود . إن هذه الفكرة قد ظهرت في مرحلة كان الإستعمار فيها نظاما عالميا ووحيدا،هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت القوى الإجتماعية والسياسية التي لامصلحة لها في الحرب ضعيفة قليلة التنظيم و لاتستطيع إرغام الإستعماريين على العدول عن الحرب.

أما اليوم فيضيف التقرير أن الوضع تبدلا جوهريا وظهر معسكرالإشتراكية العالمي وبات قوة خارقة. وقوى السلام لاتجد في هذا المعسكر الوسائل المعنوية وحسب بل الوسائل المادية أيضا. وهناك بالإضافة الى ذلك طائفة عديدة من الدول الأخرى يعدّ سكانها بمئات الملايين وهي دول تناضل بنشاط ضد الحرب)(65 ). بذلك يكون تقرير المؤتمر العشرين قدأعطى مفهومه لطبيعة المرحلة  بعدم حتمية الحرب لابسبب ضعف قوة المعسكر الإشتراكي بل لسبب  القوة التي يمتلكها . وفي مناسبة أخرى يعرِّف خروتشوف التعايش السلمي بأنه استمرار للصراع بين نظامين مختلفين ولكنه صراع بوسائل سلمية.

إننا نعتبره صراعا إقتصاديا وسياسيا وآيدلوجيا ولكنه ليس صراعا عسكريا ). كما أن صياغة هذه المبادئ لايعني قبول الطرف الآخر بها عن طيب خاطر بل أن قبوله حسب السوفيت لايتم إلاعبر نضال دؤوب و صراع شاق بين قوىالسلم والتقدم الإجتماعي من جهة، وقوى الحرب والرجعية من جهة أخرى، كما أن التعايش السلمي لايعني نبذ الصراع الطبقي أوالتوفيق بين الآيديولوجيتين، ولايعني الحفاظ على الحالة السياسية والإجتماعية الراهنة في تخفيف الصراع الآيديولوجي بل يساعد في تطوير النضال الطبقي ضد الإمبريالية. رأى خروتشوف أن جعل اسلوب الحياة السوفيتية أكثرجاذبية على الصعيد الخارجي يقتضي أولا تأمين التفوق الإقتصادي والإرتقاء الثقافي والإجتماعي لبلاده الى ذلك المستوى الغربي في الاقل . فقد صرح خروتشوف لبعض الزوار الامريكيين قائلا (ما أعنيه بالمنافسة السلمية هو اننا سنتغلب عليكم في لعبتكم. وسوف نتفوق عليكم في إنتاج البضائع الإستهلاكية وسوف نوفر لشعبنا حياة أفضل من الحياة في بلادكم وعندما يرى العمال في العالم كيف يعيش الشعب السوفيتي منعما في ظل الشيوعية فسينضمون الى جانبنا دون حاجة الى إقناع ودون إرغامهم على ذلك)(66) .  ومن هنا أولى الصناعة المدنية اهتماما خاصا مع الإهتمام المكّثف بالصناعة العسكرية.

ورأى خروتشوف جدوى الإنفتاح على العالم الثالث ودعمه إقتصاديا وعسكريا وسياسيا، وتوظيف محصلة ذلك أداة لدعم الحركة السوفيتية العالمية بعناصر داعمة مضافة. ولهذا حظي العالم الثالث في عهده بدعم سوفيتي فريد على أن إتجاه كلا الدولتين العظميتين للإقتراب من بعض لم يكن ممكنا لأن الإستجابة الأمريكية كانت سلبية المضمون. فمتغيرات أمريكية كادت تتماثل من حيث المضمون مع مثيلاتها السوفيتية دفعت عمليا بالإدارة الأمريكية آنذاك للتفاعل إيجابيا مع التوجه السوفيتي الجديد، أي إدارة جون. أف. كينيدي. ولخضوع الطرفين لتأثير ذات المتغيرات (تقريبا) التي دفعت إلى انفتاحهما على بعض، تأسس نسق جديد من العلاقة المتبادلة وتصاعدلاحقا، وحقق لهما فوائد جمة قوامها التعاون الذي تجسّد بأربعة صعد أساسية، أولها العودة الى عقد مؤتمرات القمة بعد انقطاع طويل، كمؤتمر جنيف عام 1955م ويعدّ أول مؤتمر بعد مؤتمر قمة بوتسدام عام 1946. أما ثانيهما فقوامه عقد اتفاقات

متعددة لتطويرالعلاقات الإقتصادية والفنية والتكنولوجية , إضافة للحدّ من سباق التسلح(67), وثالثهما تجنب التدخل العملي في مناطق النفوذ المباشرة خشية أن يؤدي ذلك الى للإخلال بتوازن قوى الدول الكبرى وبالتالي العودة بعلاقاتهما الجديدة الى سابق عهدها بالنتائج المترتبة على ذلك (68). وأخيرا يكمن الصعيد الرابع في نزوع الدولتين العظميتين نحو تسوية أزماتهما سلميا  كأزمة كوبا عام 1962 والحرب العربية الإسرائيلية في عام 1967تجنبا للمواجهة العسكرية المباشرة بينهما .

وهذه السياسة الجديدة لم تؤدِّ لتخفيف الضغط الأمريكي على دول العالم الثالث واتجاه بعضها لتوظيف التناقضات الأمريكية_السوفيتية لصالحها وحسب، ب مهّدت كذلك الظروف المواتية لتأسيس حركة عدم الإنحيازرسميا في مؤتمر بلغراد عام 1961م. والتي ستؤدي لاحقا دورا سياسيا دوليا مهما. على أن اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي في هذه المرحلة من تطورالحرب الباردة للتعاون لم يفد ، فالأفعال وردود الافعال الامريكية والسوفيتية في أوروبا وآسيا انطوت على آثار حدت من أن تأخذ المدخلات الايجابية التي دفعت الى التعايش الامريكي السوفيتي مداها في الارتقاء بالتعايش الأمريكي _السوفيتي الى آفاق أرحب  لذا كان على العالم البقاء متوترا ويعاني من أثاره. على أن إقتران العلاقة الامريكية _السوفيتية خلال هذه المرحلة بأستمرار الصراع لم يلغ الخصائص الأساسية لها.

فهذه انطوت على تأثير مهم في هيكلية القطبية الثنائية ذاتها .فبعد أن تميزت بالصرامة في المرحلة السابقة أضحت بعد ازمة كوبا خصوصا مقترنة بقدر من المرونة. وتلك المرونة مهدّت السبيل لبروز متغيرات دولية عدّت جديدة في وقتها فأخذت الزعامتان الامريكية والسوفيتية للعالم تجابه بالتحدي، فرنسا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والصين بالنسبة للإتحاد السوفيتي. ومرّد ذلك ليس نزوعهما نحو الإستقلالية بفعل أسباب قومية وإسترتيجية حسب بل كذلك امتلاكهما للسلاح النووي كفرنسا في عام 1960م والصين في عام 1963م. ونرى :

1-  أن هذا الإتجاه لم يؤدِّ لبداية زعزعة هيكة النظام الدولي الذي تمحوربعد الحرب العالمية الثانية على قطبين أساسيين حسب بل إلى أن يشكل النواة لإتجاه سينمو وينتشر لاحقا عالميا بصعيد قوامه التعددية.

2- بدء انفتاح أوروبا على الإتحاد السوفيتي والصين على الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا والغرب عموما.

3ــ حصول العديد من المناطق المستعمرة في العالم الثالث على استقلالها السياسي، فمثلا قفز عدد الدول المستقلة في افريقيا خلال عقد من الزمان (1957_1967)من (8) دول الى (40) دولة (69) وبغض النظر عن كيفية حصول هذه الدول على استقلالها السياسي، فعدّ عقد الستينيات عمليا وسياسيا عقد الإستقلال بالنسبة لدول العالم الثالث. وهذا التطور وإن أدّى إلى دعم حركة عدم الانحياز في الستينيات بعدد مضاف من الدول الاعضاء إلا أنه أسس في الوقت ذاته بداية تاكل دورها لاحقا .   فانتماء دول جديدة ذات علاقة وطيدة بالغرب أوالشرق اليها قد أدّى إلى أن تكون هذ ه الدول ممرا لإبعاد

هذه الحركة عن المباديء الأصلية التي تأسست من أجلها خصوصا فبعض هذه الدول لم تتوان عن تأدية وظائف بالنيابة لصالح هذه الدولة العظمى أو تلك. ومثالها الحروب بالوكالة التي اندلعت في هذه المرحلة .

 4- تنشيط دور منظمة الأمم المتحدة  فعلى العكس من المرحلة السابقة التي أدّت من خلالها التناقضات الأمريكية_السوفيتية إلى أن تتآكل وتتعطل فاعلية هذه المنظمة، انعكس التفاهم بين الدولتين العظميين على حركتهما حيالها. فانتفاء الحاجة الى استخدام حق النقض من قبلهما معا أو أحداهما بالحدة السابقة جعل المنظمة أكثر فاعلية (70) نسبيا. وتبعا لأثر هذه المتغيرات ,فإنه دفع بالعلاقة الأمريكية_السوفيتية إلى نسق من التعاون أعمق تشعبا وأكثر تطورا من أي وقت مضى.

و من الجدير بالإشارة أن إصلاحات خروتشوف قد تخللها الكثير من السلبيات والأخطاء ليس فقط على صعيد الوضع الداخلي بل امتدت الى الخارج وتجلّت في مواقفه من أحداث المجر وبولونيا والمانيا الديمقراطية، واسفر هذا النهج عن حصول أكبر انقسام في الحركة الشيوعية بخروج الصين والبانيا عن التحالف مع الإتحاد السوفيتي بسبب اختلافهما مع التقييمات التي جاء بها المؤتمر العشرون حول فترة ستالين ونهجه وغيرها وسنتناول تفاصيل ذلك في موقع آخر من هذه الدراسة .

   ثالثا- مرحلة التعايش بالإنفراج  1963-1969

إن عبارة الإنفراج تعني تخفيف حدّة  المواجهة بين العملاقين، والبحث عن آفاق للتعاون بينهما. طالما أن الإنفراج الدولي يطال العلاقات الأمريكية السوفيتية فلنتعرف كيف فهمته كلّ من واشنطن وموسكو؟ حدّد الرئيس الأمريكي جونسون عام 1966  طابع السياسة الخارجية الأمريكية الذي سيتبعه مع الإتحاد السوفيتي بقوله (حقيقة أن الاسلحة النووية قد ردعت الحرب وساعدت على وقف انتشار الشيوعية …. إلا أن السلام الذي يرتدي تاجا نوويا هو سلام غير مستقر…). ويعود ويضيف الرئيس الأمريكي (…….إننا في الولايات المتحدة نعتزم تخفيض إنتاج المواد الإنشطارية ونامل أن يفعل السوفيات الشيء نفسه(71). أمامفهوم الإنفراج الدولي للسوفيات فحدّده الزعيم ليونيد بريجنيف باللاءات التالية، ( إن الإنفراج لايعني لا التخلي عن الصراع الطبقي  أو الصراع الفكري ولا نهاية النزاع السياسي بين النظامين ولا التحرر الداخلي للأنظمة الإشتراكية، فهو بداية إعادة بناء العلاقات الدولية على أسس متينة من مبادئ التعايش السلمي بين البلدان ذات الأنظمة الإجتماعية المختلفة. وقد جاءت الحرب

العربية الإسرائيلية عام 1967 لتبرهن على أهمية المبادئ وصحتها التي اتفق عليها الكبيران.

فلكي لاتحصل مواجهة مباشرة بينهما بسبب هذه الحرب , فكان لقاء غلاسبورو في حزيران 1967بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي  بهدف تنسيق جهودهما المشتركة والتفاهم حول كيفية احتواء الازمة. وفي عام 1968 عندما أعلن الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي برنامجه المتضمن الطريق التشيكوسلوفاكية للإشتراكية لتحصل من خلاله على إستقلال محدود  تدخل الإتحاد السوفيتي وحلف وارسو في هذا البلد لقمع الإنتفاضة فنجح في ذلك .

وبهذا وقف الغرب والولايات المتحدة الأمريكية منددين بغزو حلف وارسو لتشيكوسلوفاكيا، ولكنه لم يفعل شيئا، متفهما الدوافع السوفيتية التي أدّت لهذا التدخل. ليلتقي الغرب بموقفه هذا مع ماأعلن عنه بريجنيف منطلقا من النظرية الأمريكية التي ساقها جونسون عام 1965، مبررا تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في الدومنيكان وهي (أن الأمم الامريكية لاتستطيع ولن تسمح بإقامة حكومة شيوعية في نصف الكرة الغربي. ذلك أن الخطر خطر مشترك والمبادئ مبادئ مشتركة (72).

  رابعا – مرحلة الوفاق(1969_1976)

تعد هذه المرحلة من أهم المراحل في نظام ثنائي القطبية، ولايكمن ذلك في أنها دعمت مخرجات المرحلة السابقة عليها وحسب بل كذلك لأن مخرجاتها رفدت تسارع تطور دولي بدأ بالعداء، ومرّ بالتعاون، وانتهى لاحقا بانهيار دولة عظمى دون حرب،  وببدء دورة سياسية دولية جديدة.

اولا_اسباب التحول الى الوفاق بين أمريكا والإتحاد السوفيتي وهي :-

1-  الرغبة في أن تلعب مرحلة الوفاق دورا اكبر من مرحلة الإنفراج في تقليص الفوارق الآيديولوجية بين المعسكرين والتوجه بهما نحو سياسة أكثر انفتاحا وأكثر تفهما للواقع الدولي .

2-  قناعة كل من الولايات المتحدة الامريكية والإتحاد السوفيتي بامكانية حدوث حرب ذرية بنوع الخطأ ويجب تجنبها  وقد كانت هناك دراسات عدة في هذا المجال : ـ

  أ : ـ احتمال وقوع خطأ فني كحدوث إنفجار في أحد مخازن الذخيرة النووية بنوع الخطأ وتسجله أجهزة النظم الدفاعية للجانب الآخر على أنه هجوم نووي يرد عليه بهجوم مضاد  وهنا تحدث الكارثة .

ب : ـ قد تحدث هذه الحرب بسبب تدخل قوة ثالثة تسعى للهيمنة على العالم بعد احداث وقيعة بين القوتين العظيمتين لتدمر كل منها الأخرى (73).

الإدراك الامريكي والسوفيتي للوفاق في السبعينات

توزعت رؤى النخب المؤثرة في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية حيال الإتحاد السوفيتي على رؤيتين متقاطعتين. الأولى وتعد امتدادا لرؤية ترددت في خلال مرحلة اشتداد حدّة الحرب الباردة قوامها

أن أهداف السياسة الخارجية السوفيتية غير قابلة للتعديل أوالتغيير، هذا لإقترانها بآيديولوجية تسعى لتحقيق مشروع عالمي. لذا فأن الإحتواء والتصلب هو السياسة التي ينبغي أن يتم الإنطلاق منها حيال الإتحاد السوفيتي. أما الثانية فقد أدركت أن المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في عام 1956م انطوى على تغيير حقيقي في السياسة الخارجية السوفيتية، وإن ذلك يستدعى مقابلته بسياسة مرنة تشجع الأولى على المضي بانفتاحها على الغرب عموما خدمة للأهداف الأمريكية. بيد أن ماتقدم لايفيد، فكامل مرحلة الوفاق كانت تطبيقا لهذا الخيار، فعلى العكس من إدارة نيكسون وإدارة كارتر, ذهبت إدارة ريغان. وكما سنرى في أدناه تبني آارء دعاة الإحتواء والتصلب. وبالمقابل انطلق الإتحاد السوفيتي من رؤية للوفاق لم تختلف في عمومها عن رؤية الإدارات الأمريكية في السبعينات. فبريجنيف أدرك أن الوفاق حالة تتعارض مع تلك التي اقترنت بها مرحلة اشتداد حدّة الحرب الباردة . وتبعا لذلك فعمد لتوظيفه لأجل توطيد التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية .على أن الوفاق عنده لم ينطو التخلي عن الصراع الطبقي (أو) عن الصراع الفكري(أو) نهاية النزاع السياسي بين النظامين (أو) التحرر الداخلي للأنظمة الإشتراكية. وإنّما يعني بالنسبة للسوفيت بداية إعادة بناء العلاقات الدولية على أسس متينة بترسيخ مبدأ التعايش السلمي (بالتدرج) بين البلدان ذات الأنظمة الإجتماعية المختلفة. إن الإعتراف بمبدأ التعايش السلمي، برغم أهميته لا يكفي كأساس محتمل وحيد للعلاقات بين الدول الاشتراكية والراسمالية . إن مجرد الإعتراف بهذا المبدا بدون املائه  بمضمون عملي وبدون ترجمته للغة التدابيرالفعلية ليس غير إعلان.  والتدابيرالفعلية تاتي عن طريق عملية الإنفراج التي هي من حيث الجوهرعملية التحقيق العملي لمبدأ التعايش السلمي، وهذه تتجسد في مجموعة من المعاهدات والإتفاقيات التي تتخطّى حدود الإتصالات الثنائية، ومن خلال المعاهدات يتجسد الإنفراج وترسى الأسس لعلاقات دولية سلمية وبنّاءة بين البلدان الإشتراكية والبلدان الراسمالية لتمتد وتطال كامل نظام العلاقات الدولية، ليتطور الإنفراج ويمس مصائر العالم باجمعه.

فالإنفراج يمهّد الطريق لإيجاد حلول للقضايا العالمية الملِّحة في ظروف طبيعية  وعن طريق المباحثات. والإنفراج يعني للسوفيت أيضا التطورات الإيجابية في الوضع الدولي بشكل يخلق المناخ السياسي الملائم للتعاون بين الدول ذات الأنظمة السياسية المختلفة على أساس متين من التعايش السلمي ولمعالجة القضايا الصعبة والمعقدة في العالم المعاصر، وإضافة للإنفراج السياسي هناك انفراج آخر عسكري من شأنه وقف سباق التسلح وصولا الى نزع السلاح . بتعبير آخر أن الانفراج يعني توفير المناخ الملائم للتعايش السلمي بين الأنظمة الإجتماعيةالمختلفة (74).

الحاجة المتبادلة للوفاق

تتعدد وتتنوّع مضامين هذه الحاجة، وتتوزع على حاجات مشتركة واخرى خاصة. فأماعن الحاجات المشتركة فقوامها أساسا الخشية المتبادلة من الحرب النووية، حيث لم تحد منها أن عقد الستينات شهد توقيع عدد مهم من الإتفاقيات العسكرية بين المعسكرين الشرقي والغربي. عبّرعنها خروتشوف في مذكراته (إن الحرب العالمية الثالثة ممكنة وثمة عدد من المجانين يرغبون في بدء حرب نووية (75).

هذه الخشية لم تكن سوى محصلة لسباق نووي كان مفتوح النهايات دفعت مخرجاته إلى دخول كلا الدولتين العظميتين عقد السبعينات وهما في حالة من التعادل النسبي في القدرة النووية. ولنوعيتهما انطوت قدرة كل منهما على تجريد الآخرمن فاعليته النووية بضربة أولى ناجحة أو تدميره تدميرا شبه شامل ومؤكد في الأقل. ولهذا فرضت الخشية من إحتمال إندلاع حرب نووية، وبغض النظر عن الأسباب فعلى الدولتين التفكير بوسيلة تسمح بتعايشهما وتعاونهما في ضوء نظام دوليّ يقوم على التوازن الإستراتيجي والمنافسة السياسية، وبحسب نيكسون، أنها أسست نظرة مشتركة ونوعا من الإعتماد المتبادل من أجل الوفاق (76).

إلا أن الوفاق وإن عبّر عن مسار تطور مهم في العلاقة الأمريكية  السوفيتية فالدول الكبرى كالصين وفرنسا عمدت إلى التنديد به. الصينيون اعتبروا الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة أكبرا دولتين ظالمتين ومستغلتين في العالم اليوم. أما الفرنسيون فقد تحدّثوا عن الهيمنة المزدوجة. على أن هذا التنديد وإن كان انعكاسا لنوعية العلاقة آنذاك بين الصين والإتحاد السوفيتي وبين فرنسا والولايات المتحدة كان في الوقت ذاته تعبيرا عن نمو الإتجاه الإستقلالي في أوروبا وآسيا وبقية العالم الثالث يتحدى ضمنا أو صراحة لتطلعات الزعامة الأحادية أوالثنائية للعالم. ففي أوروبا عمدت المانيا الى  الإنفتاح على الإتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية. كما أن اليونان ذهبت في عام 1974م الى الإنسحاب من القيادة العسكرية المشتركة لحلف شمال الأطلسي مكررة بذلك التجربة الفرنسية في وقت سابق خلال الستينات, وفضلا عن ذلك ارتفعت المطالبة في تركيا بالغاء القواعد العسكرية الأمريكية في أراضيها جراء الأزمة بينها وبين  الولايات المتحدة عام 1974م, كما أن ايطاليا شهدت تطورات لم تكن في الصالح الامريكي. أما في اسيا فبدأت اليابان تتصرف على وفق مصالحها القومية العليا فبدأت بالتقرب الى الصين كما وأدّت صدمة الحظر النفطي العربي عام 1974م الى اعتمادها لسياسة اقتربت من الرؤية العربية لحل الصراع العربي الإسرائيلي. وللحالة التي عاشها المعسكر الغربي  في السبعينات بدا واضحا أن الإنسياق الأوروبي والآسيوي المطلق وراء الولايات المتحدة اخذ يتزعزع تدريجيا. ولم تكن حالة المعسكر الشرقي افضل فالزعامة السوفيتية له اخذت تجابه بتحديات حقيقية. فأضافة الى استمرار نزوع بعض دول أوروبا الشرقية للإستقلال كرومانيا عاشت الحركة الشيوعية جرّاء تفاقم الصراع الصيني_السوفيتي (77) انقساما واضحا. فهذا الصراع لم يؤدِّ لقطيعة شبه شاملة بين الدولتين وبالتالي لأفعال عدائية متبادلة لم تستمر حتى عقد التسعينات حسب بل انعكست آثاره على مواقف الأحزاب الشيوعية في العالم حيالهما. أما مع هذا الطرف أوبالضد منه.  ولم يقتصر التغيير في السبعينيات على تحدي الزعامتين الأمريكية والسوفيتية في مناطق نفوذهما المباشرة حسب وإنما امتد كذلك الى العالم الثالث. فعقد السبعينات وإن شهد استمرارالصراع الامريكي السوفيتي على هذا العالم, لأهميته الإقتصادية والإستراتيجية، بيد أنه في الوقت ذاته شهد تصاعد وعيّ دول هذا العالم يقدرتها على أداء دور دوليّ أكثر تأثيرا داخل منظمة الأمم المتحدة وخارجها لصالح بناء عالم جديد. وتبعا لذلك تأسست مثلا (77) مجموعة  داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي توسعت عضويتها لاحقا جرّاء إزدياد عدد الدول النامية الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة . وإضافة الى ذلك أخذت دول العالم الثالث.

تدعو الى نظام اقتصادي دولي جديد يؤمن لها مصالحها كما أن الدول العربية ذهبت في عام 1974م الى توظيف النفط ولوعلى مستوىً محدود لإحداث تغيير في المواقف الدولية من الصراع العربي – الإسرائيلي وعليه نرى أن المخرجات التي أفرزها الوفاق خارج إطار العلاقة المباشرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي قد أسّست بدايات تلك الملامح الدولية للعالم الذي سيأخذ بالتكوّن على نحو جديد مع بداية عقد التسعينات كما سنرى.

   خامسا    مرحلة انتكاسة الوفاق (1976_1985)

بعد منتصف السبعينات تقريبا أخذت العلاقة الامريكية ـ السوفيتية تقترن تدريجيا بحالة من التوتر الشديد، وجرّاء ذلك ذُكرت آراء أنها عادت مجددا الى ذات الخصائص التي تميزت بها في خلال مرحلة اشتداد حدة الحرب الباردة ولهذا أطلق عليها تسمية الحرب الباردة الجديدة أو الحرب الباردة الثانية، فلا نرى تلك التسمية كانت دقيقة.  فالعلاقات الامريكية_السوفيتية اتجهت ومنذ مرحلة التعايش السلمي إلى التبلور على وفق قواعد محددة ومنظمة للسلوك المتبادل. وتبعا للحرص على التمسك بها، فمضامينها لم تسمح للطرفين بالعودة لحالة تأكد كلاهما من خطورة نتائجها المباشرة عليهما، وهي حالة الصراع الذي يمكن أن يتصاعد لمستوى الإستخدام المتبادل للقوة النووية، وبالتالي التدمير الشامل شبه المؤكد، على أن حرص كلا الطرفين على تجنب هذه الحالة لايفيد, فعلاقتهما قد استقرت على نمط تلك علاقة الحلفاء فيما بينهما. فتأثير عدد من المتغيرات جعلها ومنذ عام 1947م وحتى عام 1985م تقترن مرة بغلبة خصائص الصراع ضمن إطار التعاون وبغلبة خصائص التعاون ضمن إطار الصراع (78). مرحلة الوفاق لم تكن استثناءً، فعلى خلاف سنواتها الأولى (1969_1976م) التي تميزت بخصائص التعاون ضمن إطارالصراع،عبّرت سنواتها اللاحقة (1976(1985م) عن تغلّب الصراع على التعاون. ويعد الوفاق في مرحلته الثانية محصلة لمتغيرات أبرزها التباين الفكري بين صناع القرار الأمريكي والسوفيتي حول مفهومه وانعكاسات ذلك على سياساتهم حيال بعض وحيال العالم عموما . فاقصى ماوصلت اليه العلاقات الدولية الوفاقية كانت أثناء إنعقاد مؤتمر الأمن والتعاون الأوربي. فنشأت على إثر انعقاد هذا المؤتمر والقرارات التي خرج بها علاقة ترابط بينه وبين الوفاق بالتعايش السلمي، حيث كان كل منهما يقوى بالآخر بصورة مباشرة أو غير مباشرة .  وأفضل من عبّر عن تلك الحال، التعليق الذي أبداه الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف أثناء انعقاد المؤتمر حيث قال (الجميع فائزون، بلدان الغرب والشرق وشعوب البلدان الاشتراكية والرأسمالية ، المشتركون في أحلاف والمحايدون الصغار والكبار،  وهذا مكسب لجميع الذين يعتزون بالسلام والأمن في عالمنا(79) . (ولكن الجدير بالذكر أن هذا المؤتمر وكما تشير بعض الدراسات قد وضع الحجر الأساس لإنهيار الإتحاد السوفيتي كما سنرى لاحقا).    فكيف تطورت عملية الوفاق بعد هذا المؤتمر ؟  ما إن انعقد المؤتمر الثاني للأمن والتعاون الأوروبي في بلغراد عام   1977 حتى بدأت معه التبدلات في سياسات الدول نحو الوفاق. فبدات الإدارة الأمريكية الجديدة بعد تبدلها من جمهورية إلى ديمقراطية، التركيز على حقوق الإنسان حتى وصل الأمر ببريجنسكي مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومى الى الإدعاء بأن الإنفراج كان مكسبا أحادي الجانب للإتحاد السوفيتي ( معلنا

بذلك  انتكاس سياسة الوفاق ليعود الرئيس الأمريكي كارتر ويخط فصلا جديدا في السياسة الخارجية الأمريكية معتمدا الأسلوب (الأخلاقي ) كاسلوب في التعامل مع الدول الأخرى. حيث كان يؤكد على الحقيقة القائلة بأن علاقات الولايات المتحدة مع أية دولة أخرى ستقوم إلى حدما بما يتناسب مع تناول تلك الدولة لقضية الحقوق الأساسية لمواطنيها كحرية الإنتخابات وحرية الكلام والإجتماع والتحرك ووجود نظام تشريعي عادل ومنصف). فما كان من الإتحاد السوفيتي إلا أن اعتبر محاولة كارتر لربط العلاقات الدولية بمعاملة النظام السوفيتي لمواطنيه  تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية السوفيتية .  بهذا الموقف السوفياتي يكون تاثير سياسة كارتر في إعطاء المزيد من الصيغة الليبرالية أو التحررية للنظام السوفياتي قد ولدت ميتة . ففرض عليه استبدالها بسياسة أخرى اكثر تعقيدا تجاهه، فاتجه  نحو سباق التسلح واتخذ سلسلة من الإجراءات في هذا الصعيد، وهكذا ساهمت الولايات المتحدة في تقويض سياسة الوفاق .على أنّ ماقام به الإتحاد السوفيتي ليس بالقليل بهذا الخصوص فكان يجني ثمار أكثر من عقد من السنوات رفع فيها مصروفه الدفاعي بين 3 بالمئة و5 بالمئة سنويا بصورة حقيقية وكان يتمتع بالقدرة على ضربة نووية بعيدة المدى تكاد تفوق مثيلتها الأمريكية.

فرئيسا الإدارة الأمريكية نيكسون وكارتر تبنيا مفهوما للوفاق على أساسي التفاهم والإحتواء في آن واحد. وعلى العكس أدرك رونالد ريغان وفاق السبعينات انتهى إلى أن يكون طريقا من ممر واحد يسمح للإتحاد السوفيتي بمواصلة سياسته نحو أهدافه. خصوصا وأنه راى فيه بؤرة الشر في العالم المعاصر. وتبعا لذلك عمد إلى تبني سياسة الإحتواء المكشوف للإتحاد السوفيتي ولغاية قوامها إستعادة الولايات المتحدة لما سمّاه بعظمتها*. وتعدّ هذه السياسة نتاجا لتأثير متغيرين أساسيين ، أولهما اثر خصائص شخصية ريغن في نوعية مدركاته للإتحاد السوفيتي وبالتالي في كيفية رسم سياساته حيالها. بإختصار ينتمي ريغن لنمط من الشخصيات ما يسمى بالصقور، أيْ أولئك الذين يتجهون نفسيا إلى تفضيل استخدام العنف على سواه، وجرّاء ذلك فهو لم يتوان عن تبني منطلقات  التيار السياسي والثقافي والفكري المحافظ الذي استمر يدعو فيه ضمن أمور أخرى للتصلب حيال الإتحاد السوفيتي لردعه. لذا لم يخطئ مكنمارا عندما أفاد أن السياسات المتصلبة التي تبناها ريغن كانت امتدادا لتأثير تلك المدركات التي أدّت الى الحرب الباردة في مرحلة اشتدادها(80) . أما المتغير الثاني فقوامه أثر مخرجات سياسات رئيسي الإدارة  نيكسون وكارتر في صناعة الواقع الذي عاشته الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر السبعينيات . فالهزيمة في فيتنام (1975م)  وفضيحة الووترغيت واستقالة نيكسون في آب 1974 تبعا لها ومزاجية كارتر وفشل إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين في ايران(1980) إضافة الى التخلي عن الحلفاء في تايوان وايران ونيكاراغوا أو التردد عن دعم عدد آخر منهم في نصف الكرة الشرقي والغربي كلّها وغيرها أفرزت نتائج داخلية اقترنت بتفكك الدعم الداخلي في الأقل للسياسة الخارجية الأمريكية وأخرى خارجية تجسدت في تميز هذه السياسة بالشلل والتراجع شبه العالمي. وتبعا لتأثير محصلة تفاعل هذين المتغيرين فلقد تعامل ريغن خلال معظم ولايته الأولى مع الإتحاد السوفيتي إنطلاقا من سياسة الترهيب كإستنزافه إقتصاديا، عبر ايقاع العقوبات الإيقاعات الإقتصادية وفرض القيود التجارية والمالية عليه ودفعه للدخول في سباق تسلح نوعي باهض التكاليف قوامه عسكرة الفضاء (أو ماسمي بحرب النجوم). هذا إضافة الى محاولة تعطيل نمو العلاقات السوفيتية الأوروبية التي كانت قد بلغت من المتانة مدى مهما، وإسقاط النظم السياسية الصديقة

للإتحاد السوفيتي في العالم الثالث سواء عبر التدخل المباشر (كغرينادا عام 1983م) أو بالنيابة (في انغولا عام 1975 مثلا). وقد انطوت هذه السياسات على تأثير في الوضع الداخلي والخارجي للإتحاد السوفيتي، فداخليا استمر تدهور الأداء الإقتصادي، وحينما خصص الإتحاد السوفيتي بعضا من موارده لغرض الإنفاق على التسلح فهو بذلك قد أضعف الكثير من قدرته على تلبية حاجات مجتمعه. أما خارجيا فشهد نفوذه تراجعا في العالم الثالث كما حصل مثلا في مصرعام 1972م وتشيلي عام 1973م. وتبعا لإدراكه لغايات السياسات الأمريكية حيال إضعافه داخليا والحد من تأثيره خارجيا، لم يتردد الإتحاد السوفيتي هو الآخرعن استخدام الخطاب السياسي السهل بتصعِّد التوتر العالمي مما ساعد على ذلك الواقع الداخلي والخارجي للولايات المتحدة الامريكية وتوظيفه لصالح دعم سياساته في العالم الثالث خصوصا.ويعد التدخل العسكري في افغانستان (27كانون الاول 1979م)ذروة هذا التوظيف .اذ كان أول تدخل سوفيتي من نوعه خارج منطقة نفوذه المباشر في أوربا الشرقية .ولانه أسس معطيات جديدة انذاك ,فان مسيرة الوفاق قد تأثرت سلبا به . ان  انتكاسة الوفاق انطوت على انعكاسات لم تقتصر على العلاقات الامريكية_السوفيتية التي جعلتها أكثر توترا حسب ,وانما امتدت كذلك الى العالم الثالث وأوربا. ففي العالم الثالث كانت هذه الانتكاسات مأساوية .اذ أدت بهذا العالم الى أن يستمر موطنا للاستخدام المنظم للقوة العسكرية .فتبعا لاحدى الاحصائيات عاش هذا العالم ,ومنذ عام 1954م,(250)استخداما لهذه القوة .وقد كان 92% منها حروبا بين دول هذا العالم.

إن الصراع على العالم الثالث لم يؤد بعموم دول هذا العالم الى أن تفتقر الشعور بالأمن، واتجاهها بالتالي للتسلح المكثف بتشجيع من الدول المنتجة للسلاح حسب, بل كذلك للحد من عملية التنمية فيها وتعطيلها.  وبقدر مايتعلق بالإتحاد السوفيتي فقد (عبّرت المفاهيم النظرية المعتمدة في هذه المرحلة عن مأزق التنظير حيث اعتمدت صيغة (الإشتراكية الواقعية) وجرى تفسيرها كمرحلة تقترب من الشيوعية تدريجيا. ومن جهة أخرى فتحليل الأوضاع على الصعيد الدولي كان قاصرا، ولاينم عن قراءة دقيقة  مستدة لتحليل ماديّ وجدليّ وتأريخي في آن، خصوصا في مايتعلق (بالإستنتاج الذي توصلت له الأحزاب الحاكمة في البلدان  الإشتراكية ولم تزكه الحياة والقائل ( بقرب انهيار الإمبريالية تحت وطأة تناقضاتها الداخلية المتفاقمة  وعجزها عن مواجهة مصاعبها وعدم قدرتها على التكيّف مع منجزات الثورة العلمية التقنية) وكان هذا التحليل سطحيا ولايعبر عن قراءة تدخل في عمق المشكلات بما يتيح رؤية الحقائق الموضوعية وتتلمس جوهر عمليات التطور وتناقضاتها الفعلية وقواها المحركة(81) .  وقد شرع لاحقا اندربوف بمحاولة الإصلاح إلا أن المحاولة لم يكتب لها النجاح لمعالجة المشكلات التي كانت تطال كل مجالات الحياة من بينها، – استعادة هيبة الإتحاد السوفيتي التي اضعفتها مرحلة الركود البريجينيفية ( لكن اندربوف أدركه الموت مبكرا ولم يوفق في مسعاه) (82).

  سادسا – مرحلة   البيريسترويكا  ( 1985- 1991)

 لقد وصل غورباتشوف في آذار 1985 إلى قمة الهرم السياسي في بلاده، بعد أن تم اختياره بفارق صوت واحد لصالحه، كما ذهبت إحدى الدراسات ليتولى قيادة القوة العظمى الثانية في العالم آنذاك. ولإحتواء معضلة بلادهن فإنه طرح سياسة عبّر عن تفاصيلها كتابه (إعادة البناء والتفكير الجديد، لنا وللعالم والذي يراه البعض فريدا فب الآثار التي أفرزها. فكان كتابه عبارة عن مشروع إصلاحي شامل لكل جوانب الحياة بما في ذلك إعادة هيكلة السياسة الخارجية من خلال ما سمّاه التفكير السياسي الجديد الذي اتخذ كغطاء آيدلوجي لخيار جديد قوامه الإنهزام أمام الولايات المتحدة الأمريكية من خلال التخلي عن الآيدلوجية الماركسية نظريا وعمليا، والإنتقال لمواقع الغرب. وفي المحصلة النهائية قادت عملية إعادة البناء إلى التعجيل بإنهيار الإتحاد السوفيتي في نهاية عام 1991م. على أن هذا السقوط عبّر عن عملية ممتدة لم تبدأ بعهد ميخائيل غورباتشوف (1985-1991)، على الرغم من الأثرالحاسم لسياسته، وإنما عن عملية تعود إلى مدة سابقة ( سنتناول تفتصيل هذا الموضوع في موقع آخر تجنبا للتكرار). إعلان نهاية الحرب الباردة وضع حدا لسياسة التعايش السلمي بين العملاقين وما تفرع عنها من انفراج  ووفاق، وقضى على القطبية الثنائية التي كانت إحدى نتائج الحرب العالمية الثانية، لنعود إلى نوع من الصراع الذي كان سائدا من قبل وهو صراع المصالح ، صراع في سبيل الهيمنة  العالمية.

المراجع

 

51– عبد الحي وليد , الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية , الجزائر شركة شهاب , 1991, ص15-16.

52- باون كولن وموني بيتر , من الحرب الباردة حتى الوفاق , 1945-1980,تعريب صادق ابراهيم عوده , دار الشروق للنشر ,والتوزيع  1995 , ض 10

 

53  منذر محمد مبادئ في العلاقات الدولية مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت 2002 ص 153

54-   العقابي علي , العلاقات الدولية ,  دار الرواد ,بغداد 2010, ص 70,

 

55- ليرش او تشارلس , الحرب الباردة ومابعدها , تعريب  فاضل زكي محمد , دار الحرية للطباعة , بغداد 1976, 31.   56-   john cox ,overkill.  The story of modern weapons Middlesex: penguin books,1998

57-  History  of  the Cold War  New York-Oxford university press,1987p.245

58- باون كولن و موني بيتر, من الحرب الباردة حتى الوفاق  1945-1980, ت صادق ابراهيم عودة , دار الشروق للنشر والتوزيع , عمان 1995,ص 10.

 

59- – عبد الملك انور , تغير العالم , سلسلة علم المعرفة , الكويت المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب , 1985ص 176-177

60 – باون كولن وموني بيتر ,  مصدر سبق ذكره , ص 135.

61– العقابي علي , العلاقات الدولية ,دار الرواد , بغداد 2010, ص 74 –

62- العقابي علي , نفس المصدر , ص75.

63-  العقابي , نفس المصدر , ص 76.

*أزمة الكونغو: هي أزمة وقعت من 1960 إلى 1966 بين (جيش الحركة الوطنية الكونغولية وقوات الثورة الكوبية وقوات اليونيفيل التابعة للكونغو) ضد (القوات البلجيكية والقوات الأمريكية وجيش يوبولدفيل ومجموعات كاسيا الجنوبية ومجموعات كاتانغا)، إبتدأت على شكل اضطرابات لكن عندما قمع جيش يوبولدفيل الناس وأعلن حالة الطوائ قامت قوات الحركة الوطنية وقوات الثورة الكوبية بمهاجمة جيش يوبولدفيل والقوات البلجيكية، وكان جيفاراعلى رأس قوات الثورة الكوبية التي كان لها دور قوي في تلك الأزمة التي إنتهت بأستقلال الكونغو بعدها خرج جيفارا مع قواته لأن الكونغوليين قاموا بمطاردته لإعتقادهم أنه سيحكمهم.

**تمتد أزمة برلين بأصولها إلى زمن الرايخ الالماني، منذ أن دخل السوفيات عاصمته برلين في أيار 1945.  كان قد تمّ التفاهم بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على وجوب تقسيم المانيا الى مناطق إحتلال موزعة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والإتحاد السوفيتي . وقسمت برلين بدورها الى أربع مناطق تشرف عليها الدول الأربع عمليا بإقتراح اللجنة الإستشارية الأوربية عام 1944. وفي مؤتمر لندن عام 1948 بين الدول الغربية تقرر دمج مناطق احتلالها الثلاث في كيان واحد وبمنحها حرية الدعوة لإجراء انتخابات عامة فيها.  وهذه الإجراءات أثارت السوفيت وأدّت الى تأزّم العلاقات مع حلفاء الأمس .

64-   نظرية توازن القوى والمصالح ,  تقرير  موقع مقاتل من الصحراء www.mogatel.com

65- خروتشوف ن , تقرير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي وعن نشاطها امام المؤتمر العشرين , مكتبة المطبوعات الشعبية , دمشق , بيروت , 1956, ص 56-57

66- دويتشر  ابزاك – ترجمة محمد خليل مصطفى، الصراع الكبير بين روسيا والغرب الدار القومية القاهرة ص 70.

67-Alexander l . George.et al .us + soviet. Security cooperation.new Yor    -oxford   unversity .press1988

68-عبد الملك انور , مصدر سبق ذكره ، ص 177

69- دوللو لويس , التاريخ الدبلوماسي , ت سموحي فوق العادة , بيروت , منشورات عويدات , 1982,ص 144.

70- كولار دانيال , العلاقات الدولية , ت خضر , بيروت , دار الطليعة للطباعة والنشر , 1985,ص 117.

71- شلبي السيد امين , الوفاق الامريكي السوفيتي , 1963-1976,الهيئة المصرية العامة للكتاب , 1981,ص 72-73

*   درس الازمة الكوبية التي وضعت العالم على شفا حرب نووية عالمية من اهم دوافع الانفراج الدولي.

* دخول الصين حلبة التسلح النووي

* القرار التاريخي الذي اتخذته فرنسا عام 1966 باعلان انسحابها من القيادة العسكرية المشتركة لحلف الاطلسي , بعد امتلاكها للسلاح النووي انطلاقا من قناعتها ان الولايات المتحدة تعمل لتطمين مصالحها القومية  وان الاسلحة النووية التي يفترض انها تحت تصرف الحلف تخضع لرقابتها وحدها وتقع خارج الاراضي الاوربية .كان من نتائج هذه السياسة ان باشر الكبيران بالتوقيع على معاهدة الفضاء الخارجي عام 1967, ثم معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية عام 1968

72-  شلبي , الوفاق , مصدر سابق ,ص 137

73-  التوازنات الدولية , موقع مقاتل من الصحراء.         www.mogatel .com

74-   ساتاكويف و كابتشنكو , السياسة الخارجية الاشتراكية في النظرية والتطبيق , دار التقدم , موسكو 1975, ص   157-171.

75-   باون كولن وموني بيتر ، مصدر سبق ذكره  ص 243

76 – باون كولن وموني بيتر ، مصدر سبق ذكره  ص 243

77– مقلد اسماعيل صبري , تحركات العملاقين على طريق الوفاق , السياسة الدولية , مركز الدراسات الإستراتيجية  والسياسية  ,ص  83.

78-عبدالله عبد الخالق ,   العالم المعاصر والصراعات الدولية , سلسلة عالم المعرفة , الكويت , المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب , 1989, ,ص 85.

79 – اندرياس فانتيس, الامن الاوربي واعداء قبرص , دراسات اشتراكية , القاهرة , دار الهلال , عدد 5 ايار 1978,ص 31.

*لقد دعا لذلك اثناء حملاته الانتخابية .

80- مكنمارا رويرت , مابعد الحرب الباردة , ت محمد حسين يونس , دار الشروق للنشر1991,ص 37.

81- الوثيقة الفكرية  إحدى وثائق المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي , الصفحة بلا .

– الإصلاح في النظام السياسي وفي عملية البناء الإقتصادي – الإجتماعي .

– ملاحقة مظاهر الفساد والبيروقراطية

82-    الوثيقة الفكرية، المصدر نفسه ، الصفحة بلا..

بقلم رسمية محمد

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى