تركيا والتمدد الزائد – وليد عبد الحي

هل يمكن تطبيق نظرية المفكر الامريكي بول كينيدي حول ” التمدد الزائد” على القوى الاقليمية في الشرق الأوسط (غرب آسيا) وبخاصة على تركيا ؟ فطبقا لأدبيات العلاقات الدولية فإن القوة الاقليمية هي التي تحوز على أكبر قدر ممكن من المتطلبات التالية:
1- ان تنتمي لاقليم محدد جيوسياسيا وجيواستراتيجيا وله هوية محددة تاريخيا ، وعند النظر الى تركيا فإنها تحاذي ثلاثة أقاليم هي : الشرق الاوسط(ايران والعراق وسوريا بحدود طولها 1673 كم نصفها تقريبا مع سوريا) واقليم القفقاس ( مع كل من جورجيا وأرمينيا وأذربيجان بحدود مجموعها 529 كيلو متر ) و اقليم البلقان( مع بلغاريا واليونان بحدود طولها 446 كيلومتر) ، ولعل هذا الموقع الجيواستراتيجي ينطوي على مغانم ومغارم في الوقت ذاته، فوضع استراتيجية تتواءم مع التوجهات الاستراتيجية للاقاليم الثلاثة أمر في غاية التعقيد بخاصة في ظل الإحن التاريخية مع بعض مكونات هذه الأقاليم كما هو الحال في مشاكلها مع سوريا والعراق واحيانا ايران ، ومشاكلها التاريخية وانعكاسات موقفها من الموضوع الأرمني من ناحية ومساندتها- في السابق- لأذربيجان في الصراع مع أرمينيا على اقليم ناغورني كارباخ، ثم مشكلاتها القديمة الجديدة مع اليونان بخاصة حول بحر ايجة والغاز وشمال قبرص.
2- ان تكون- الدولة الاقليمية المركز- متمتعة بدرجة استقرار عالية تكشفها مؤشرات الديمقراطية والاستقرار السياسي وعدالة توزيع الدخل، فتركيا تحتل في مؤشر الديمقراطية المرتبة 110 من بين 167 دولة، بينما تحتل في معدل الاستقرار السياسي طبقا لمقياس كوفمان (+2.5 الاعلى استقرارا و -2.5 الأدنى استقرارا) ما قيمته – 1.33(وبهذا فهي تحتل المرتبة 175 من بين 195 دولة وهو ما يمثل انعكاسا للأزمات الحدودية مع سوريا والتناحر الدامي مع الأكراد بخاص أكراد تركيا الذين يصل عددهم الى حوالي 15 مليون نسمة )، أما في مؤشر عدالة توزيع الدخل فتحتل تركيا مكانة تقع بين المقبول والضعيف بمعدل 41.9 ، ذلك يعني ان التمدد الاقليمي لا يتكئ على بنية داخلية موازية لحجم التمدد.
3- ان تتوفر على مكونات كافية من القوة الخشنة( العسكرية والاستخباراتية) والقوة الناعمة( الامكانيات الاقتصادية والعلمية والثقافية والسكانية). فمن حيث القوة الخشنة تحتل تركيا المرتبة التاسعة عالميا في القوة العسكرية، وفي اجمالي الناتج المحلي تحتل المرتبة 18 عالميا بقيمة حوالي 810 مليار وبمعدل دخل فردي يصل الى حوالي تسعة آلاف دولار وتحتل المرتبة 70 عالميا، مع ملاحظة ان هذا المعدل يتراجع منذ عام 2012 عندما وصل الى حوالي 12 الف وخمسمائة دولار ، وتحتل المرتبة 20 في البحث العلمي والمرتبة 17 في عدد السكان، أي ان مقومات القوة التقليدية في تركيا تنطوي على قدر من الغواية لصانع القرار ليتمدد، لكن الخطأ في الحساب هنا هو أن المقارنة مع القوى الإقليمية المنافسة( اسرائيل وايران) يجب ان لا يحجب النظر عن المقارنة الأهم بين حجم الامكانيات وبين مساحة الطموح الاستراتيجي، ولا يجوز التفكير بالمرجعية التاريخية المتمثلة في التمدد العثماني نظرا لعمق التحولات في بنية واستراتيجيات القوى الاقليمية والدولية المعاصرة.
4- عدد المنافسين لها في الاقليم على مكانة ” الدولة المركز”، يمكن القول بأن كلا من ايران واسرائيل تمثلان قوى منافسة في الشرق الاوسط، وتمثل اليونان دولة بلقانية لا تحبذ أي مركز اقليمي مهيمن لتركيا( لأسباب تاريخية وجيواستراتيجية كثيرة )، كما ان علاقاتها السورية( صاحبة اطول حدود لتركيا) هي في اسوأ اوضاعها حاليا.
فإذا اضفنا لما سبق ، التمدد التركي باتجاه الخليج( قاعدة عسكرية في قطر) والتدخل المباشر في المغرب العربي( ليبيا خاصة في عام 2019 مع الاتفاق التركي الليبي على التعاون العسكري وعلى رسم الحدود البحرية بين الطرفين) وذلك بهدف محاولة تشكيل جبهة ضغط على مصر بالتقارب مع الجزائر( لقاء تركي جزائري مؤخرا) وتونس( زيارة الغنوشي الأخيرة لتركيا وما أثارته من تفاعلات داخلية في تونس)، ثم التزاحم مع دول متوسطية حول الغاز وتمريره واكتشافه ، ناهيك عن العلاقة التركية مع قوى فلسطينية لا سيما حركة حماس، الى جانب اعتبار تركيا نفسها احد قواعد الارتكاز لحركة الاخوان المسلمين كأحد أدوات القوة الناعمة. وفي هذا الاطار من الضروري التوقف عند العلاقات التركية الاسرائيلية لفهم الاستراتيجية التركية، إذ تشكل العلاقات التركية مع اسرائيل صورة سريالية يصعب تصنيفها ، فتركيا اعتادت على ان تنتقد اسرائيل وتتوتر علاقاتهما معا بين الحين والآخر كما وقع بعد حادثة سفينة المساعدات التركية لقطاع غزة او في الحروب على القطاع (بخاصة فترة 2008- 2010 واعتذرت اسرائيل عن موقفها عام 2013) لكن تركيا لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع اسرائيل منذ 1949( كأول دولة اسلامية تعترف باسرائيل) ، بل إن علاقاتهما التجارية والسياحية تتصاعد سنويا لتكون تركيا هي الشريك التجاري الاول حاليا لاسرائيل في الشرق الاوسط، وهذا التذبذب في الموقف التركي مع اسرائيل يكاد ان يكون ظاهرة ثابتة، فاضافة لما اشرت له، نشرت الواشنطن بوست تقريرا عن قيام تركيا بتسليم اسماء عشرة عملاء ايرانيين التقوا في عام 2012 بعملاء موساد من الذين يعملون في ” تركيا” ، وهو ما نفاه داوود اوغلو في حينها، لكن الواشنطن بوست في نفس المقال ذكرت ان رئيس الاستخبارات التركي Hakan Fidan. كان المسؤول الأول على تسهيل تمرير السلاح للمعارضة السورية في الوقت الذي كانت اسرائيل تعالج فيه بعض جرحى المعارضة السورية. وفي عام 2004 اعترضت تركيا على قيام اسرائيل باغتيال الشيخ احمد ياسين وأدانتها، لكن أردوغان ذهب الى اسرائيل بعد شهور في عام 2005 وعرض في لقاءاته مع رئيس الوزراء حينها(شارون) والرئيس الاسرائيلي ( موشيه كتساف) القيام بدور الوسيط بين اسرائيل وسوريا، ووضع اكليلا من الورد على نصب” الهولوكوست ، وبعدها بسنتين زار الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز تركيا وتلقى خلالها وعدا من الرئيس عبدالله غول بالمساعدة في الافراج عن 3 جنود اسرائيليين مختطفين(كان من بينهم الجندي شاليط) ، ثم عادت فكرة الوساطة بين سوريا واسرائيل عام 2008 والتي لم يكن لها فرصة للتحقق بعد مشكلة السفينة التركية الى غزة، وعاد التوتر من جديد بين البلدين بعد اتهام اردوغان لاسرائيل بأنها ساندت الانقلاب العسكري في مصر والذي اطاح بالرئيس المنتخب محمد مرسي مستندا على فيديو للمفكر الفرنسي هنري ليفي (شاركه فيه وزيرة الخارجية الاسرائيلية السابقة تسيبي ليفني) يقول فيه ليفني( ان اسرائيل لن تسمح للاخوان وبكل الطرق ان يحكموا مصر)( الفيديو على الموقع التالي: https://www.youtube.com/watch?v=DWnr27FvNhs).
والحقيقة هي ان التذبذب التركي في العلاقة مع اسرائيل يشكل ظاهرة بين الطرفين منذ 1949 وطيلة الفترة اللاحقة وقبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، فقد توترت العلاقة عام 1956( على اثر العدوان الثلاثي على مصر ) لكن وبعد عامين فقط (1958) التقى بن غوريون ورئيس الوزراء التركي حينها عدنان مندريس لبحث فكرة تشكيل حلف الضواحي او حلف الاطراف(peripheral pact )، ثم عادت العلاقة للتوتر من جديد عام 1967 بعد الحرب العربية الاسرائيلية ، لكن تركيا رفضت قرارات منظمة المؤتمر الاسلامي التي نصت على قطع العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل بعد حريق المسجد الاقصى عام 1969، وتوترت العلاقات بين الطرفين ثانية عام 1980 بعد قرار اسرائيل ضم القدس ،
وبالاضافة لانغماسها في الجوار الاقليمي( الشرق الاوسط والقفقاس والبلقان) والجوار البعيد (ليبيا والخليج وغزة) فان تركيا منغمسة في شأن دولي من خلال عضويتها في حلف شمال الاطلسي(الناتو)، وتحاول استثمار علاقاتها مع روسيا ومع أمريكا ومع بعض اطراف الاتحاد الاوروبي، فتركيا عضو في الناتو منذ 1952،لكنها مثلا رفضت تمرير القوات الغربية لمهاجمة العراق من الشمال عام 2003 لكنها شاركت مع الناتو في غزو ليبيا الى جانب بقائها مترابطة مع المنظومات الدفاعية للناتو وهو ما أثار روسيا التي تتارجح علاقاتها بصمت أحيانا وببعض الضجيج أحيانا أخرى مع تركيا ثم تعود للوئام ( لنتذكر فقط وقائع اسقاط الطائرة تلاه تقارب ثم تضارب في الموقف من ليبيا ثم تمرير خط غاز الى اوروبا لصالح روسيا التي تريد تقليص الاعتماد على تمرير غازها من أوكرانيا الى جانب شراء منظومات دفاعية روسية رغم اعتراض الناتو..الخ)، وفي علاقات تركيا مع الصين ثمة الارث التاريخي والاحتجاجات التركية على ما تعتبره سياسات تمييزية ضد المسلمين الصينيين (اليغور) في الاقاليم الغربية للصين (سينكيانغ)، وهو ما اثاره اردوغان أكثر من مرة رغم ان الصين تقف على رأس قائمة الدول المصدرة لتركيا.
ماذا نستنتج من ذلك كله:
1- ان المصلحة العليا لتركيا هي المحرك الرئيسي لسياستها الخارجية وأن البعد البراغماتي في هذه السياسة أوضح من أي محاولة لتغليفه بمنظور معياري.
2- أن الموضوع الكردي هو الأكثر اقلاقا لتركيا ، ويبدو ان النجاح في تسوية هذه المعضلة ما زال متواضعا للغاية ، مما يعني ان هذه المشكلة سترافق تركيا لفترة أطول مما تعتقد قيادتها.
3- أن التمدد التركي الذي اشرنا له في اقاليم ومستويات التفاعل الدولي المختلفة يدل على طموح استراتيجي مشروع (بالمنظور البراغماتي) ، لكن عضلات تحقيق هذا المشروع ( أي توظيف المركزية الاقليمية والارتباط العضوي مع القوى الغربية في بعض الجوانب والتشبث بالعلاقة مع اطراف الخصومات في المنطقة( مع اسرائيل والاخوان، مع روسيا وأمريكا، مع ايران ضد الاكراد وضدها في سوريا، مع الناتو وشراء صواريخ روسية، مع المؤتمر الاسلامي ولهفة على عضوية الاتحاد الاوروبي..الخ) لا يتوازى مع مساحة الطموح التركي ، وهو ما يعني أن تركيا مضطرة لاحقا لاعادة النظر في حدود الطموح وباتجاه تقليصه لتتوازى المغانم مع المغارم ، وهو ما ينطوي على احتمالات تحولات تركية داخلية ترافق ذلك في المدى الزمني القصير الى المتوسط.
4- ان العلاقة التركية الاسرائيلية منذ 1949 أخذت طابعا غير صفري وعرفت تذبذبا مستمرا ، وان وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة لم يغير من براغماتية هذه العلاقة وتذبذباتها، وهو ما يرجح بقاء هذه الظاهرة في المدى المنظور.
5- ان موقف الاخوان المسلمين تجاه تركيا يجب ان يتم بناؤه على اساس ” براغماتية الاستراتيجية التركية” مهما توضأ صاحبها…ربما.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button