دراسات سياسية

تأمل هادئ في قضية المبعوثين الدبلوماسيين للعواصم الغربية

الدكتور.محمد مراح

من القضايا التي حضرت بقوة على الساحة الوطنية في سياق مسار الحراك الشعبي الكبير، قضية  إرسال السلطة لممثلين دبلوماسيين رسميين، وغير رسميين ، إلى العواصم العالمية الكبرى ، على نحو عاجل، وواسع النطاق الدول المعنية، بشأن تطور الوضع في البلد. وقد قوبلت هذه الخطوة بردود فعل غاضبة ، وتحوّلت إلى إحدى أوراق الضغط على السلطة، لدفعها نحو الاستجابة إلى مطالب الحراك . ونودّ أن نتأمل الموضوع بقدر من الهدوء، وربطه بعناصر كثيرة نعتقد أنها مفيدة للبلد

في حاضره ومستقبله القريب والبعيد .
– استباق المحاولات المزمعة للتدخل في تغيير الوضع في الجزائر منذ الأزمة السورية، وفقا لمصالح القوى الكبرى ذات الصلة . وهي التي أجّلت التوجه لتفعيل الملف الجزائري، في سياق ما اصطلح عليه بالربيع العربي  . وأنا الحقيقة أثق في مصدرين تحدّثا عن هذا الأمر هما : عبد البارئ عطوان، الذي تحدث عنه منذ الشهور الأولى للأزمة السورية ، وأذكر قوله مثلا ( إن الملفات قد أعدت، والقنوات تهيأت)، وبقي إعلان صافرة البداية .والمصدر الثاني هو الدكتور وليد عبد الحي الذي أشار للموضوع في أكثر من موضع . والحقيقة أننا على يقين من المحاولات والمساعي من خلال مثلا حادثة تيفنتورين ، وأحداث غرداية.

-الهدف الثاني هو شرح الأوضاع الداخلية للدول المرتبطة معنا بمصالح متنوعة كبيرة ومنها مصالح استثمارية كبرى كالبترول من ناحية، ومن ناحية أخرى ربما تفعيل فكرة -لست متأكدا من كونها إحدى أساليب الدبلوماسية في الأزمات ، لكن لا بأس بالتقدير – وهي (المبادرة بالقدوم إليكم مبكرين، قبل قدومكم إلينا )، من مركز قوة الدولة ومؤسساتها الضامنة للتحكم في الأمور ؛ في حال الخطر المفضي للخروج عن السيطرة . ومعلوم أن الغرب متخوف بشدة على الوضع في أوروبا إن انفلتت الأمور في الجزائر، والاطلاع على كثير من التقارير والتصريحات والمقالات الغربية يؤكد هذا التخوف والمخاطر .

ورغم هذا فإني أشعر بخطورة ما قد تخفت أو تشتدّ حسب تطور الأحداث  من التوظيف (البوليتيكي)* لهذه التحركات ، للضغط على الرئيس والسلطة ، كي تستجيب للمطالب الاحتجاجية .

ومن وجوه الانزلاق والخطورة في المسألة أنها بدأت تصوغ تهمة (خيانة النظام) ، و(عمالته للخارج ) أي نزع صفة الوطنية عنه ، بعد أن هيأت احتجاجات الحراك لذلك .وهذا أمر إذ يصدر عن الجماهير الغاضبة، يكون موضع تفهم ،   لكن صدوره عن سياسيين حزبيين أو غيرهم، فيحمل مخاطر جمة ، على الحاضر والمستقبل،  فعلى السياسيين التحلي بقدر من الحكمة بشأنه؛ لأنه يهدم واحدا من خصائص النظام الجزائري منذ الثورة والاستقلال، أي نظافة السياسة والموقف الجزائري من شبهات العمالة للقوى الخارجية؛ بل لقد دفعت  الجزائر أثمانا غالية لمواقفها الخارجية المشرّفة، والأدلة معروفة لدى الجميع ، و إقدام أشخاص على ما يمكن أن يندرج في خانة التهمة المذكورة

 أو أقل منها : أي الميل لمصالح خارجية بشكل مفرط أو مبالغ فيه، هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها .

– إن كل ما ذكر، لا ينفى مسعى السلطة لتحقيق مكاسب تدعم مركزها الداعم إزاء ضغوط الحراك، والقوى الكبرى المنتفعة منه . والمُمهّد لتبرير أي إجراء  سياسي قد تتخذه إزاء الأزمة .

-مع ذلك فإن الموقف الشعبي قد عبّر عن رفضه القاطع لأي استغلال من القوى الكبرى لهذه الخطوة التي أقدمت عليها السلطة في وقت مبكر من انطلاق الأحداث. و قد يكون من الحنكة السياسية، استثمار الرد الشعبي على ما فُسّر أنها محاولات تدخل أجنبية في الشأن الداخلي ، في أي خطة تُعتمد للتقدّم بالأوضاع نحو حلّ وطني خالص، أي ورقة قوية لتسيير المرحلة ، ثم الانتقال الكبير في ظروف آمنة نسبيا من (تخربشات ) القوى المنتفعة من الأزمات . و في نهاية المطاف فنحن   في حالة مدافعة شعب لسلطته ، طالبا رحيلها ؛ بعد أن فقدت صلاحية استمرار قيادتها للبلد ، ولسنا في حالة حرب داخلية، فالجميع مجمعون على  استنكار أي شبهة للحرب والصراع العنيف .
– وهناك مسألة أخرى هامة جدا قد لا تبدو ذات صلة مباشرة بالتحركات الدبلوماسية المذكورة، هي: أهمية الجزائر في المشروع الصيني العملاق، وهو طريق الحرير التجاري الموازي لطريق الحرير الصيني القديم . فقد انخرطت فيه الجزائر خلال السنة الماضية، مما أزعج أمريكا وحلفاءها خصوصا بريطانيا؛ كون هذا المشروع من أكبر المشاريع الاستراتيجية التي أسستها الصين، لتقوية ودعم مسار مركز تفوقها على الولايات المتحدة، وتحقيق تنبؤات الفريق الذي يرافع لاحتلال الاقتصاد الصيني المرتبة الأولى عالميا، وربما يفتح شهية التنين الأصفر ، لأداء الأدوار القيادية  سياسيا  للإمبراطوريات الكبرى تحت نشوة تحقيق الريادة العالمية اقتصاديا .والجزائر التي تميزت سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة باستغلال الأوضاع الإقليمية والعالمية، لتطوير سياسة تقوم على الحفاظ على التمركز ضمن رموز القوى الكبرى المشاكسة للهيمنة الأمريكية وحلفائها  . مع استغلال الفراغات التي أحدثتها كثير من الأحداث التي هزت المنطقة العربية وبعض الدول الإفريقية، والتجاذبات الكبرى مع إيران ،  وربما حتى في أمريكا اللاتينية(الوضع الأرجنتيني مثلا)، فأغرت أمريكا ودول أوروبية كثيرة بإمكان تأسيس وتطوير علاقات اقتصادية مغرية ، والجميع يعرف الإمكانات (ثروات، موارد بشرية شابة، مؤسسات جامعية عديدة، و إطارات جامعية كبيرة، وعدد كبير أيضا من الطلاب، مع ما خبروه من مستويات عالية من الذكاء والاستعدادات المميزة لدى شبابها المتعلم للتفاعل الإيجابي مع مخططات العولمة  في شقها التكنولوجي المعلوماتي ، وشبكتها العالمية (الأنترنت)، فضلا عن ملامح عالية القيمة لملائمة مميزات العقل والمزاج الجزائري لكثير من مميزات وأنماط التفكير والمزاج الأوربي خصوصا الغربي الفرنكفوني، وسرعة التأقلم مع النمط الأنجلو سيكسوني، وأقصد هنا الجانب العملي والتطبيقي )، ورغم أن أكثر هذه الميزات هي في حالة الثروات الخام ، إلا أن العقلية الغربية النفعية، والعملية، التي   تراهن حدّ الاعتقاد اليقيني على قوة التغيير في اتجاه مصالحها، قد تراهن كثيرا على المضي بعيدا في تعاونها مع الجزائر. و هذه المواصفات والخصائص التي تكاد تكون الجزائر متفردة بها في إفريقيا، ثم المنطقة العربية على الغالب، فضلا عمّا فازت به من وصف الدولة النموذج في الانتصار على الإرهاب ،  قد يكون منح الجزائر وضعا مريحا جدا في وفائها لمبادئ سياستها الخارجية التاريخية؛ التمركز الروسي -الصيني (النسخ المتطورة للكتلة الشرقية الاشتراكية أيام الحرب الباردة ، مع التعاطي أخذا وعطاء مع المعسكر الغربي (أمريكا وحلفائها). أعتقد أن ملامح نجاح هذه السياسة الخارجية قد جعلت الجزائر في وضع المطلوب رضاه من الأطراف الكبرى، مع غيوم الشك والحذر، والغموض التي تقلق القوى الغربية بعض القلق ، على تفاوت في الكيفيات والمضامين، والمستوى .  وقد يكون هذا أحد ضرورات استعجال الخطوة الدبلوماسية الجزائرية.

لكل ما تقدم أسجل الملاحظات الآتية  الذكر :

  • أن السياسة الخارجية الجزائرية في كل مراحلها ، كانت تعكس في الغالب الأعم المزاج الشعبي، و مبادئه التاريخية النابعة من رؤية وثيقة النشأة الحقيقية لدولة الاستقلال (بيان أول نوفمبر) ومنها : عدم الانحياز ، ورفض التدخل في شؤون الدول الداخلية، وشراستها في رفض التدخل في شؤونها الداخلية ، ونصرة القضايا العادلة في العالم ، وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، والدعوة لنظام اقتصادي عالمي عادل . ولذا فعلينا تثمين وتعزيز هذا التراث الهامّ للحاضر والمستقبل، ومن ذلك التدرّع به في مواجهة المحاولات الظاهرة والخفية ، لتغيير جذري في الروح التي صدرت عنها هذه المبادئ، فمن الغفلة أو الاستغفال استبعاد حالة الترقب المتحفز بكلّ وسائل التحفز، لتدوير الجزائر في فلك المطبعين مع أطروحات كبرى للعالم العربي ومنه مشروع (صفقة القرن )، وأخيرا ضم الجولان ، وتصريحات دول عربية علنا بمناسبة القمة العربية في تونس هذه الأيام ، بضرورة التطبيع مع الكيان الصهيوني، فهذا الأمر أحد أهم الأهداف الكبرى المستعجلة للقوى العالمية ، بزعامة الولايات المتحدة ، التي تبذل جهودا جبارة لتمهيد الأرض السياسية العربية الرسمية، لتقبل هذه الصفقة اللعينة، و التخفيف قدر المستطاع من ردود الفعل المعارضة لها ، المشوشة عليها، وعهدة ترامب القادمة على الأبواب . فعلينا التيقن بأننا نتحرك فوق محيط من الأحداث والترتيبات الكبرى للمنطقة والعالم، أحد أهم أولوياتها (تسجيم\من الانسجام) المنطقة مع الكيان الدخيل؛ للتخلص من منغصات مشكلة الصراع العربي الصهيوني ، والتفرغ لإنجاز اصطفاف المنطقة على وتيرة نغمة موحدة، في مشروعات العولمة الاستهلاكية الكبرى. **
  • أن فكرة استقواء السلطة بالخارج ، لحدّ الساعة لا تكاد تتجاوز التهمة، والشعار، إذ يعوزها الشرح والتحليل المنطقي الواقعي، الذي يجعلها مفهومة مجسدة؛ إذ لم يقدّم أصحابها (المعارضة تحديدا)، البرهنة على التأثيرات العملية المحتملة للقوى العظمى على الجماهير المحتجة، و مطالبها منعا من التجسيد، ميدانيا؟ ولا بيان الإجراءات العملية الواقعية التي يمكن لهذه القوى أن تحمى السلطة – على الأرض- من شعبها الذي يستقوى عليها بقوة حراكه؛ كي يطيح بها ؟  لذا قد يكون من الحكمة من منطلق المناكفات السياسية مع السلطة من جهة، وكسب المواقع لدى الرأي العام من جهة أخرى أن نعيب و نلوم السلطة على نوع من الإفراط فيما يمكن أن يوصف بفتح الباب أمام التدخل الخارجي، الذي قد يمهّد للتدويل لا سمح الله إن تطورت الأمور تطورات سلبية .
  • أن هذه التهم نفسها يمكن أن توجهها السلطة أو من يدور في فلكها في الوقت الذي تراه مناسبا، إلى المعارضة الحزبية التي لطالما تتواصل علنا وأحيانا خفية مع دول أجنبية مؤثرة ، من خلال سفاراتها ، وبناء علاقات شخصية وسياسية مع دبلوماسييها . وعادة ما تزداد وتيرة هذه الاتصالات في الفترات التي تسبق الانتخابات الكبرى، كالرئاسيات . فضلا عن التمثلات السياسية لبعض النماذج التي شهدتها الساحة العربية (الربيع العربي)، وتراه نموذجا يستحق تكراره في الجزائر، بخصوصية جزائرية . و لسنا في حاجة للحديث عن الآثار السلبية العميقة التي تحفر في الأرض السياسية الجزائرية على المديين القريب والبعيد؛ لأن مسألة الخيانة والعمالة من أشدّ الأمور تأثيرا على النفسية الجزائرية، وتعكيرا لمزاجها، وطاقات شعبها،  التي هي الكنز الحقيقي لبناء دولة المستقبل المنشودة.
  • أن المسار الذي قطعه الحراك ، بلغ مرحلة تحتاج ، لبلورة الأفكار بعيدا عن مخاطر (البوليتيك) *** هذا (البولتيك). الذي يعد من أخطر ما نخر الجسم السياسي الجزائري ، وأوصلنا إلى حالة التعفن الخطير الذي نقل معه رجال المال الفاسد الوضع السياسي من (البوليتيك) إلى (التزبيل). و ولهذا وجب على أصحاب الرأي ، والحكماء والمخلصين، وغير المنتفعين شخصيا ولا حزبيا ولا سياسيا من أي نتائج إيجابية يحققها الحراك بإذن الله تعالى، أن يتقدموا لتحمّل مسؤولياتهم الوطنية والأخلاقية والشرعية ، فيبلوروا الأفكار الصحيحة ، والمتوازنة، والدافعة نحو مستقبل وطني ، تسوده قيم العدل، والحكمة ، ورجاحة التوازن في خطط مستقبل البلد .
  • وقبل الختام علينا ألا نغفل عن التنبه لاستثمارات هائلة في الحراك ومطالبه من أطراف عديدة ومنها بكل دقة أطراف مالية ، مصممة على استخلاف  أصحاب النفوذ المالي السياسي الفاسد الحالي، في المشهدين الاقتصادي  أصالة ،والسياسي تفويضا ودعما،و ليس بالضرورة أن تكون بمواصفات الزمرة المالية المتعفنة المعروفة ، ولهذه الأطراف المالية مقاولون إعلاميون بالعربية والفرنسية (صحف كبرى، وسائل قنوات تلفزية، أما وسائل التواصل الاجتماعي فسوف تساهم كثيرا في تعويض شركة فيس بوك بعض خسائرها المالية الكبيرة في العام الأخير) ، على درجة كبيرة من الاحتراف، ويزاولون المهمة باستماته، وخطاب صلب لا يعرف الرحمة، يزرع الرعب أكثر مما يفتح الأمل،
  • نسأل الله تعالى السداد والتوفيق .

* [ يمكن الاطلاع على مقال الدكتور وليد عبد الحي،

https://alresalah.ps/post/197154/قطاع-غزة-المستقبل-القريب

 

** انظر قول الدكتور وليد عبد الحي ، في مقاله الجديد (الجزائر : مستقبل المخاض الجديد) : (ما معنى أن الجزائر تحتل مرتبة متقدمة في الدراسات الإسرائيلية (في الجامعات ومراكز الأبحاث) خلال الفترة من 2010 إلى الآن؟) –الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والاستراتيجية؛ 24\3\2019

*** أستعمل مصطلح مالك بن نبي رحمه الله بدلا من مصطلح السياسيوية، لأنه أبلغ في التعبير و أدلّ؛ لبعده الشعبي العفوي الصادق العميق

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى