تحولات في مفهوم الأمن: من أمن الوسائل إلى أمن الأهداف

عرف حقل الدراسات الأمنيةنقاشات حادة بعد نهاية الحرب الباردة تدور أساسا حول محاولات توسيع وتعميق الدراسة في هذا المجال إلى قضايا ومسائل خارج نطاق الاهتمامات التقليدية المنصبة على الصراع العسكري بين الدول، لذا أصبحت هذه النقاشات حول طبيعة الأمن، معانيه و مدلولاته من أهم القضايا التي ميزت الإنتاج النظري في حقل السياسة العالمية عموما و حقل الدراسات الأمنية – كحقل فرعي- خصوصا. ويبدو أن أصل هذه الحوارات والنقاشات يعود بالدرجة الأولى إلى عجز المقتربات والأطر التحليلية العامة التي كانت توظف لتفسير وإدراك السلوكات والظواهر الأمنية التقليدية خلال فترة الحرب الباردة. وانحصر هذا الحوار عموما بين مقاربتين، تدعو إحداهما إلى ضرورة توسيع مفهوم الأمن وبالتالي حقل الدراسات الأمنية ليشمل مسائل تتعلق بالجوانب الاقتصادية، البيئية والديمغرافية، سواء باعتماد المجتمع كموضوع مرجعي ( الأمن المجتمعي) (1)، أو بالنزول إلى الفرد/الإنسان كموضوع للأمن في إطار عالمي شامل(الأمن الإنساني)، أما المقاربة الثانية فتختزل مفهوم الأمن في المجال العسكري وتعتبر قضية الأمن من صميم اهتمامات واختصاصات الدولة وحدها.

إذن فالحوار قد دار بصورة مباشرة بين الآراء الداعية إلى الحفاظ على المفهوم التقليدي للأمن الذي يشير عادة إلى الأمن الوطني، والآراء النقدية التي تحاول إعادة النظر بشكل جذري في المفاهيم، المدلولات والموضوع المرجعي للأمن. وتطرح مفهوم الأمن الإنساني كمفهوم بديل عن الأمن الوطني. وعلى هذا الأساس فإننا سنجد أنفسنا أمام التساؤل الآتي:

لماذا الانتقال من المستوى الدولتي إلى المستوى الفردي للأمن؟ وإلى أي مدى يمكن أن يساهم مفهوم الأمن الإنساني في إثراء الدراسات الأمنية وجعلها أكثر مواكبة للواقع الدولي المتغير؟ وسيتم تفكيك هذه الإشكالية من خلال العناصر الآتية:

I. مفهوم الأمن الوطني:أولوية الدولة.

شاع استخدام مصطلح “الأمن الوطني” بعد الحرب العالمية الثانية إلا أن جذوره تعود إلى القرن السابع عشر، تحديدا بعد معاهدة وستفاليـا عـام1648 ، التي أسست لولادة الدولة الوطنية أو الدولـة- الأمـة (Nation- State) وشكلت الحقبة الموصوفة بالحرب الباردة الإطار والمناخ الذي تحركت فيه محاولات صياغة مقاربات نظرية وأطر مؤسساتية للأمن وصولاً إلى استخدام تعبير ” إستراتيجية الأمن القومي” منذ تسعينيات القرن المنصرم، وسادت مصطلحات حقبة الحرب الباردة مثل الاحتواء، الردع، التوازن، التعايش السلمي كعناوين بارزة في هذه المقاربات بهدف تحقيق الأمن والسلم وتجنب الحروب المدمرة التي طبعت النصف الأول من القرن العشرين.

وكأي مصطلح أو مفهوم لا يمكن التوصل إلى تحديد دقيق له خارج نطاق المكان والزمان الذي يتحرك في مداره، متنبهين لخضوعه الدائم للتعديل والتطوير انسجاماً مع المتغيرات والعوامل التي أثرت وتؤثر في بروزه إلى مسرح التداول. ورغم هذه الصعوبات العلمية والمنهجية فإننا مطالبون بتحديد مفهوم واضح للأمن.

ولو راجعنا تعريف “الأمن” في القواميس لوجدنا تقاطعاً يشير عموماً إلى تحقيق حالة من انعدام الشعور بالخوف وإحلال شعور الأمان ببعديه النفسي والجسدي محلها.

أما التأخر في إيجاد تعريف أكاديمي متفق عليه لمفهوم الأمن الوطني، من خلال البحوث العلمية، فيرجع إلى الاختلافات الظاهرة في تعريف المفهوم، التي شملت، اختلافاً في تحديد هوية التهديدات الموجهة إليه، وهوية أولئك المقصود أن يردعهم الأمن الوطني بأدواته وإستراتيجياته، التي هي أيضاً محل خلاف.

وعلى الرغم من ذلك، فهناك ثلاثة اتجاهات واضحة، لتعريف الأمن الوطني (3). كل اتجاه منها، له منظاره الخاص، في تحديد المفهوم. يركز الأول على الأمن الوطني كقيمة مجردة، مرتبطة بالاستقلال وسيادة الدولة الوطنية. ويهتم الاتجاه الثاني بالجانب التنموي، لحيويته في إطاره الاقتصادي والإستراتيجي. أما الثالث ـ وهو الأحدث بالنسبة للاتجاهات الثلاثة ـ فهو يؤمن بالأبعاد المتكاملة الشاملة للأمن الوطني.

الاتجاه الأول: الأمن الوطني كقيمة مجردة.

يخص هذا الاتجاه الأمن الوطني بالأولوية في موارد الدولة، باعتباره القيمة الأساسية، والحيوية، وهو ما يسميه آدم سميث “مأزق الاختيار بين الرخاء والدفاع”. ويكون الاختيار من منظار هذا الاتجاه في صالح البندقية، على حساب رغيف الخبز. ويرى هذا الاتجاه، أن الاستقلال والسيادة الوطنية، أكثر أهمية من الأمن الوطني، لذلك فإن البعد العسكري، يجب أن تحسب قدراته، على أساس التفوق على الخصم (الحقيقي أو المحتمل). ويستخدم بعض المؤيدين لهذا الاتجاه، عند قياسهم لقدرات الدولـة الشامـلة (القوى الشاملة للدولة)، متغيرات معنوية، يصعب قياسها، مثل الإرادة الوطنية، والروح الوطنية كأسس للأمن الوطني.

وهناك العديد من التعريفات التي تصنف ضمن هذا الاتجاه يمكن التطرق إلى بعضها:

تعريف والتر ليبمان Wolter Lippmann: ” إن الدولة تكون آمنة، عندما لا تضطر للتضحية بمصالحها المشروعة لكي تتجنب الحرب، وتكون قادرة على حماية تلك المصالح، وأن أمن الدولة يجب أن يكون مساوياً للقوة العسكرية والأمن العسكري إضافة إلى إمكانية مقاومة الهجوم المسلح والتغلب عليه”.

فليبمان في تعريفه يركز على استخدام القوة العسكرية، لحماية المصالح المشروعة (من وجهة نظر الدولة بالطبع) ويدور تعريفه للأمن في إطار القوة العسكرية.

تعريف أرنو لد ولفيرز Arnold Willfars: ” الأمن الوطني يعني حماية القيم، التي سبق اكتسابها. وهو يزيد وينقص حسب قدرة الدولة على ردع الهجوم، أو التغلب عليه”.

ويشبه هذا التعريف ما سبقه، في الاعتماد على القوة العسكرية، لكنه يشير إلى أنه يمكن ردع الخصم بامتلاك القوة دون الدخول في صراع مسلح معه، والتعريف يشير أيضا إلى أن الأمن الوطني ذو مفهوم متغير طبقاً لقدرة الدولة على الأداء، وهي نقطة مهمة في الوصول إلى تحديد أدق لمفهوم الأمن.

تعريف فريدريك هارتمان Fredrich Hartman : “الأمن هو محصلة المصالح القومية الحيوية للدولة.”

يعتبر هذا التعريف أكثر مرونة، لشموله على المصالح الوطنية والحيوية معاً، و محصلة تفاعلهما ِتُكَوِّنْ أمن الدولة، ودون تحديد لها إذ هي من المتغيرات الدائمة، وقد تختلف من موقع لآخر، أو من عصر لآخر كذلك. كما أنه لم يشر إلى القوة العسكرية، باعتبار المصلحة الدفاعية أحد المصالح الوطنية الحيوية.

تعريف هنري كيسنجر Henry Kissinger: ” الأمن هو التصرفات، التي يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء.”

يشير هذا التعريف مباشرة، إلى استخدام عناصر القوة المختلفة، وليس العسكرية فقط، بلا توضيح لشرعية تلك التصرفات، أو تحديد لتوقيت استخدامها، مما يترك المفهوم مفتوحاً لتصرفات عدوانية. ولاشك أن هذا المفهوم يأتي من منطلق تمتع الدولة، التي ينتمي إليها كيسنجر( وهي الولايات المتحدة الأمريكية)، بالعديد من عناصر القوة، التي تتيح لها القيام بالتصرفات المشار إليها في التعريف، مع ضمان نجاحها من دون أن تضع في الاعتبار إمكانات الآخرين لحفظ حقهم في البقاء. لذلك يرى بعضهم هذا التعريف ترجمة لعبارة “الغاية تبرر الوسيلة”.

وعموما فإن التركيز على جوهر الأمن الوطني، ضمن هذا الاتجاه، على أنه بعد عسكري أصيل ذو محددات، يمكن تقييمها، يدفع الدول بالتأكيد لزيادة قدراتها العسكرية، وقوتها، في شتى المجالات. ويسيطر المفهوم العسكري للأمن عادة على سياسات هذه الدول، ويكون دور المدنيين من القادة والسياسيين محدوداً للغاية. حيث يرى العنصر العسكري، أمنه في استمرار وجود عناصر تهديد للأمن. هذا التنافس الشديد، بين الدول الأقوى في النظام الدولي، يوجه الجزء الأكبر من الموارد، لمواجهة هذا التنافس وتداعياته، مستبعدا مطالب التنمية، في القطاعات الأخرى، غير الأمنية (غير العسكرية). ويضع هذا التورط في سباق القوة، الدول المتنافسـة، في دائرة مفرغة (المعضلة الأمنية)، فتعتقد أن الحل يكمن في الحصول على مزيد من التسلح ونظم الدفاع، مما يولد مناخا من التشكيك وعدم الثقة في العلاقات الدولية.

الاتجاه الثاني: الأمن الوطني ذو بعد اقتصادي إستراتيجي أكثر أهمية.

أوضحت تداعيات أزمة النفط في حرب أكتوبر 1973، أهمية تأمين الموارد الحيوية والإستراتيجية، والحفاظ على معدلات تدفقها إلى شرايين الاقتصاد العالمي، الذي يخص ـ في معظمه ـ الـدول الصناعية الكبرى. وقد أدى ذلك إلى تصاعد أهمية الموارد الإستراتيجية في درجات الأمن الوطني، وأصبحت إحدى ركائز الأمن الوطني للمجتمع الأوروبي والأمريكي. وعُرّف الأمن الاقتصادي بأنه “غياب التهديد بالحرمان الشديد من الرفاهية الاقتصادية” . كما وُضع تعريف للسيادة الاقتصادية؛ باعتبارها أكثر أبعاد الأمن الوطني خطورة وأهمية، بأنها “القدرة على التحكم في أكبر عدد ممكن من أدوات السياسة في المجال الاقتصادي.”

ومن التعريفات الواردة ضمن هذا الاتجاه:

تعريف لورنس كروز، و جوزاف. ناي Lawrence Kranse, J. Nye:” الأمن هو غياب التهديد بالحرمان الشديد، من الرفاهية الاقتصادية.”

يعود هذه التعريف، إلى مفهوم القوة والتهديد بالحرمان الشديد من الرفاهية، في مفهومها المادي المحسوس، وهو الجانب الاقتصادي، مشيراً إلى أهمية القوة الاقتصادية كركيزة رئيسية للأمن الوطني.

تعريف ج. هولسن، ج ويلبوك J. Holsen, J. Waelboeck: ” الأمن هو الأهداف التي تسعى الدولة لتحقيقها من خلال السياسات والبرامج، والعمل على توسيع نفوذها في الخارج، أو محاولة التأثير على سلوك الدول الأخرى أو تغييره.”

وعلى الرغم من أن هذا التعريف في جزئه الأخير، يعود إلى حالة العدوانية بالتوسع والتأثير على سلوك الآخرين وتغييره، إلاّ أنه يضيف متغيرا جديدا، وهو ضرورة السعي إلى تحقيق الأهداف، التي هي في مفهومه تعادل الأمن، من خلال التخطيط ووضع السياسات والبرامج والعمل على تنفيذها.

وعموما فقد ارتبط مفهوم الأمن الوطني لهذا الاتجاه، ذو المنظار الاقتصادي، بالحرب، ووضع كسابقه اختياراً صعباً بين السلاح والغذاء. فبينما عارض بعض الناس ارتفاع نفقات التسليح ونظم الدفاع عن الدولة، رأي آخـرون ـ خاصة الدول المصدرة للسلاح ـ غير ذلك نظرا لأنها تُوفر عمالة معتبرة، وتضخ في شرايين الاقتصاد الوطني عائدات مهمة، وتطوّر الصناعة الوطنية، فضلاً عن الاستثمار في خدمة ما بعد البيع، بتوريد مستلزمات الإصلاح والصيانة والتدريب والذخائر والتطـوير. وقد رفضـت الدول النامية ـ مرة أخرى باعتبارها الأكثر تضرراً من هذا المفهوم ـ الاعتراف بهذا الاتجاه قولاً، ومارسته فعلاً من خلال تكديس الأسلحة ومواصلة صيانتها بمبالغ ضخمة.

الاتجاه الثالث: النظرة الشمولية في تعريف مفهوم الأمن الوطني.

عبر روبرت ما كنمارا، وهو رجل اقتصادي وسياسيووزير الدفاع الأمريكي الأسبق، عن هذا الاتجاه في كتابه عن “جوهر الأمن” عندما قال: ” الأمن عبارة عن التنمية. ومن دون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن. وأن الدول التي لا تنمو في الواقع، لا يمكن، ببساطة، أن تظل آمنة.” (4)

وعبر ما كنمارا بتعريفه هذا عن مفهومه للأمن الوطني، بكلمة واحدة شاملة، هي ” التنمية”. حيث تشمل تلك الكلمة أبعاداً كثيرة، فهي تنمية عسكرية واقتصادية واجتماعية، تنمية للموارد والقوى المختلفة، تنمية للدولة والمجتمع، تنمية للعلاقات الخارجية والسياسة الداخلية. كما أنه لفت النظر إلى أن التنمية تعني في مضمونها، أيضاً، استمرار الحياة، وهو ما كان يؤكد عليه الآخرون ويخصونه بالتعريف. وربط ماكنمارا بين التنمية والقدرة على النمو والأمان.

فقد لاحظ أن امتلاك الأسلحة، لم يمنع الثورات والعنف والتطرف، وأن مثيري الشغب والاضطرابات من الفقراء. كما أن الدول الأكثر استخداماً للأسلحة والعنف و الحروب، هي الدول الأكثر فقراً، في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. وأرجع ماكنمارا هذه الظاهرة إلى الفقر، وضعف البنية الاقتصادية لتلك الدول، مما يضر بالأمن. وأن السلاح والقوه العسكرية، قد تكون جزءا من أجزاء الأمن ولكن ليست أهمها. وهذا المفهوم ينطبق على الدول الغنية والقوية، كما ينطبق على الدول الفقيرة. وربط ماكنمارا بين الأمن والتنمية، وأوضح أنها لا تعني فقط ـ أي التنمية ـ البعد الاقتصادي، بل يجب أن تشمل كل الأبعاد. فتنظيم الأمة لمواردها، وتنمية قدراتها يجعلها قادرة على الحصول على احتياجاتها الذاتية، وهو ما يساعدها على مقاومة الإخلال بالأمن أو اللجوء إلى العنف.

أدى مفهوم الأمن الوطني من منظار تنمية شاملة، إلى زيادة الفهم لمطالب وظروف الدول الفقيرة، والتأكيد على أن معالجة مشاكلها، تتطلب حلولاً اقتصادية ذات أبعاد اجتماعية، من دون اللجوء إلى المغالاة في رفع القدرات العسكرية وحدها. وبذلك تنجو تلك الأمم من الوقوع في معادلة الغذاء/ السلاح، والبعد عن ممارسة الأمن القمعي.

إن الاتجاهات الثلاثة التي تعرضنا لها في تعريف الأمن الوطني تكاد تعكس مجتمعة تصورا واضحا لحقيقة هذا المفهوم ويمكن أن نستخلص من خلالها الاستنتاجات الآتية:

01. يتضمن مفهوم الأمن جانبا سلبيا يتمثل في غاية الأمن الوطني والتي تدور حول حماية القيم الأساسية التي تكونت وتطورت داخل إحدى الدول، لا من التدخل العسكري الخارجي المباشر فحسب وإنما من أشكال التدخل الأخرى غير المباشرة.

02. كما يتضمن مفهوم الأمن جانبا ايجابيا يعكس إجراءات صانع القرار ومؤسسات النظام السياسي في الدولة، لتحقيق التنمية، ولضمان عدم تعرض المصالح الأساسية للتهديد أي السعي إلى التحرر من الشعور بعدم الأمن وتحقيق الرفاهية والاستقرار.

03. يتميز مفهوم الأمن الوطني بالنسبية والدينامية، وهذا ما يعكس صعوبة اتفاق دولتين أو عدد من الدول على مفهوم محدد للأمن الوطني، وذلك لاختلاف طبيعة المصالح وحجم القوة وطبيعة التحديات وأساليب المواجهة.

II.تحولات المشهد الدولي ودوافع الانتقال من المستوى الدولتي إلى المستوى الفردي للأمن.

لقد صار التغير سمة أساسية للحياة الدولية المعاصرة، وبات تدخله في شتى المجالات كبيرا، فهو يتدخل في الأنظمة والهياكل وحتى العمليات، ويتدخل على جميع المستويات:الفردي، الاجتماعي، الوطني والعالمي.

ولا يمكن- بالطبع – أن نضع كل التغيرات التي تحدث في خانة واحدة، فمنها البسيط ومنها الجذري فإذا تحدثنا عن التغيرات البسيطة فيمكننا أن نشير مثلا إلى مجالي الدبلوماسية والتجارة، أما إذا تحدثنا عن التغيرات الجذرية فسنشير فورا إلى التطورات التي تحدث على الصعيدين: النظامي ” Systemic “والهيكلي ” Structural ” والتي تعكس تحولات في الأنظمة وفي طبيعة الدول نفسها.

وقد أدت التطورات الجذرية والمتلاحقة التي شهدها العالم منذ مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي وحتى الآن إلى احتدام النقاش حول تبني تصور معين لمفهوم الأمن، فإذا كان التقليديون/الواقعيون يسعون إلى الحفاظ على المفهوم الضيق للأمن الدولتي/الوطني أو اقتراح مراجعات سطحية وشكلية بسيطة له، فإن تيار الدراسات الأمنية النقدية ((c.s.sيتبنى طرحا مغايرا لمفهوم وطبيعة الأمن من خلال مقاربة حديثة أنتجت العديد من المفاهيم في حقل الدراسات الأمنية، منها مفهوم الأمن الإنساني.

ولا يمكن أن نقف عند حقيقة هذا المفهوم وجوهره ما لم نتعرف على التغيرات التي دفعت إلى إعادة النظر في كافة الافتراضات الأساسية للمعادلة الأمنية في العلاقات الدولية. وهذه التغيرات حدثت على المستويين الآتيين:

أ/ تغير على مستوى الفاعلين:

لقد ارتكز التنظيم الدولي منذ معاهدة وستفاليا 1648، على النظر إلى مجموع الدول باعتبار أن كل دولة تمثل وحدة سياسية متميزة عما عداها من الدول، مما جعل العلاقات الدولية مقتصرة على صورتين من صور التعامل الدولي الرسمي ألا و هما الدبلوماسية و الإستراتيجية (الحرب).

و هكذا، في ظل النظر إلى الدول كوحدات مستقلة ومنعزلة عن بعضها البعض واقتصار التفاعل فيما بينها على أضيق نطاق. كان من الميسور الفصل بين ما يعد من الشؤون الداخلية للدول، و بين ما هو دولي أو خارجي، غير أنه بمرور الزمن أخذت هذه الفكرة تتراجع تدريجيا تحت ضغط التفاعل المتزايد فيما بين الدول سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، بحيث لم يعد ينظر إلى الحدود الإقليمية كحاجز أو كعائق يحول دون التفاعلات الدولية بسبب ظهور فاعلين جدد في العلاقات الدولية من غير الدول، فعلى المستوى الدولي تزايد دور المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية، وعلى المستوى العبر وطني برزت الشركات متعددة الجنسيات وكارتلات المخدرات والجريمة المنظمة، أما على المستوى تحت وطني فلا يمكن إغفال دور المجتمع المدني وخاصة الأقليات والجماعات الإثنية، التي تطالب بمزيد من الحقوق والمشاركة والاستقلال. ويلخص عــالم الاجتماع الأمريكي دانييل بل “Danial Bell” هذا الوضع في عبارته الشهيرة :” الدولة أصبحت أصغر من أن تتعامل مع المشكلات الكبرى وأكبر من أن تتعامل بفعالية مع المشكلات الصغرى”.(5)

“The State is becaming too small to handle really big problems, and too large to deal effectively with small ones.”

وكل هذه المتغيرات تفرض بالضرورة إحداث تغيير جذري في بنية الدولة الوطنية للتحول إلى “الدولة الشبكية”، لأن الشبكات المالية و التجارية والتكنولوجية والإعلامية والثقافية هي التي أصبحت تحدد الواقع القائم في العالم، وقد أدى ذلك إلى ظهور الفكرة التي عرفت بسياسات الترابط “Linkage Politics” بمعنى الترابط بين الأوضاع الدولية العالمية و بين الأوضاع الداخلية المحلية أو العكس.

وتبرز نقطة الاختلاف الرئيسة بين الدولة الوطنية والدولة الشبكية، أن الأولى ترتبط بإطار إقليمي محدد تمارس فيه نشاطها، في حين أن الثانية لا تقوم على إطار إقليمي محدد لأن العولمة أدت إلى إعادة توزيع القوى بين الدول والأسواق والمجتمع المدني، ومن ثم وجدت الدول من يشاركها في القيام بأدوارها الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية والأمنية، وذلك من خلال رجال الأعمال والمنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني و وسائل الإعلام وغيرها.

ومع هذا التحول في فواعل العلاقات الدولية لم يعد من المجدي علميا وواقعيا تركيز الاهتمام على الدولة فقط كموضوع مرجعي للأمن، لأن الدولة وسيلة لضمان أمن الفرد بضمان بقائه وتحقيق رفاهيته، ولا يمكن أن تكون هي المعنية وحدها بالأمن. فحماية الكائن البشري، أو الجماعة الإنسانية بصورة شاملة تجعل الهدف الأساسي هو البحث عن وسائل واستراتيجيات لضمان الأمن العالمي الشامل(Global Security ) والأمن الإنساني(Human Security) لذلك يركز المشروع النقدي في الدراسات الأمنية على اقتراح مفهوم جديد هو الأمن الإنساني.

ب/تغير على مستوى مصادر التهديد:

لاشك أن تحقيق الأمن الداخلي والحفاظ على الأمن الخارجي من الوظائف التقليدية للدولة والتي كان ينظر إليها فلاسفة السياسة كمهمة مركزية للدولة وكان الاعتقاد السائد لدى العديد من السياسيين الممارسين أن الواجب الأسمى للدول هو تولي هذه المهام بفاعلية. و قد ارتبط مدلول الأمن بمفهوم الخطر و التهديد، فلا نستطيع تعريفه إلا في مجال داخلي ودولي محدد وبذلك فهو يمثل المحصلة النهائية لمستوى ودرجة التحصين لكيان الدولة من الداخل والخارج. وبقي مفهوم الأمن محافظا على أهميته الجوهرية في عصر العولمة بكل أبعاده سواء الداخلية أو الخارجية، وليس ذلك غريبا ففي كل العهود والأزمنة كان للاقتصاد، الحروب والسياسة روابط ضيقة ومتقاربة(6).

إلا أن الجديد في هذا المجال يتمثل في القضايا والإشكالات الجديدة التي تواجه الدولة في عصر العولمة، الأمر الذي يفرض تطوير المهمة الأمنية للدولة وتحديث أساليب أدائها. وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى بعض القضايا الجديدة وما تتطلبه من أدوار أمنية للدولة على المستويين الداخلي و الخارجي:

01- التعرف على أنواع الجرائم التي تهدد الأمن الوطني كالجرائم الاقتصادية و منها غسيل الأموال التلاعب بالبورصة والفساد الإداري. ووضع مخطط علمي وعملي للتعامل معها حيث أن الآثار الناتجة عن مثل هذه الجرائم على أمن الدولة لا تقل عن التهديدات الخارجية ويدخل في هذا الشأن الجرائم الممكن حدوثها من خلال التجارة الإلكترونية والجريمة الدولية وتجارة المخدرات ودفن النفايات النووية و الكيميائية … الخ. وهكذا نجد أن مجالات الوظيفة الأمنية قد اتسعت وتعقدت بصورة غير مسبوقة، حيث أن مثل هذه الجرائم تهدد الأمن الوطني للدولة من زوايا مختلفة.(7)

02- مقاومة التطرف و الإرهاب، حيث أن ظاهرة التطرف والإرهاب تعد من الظواهر الخطيرة التي تهدد الأمن الوطني. وعلاج هذه الظاهرة لابد وأن يجمع بين الأساليب الأمنية، الاقتصادية الاجتماعية والنفسية، وعلى هذا الأساس أصبحت محاربة الفقر إحدى أدوات الأمن. ودعم التنمية عاملا مهما للاستقرار.(8)

03- فيما يتعلق بمفهوم الأمن الخارجي والذي يدور حول الحفاظ على سلامة إقليم الدولة براً بحرا وجوا، ومنع تعرضها للعدوان الخارجي و توفير القدرة اللازمة للتصدي له، هذا بالإضافة إلى الدفاع عن مصالح مواطني الدولة في الخارج، هذا المفهوم للأمن الخارجي لم يعد قاصرا على هذه الجوانب التقليدية. فاختراق إقليم الدولة لم يعد يتم بالوسائل العسكرية المباشرة و إنما يتم بوسائل تكنولوجية متطورة، من خلال الأقمار الصناعية وغيرها من وسائل جمع المعلومات الحديثة ويتم كذلك من خلال ما يمكن أن نطلق عليه ” الأساليب الذكية ” التي تدور حول تحليل البيانات الإستراتيجية للدولة والتعرف على كيفية إدراك صانع القرار السياسي للواقع السياسي الذي يعمل في إطاره داخليا وإقليميا وعالميا. ومن هنا فإن تحقيق الأمن الوطني على هذا المستوى لم يعد يتم من خلال الأساليب العسكرية وحدها، وإنما من خلال أساليب جديدة تعتمد على العلم والمعارف المتطورة.

وفي هذا السياق أصدر اتحاد العلماء الأمريكيين بيانا جاء فيه: “…إن العالم لم يعد يدار بالأسلحة بعد الآن أو الطاقة أو المال، إنه يدار بالأرقام والأصفار الصغيرة…إن هناك حربا تحدث الآن…إنها ليست لمن يملك رصاصا أكثر إنها حول من يسيطر على المعلومات، ماذا نسمع أو نرى؟ كيف نقوم بعملنا ؟ كيف نفكر ؟ إنها حرب المعلومات.”(9) وهكذا يضاف إلى مدلولات الأمن الواسعة مدلول جديد اسمه ” الأمن المعلوماتي”، يفرض على الدولة أخذه بعين الاعتبار في هذا القرن الذي تؤدي التكنولوجيا فيه دورا أساسيا .

04- وفي مجال الأمن الخارجي كذلك تبرز قضية التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول لاعتبارات إنسانية وقد أخذ هذا النمط يتخذ شكل النزعة الإنسانية المسلحة المتجسدة في بعث جيوش متعددة الجنسية لفرض احترام حقوق الإنسان في دول مختلفة.

وبذلك يقوم مبدأ التدخل الإنساني بوظيفة تبريرية توفر غطاء الشرعية الدولية لتدخل الدول الكبرى – وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية – في الشؤون الداخلية للدول الصغرى، مما يعد انتهاكا لمبدأ السيادة الوطنية. وهذا ما يعكس التحول الذي يشهده العالم من التركيز على مفهوم السيادة إلى التركيز على الأمن الدولي كما تتصوره القوى الكبرى.

وهكذا يتضح جليا أن التهديد العسكري الخارجي المتعلق بالحدود والأطماع الترابية وغيرها لم يصبح هو مصدر التهديد الوحيد لأمن الدولة ( كما يفترض أنصار التيار الواقعي).(10) فالدولة أصبحت تواجه أنماطا عدة من مصادر التهديد – كما رأينا- من قبيل تجارة المخدرات عبر الحدود، الجريمة المنظمة، انتشار الإرهاب الدولي، وانتشار الفقر والأوبئة والتلوث البيئيإضافة إلى الجرائم العالمية و الاتجار بالإنسان وأعضائه، والتي أصبحت من المشاكل المستعصية خاصة على الدول الفقيرة، ونخص بالذكر هنا تجارة الأطفال والنساء، وبيع مختلف أعضاء جسم الإنسان من كلى وغيرها.

و الأكيد أن القوة العسكرية لا تصلح كأداة لمواجهة تلك الأنماط من مصادر التهديد الذي تفوق آثاره المدمرة آثار التهديد العسكري المباشر. ورغم ذلك مازالت حكومات كثيرة تنفق على حماية مواطنيها من هجوم عسكري خارجي غير واضح المعالم ما لا تنفقه على حمايتهم من أعداء موجودين بينهم دائما كالفقر والأمراض والأخطار الحقيقية الأخرى التي تهدد الأمن البشري كل يوم.

III. الأمن الإنساني: وأولوية تأمين الإنسان/الفرد.

برز مفهوم الأمن الإنساني في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن العشرين كنتاج لمجموعة التحولات التي شهدتها فترة ما بعد الحرب الباردة فيما يتعلق بطبيعة مفهوم الأمن ونطاق الدراسات الأمنية. ويمكن تتبع جذور مفهوم الأمن الإنساني في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1945 الذي كان تركيزه منصبا على إرساء بعض القواعد الكفيلة بحماية حقوق الإنسان، وبالتالي تحقيق الأمن الإنساني. تلى ذلك بعض المبادرات المحدودة لطرح مفهوم الأمن الإنساني، إلا أنه لم يكن لها صدى كبير ودور مؤثر في طرح المفهوم على أجندة العلاقات الدولية. ففي عام 1966 ظهرت نظرية سيكولوجية كندية باسم “الأمن الفردي Individual Security” ومع بداية السبعينيات بدأت تظهر مجموعة من التقارير لبعض اللجان ومنها جماعة نادي روما واللجنة المستقلة للتنمية الدولية، واللجنة المستقلة لنزع السلاح والقضايا الأمنية. وقد أكدت تلك اللجان في تقاريرها على أهمية تحقيق أمن الفرد. وركزت على ما يعانيه الأفراد في كافة أنحاء العالم من فقر وتلوث، وغياب للأمن الوظيفي في سوق العمل، ومن ثم ضرورة دفع الاهتمام نحو مشاكل الأفراد.(11)

وكان أول استعمال رسمي لمفهوم الأمن الإنساني سنة 1994 في تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.(12) والذي يعتبر أول من ” نظر” لمفهوم الأمن الإنساني وأدخله بقوة في الدراسات الأمنية الموسعة وفي الاهتمامات الدولية، وتعميم استخدامه متجاوزا بذلك المنظار التقليدي (الواقعي). ويعد هذا التقرير اليوم مرجعية مفهومية في هذا المجال. (13)

ويرتكز مفهوم الأمن الإنساني بالأساس على صون كرامة الإنسان، و تلبية احتياجاته المعنوية بجانب احتياجاته المادية، والاقتراب الرئيسي هنا هو أن الأمن يمكن تحقيقه من خلال اتباع سياسات تنموية رشيدة، وأن التهديد العسكري ليس هو الخطر الوحيد الذي يتربص بالإنسان، ذلك أنه- التهديد- يمكن أن يأخذ شكل الحرمان الاقتصادي، وانتقاص المساواة المقبولة في الحياة وعدم وجود ضمانات كافية لحقوق الإنسان الأساسية. فتحقيق الأمن الإنساني يتطلب تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، وصون حقوق الإنسان وحرياته، والحكم الرشيد، والمساواة الاجتماعية وسيادة القانون.

وفي هذا السياق جاء في تصريح للأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان عام 1999: ” إن الكائن الإنساني هو مركز كل شئ، وحتى تصور السيادة الوطنية فهو منشأ من أجل حماية الفرد، والذي يعد سبب وجود الدولة وليس العكس، وإنه من غير المقبول رؤية حكومات تسلب حقوق مواطنيها تحت حجة السيادة.” (14)

أما فريديريكو مايور Frédérico MAYORالمدير السابق لليونيسكو فيرى أن: ” الأمن الإنساني يلتبس مع الحماية والدفاع عن الكرامة الإنسانية، ويعود إلى الأمم المتحدة ترقية جميع أبعاده، التي لايمكن فصلها عن حقوق الإنسان العالمية وغير القابلة للتجزئة.”(15)

ويذهب أحد الأوائل المنظرين لمفهوم الأمن الإنساني وهو وزير الخارجية الكندي ليود أكزورتي Lioyd Axworthy إلى تعريف الأمن الإنساني على أنه ” يعني حماية الأفراد من التهديدات سواء كانت مرفوقة بالعنف أم لا، فالأمر يتعلق بوضعية أو بحالة تتميز بغياب المساس بالحقوق الأساسية للأشخاص، بأمنهم وحتى بحياتهم.” (16)

وجاء في تقرير اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول الصادر سنة 2001 أن الأمن الإنساني يعني :” أمن الناس وسلامتهم البدنية ورفاههم الاقتصادي والاجتماعي، واحترام كرامتهم وقدرهم كبشر، وحماية حقوق الإنسان المملوكة لهم وحرياتهم الأساسية.” (17)

وإجمالا فإن هناك مكونين أساسيين للأمن البشري هما: التحرر من الخوف و التحرر من الحاجة.

ففي البلدان المتقدمة، يشغل الطرف الأول، أي التحرر من الخوف حيزاً كبيراً من تفكير الناس هناك، فهم يشعرون أن ما يهدد أمنهم هو خطر الجريمة و حرب المخدرات و انتشار نقص المناعة المكتسبة و تدني مستوى التربة و ارتفاع مستويات التلوث. أما في البلدان الفقيرة، فيحتاج الناس إلى التحرر من التهديد الذي يمثله الجوع و المرض و الفقر و عدم وجود المأوى. و أكثر المشاكل موجودة في البلدان النامية حيث يعيش أكثر من ثلث السكان تحت خط الفقر، و يعيش أكثر من مليار إنسان من سكان العالم على دخل يومي يقل عن دولا ر واحد. (18)

أما أهم عناصر الأمن الإنساني، فهو ما يسمى بالأمن الشخصي، ففي الأمم الفقيرة كما في الأمم الغنية تتعرض حياة الإنسان بدرجات متزايدة لتهديدات تأخذ أشكالاً عدة مثل:

– تهديدات من الدولة (التعذيب البدني و الملاحقة نتيجة اعتناق آراء مخالفة للرأي السائد…).

– تهديدات من جماعات أخرى من المواطنين (التوتر العرقي…).

– تهديدات من أفراد أو عصابات ضد أفراد آخرين أو ضد مجموعات أخرى (الجريمة و العنف

في الشوارع..).

– تهديدات موجهة ضد المرأة (الاغتصاب و العنف المنزلي…).

– تهديدات موجهة إلى الأطفال (إساءة معاملة الأطفال…).

– تهديدات موجهة إلى النفس (الانتحار و إدمان المخدرات…).

ولا شك أن مفهوم الأمن الإنساني قد حظي بقوة دفع شديدة في السنوات الأخيرة، ولعل من إرهاصات دمجه في السياسات الخارجية تبني بعض الدول للمفهوم كجزء من أجندة سياستها الخارجية ومنها اليابان وكندا، حيث وضعتا المفهوم كأحد الأهداف الأساسية في سياستهما للمساعدات والمعونات الخارجية وشروط وأوجه توظيفها ليتم توجيهها لمشروعات بناء القدرات الذاتية للأفراد والمجتمعات المحلية لتوفير مقومات الأمن الإنساني بما ينعكس على تحسين نوعية الحياة للبشر في مساراتهم اليومية.

وقد حدد تقرير التنمية البشرية لعام 1994 أربع خصائص أساسية للأمن الإنساني هي:

– الأمن الإنساني كوني يخص كل البشر وفي كل أرجاء المعمورة، في الأمم الغنية والفقيرة. لأن هناك عدة تهديدات مشتركة لكل البشر مثل البطالة، المخدرات، التلوث وانتهاكات حقوق الإنسان، وقد تختلف حدتها من منطقة لأخرى في العالم ولكنها موجودة كلها وبصور متنامية.

– مكونات الأمن الإنساني متكاملة يتوقف كل منها على الآخر، إذ أن تعرض هذا الأمن للتهديد ليس حبيس الحدود الوطنية للدول، بل يمس كل الأمم والشعوب.

– الوقاية المبكرة أسهل وأقل تكلفة من التدخل اللاحق في صيانة الأمن الإنساني ذلك أن التصدي لتلك التهديدات أقل تكلفة في بداية منشئها منه في المرحلة اللاحقة.

– الأمن الإنساني محوره الإنسان وهو يخص نوعية حياة البشر في كل أرجاء المعمورة.(19)

وهناك عدد آخر من الأسس أو الدعائم التي يقوم عليها المفهوم التي تناقشها الأدبيات المختلفة، ومنها (20):‏

– الأداة الفاعلة في تحقيق الأمن الإنساني هي ما يطلق عليها القوة اللينة المتجسدة في التنمية البشرية وتحقيق الديمقراطية. ومن ثم، يمكن تحقيق الأمن ‏الإنساني من خلال التغيير الهيكلي بدلا من الأداة العسكرية. ‏

– إذا ما تم استخدام القوة لتحقيق الأمن الإنساني في مناطق النزاع أو في الأنظمة الاستبدادية الشرسة فهذا لا بد أن يتم بطريقة قانونية، ‏وجماعية، وتحت مظلة المنظمات الدولية. فالدول والمنظمات الإقليمية والدولية (الحكومية وغير الحكومية ) يجب أن تتفاعل معًا لتشكيل ‏قواعد العمل في مجالات الأمن الإنساني؛ إذ لا تستطيع دولة بمفردها مواجهة مصادر تهديد الأمن الإنساني. ‏‏

– أي سياسة اقتصادية أو أمنية لصانع القرار يجب أن تشتمل على بعد اجتماعي، ويركز مفهوم الأمن الإنساني على أن السياسات العامة ينبغي ‏أن تركز على مواجهة كافة أشكال الاضطهاد والاستبعاد. ‏

– إذا كان تحقيق الأمن وفقا للمنظار التقليدي يعد مباراة صفرية، فإن تحقيق الأمن الإنساني يعد مكسبًا لجميع الأطراف من أجل التنمية ‏البشرية المتوازنة والأمن الجماعي طويل المدى. ‏

– رغم أن المفهوم يتجاوز النظرة التقليدية لأمن الدولة، فإنه لا يعني تهميش دور الدولة؛ ففي التحليل النهائي الدولة هي المسئولة عن توفير ‏الأمن للمواطنين خاصة في ظل تعقد مصادر تهديد أمن الأفراد في ظل العولمة.

والملاحظ أن مفهوم الأمن الإنساني يحدث تمييزا بين أمن الدول وأمن الأشخاص على أساس أن الأول لا يحقق الثاني؛ فأمن الدولة رغم أهميته لا يعدو إلا آن يكون جزءًا من أجزاء البناء الأمني المتكامل. بمعنى أن أي نظام عالمي آمن ومستقر يبنى أمنيًا من أسفل (الأفراد) إلى أعلى (العالم). ومن ثم، فإن أمن الدولة مجرد مساحة وسيطة. وهذا يعني أن الأمن الإنساني يجمع بين البعدين المحلي والعالمي للأمن. فهو كوني البعد مثله مثل الأمن البيئي. أي على أساس ترابط أمن الشعوب والدول متبنيا بذلك مقاربة تعاونية لتحقيق الأمن الشامل.(21)

بيد أن مفهوم الأمن الإنساني لا يحل محل الأمن الوطني للدولة، وإنما يرى أن الدولة تهتم أكثر بقضايا الأمن الخارجي بتفضيلها أمن ” الوسائل” على أمن ” الأهداف”، فالدولة هي الوسيلة، أما الفرد فهو الهدف والغاية. وإذا طرحنا السؤال التقليدي في الدراسات الأمنية وهو: من يجب تأمينه؟ فإن المقاربة النقدية في الدراسات الأمنية ومن خلال مفهوم الأمن الإنساني ترجح أمن الهدف على أمن الوسيلة.

والخلاصة أن مفهوم الأمن الإنساني جاء نتاجا لمجموعة التحولات التي شهدتها فترة ما بعد الحرب الباردة وسجل بوضوح تجاوزا نظريا لمضامين الأمن التقليدية، التي كانت تتخذ من الدولة موضوعا مرجعيا لها. ليصبح الإنسان(الفرد) الموضوع المرجعي الأساسي للأمن. غير أن الحديث عن الأمن الإنساني كتصور نقدي للأمن بمضامينه التقليدية لا يعني قطيعة حقيقية مع أمن الدولة أو ما يعرف بالأمن الوطني، فالدولة هي المسؤول الأول على تأمين وضمان أمن الأفراد وبالتالي المقاربة الأمنية لعالم ما بعد الحرب الباردة لا بد أن تقوم على التعاون مع الدولة وعبرها وليس بالتناقض معها.

الـهـوامـش:

1- يعتبر باري بوزان واحدا من الذين حاولوا تقديم صياغة متكاملة لمفهوم الأمن المجتمعيوالذي يشير حسب

اعتقاده إلى:” استطاعة المجتمع البقاء والدوام على مقوماته في ظروف مقبولة للتطور، والحفاظ على الأسس

اللغوية، الثقافية والتقليدية.”

ولمعرفة المزيد عن هذا المفهوم يرجع إلى: حجار عمار،السياسة المتوسطية الجديدة للاتحاد الأوربي:

استراتيجية جديدة لاحتواء جهوي شامل.مذكرة ما جستير(غير منشورة)، قسم العلوم السياسية، جامعة

باتنة، 2003، ص 68 وما بعدها .

2 -Brain L. Job, “Coming to Terms with Changing Norms of International Relations across Global and Regional Levels” in Mely C. Anthony & Mohamed Jawhar Hassan (eds.), The Asia Pacific in the New Millennium: Political and Security Challenges, (Malaysia: Institute of Strategic and International Studies, 2001) PP. 261-263.

3 – يمكن العودة لتفصيلات هذه الاتجاهات ضمن موسوعة مقاتل من الصحراء الالكترونيةعلى الرابط الآتي: www.moquatil.com

4- روبرت مكنمارا، جوهر الأمن. ( يونس شاهين) ، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970،

ص125

5- مازن غرايبة، “العولمة وسيادة الدولة الوطنية “. أعمال الملتقى الدولي: الدولة الوطنية والتحولات الدولية

الراهنة، كلية العلوم السياسية والإعلام، جامعة الجزائر، 2004، ص07

6- Carlo JEAN , “Conséquences politiques et sécuritaires de la Globalisation”

.in: Mondialisation et sécurité,(actes du colloque international Mondialisation et

sécurité.CDN) Edition ANEP, Alger, 2003, p161.

7- محمد سعيد أبو عامود،”الوظائف الجديدة للدولة في عصر العولمة”. مجلة الديمقراطية، عدد3 ،صيف2001 ،

ص78 .

8- Carlo JEAN , Op.cit , p171

9- عبد الوحيد . م، “حرب المعلومات…تحديات القرن الواحد و العشرين”. مجلة الجيش، عدد482،

سبتمبر2003، ص9.

10- محمد شلبي،” الأمن في ظل التحولات الدولية الراهنة”. أعمال الملتقى الدولي: الدولة الوطنية والتحولات

الدولية الراهنة، كلية العلوم السياسية والإعلام، جامعة الجزائر، 2004، ص 157.

11- خديجة عرفة، تحولات مفهوم الأمن.. الإنسان أولا. على الرابط الالكتروني:

http://www.islamonline.net/arabic/mafaheem/2003/09/article01.shtml

12- CHARLES- Philippe David et JEAN François Rioux. Le concept de sécurité humaine , in : JEAN François Rioux (dir), la sécurité humaine : une nouvelle conception des relation internationales. L’harmattan, paris, 2001, p 21.

13- عبد النور بن عنتر، البعد المتوسطي للأمن الجزائري: الجزائر، أوربا والحلف الأطلسي. الجزائر، المكتبة

العصرية للطباعة ، 2005، ص 28.

14 – CHARLES- Philippe David et JEAN François Rioux, op.cit.p19

15 – DANIEL Colard, la doctrine de la “sécurité humaine” : le point de vue d’un

juriste. in : JEAN François Rioux (dir), la sécurité humaine : une nouvelle

conception des relation internationales .op.cit. p 33.

16- Ibid, p 34.

17 – Report of the International commission on intervention and states sovereignty,

December 2001, p15. sur le site internent : www.idrc.ca/booktique.

18 – نضال عبود، مفهوم الأمن الإنساني. الحوار المتمدن ، العدد 1576، 9/6/ 2006 على الرابط الالكتروني:

www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=67007

19- عبد النور بن عنتر، مرجع سابق، ص29 .

20- خديجة عرفة، مرجع سابق.

21- عبد النور بن عنتر، مرجع سابق، ص 31.

الأستاذ: جمـال مـنصـر
جامعة باجـي مـخـتار عـنابة

 

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button