تصدّع ركائز المنتظم الدولي والحرب العظمى القادمة

كثيرًا ما يُقال إنّ قبل كل انهيارٍ عظيمٍ للقوى القائمة هناك فترة من السلام، وقبل كل صعود عظيم لقوى جديدة هناك فترةٌ من الاضطرابات. حاليًا، تواجه بنية المنتظم الوستفالي[1] أزمة منهجية إلى حد ما، تخضع ركائزه باستمرار لضغوطات من القوى التي لم تعد تتّفق على قواعد اللعبة أو قواعد التفاعل السياسي بداخله. وعلى الرغم من عدم التوصّل إلى بديل متّفق عليه، وبخاصة بين القوة القائمة أي الولايات المتحدة الأميركية، والقوى الصاعدة كالصين وروسيا، بدأت ركيزة الدولة القومية التاريخية، صاحبة السيادة المطلقة تشهد تحدّيًا من قبل فاعلين لا يمتلكون عنصر السيادة، ولكن يمتلكون قدرات موازية لقدرات الدول. ففي السنين العشر القادمة، لم تعد بنية المنتظم متجانسة، لأنّ من كان يحتكر الساحة الدَولية في السابق، سيتشاركها مع عدد آخر من الفاعلين من غير الدول، بعضها يمتلك قدرات اقتصاديةً هائلةً، كالشركات العابرة لحدود الدول، وبعضها يمتلك قدرات عسكرية نوعية، كالتنظيمات الإرهابية المتطرّفة.

وتعود هذه التحوّلات البنيوية إلى الدور الجوهري الذي تؤدّيه الابتكارات التكنولوجية في مسار توازن القوى العالمي، أي في استقرار المنتظمات الدولية، سواء من حيث تأثيرها على نمط توزّع القوّة أو على طبيعة الفاعلين في بنية المنتظم الدولي. فلا فرق بين منتظم وآخر، إلّا في نمط توزّع القوّة، وطبيعة الفاعلين أو القوى الرئيسة في بنيته الفوضوية، لأنّ الابتكارات التكنولوجية تعزّز القدرات الاقتصادية والعسكرية ووضعية القوى في المنتظم الدولي، وهذا سيؤدّي إلى تغيّر في توزّع القوّة أي في نمط توازن القوى العالمي. أما الذي ميّز الحربين العالميتين الأولى والثانية، فهو محاولة ألمانيا تغيير مسار توازن القوى مرتين، أي تغيير نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم التي تتلاءم مع رؤيتها للسلام أو الاستقرار العالمي، بعد أن ارتفعت قوّتها الصناعية والاقتصادية والعسكرية، ما دفعها إلى التوسّع إقليميًا بحثًا عن أسواق اقتصادية، وأدّى في المحاولتين إلى نشوب حرب عظمى. بعدها أتت الحرب الباردة كتوازن قوىً بين قطبين، وكان الوضع مستقرًا نسبيًا إلى أن اتّسعت الفجوات الإنتاجية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية بينهما، وانتهت بصمود القطب الليبرالي بقيادة واشنطن، وسقوط القطب الاشتراكي بقيادة موسكو. وظلّ دور الابتكارات التكنولوجية وتأثيرها يرتفعان، مع دخول عالمنا في القرن الحادي والعشرين مسار التوازن العالمي بين القوى العظمى، مع صعود بكين وموسكو اقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجيًا، وبشكلٍ أكبر على حجم الاختلافات الثقافيّة بينها وبين القوى القائمة كواشنطن من جهة، والتنظيمات الإرهابية المتطرّفة العابرة للحدود من جهة أخرى، التي يمتلك كل منها رؤية مختلفة لنمط السلام أو الاستقرار العالمي في المنتظم الدولي. من هنا، نطرح الإشكالية الرئيسة التالية: هل ترفع التحوّلات التكنولوجية والجيواقتصادية والثقافية للقوى الرئيسة في بنية المنتظم الدولي من احتمال نشوب حرب عظمى جديدة بينها؟

سنقوم أوّلًا بوضع إطار نظري يشرح العلاقة بين الابتكار والتطوّر التكنولوجي، وتحوّلات نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم الدولي، ومسار التوازن العالمي، مع تحديد المفاهيم العلمية المطروحة بالإشكالية الرئيسة كتحديد ماهيّة السلام العالمي. بالتوازي مع ذلك، سنلجأ لمقارنة أحداث تاريخيةٍ مهمة وأخرى حالية لتحديد العلاقة بين التحوّلات التكنولوجية وفهمها وصعود القوى العظمى وسقوطها صناعيًا واقتصاديًا وعسكريًا، ولاستخلاص تأثيرها العام على انهيار المنتظمات الدولية وقواعد التفاعل السياسي، وصولًا إلى الإجابة عن الإشكالية الرئيسة، أي تحديد النتيجة المحتملة في المستقبل لتصدّع بنية المنتظم الدولي حاليًا نتيجة بروز قوى تمتلك رؤى متناقضة للسلام العالمي، أي لنمط توزّع القوّة العالمي.

لذلك، ارتأينا أن نتناول في الفقرة الأولى، دور الابتكارات التكنولوجية الجوهري في تغيير توزّع القوّة في بنية المنتظم. من خلال الإحاطة أوّلًا، بتحوّلات القوّتين الأفقية والعمودية وعلاقتها بالسلام العالمي. وثانيًا، سنراقب أثر الابتكار التكنولوجي والنّمو الاقتصادي في التوازن العالمي. أمّا في الفقرة الثانية، سنطرح مستقبل المنتظم الدولي، بين الحرب أو المنافسة كطريق للسلام العالمي. وذلك أولًا، من خلال دراسة مسار العولمة التكنولوجية وتأثيرها في مراكز التوازن العالمي في القرن الحادي والعشرين، وبشكل خاص بين بكين وواشنطن. أما ثانيًا، سنحدّد التحدّيات الحالية التي تضغط على بنية المنتظم وهل ستكون نتيجة ذلك حرب عظمى أم منافسة مستمرة بين أربع رؤى متناقضة للسلام العالمي؟

الابتكارات التكنولوجية المحرّك الأساسي للقوّة في بنية المنتظم

أولًا: تحوّلات القوّتين الأفقية والعمودية والسلام العالمي

إنّ الركيزة الأساسية التي يقوم عليها كل منتظم دولي ويتميّز بها هي نمط توزّع القوّة بين الوحدات التي تتفاعل في بنيته بشكل دائم ومتين. لذلك، يفترض أن ينطلق كل تحليل للتوازن العالمي أو السلام العالمي من دراسة دقيقة لنمط توزّع القوّة وتحوّلاتها في بنية المنتظم، لأنّ كل تغيّر لتوزّع القوّة والنفوذ ستلحظه بنية المنتظم، كصعود لقوىً وانحدار لقوىً أخرى، سيغيّر مسار التوازن العالمي بين القوى التي هي في حالة دائمة من الصراع أو المنافسة. بمعنى آخر، إنّ التوازن العالمي ليس مسارًا جامدًا، بل ديناميكيًا أو متحركًا، له وظيفةٌ أساسيةٌ في تثبيت الاستقرار أو السلام العالمي من خلال المحافظة على فوضوية بنية المنتظم – أي عدم وجود حكومة عالمية، وهو أمر يترجم في استقلالية القوى العظمى، التي تسعى دائمًا لزيادة قوّتها حتى لا تخضع لسلطة أعلى منها. لذلك، فإنّ تحقيق الاستقرار العالمي لا يعني إنهاء الحروب، إنّما قبول القوى بنمط توزّع القوّة أو توازنها، وترجمة هذا الرضى بالتزامها قواعد اللعبة أو التفاعل السياسي أي النظم الدولية، ومنع تفاقم الاضطرابات والنزاعات أو خروجها عن إطار معيّن.

على سبيل المثال، يعلّمنا التاريخ، أنّ السبب الرئيس خلف انتهاء “سلام المئة عام” (1815-1914) الذي أعقب الحروب النابليونية، وفي اندلاع الحرب العالمية الأولى بين الدول الأوروبية، كان نتيجة التغيّرات التي طرأت على نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم الدولي أي على توازن القوى بين الدول الأوروبية – القوى الرئيسة في بنية المنتظم الدولي – وانتهاج ألمانيا لسياسات تغيير الوضع القائم. ولكن، ذلك لا يعني أنّ تلك الفترة لم تشهد نزاعات على الإطلاق، إنّما حتى خلال السنوات المئة الأخيرة من السلام، شاركت الدول الأوروبية في حروب محدودة وغزوات بهدف التوسّع الإقليمي، كذلك، دخلت في سباق التسلح بوتيرة متصاعدة بلغت ذروتها في الحرب العالمية الأولى.

وبعد عقدين من الزمن، اندلعت حرب عالمية ثانية بين القوى العظمى، كان أحد أسبابها البنيوية غياب قوّتين رئيستين، هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، عن مسارات توازن القوى لتثبيت الاستقرار العالمي، ما يعني غياب القوى القادرة على ردع ألمانيا من إعادة انتهاجها لسياسات تغيير الوضع القائم، أي حاجة القوى القائمة إلى إعادة تركيز القوّة واستقرارها بين عدد محدود من الوحدات المتشابهة وظيفيًّا.

وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، توزّعت القوّة في بنية المنتظم بين قطبين هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. ودام نوع من “سلام بارد” بين الإيديولوجيتين الشيوعية والرأسمالية لأقل من نصف قرن، أي لم تحدث أي حرب مباشرة بين القطبين، لكن اتّسمت الحرب الباردة بالإنفاق العسكري الهائل، والأزمات الخطيرة، وحروب بالوكالة، وسباق التسلّح النووي، والتسابق الفضائي، ما أدى إلى استنفاذ قوّة الاتحاد السوفياتي. من هنا، فإنّ الاستقرار العالمي ينتج عن المسارات الوظيفية للمحافظة على توازن القوّة العالمي، ومتى تغيّر نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم يتغيّر توازن القوّة العالمي، بالتالي، يدخل العالم في فترة من الاضطرابات. ولكن، كيف يتغير نمط توزّع القوّة؟

يؤدي التطوّر التكنولوجي دورًا مهمًا في استقرار المنتظمات الدولية وانهيارها. صحيح أنّ كل منتظم دولي يُفتَرض أن يكون نظريًا مشيّدًا على أساس توازن القوى، ولكن، يختلف هذا التوازن من منتظم لآخر. فالتوازن بحسب توزيع الأقاليم بين القوى العظمى كما في القرن التاسع عشر، يختلف عن التوازن بحسب القدرات العسكرية أو الاقتصادية للقوى العظمى في القرن العشرين. من هنا، تضطلع القدرات التكنولوجية للقوى العظمى بدور جوهري في مسارات التوازن العالمي في القرن الحادي والعشرين، لأنّ سرعة التواصل والاتصال، والقدرة على التعبئة والجهوزية العسكرية والانتشار السريع حول العالم، والقدرة على الهجوم الاستباقي، جميعها تؤدي دورًا مهمًا في تحديد من هي الوحدات الأقوى داخل بنية المنتظم.

في القرن الحادي والعشرين، كان لمسار العولمة التكنولوجية والاقتصادية أثر جوهري على توزّع القوّة في بنية المُنتظَم[2]. فلم تعد القوّة في المُنتظَم محصورة بيد قوة مهيمنة أو عدد محدود من القوى العظمى[3]. إنّما انتقلت القوّة بشكل كبير في اتجاهين: الأول هو أفقي، أمّا الثاني فهو عمودي.

بالنسبة إلى الاتجاه الأول للقوّة، فهو نوعًا ما تقليدي أي يتكرّر دائمًا بشكل أفقي بين الدول، فبينما تصعد قوى جديدة تنحدر أخرى كانت قائمة (Power Transitions) . حاليًا، تنتقل القوّة من الغرب إلى الشرق، مع عودة القوّة الاقتصادية إلى آسيا، وبخاصة إلى روسيا والصين، لأنّ العولمة الاقتصادية والتكنولوجيا سمحت بتسريع عمليات الإنتاج في أي زاوية من العالم، ولم تعد هذه العمليات الإنتاجية محصورة بيد الغرب. بينما بالنسبة للاتجاه الثاني للقوّة جديد نسبيًا في العلاقات الدولية، ويحصل بشكل عمودي (Power Diffusion)، من الأعلى إلى الأسفل، أي من الدول إلى الفاعلين من غير الدول[4]. فبرزت وحدات من غير الدول لديها قدرات مهمة موازية لقدرات الدول، كون العولمة تُضْعِف قدرة هذه الأخيرة على التحكّم بحركة انتقال رؤوس الأموال والأفراد والمعلومات وتسهّل عبورها الحدود. بالإضافة إلى ذلك، ساعد الانخفاض في التكلفة التكنولوجية في انتشار القوّة إلى الفاعلين من غير الدول، عبر زيادة قدراتها العسكرية مثل تنظيم القاعدة، والدولة الإسلامية في الشرق، وقدراتها الاقتصادية[5] كالشركات الاقتصادية العابرة لحدود الدول مثل General Motors، وارتفاع قدراتها التأثيرية في التفاعلات الدولية، نظرًا لامتلاكها قدرات توازي قوّة الدول.

من جهة، إنّ الانتقال الكثيف للقوّة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق نتيجة انتشار التكنولوجيا داخل البلدان النامية، خوّلها الإنتاج بكلفة أقل وكمية أكبر وبسرعة قياسية. لذلك، خلال العقود القادمة، سيستمر هذا الانتقال القوي للثقل الاقتصادي، الذي يشكّل سابقة نوعية على الساحة الدولية. ومع انتقال الثقل الاقتصادي إلى آسيا، ستطمح الصين وروسيا للتدخّل عسكريًا وإقليميًا ودوليًا، لحماية ممرّاتها وطرقها الاقتصادية الحيوية التي تسهم في تعزيز نموّها الاقتصادي، وتكييف المنتظم الدولي وقواعده بحسب رؤيتها للسلام العالمي. ومن جهة أخرى، مع انتشار التكنولوجيا عبر حدود الدول، ستعزّز التنظيمات الإرهابية الخطيرة قدراتها العسكرية، وستستخدم أسلحة جديدة لتنفيذ هجماتها كالأسلحة الكيميائية أو البيولوجية أو النووية كي تسعى إلى تحقيق مصالحها عبر الحدود.

إذًا، عمليًا، مع انتشار التكنولوجيا والمعرفة والمعلومات، تزايد عدد الدول القادرة على تصنيع معدات عسكرية متوسطة القوّة مما كان عليه الحال سابقًا. فالصين بدأت بإنتاج معدات عسكرية متطوّرة وتصديرها. كما أتاحت للدول صناعة أسلحة متطوّرة جدًا، وبخاصة الأسلحة النووية مثل باكستان. إنّ هذا من شأنه أن يجعل الدول الصغيرة والفاعلين من غير الدول أقل اعتمادًا أو أكثر استقلالية عن القوى العظمى، وأكثر قدرة على إلحاق الضرر بالقوى التي تهاجمها مهما كانت عظمة قوّتها.

وقد أسهمت العولمة التكنولوجية أيضًا في منح الديموقراطية للخبرات والمهارات العسكرية، مع انتشار وسائل الطباعة وإنتاج الكتب العلمية وانتشار المعلومات والأفكار بين الدول والفاعلين من غير الدول والأفراد، ما ساعدهم على تطوير خبراتهم العسكرية وتعزيز قدراتهم على محاربة قوى أكبر حجمًا منهم. فانتشار التكنولوجيا العسكرية الرقمية لم يعزّز القدرات العسكرية للصينيين والروس وحدهم، ولكن، عزّز أيضًا قدرات دول وتنظيمات وبات بمقدورهما الوصول إلى مسافات بعيدة وضرب أهداف بدقّة عالية. وهذا الانتشار النوعيّ للقوّة التكنولوجية طرحت معادلة جديدة أمام القوى العسكرية التقليدية خصوصًا الأميركية[6]. لكن، ولأنّ الدولة لا تزال الفاعل الرئسي على الساحة الدولية، سنركّز في النقطة الثانية على الانتقال الأفقي للقوّة أي بين الدول، لتحديد علاقته بالابتكار التكنولوجي وتداعياته على توازن القوى العالمي؟

ثانيًا: أثر الابتكار التكنولوجي والنّمو الاقتصادي في التوازن العالمي

إنّ ترجمة الاختراعات والابتكارات التكنولوجية التي تَنْتُج عن الروّاد والعلماء في المجالات الاقتصادية والعسكرية، تؤدّي إلى تعزيز القدرات الإنتاجية والقدرات العسكرية لحكومات دولهم، وتعزّز وضعيّتها ودورها في المنتظم وتدفعها للوصول إلى مناطق جيوسياسية واقتصادية مهمّة حول العالم. ثانيًا، إنّ الدول التي لا تحوّل جزءًا من قوّتها الاقتصادية إلى قوّة عسكرية لا يمكنها أن ترتقي إلى مستوى القوى العظمى، وبالتالي، لن تستطيع أن تغيّر نمط توزّع القوّة أو التوازن العالمي، والسياسات الدولية في بنية المنتظم الدولي.

قبل أفول القرن الثامن عشر، هزّت بريطانيا وشمال أميركا سلسلة من الابتكارات العلمية التي أدّت إلى تحوّلات سياسية عميقة طالت بنية المنتظم الدولي، فعدّلت في وضعية الدول التي كانت على شفير الانحدار وقوّتها كبريطانيا. قبل حدوث الثورة الصناعية كانت بريطانيا في مرحلة دقيقة بين السقوط أو الاستمرار كقوّة عظمى،بالأخص بعد أن خسرت مستعمراتها الأميركية في نهاية القرن الثامن عشر. على أثر ذلك، رثى Horace Walpole رجل الدولة البريطاني، انحدار بريطانيا وشبّهها بدولة عديمة الأهميّة مثل الدنمارك أو سردينيا[7]. ولكن، تغيّر الوضع كثيرًا، بعد حدوث تطوّر مفاجئ لحلقات من الثورات الصناعية في بريطانيا على يد روّاد بريطانيين، Thomas Newcomen (1664-1729) و James Watt [8](1736-1819)، عندما ابتكرا الآلات التي تعمل على الفحم والبخار، ورفعا القدرات الإنتاجية للحكومة البريطانية فحوّلتها إلى قوّة اقتصادية منافسة كبيرة، مكّنتها من تحويل جزء من قوّتها الاقتصادية إلى قوّة عسكرية مهمّة، دفعتها للوصول سريعًا إلى مناطق جيوسياسية واقتصادية مهمّة حول العالم كالهند والصين، وأسواق جديدة لتصريف فائض إنتاجها[9].

قبل الثورة الصناعية في العام 1750، كانت آسيا- التي تشكّل نصف سكان العالم ونصف الإنتاج الاقتصادي العالمي- هي مركز الصناعة حيث تستخدم اليد العاملة الرخيصة بينما كانت أوروبا السوق الاستهلاكي. ولكن، بعد الثورة الصناعية أي مع بروز الآلات في القرن التاسع عشر، أصبحت أوروبا مركز الصناعة وآسيا السوق الاستهلاكي للناتج الاقتصادي الفائض[10]، أي انكمشت حصة آسيا من الإنتاج الاقتصادي العالمي حوالى 20%. مقارنة بتلك الفترة، وتحديدًا قبل العام 1800، كان مستوى المعرفة العلمية والتكنولوجية مرتفعًا في آسيا – أكثر ممّا كان يحصل في بعض المجالات العلمية في أوروبا. أما من حيث التطوّر التكنولوجي، كانت الصين في وضع متقدّم جدًا قبل عصر النهضة الأوروبية وبعده. على سبيل المثال، في مجال الأسلحة النارية، والرصاص والحديد والصلب والساعات الميكانيكية والهندسة، ومعدات الحفر العميقة[11]. أيضًا، كانت آسيا قوّة صناعية مهيمنة بشكل خاص في منتجات القطن والحرير الهندية والصينية. هكذا، كانت للقارة الآسيوية مكانة بارزة في الصناعة العالمية في ذلك الوقت.

من هنا، وفق تقديرات المؤرّخ الاقتصادي Paul Bairoch في العام 1750، كانت حصة الصين من الناتج الصناعي العالمي 32.8٪، مقارنةً مع 23.2٪ لأوروبا، مع مستوى عدد سكاني من 207 مليون نسمة للصين، و130 مليون نسمة لأوروبا[12]. ففي العام ١٧٧٦، أشار Adam Smith، إلى أنّ الصين هو بلد أكثر ثراء من أي بلد في أوروبا[13]. ومن ناحية أخرى، شكّلت الهند والصين معًا 57.3٪ من الناتج الصناعي العالمي. وإذا أضيفت المساهمات الإنتاجية لدول جنوب شرق آسيا، وبلاد فارس والإمبراطورية العثمانية، كانت تشكّل حصة آسيا بالمعنى الأوسع (باستثناء اليابان) 70٪ تقريبًا من الإنتاج العالمي. أيضًا، يقدّر Bairoch أنّه في العام 1750 كان المستوى الإنتاجي للصين أعلى من المتوسط الإنتاجي لأوروبا، إذا أُخِذَ في الاعتبار عدد السكان في ذلك الوقت: في الصين، كان نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي 228 دولارًا أميركيًا، مقارنة مع 150-200 دولار أميركي في البلدان الأوروبية[14].

هكذا، في العام 1750، ساهمت آسيا في إنتاج حوالى 80٪ من الثروة الاقتصادية في أنحاء العالم جميعًا، مع نسبة سكان تصل إلى 66٪ تقريبًا. وبعد خمسين سنة، كان نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي في الصين وأوروبا متقاربًا، حيث كانت إنجلترا وفرنسا، الدولتين الأوروبيتين الوحيدتين، اللتين كان فيهما درجة الناتج الصناعي للفرد أعلى قليلًا من درجة الناتج الصناعي للفرد في الصين. وكما أشار Andre Gunder Frank، كانت الصين والهند المنطقتين الكبيرتين الأكثر مركزيةً في الاقتصاد العالمي، بينما أدّت القارتان الأوروبية والأميركية دورًا تجاريًا محدودًا جدًا في تلك الحقبة.

ولكن، مع الثورة الصناعية، تغيّرت المعادلة الدولية، فبدأ الأوروبيون بالبحث عن أسواقٍ لتصريف فائض إنتاجهم[15]، بفضل الآلات التي سرّعت وكثّفت عملية الإنتاج المحلي. فسخّرت القوى الأوروبية، وبشكل خاص بريطانيا، قوّتها العسكرية للتوسّع الاستعماري لتصريف إنتاجها، فتوصّلت إلى احتلال 35% من العالم بفضل هذه الثورة الصناعية[16]. كما اشتدّت المنافسة الاقتصادية والعسكرية بين الدول الصناعية العظمى حول الأسواق الخارجية-المستعمرات، لأنّ النموّ الاقتصادي وزيادة الإنتاج، اللذين نتجا عن الثورة الصناعية، رفعا نسبة الطلب على المواد الأولية وعلى الأسواق الخارجية لتصريف منتجاتهم. وكانت حرب القرم 1853-1856 أول دليل على التطوّر التكنولوجي للصناعات الحربية المحترفة[17].

نتيجةً لذلك، أدّت هذه العملية إلى انتقال الثقل الاقتصادي العالمي من آسيا إلى أوروبا. فبعد أن كانت تشكّل الهند والصين أكثر من ٥٣٪ من الاقتصاد العالمي في العام ١٨٠٠، أصبحتا تمثّلان ٧.٩٪ فقط في العام ١٩٠٠ [18]. كما أنّ تحويل القوى الأوروبية لجزء من قدراتها التكنولوجية والاقتصادية لصالح قوّتها العسكرية رفع وضعيتها الدولية، ما أدّى إلى تغيّر نمط توزّع القوّة أو التوازن العالمي، والسياسات الدولية أي الوضع القائم في بنية المنتظم الدولي.

ولكن، استمرّ التوازن العالمي بالتغيّر مع كل تطوّر تكنولوجي – صناعي حصل داخل أقاليم القوى الدولية، لأنّ حصّة الدول من الاقتصاد العالمي غير متساوية تبعًا لمدى تطوّرها تكنولوجيًا، بالإضافة إلى عوامل أخرى. فإنّ ارتفاع حصة القوى من مجموع الاقتصاد العالمي سيكون دائمًا على حساب قوى أخرى. فكلّما ارتفع نموّ الدولة الاقتصادي، كلّما ازدادت قوّتها ومساحة تحكّمها الإقليمي، ونفوذها السياسي وموقعها داخل المنتظم الدولي، وذلك لا يكون إلّا على حساب قوى أخرى. أيضًا، تسعى القوى تلقائيًا إلى التوسع إقليميًا لتصريف الفائض الاقتصادي الناتج عن ارتفاع قدراتها الإنتاجية، للوصول إلى أسواق جديدة وحمايتها مع الممرات الجيو-اقتصادية المؤدّية إليها من المنافسين المحتملين. مثلًا، بعد العام ١٨٩٥، بدت النخبة السياسية الحاكمة في ألمانيا مقتنعة بالحاجة إلى التوسّع إقليميًا والتمدّد عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا على نطاق أوسع، فالمسألة لم تعد خيارية، إنّما حيوية، لاسيما وأنّ النموّ الاقتصادي والتقدّم الصناعي كانا بأوجهما في ألمانيا. من هنا، أعطى النموّ الاقتصادي الألماني الدولة القدرات العسكرية اللازمة لتغيير الوضع القائم. على الرغم من أنّ القوّة البحرية لألمانيا لم تتساوَ مع قوّة بريطانيا، إلّا أنّها قد تخطّت القوة البحرية لفرنسا وروسيا[19].

من هنا، يعود أحد الأسباب الجوهريةفي اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى صعود ألمانيا، كقوّة اقتصادية ذات قدرات إنتاجية منافسة لفرنسا وقريبة جدًا من قدرات بريطانيا العسكرية، ومحاولتها لتغيير الوضع القائم في المنتظم الدولي القائم على توازن معيّن للقوى – تقاسم معيّن للأقاليم – التي لم تكن ألمانيا راضية عنه، وعبّرت عن ذلك بسياسة خارجية ثورية. لذلك، اندلعت الحرب بين القوى الصاعدة والقوى التقليدية.

ولكن، يمكن تلخيص هذه التحوّلات في مثل آخر أقرب تاريخيًا لحقبتنا، ويجمع بين ما حصل في آسيا وأوروبا من حيث تأثير التطوّر التكنولوجي على نموّ الدولة اقتصاديًا وعسكريًا من جهةٍ، وعلى نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم والسياسات الدولية بشكل عام من جهة أخرى. قبل انهيار جدار برلين في العام ١٩٨٩، لاحظ الاتحاد السوفياتي أنّ الفجوة التكنولوجية – العسكرية والاقتصادية بينه وبين الولايات المتحدة الأميركية بدأت تتوسّع بشكل ملحوظ وبالأخص في مجال التكنولوجيا الرقمية، لا سيّما وأنّ إمكانات الأخيرة العسكرية التدميرية تساوي قدرته في مجال الأسلحة النووية التكتيكية، ما دفع به إلى الاعتراف بعدم قدرته على منافسة واشنطن في هذا المجال، لذلك، بدأ البحث في إمكانية التقارب السياسي معها ليتمكّن من اللحاق بها في مجال حاسم للمنافسة العسكرية[20].

نستنتج أنّ ما وصلنا إليه اليوم ليس نتيجة بضع سنوات من التغيرات الدولية، إنّما نتيجة عدة قرون من الابتكارات والثورات الصناعية والتكنولوجية التي أحدثت تغيّرات عميقة في بنية المنتظم السياسي الدولي والتوازن العالمي، دفعت بدورها إلى بروز توازن جديد في كل مرة تطرأ تحوّلات مهمّة تعيد توزيع القوّة في بنية المنتظم. كما أنّ نموّ الاقتصاد الدولي، والقدرات الإنتاجية التي رفعتها الثورة الصناعية والتكنولوجية، والتي تركت أثرها في مجال التكنولوجيا العسكرية والبحرية مع مرور الزمن، أدّت إلى تغيير توازن القوى العالمي بشكل ملحوظ. لذلك، لا يمكن تجاهل دور ابتكارات الأفراد والتحوّلات التكنولوجية على التوازن العالمي والتي لا زالت حتى يومنا هذا، وبخاصة عندما أصبح تعزيز القدرات العسكرية للقوى يعتمد بشكل كبير على نموّ قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية، أي قدرتها على تخصيص جزء من قوّتها الاقتصادية لصالح تعزيز قوّتها العسكرية[21]. فكلّما ازدادت ابتكارات الأفراد تنمو القوّة الاقتصادية لحكومتهم، فترتفع قوّة تأثير هذه الأخيرة على التفاعلات الدولية، وبالتالي تتغيّر حسابات القوى الأخرى لها.

كذلك، إنّ استخدام عدد من المؤشرات لقياس قوة الدول، بشكل خاص مؤشرات لقياس قدرتها على الابتكار وقوّتها التكنولوجية والاقتصادية، على فترة تاريخية محددة، تمكّننا من رؤية التحوّلات في موازين القوى العالمية وديناميكية التفاعلات الدولية بين القوى – الصاعدة والمنحدرة – داخل بنية المنتظم الدولي. لذلك، سيؤدي اختلال التوازن في الابتكار التكنولوجي والنموّ الاقتصادي بين القوى العظمى سيغيّران في توزّع القدرات في ما بينها على المدى الطويل. مثلًا، في حال تراجعت القدرة على الابتكار التكنولوجي للولايات المتحدة الأميركية ستتضاءل قوّتها الاقتصادية وقدرتها التنافسية، وبالتالي سوف تنخفض النسبة المخصصة للإنفاق العسكري، ما سيؤدي إلى تراجع وضعيتها ودورها وهيبتها عالميًا، مقابل صعود لقوى أخرى منافسة أكثر قدرةً على الابتكار التكنولوجي وذات قدرات اقتصادية وعسكرية مهمة. إذًا، هل يمكن لهذه المقاربة النظرية التي تلتها مناقشة تاريخية ليست مطوّلة لأهم الأحداث العالمية من أن تشرح لنا المسار المستقبلي للسياسات الدولية، ونمط السلوك العام للقوى القائمة والصاعدة في العقود الثلاثة القادمة؟

مستقبل المنتظم الدولي: الحرب أم المنافسة كطريق للسلام العالمي؟

أولًا: العولمة التكنولوجية تعزّز وضعية بكين مقابل واشنطن

إنّ الانتقال الأفقي للقوّة أو الثقل الاقتصادي العالمي في بنية المنتظم، الذي سهّلته وشجّعته ونظّمته قواعد المنتظم الليبرالي، مستمد من مصدر مهم: انخفاض تكاليف الإنتاج في الدول الآسيوية التي تمتلك يدًا عاملة ذات حجم كبير ورخيصة، والتي جذبت المستثمرين في الدول الصناعية الغربية، مثل الولايات المتحدة الأميركية، إلى الاستثمار مباشرةً في الأسواق الوطنية للدول النامية، وبشكل خاص في الصين والهند، ونقل مراكز التصنيع الخدماتية والتكنولوجية إليها، ما سمح بتراكم قوّتها الاقتصادية بشكل هائل على المدى الطويل.

ومع انتقال مركز الإنتاج إلى آسيا، نجحت دول شمال شرق آسيا في تحديث أنشطتها الاقتصادية خلال الفترة الممتدة بين العامين ١٩٧٠ و١٩٨٠. بدأت الصين تنمو اقتصاديًا وتؤدي دورًا رئيسًا في الاقتصاد العالمي، بعد أن حافظت على ٢٠ عامًا من النموّ الاقتصادي المستمر في الداخل، ما أدّى إلى تراكم القوّة الاقتصادية لديها، وتحوّل هذا البلد الشاسع إلى نواة جوهرية لنموّ الاقتصاد الإقليمي والعالمي ومركز محوري للتجارة الإقليمية والدولية. ولكن، إنّ حجم الإنتاج الاقتصادي في آسيا عمومًا والصين خصوصًا، أعاد طرح الكثير من التساؤلات المقلقة عن مستقبل الاقتصاد الليبرالي العالمي المتمركز في الغرب، وعن انتقال الثقل الجيواقتصادي نحو آسيا، وما سيرتّب على المدى الطويل من تحوّلات في توازن القوى العالمي بشكل جوهري، وتداعيات ذلك على مستقبل المنتظم والنظم والقواعد والمبادئ الليبرالية الدولية. فمع انتقال القوّة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق، كنتيجة تلقائية لانتقال مصادر الإنتاج والتكنولوجيا العالمية، ستمتلك بكين قوّة سياسية مهمة في بنية المنتظم تدريجيًا[22]، ما سيخوّلها ثني مبادئ التفاعل السياسي وقواعده التي وضعتها واشنطن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تدريجيًا، لأنّ القوى العظمى هي مَن تحدّد قواعد السلوك الدولية، وهي مَن تقرّر مَن يجلس على طاولة المفاوضات الدولية، ومَن يدير الشؤون الدولية عبر استخدام قوتها ونفوذها في صياغة قواعد اللعبة أو قواعد التفاعل السياسي بين الدول[23]. لذلك، فإنّ صعود الصين سيؤدي إلى البحث عن نفوذ أكبر داخل نُظُم الإدارة الدولية، لصياغة الأجندة الدولية وآلية اتخاذ القرارات، ووضع مبادئ التفاعلات وقواعدها، وإعادة توجيه مسار السياسات الدولية، وبالتالي يتغير نمط المنتظم الدولي تدريجيًا.

على الرغم من ذلك، انقسمت الإدارة الأميركية حيال مسألة صعود الصين، إلى فئتين: الأولى، فئة المتفائلين، كانت ترى في صعود الصين كقوّة اقتصادية رأسمالية قادمة ذات سوق اقتصادي ضخم ومزدهر، سوف يؤدي إلى جعل مؤسساتها السياسية ديموقراطية وتخلّيها عن المبادئ الشيوعية للانضمام إلى نادي الدول الليبرالية – الديمقراطية. أما الثانية، فئة المتشائمين، فكانت تشبّه صعود الصين بالتنّين الشيوعي العظيم الأخير الذي يهدّد الاستقرار في آسيا والعالم، أي يحاول أن يغيّر الوضع القائم في بنية المنتظم الدولي.

لكن واشنطن اصطدمت في الواقع مع بكين، التي لا تتبع الأنموذج الليبرالي الغربي للتنمية السياسية والاقتصادية بحذافيره، إنّما أنموذج هجين يعرف بـ State Capitalism الذي يجمع بين الليبرالية الاقتصادية والسلطوية السياسية، فحاولت أن تُخْضِع منافسيها الرأسماليين وتستميلهم من خلال استخدام قوّتها الاقتصادية الضخمة وأسواقها الواسعة، لثَنْي قواعد التفاعل السياسي أو قواعد اللعبة وكسرها، وصياغة نظم وقواعد دولية جديدة من أجل تنظيم التفاعلات الدولية وتوجيهها[24]. فبكين ترفض دائمًا الالتزام بقواعد السلوك الدولية لأنّها صيغت في حقبة كانت غائبة عن الساحة الدولية[25]. لذلك، واصلت بكين تحقيق مصالحها القومية من دمبالغة لقواعد اللعبة والمعايير العالمية، كبناء جزر في المياه الدولية المتنازع عليها ومضايقة الطائرات الأميركية في بحر الصين الجنوبي[26]، ودفع واشنطن إلى أقصى أطراف آسيا والمحيط الهادئ، من خلال إظهار نيّتها في نشر قوّتها العسكرية لإعادة ترسيم الحدود في البحر الصيني الجنوبي.

كما اقتنصت بكين من الأزمة المالية العالمية، في العام 2008، فرصة مهمة لتبرز كقوّة سياسية اقتصادية نموذجية عالمية بديلة لواشنطن والدول الغربية التي لم تعد الدول النامية تحتذي بها، بعد أن أظهرت أنّ الاقتصاد الموجّه من الدولة يتفوّق على الاقتصاد الحر. لذلك، قرّرت التخلّي عن سياسة العزلة التي انتهجتها لعدة عقود، والبدء بالخطوات الأولى للدخول مباشرةً في تكوين مسار التفاعلات الدولية وإدارته وتصويب اتجاهه. فقوّت صوتها في المؤسسات الدولية، بما في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تمهيدًا لتعزيز وضعيتها مقابل واشنطن في بنية المنتظم الدولي . وعلى الرغم من أنّ القدرات التأثيرية لهذه الأخيرة وحلفائها ما زالت قوية داخل تلك المؤسسات، والآليات والأهداف التي تعمل على أساسها في النظم الدولية، كالديمقراطية والشفافية، تقوّض سلوك الصين وأمنها، لم تخرج الصين من هذه المؤسسات الدولية الليبرالية مثل منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومجلس الأمن، إلّا أنّ عدم اكتفائها بالتغييرات التي طالبت بها داخل المؤسسات الدولية، دفعتها إلى إنشاء نظم ومؤسسات دولية رسمية وغير رسمية بديلة، مثل بنك التنمية الجديد (BRICs/NDB) والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، الذي ينوي بوضوح منافسة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكسب المزيد من التأثير في المنتظم الدولي الحالي، من خلال زيادة مساعداتها الإنمائية وتطويق أوراسيا بالعقود التجارية وقواعد التفاعل الجديدة التي تبرز بالتوازي مع الطرق التجارية، وسِكك الحديد وأنابيب النفط والغاز وخطوط الطاقة الكهربائية، وكابلات الألياف الضوئية، ومختلف البُنى التحتية، التي يمكن اختصارها بمبادرة الحزام والطريق الصينية. أيضًا، ما يميّز هذه المؤسسات الدولية هو أنّها تتضمّن قيم ومبادئ آسيوية، إلّا أنّها تخطّط لبناء آليات تحكيم جديدة لتسوية المنازعات الدولية جميعها التي قد تنشأ عن خطط تمويل مبادرة الحزام والطريق (BRICs) الذي يمرّ عبر ٦٩ دولة، سواء للأطراف الصينية أو الخارجية، من خلال النظام القضائي الخاص في الصين، وفي ثلاث محاكم أُنشئت تحت سلطة المحكمة الشعبية العليا.

بناءً على ذلك، إنّ اهتمام واشنطن وبخاصة في السنوات الأخيرة في المحافظة على المنتظم الليبرالي العالمي الذي تقوده بنفسها، من خلال المحافظة على قواعده وتوسيع نطاقه الجغرافي، دفعها إلى قلب هذا المسار عبر اتّخاذ سياسات حمائية وإغلاق حدودها أحاديًا، وفي بعض الأحيان بالتعاون مع دول أخرى، لإضعاف بكين اقتصاديًا تمهيدًا لإجبارها على اللعب بحسب القواعد السياسية الليبرالية. إلّا أنّ مشكلة واشنطن ليست مع صعود الصين كقوّة اقتصادية بقدر ما هي مع سلوكها كقوّة غير ليبراليّة تسعى للزعامة في منتظم ليبرالي. لذلك، تنظر الأولى إلى سلوك الأخيرة كتهديد لأمنها القومي، وبالأخص لناحية منافستها اقتصاديًا وعسكريًا[27] ومؤسساتيًا. فما تريده واشنطن هو رؤية بكين تتفاعل داخل المنتظم الليبرالي بحسب قواعد اللعبة التي وضعتها بنفسها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

من هنا، قرّرت واشنطن منع انتقال القوّة التكنولوجية إلى آسيا بشكل رئيسي. فعمليًا، إذا استمرت الصين باستقدام الابتكارات التكنولوجية الغربية إلى أقاليمها، من دون أي عقبات خطيرة، ستتمكّن في العام ٢٠٢٥ من أن تصبح رائدة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والاتصالات السلكية واللاسلكية، واستعمار الفضاء، والتكنولوجيات الإحيائية – بما في ذلك خطة لبناء أكبر شبكة 5G في العالم، كما ستستعيد في العام ٢٠٥٠ وضعيّتها التاريخية في الإنتاج لأنّ التقدّم التكنولوجي السريع سيزيد من وتيرتها الإنتاجية، بتكلفة قليلة وأسعار وجودة تنافسية في الأسواق العالمية، وبشكل خاص مع التطوّر الذي يشهده مجال الذكاء الاصطناعي الذي سيدفع إلى منافسة اليد العاملة، في الإنتاج والتكلفة والجودة عالميًا. بكلمات أخرى، إذا استمرت الصين في استقدام الابتكارات التكنولوجية، ستتمكن من تخطّي واشنطن اقتصاديًا وعسكريًا، لأنّ التقدّم التكنولوجي السريع سيزيد من وتيرة التغيير في توزّع القوّة الاقتصادية والعسكرية بين القوى الرئيسة في بنية المنتظم الدولي.

لذلك، قرّرت واشنطن فرض قيود صارمة على التجسّس الصيني وسرقة الملكية الفكرية، خصوصًا من الشركات الأميركية الأكثر ابتكارًا، وزيادة التعريفات على رقائق الألومنيوم وفرض تعريفات جمركية صارمة على واردات الصلب/الفولاذ لتقويض النموّ الاقتصادي لبكين. فالتفاوت في وتيرة النموّ الاقتصادي بين بكين وواشنطن، في ظل استمرار استقدام الابتكارات التكنولوجية إلى آسيا، يعني أنّ الأولى ستصعد بينما الأخرى ستنحدر نسبيًا. لذلك، استباقًا لأي تحوّل جوهري في توازن القوى العالمي، فتحت واشنطن تحقيقًا رسميًا في الممارسات المتعلّقة بالملكية الفكرية الأميركية في بكين، بعد أن قدّرت الخسارة السنوية للاقتصاد الأميركيّ من السلع المقلّدة والبرمجيات المقرصنة وسرقة الأسرار التجارية بنحو 600 مليار دولار أميركي[28]. إضافة إلى ذلك، قدّمت واشنطن شكوى أمام منظمة التجارة العالمية لمعاقبة الصين على النقل القسري للتكنولوجيا من الشركات الأميركية إلى مصانعها؛ ما سبب خسارة إجمالًا تقدّر بتريليون دولار أميركي.

هكذا، تطال أغلب الرسوم المفروضة قطاعَي الصناعة والتكنولوجيا. إلّا أنّ، تنفيذ هذه الحماية الشديدة سيؤدّي إلى تدهور صادرات الصين للولايات المتحدة الأميركية، وهي تبلغ ٥٠٥ مليار دولار أميركي[29]، وتُكَبِّدها خسائر مالية فادحة، بهدف استنزاف نموّها الاقتصادي، وإجبارها على القبول بقواعد المنتظم الليبرالي الدولي دون تغييرها أو صياغة قواعد بديلة.

ثانيًا: المنافسة المستمرة بين أربع رؤى متناقضة للسلام العالمي

بحلول العام 2025، على أثر عولمة الابتكارات التكنولوجية، هناك الكثير من التغيّرات القادمة داخل بنية المنتظم الدولي، وبشكل خاص في نمط توزّع القوّة على المستوى العالمي والذي سيتمثل تدريجيًا ببروز عالم متعدّد الأقطاب[30] ما يعني أنّ حقبة الأحادية القطبية في طور الاختفاء حاليًا – كما لن يكون هناك مجتمع دولي متجانس نسبيًا، أي يتكوّن من دول قومية ذات سيادة فقط، مع بروز فاعلين جدد من غير الدول في بنية المنتظم يمتلكون قدرات تأثيرية موازية لقدرات الدول، كالشركات والجماعات العرقية والتنظيمات الدينية المتطرفة والشبكات الإجرامية الدولية، بالتالي ستتغيّر طبيعة توزّع القوّة في بنية المنتظم على المدى الطويل، ولأنّ البحث عن نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم الصاعد يساعدنا على تصوّر تداعيات هذه التحوّلات على السياسات الدولية، وتحديد السلوك السياسيّ الذي يمكن توقّعه للقوى الرئيسة في المنتظم. لذلك، نطرح السؤال التالي: ما هي التحدّيات التي تضغط على ركائز المنتظم الدولي؟ وهل تشير التغيرات البنيوية في توزّع القوّة داخل بنية المنتظم الدولي في القرن الحادي والعشرين، إلى احتمال نشوب نزاع دولي جديدٍ في عالم غير مستعد أن يتحمّل تكلفته؟

إنّ التعبير الأكثر خطورة لرفض المنتظم الدولي القائم على ركيزة سيادة الدولة، والذي يشير إلى تغيّر جوهري في نمط توزّع القوّة أو التوازن العالمي، يمكن رؤيته في بروز قوى إيديولوجية دينية متطرّفة تستخدم الإرهاب والعنف لتبرير سعيها لاستبدال ركيزة الدولة، الركيزة الأساسية للمنتظم الدولي، بركيزة أحادية مختلفة تعرف بـالخلافة الإسلامية العالمية. وتجلّى ذلك عندما توقّفت أربع دول في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، ليبيا واليمن وسوريا والعراق، عن العمل كدول سيادية بعد أن أصبحت هدفًا لفاعلين من غير الدول أبرزها مجموعات إسلامية تسعى لفرض حكمها. من بين هذه المجموعات هناك ما يعرف بالدولة الإسلامية في العراق والشام التي أعلنت نفسها كخلافة بديلة عن مبدأ الدولة الذي هو نتاج غربي – وتسعى إلى استبداله – أي الركيزة الأساسية للمنتظم الدولي – بخلافة أو إمبراطورية إسلامية واحدة تحكمها الشريعة الإسلامية. عمليًا، في حزيران 20١4، أعاد تنظيم الدولة الإسلامية رسم خريطة الشرق الأوسط وألغى الحدود التي رسمتها القوى الأوروبية في العام ١٩١٦، مزيلًا الحدود السياسية بين العراق وسوريا، ومنتشرًا في ليبيا ومصر، كجزء من خطة التنظيم لاستعادة الخلافة الإسلامية على أنقاض حدود “سايكس-بيكو.”

وفي مناطق أخرى من العالم، كآسيا، تنظر القوى الصاعدة إلى المنتظم الدولي كمنتظم قائم على قواعد غربية يتم فرضها عليها، بالتالي لا يمكن القبول بها. فمثلًا، وانطلاقًا من موقع موسكو الجيوسياسي الذي يشرف على العالم الأوروبي والآسيوي والإسلامي. تعتبر موسكو نفسها وسط أمبراطورية قائمة بحكم الواقع. بالتالي، تمتلك دورًا مهمًا في المحافظة على التوازن العالمي. ويمكن رؤية ذلك في خطاب الرئيس بوتين عندما أعلن أنّ: زوال الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين. أما بكين، فهي حضارة قديمة ودولة وإمبراطورية ذات اقتصادٍ معولم في آنٍ معًا. لذلك، من المحتّم أن تسعى الصين إلى تكييف المنتظم الدولي بما يتّفق مع خبرتها التاريخية، وتراكم قوّتها، ورؤيتها الاستراتيجية للسلام العالمي. بينما، على القارة الأميركية، فتعتبر واشنطن نفسها أمّة متفوّقة في المجالات جميعها لا سيّما في المجال العسكري، لذلك، تحاول أن تستمر بهذا التفوّق حتى لا تبرز أي قوى منافسة لها، كما تعتبر أنّ على المجتمعات الأخرى التمثّل بها واستيعاب قيمها ومبادئها وتطبيقها. في حين تعتبر بكين نفسها محور حضارات الأرض وكل ما هو خارج هذا المحور هو بربري، بالتالي، على المجتمعات الأخرى اتّباعها أو الخضوع لها. كما شدّد الرئيس الصيني على تفوّق الحضارة الصينية في خطابه في العام ٢٠١٢ “إنّ الأمّة الصينية هي أمّة عظيمة” وأضاف لاحقًا في كتابه “أنّ ليس هناك حضارة على وجه الأرض مساوية للحضارة الصينية”. إذًا، إنّ القوى الأميركية والصينية والموسكوية لديها عقدة التفوّق والعظمة[31]، بالإضافة إلى التنظيمات الإرهابية، والتي تمتلك كل منها رؤيتها الخاصة للسلام العالمي المرتبطة بخبرتها التاريخية.

من هنا، ترمز حالة اللااستقرار في المنتظم إلى المنافسة الكامنة بين أربع رؤى للسلام أو التوازن العالمي. وعلى الرغم من أنّ هذه الرؤى تحاول أن تؤسّس أنموذجًا عالميًا للسلام، أي إطارًا مقبولًا لتوزّع القوى بينها في بنية المنتظم، إلّا أنّها لا تتمتّع بشرعية عالمية لأنّها لا تمتلك خاصية مشتركة يمكن أن تجمع عليها أطراف المنتظم الدولي جميعها أو على الأقل الأطراف الأقوى فيه. فما من أمر مشترك بين هذه الرؤى، وبالتالي لا تتمتّع بشرعية عالمية. إذًا، إنّ العالم لا يواجه أزمة دولية فقط، إنّما تحوّلًا جوهريًا في توزّع القوّة بين قوى تميل إلى تكييف بنية المنتظم الدولي بحسب رؤيتها وخبرتها التاريخية للسلام العالمي، من هنا تنتج حالة اللااستقرار الدولية. فهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب عظمى بينها؟

أولًا: لا يوجد منتظم بديل فعّال أو شرعي على حدّ سواء عن المنتظم الدولي الوستفالي، أي القائم على ركيزة الدولة. من هنا، إنّ التحدّي الأعمق الذي يواجه عصرنا هو التكيّف مع هذا المنتظم أو تجديد قواعد اللعبة، لأنّ على الجانب الآخر من البنية القائمة، تلوح مخاطر أكبر في الأفق. لذلك، على الرغم من أنّ واشنطن تنظر إلى كل من روسيا والصين كتحدّ لقوّتها ومصالحها ونفوذها، لمحاولتهما تقويض أمنها وازدهارها، إلّا أنّ هذه القوى أشارت في عدّة مناسبات إلى التعاون غير العلني بينها – على مستوى مشاركة المعلومات بين أجهزتها الاستخباراتية – لمحاربة الدولة الإسلامية ومكافحة التنظيمات المتطرفة والإرهابية العابرة للحدود، وإن كانت في نزاع غير مباشر مع واشنطن حاليًا. فتاريخيًا، لدى القوى الثلاثة علاقة سيئة مع الجماعات الإسلامية، خصوصًا موسكو – التي تقع على حدودها الجنوبية أكثرية إسلامية والمحاطة بجمهوريات إسلامية – وبكين التي واجهت حركات انفصالية إسلامية في منطقة Xinjinag، التي تعتبر الباب الرئيس إلى العالم الإسلامي.

ثانيًا: في ظل البيئة الاقتصادية العالمية المترابطة والمعقّدة التي نعيشها اليوم، والتي لا يمكن مقارنتها مع أي حقبة تاريخية أخرى، ونظرًا للتبعات الاقتصادية المدمّرة للحروب الدولية[32]، من غير الممكن أن تلجأ واشنطن وموسكو وبكين إلى تدمير بعضها البعض، نظرًا لتوازي قدراتها العسكرية التدميرية نسبيًا وتداعياتها العالمية. كما لا يمكن لبكين أو موسكو، أن تتطوّر اقتصاديًا وعسكريًا، دون الوصول إلى الأسواق الأميركية. لأنّ تراجع النموّ الاقتصادي لأي قوى، سيؤدّي على المدى الطويل، إلى انخفاض في حصة الناتج المحلي الإجمالي المخصّصة للإنفاق العسكري. بالتالي، كي تستطيع بكين أو موسكو أن تنفق عسكريًا، هي بحاجة لنموّ اقتصادي مستقرّ لا يمكن حصوله دون الاستمرار في التبادل التجاري مع واشنطن.

ثالثًا: بالإضافة إلى البيئة الاقتصادية الدولية المترابطة والمعقّدة، مع تحوّل بنية المنتظم تدريجيًا نحو التعدّدية القطبية، سيتغيّر تلقائيًا السلوك العام للقوى العظمى من هجومي إلى دفاعي. بذلك، ستلجأ بعض القوى إلى قياس قوّة البعض الآخر بطرق مختلفة تعرف بسياسة الاستنزاف، أي زيادة الكلفة على أقرانها لإضعافها على المدى الطويل. وتبرز هذه السياسة عمليًا عندما تدوّل النزاعات الداخلية، لاستدراج القوى الإقليمية والدولية إلى التدخّل عسكريًا فيها، أو عندما تستدرج القوى نحو سباق إلى التسلّح، أو سباق الفضاء، من أجل استنزاف قدراتها الاقتصادية ومواردها وثرواتها بشكل تدريجي وكبير، ما سيؤثر سلبًا على وضعيّة الدولة داخل المنتظم على المدى الطويل، أي سيؤدّي إلى انحدار حرج في قوّتها[33]. مثلًا، إذا دخلت دولة ما في سباق تسلّحي مع دولة أخرى، وقامت الدولة الأولى بزيادة إنفاقها العسكري بنسبة 1% فقط من إجمالي ناتجها المحلي، يمكن أن يؤدّي ذلك خلال خمس سنوات إلى تراجع قدراتها الاقتصادية بنسبة ٠.٧%. لذلك، لتجنّب هذا المصير، ستبحث القوى عن حلفاء لها لتشارك الكلفة بينها.

نستنتج أنّه من المحتمل أن تشتد المنافسة بين موسكو وبكين وواشنطن، إلى حدّ لا يمكن التنبّؤ بدرجتها. ولكن، من غير المحتمل أن تدخل في حرب عظمى فيما بينها، لأنّ الذي سيتفوّق في عالم اليوم ليس ذلك القادر أن ينتصر في الحرب، إنّما القادر على الاستمرار في التفوّق العسكري التكنولوجي والصناعي والاقتصادي والثقافي، ليتمكّن من مواكبة نمط توزّع القوّة في بنية المنتظم الذي هو في تغيّر مستمر، والانتصار في هذا الصراع العالمي الدائم من أجل القوّة، أي الانتقال من حالة الأقوى إلى الأسرع في التطوّر الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي. لذلك، سنشهد في السنوات العشرين القادمة منافسات استراتيجية مهمّة في المجالات التجارية والاستثمارية والابتكار التكنولوجي، والسباق إلى التسلّح والتوسّع الإقليمي والتنافسات العسكرية في مناطق جيواقتصادية حيوية. من هنا، إنّ مسألة الحرب هي خيارية، ولكنّ القوى الدولية التي ستنتصر اليوم هي الأسرع والأكثر قدرة على الاستمرار في مواكبة التطوّرات الجديدة في التكنولوجيا العسكرية والاقتصادية والصناعية والأمنية، لأنّ المستقبل يكمن بين أيدي القوى التي ستعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا الحديثة والإنتاج الاقتصادي الضخم.

الخاتمة

حاليًا، نحن في مرحلة بناء لمُنتظَم دولي – عالمي (Sui generis)، ما يعني مرحلة إعادة النظر في نمط توزّع القوّة ومسار التوازن العالمي وقواعد اللعبة، نتيجة تحوّلات القوّة الجوهرية في العالم، وما يعنيه من صعود لقوى عظمى ووحدات جديدة من غير الدول تبحث عن دور ووضعية أقوى في بنية المُنتظَم الدولي. وما يحدث اليوم لم يحدث سابقًا في تاريخ العلاقات الدولية، من حيث طبيعة الوحدات وقدرتها على التفاعل التي عزّزتها الابتكارات التكنولوجية. ومتى تغيّر نمط توزّع القوّة، وطبيعة الوحدات في بنية المُنتظَم الدولي، يعقب ذلك حتمًا حقبة من الاضطرابات. وضمن هذا المسار النظري، نستنتج عمليًا:

على الرغم من أنّ الولايات المتحدة الأميركية ستظل على الأرجح الدولة الأقوى في بنية المنتظم، إلّا أنّ قوّتها العسكرية، ستصبح نسبية مقارنةً بالقدرات العسكرية للقوى الصاعدة مثل الصين. لذلك، لن تستطيع التصرّف أحاديًا بل ستلجأ إلى التحالف مع دول أخرى. أما على المدى الطويل، من المحتمل أن تنحدر قوّة موسكو الاقتصادية والعسكرية والسياسية، نتيجة سياسة الاستنزاف، إحدى سمات المنتظم المتعدّد الأقطاب، بالتالي ستصبح النقطة الأكثر ضعفًا وانعزالًا في المثلّث الأميركي – الصيني – الروسي. على خلاف ذلك، ستصبح واشنطن وبكين، أكثر قوّتين في العالم تمتلكان قدرات تأثيرية من الناحية الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية على حدّ سواء. ولكن، عندما تأتي تلك اللحظة، ستضطر روسيا إلى تغيير سلوكها العام، وأن تتّخذ موقفًا أكثر تعاونًا مع الغرب. هكذا، بعد أن نشهد تكوّنًا لمسار أو نمط متعدّد القوى في بنية المنتظم الدولي، الذي سيستمر لفترة طويلة نسبيًا، ستعود بنية المنتظم الدولي، بشكل تدريجي، إلى نمط ثنائي القطبية.

خلال العقود القادمة، من المتوقّع أن تتخطّى الصين الولايات المتحدة الأميركية لتشكّل أكبر اقتصاد عالمي، إلّا أنّها لن تتمكّن من أن تحكم العالم بنفسها أو أحاديًا، على الأقل ليس على المدى القريب. لأنّ العولمة التكنولوجية، تضعف الهيمنة من جهة، وترفع درجة المنافسة بين الفاعلين من جهة أخرى في بنية المنتظم. بالإضافة إلى ذلك، تواجه الصين قضايا داخلية مهمة، عليها أن تعالجها، بالتعاون مع الغرب، حتى لا تؤثّر على استقرار نظامها السياسي. كما أنّ البيئة الاقتصادية الدولية الحالية معقّدة جدًا ومليئة بالقضايا الدولية المشتركة التي لا يمكن حلّها إلّا عبر تعاون إقليمي ودولي. من هنا، ليس للصين مصلحة في التحالف الرسمي مع روسيا، ولا في تشكيل تحالف معاد للولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص، أو أن تشكّل كتلة معادية للغرب بشكل عام. لأنّ نموّ الصين يعتمد بشكل أساسي على الهدوء وضبط النفس، حتى تتمكّن من إعادة تثبيت توازن القوى العالمي بشكل سلمي، وهو، حاليًا التحدي الأكبر لها، حتى لا يقع خطأ في الحسابات قد تورّطها في حرب تدميرية عظمى.

وأخيرًا، يمكن القول إنّ هذا البحث إذ يعالج علاقة التحوّلات التكنولوجية بالتغيّرات التي تطال طبيعة الوحدات ونمط توزّع القوّة في بنية المنتظم، ويفتح الباب واسعًا في الوقت نفسه على تساؤل مهم حول مستقبل العلاقات الدولية، خصوصًا بين روسيا والصين مع إشراف الحرب على الدولة الإسلامية في الشرق على الانتهاء، وغزو بكين للشرق الأقصى الروسي، وتمدّد نفوذها نحو أوروبا على الرغم من التسويات المؤقتة بين موسكو وبكين. فمتى سيحصل الانفصال بين هاتين القوّتين الآسيويتين؟ وعلى أي قضية؟ ومتى ستعيد موسكو توحيد حساباتها القومية مع الغرب، وبالأخص واشنطن حليفتها التقليدية في الحربين العالميتين ضد محاولات الهيمنة على المنتظم الدولي -الوستفالي، لاحتواء صعود بكين؟

قائمة المراجع:

المؤلفات

•  ART Robert J., JERVIS Robert, International Politics: Enduring Concepts and Contemporary Issues, 13th Edition, Pearson, Boston, 2016.

•  BAIROCH Paul, Victoires et Déboires: Histoire Economique et Sociale du Monde du XVIᵉ Siècle à nos Jours, Tome I, Gallimard, Collection Folio Histoire (n° 78), Paris, 1997.

•  BLACK Jeremy, Great Powers and the Quest for Hegemony: The World Order since 1500, Routledge, New York, 2008.

•  BOOT Max, War Made New: Technology, Warfare and the Course of History 1500 to Today, Gotham Books, New York, 2006.

•  BULL Hedley, The Anarchical Society: A Study of Order in World Politics, Fourth Edition, Columbia University Press, New York, 2002.

•  FRANK Andre Gunder, DENEMARK Robert A., Reorienting the 19th Century: Global Economy in the Continuing Asian Age, University of California Press, Berkeley, 1998.

•  HAASS Richard N., “The Age of Nonpolarity: What Will Follow U.S. Dominance,” in Foreign Affairs, Vol. 87, No. 3, May – June, 2008.

•  KENNEDY Paul, The Rise and Fall of the Great Powers: Economic Change and Military Conflict from 1500 to 2000, Vintage Books, New York, 1987.

•  NYE Joseph S., The Future of Power, Public Affairs, New York, 2011.

•  SCHERER Andreas Georg, PALAZZO Guido, Handbook of Research on Global Corporate Citizenship, Edward Elgar, Cheltenham, UK, Northampton, 2008.

•  SMITH Adam, An Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations, Vol. I, W. Strahan and T. Cadell, London, 1776.

•  TAYLOR Alan J. P., The Struggle for Mastery in Europe 1848-1918, Oxford University Press, Oxford, 1954.

•  TUCHMAN Barbara, The March of Folly, Random House, New York, 1984.

الأبحاث والمقالات

•  ALLISON Graham, “China vs. America: Managing the Next Clash of Civilizations” in Foreign Affairs, Vol. 96, No. 5, September-October 2017.

•  BERNAUER Thomas, KOUBI Vally, ERNEST Fabio, “National and Regional Economic Consequences of Swiss Defense Spending” in Journal of Peace Research, Vol. 46, Issue 4, June 2009.

•  GOLUB Philip S., “Retour de l’Asie sur la Scène Mondiale” in Le Monde Diplomatique, 51e année, No. 607, Octobre 2004.

•  LLOYD John, “Commentary: Is this the Way to a Peaceful World?” in Reuters, 20 April 2018.

•  MAZARR Michael J., “The Once and Future Order: What Comes After Hegemony?” in Foreign Affairs, Vol. 96, No. 1, January-February 2017.

•  ROSEN Stephen Peter, “Future Fights Planning for the Next War,” in Foreign Affairs, Vol. 97, No. 2, March-April 2018.

•  WOLF Martin, “How the Beijing Elite Sees the World: The Charms of Democracy and Free Markets have Withered for China’s Leaders” in Financial Times, 01 May 2018.

•  Sans Auteur, “L’Histoire des Inventions: Jusqu’où Irons-Nous?” in La Vie-Le Monde Hors-Série, Paris, 2015.

W. Author, “US to Review China Intellectual Property Policies,” in BBC News, 19 August 2017.

مواقع الإنترنت:

•  https://www.census.gov/foreign-trade/balance/c5700.html


[1]–     إنّ المنتظم الوستفالي قائم على مبدأ سيادة الدولة والذي حدّد رسميًا في معاهدات Osnabruck وMunster أو المعروفة بمعاهدات Westphelia التي وقّعت سنة 1648 لإنهاء حرب الثلاثين عامًا في أوروبا بعد خمس سنوات من المفاوضات. وشكّل هذا المبدأ حجر الزاوية لنمط التفاعلات في المنتظم الدولي حتى يومنا هذا.

[2]–     Andreas Geog SCHERER, Guido PALAZZO, Handbook of Research on Global Corporate Citizenship,

.Edward Elgar, Cheltenham, UK, Northampton, 2008, p. 5-6

[3]–     Richard N. HAASS, “The Age of Nonpolarity: What Will Follow U.S. Dominance” in Foreign Affairs, Vol. 87,

.No. 3, May – June, 2008, p. 46

[4]–     .Joseph S. NYE, The Future of Power, Public Affairs, New York, 2011, p. xv

[5]–     .ibid., p.115

[6]–     Stephen Peter ROSEN, “Future Fights Planning for the Next War” in Foreign Affairs, Vol. 97, No. 2, March/

.April 2018

[7]–     .Barbara TUCHMAN, The March of Folly, Random House, New York, 1984, p.221

[8]–     Sans Auteur, “L’Histoire des Inventions: Jusqu’où Irons-Nous?’ in La Vie-Le Monde Hors-Série, Paris, 2015

.p.82

[9]–     Jeremy BLACK, Great Powers and the Quest for Hegemony: The World Order since 1500, Routledge, New

.York, 2008, p.74

[10]–    .Joseph S. NYE, op. cit., p. xv

[11]–    Andre Gunder FRANK, Robert A. DENEMARK, Reorienting the 19th Century: Global Economy in the

 .Continuing Asian Age, University of California Press, Berkeley, 1998

[12]–    Paul BAIROCH, Victoires et Déboires: Histoire Economique et Sociale du Monde du XVIᵉ Siècle à nos Jours

.Tome I, Gallimard, Collection Folio Histoire (n° 78), Paris, 1997

[13]–    Adam Smith, An Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations, Vol. I, W. Strahan and T. Cadell

.London, 1776

[14]–    .Paul BAIROCH, op. cit

[15]–    .Jeremy BLACK, op. cit., p. 74

[16]–    Max BOOT, War Made New: Technology, Warfare and the Course of History 1500 to Today, Gotham Books

.New York, 2006, p.38

[17]–    Alan J. P. TAYLOR, The Struggle for Mastery in Europe 1848-1918, Oxford University Press, Oxford, 1954

.p. 67

[18]–    Philip S. GOLUB, “Retour de l’Asie sur la Scène Mondiale” in Le Monde Diplomatique, 51e année, No. 607

.Octobre 2004, p.18-19

[19]–    Paul KENNEDY, The Rise and Fall of the Great Powers: Economic Change and Military Conflict from 1500

.to 2000, Vintage Books, New York, 1987, p.212

[20]–    .Stephen Peter ROSEN, op. cit

[21]–    Robert J. ART, Robert JERVIS, International Politics: Enduring Concepts and Contemporary Issues, 13th

.Edition, Pearson, Boston, 2016, p. 533

[22]–    .Joseph S. Nye, op. cit., p. xv

[23]–    Hedley BULL, The Anarchical Society: A Study of Order in World Politics, Fourth Edition, Columbia

.University Press, New York, 2002, p. 207

[24]–    John LLOYD, “Commentary: Is this the Way to a Peaceful World?” in Reuters, 20 April 2018.

[25]–    Graham ALLISON, “China vs. America: Managing the Next Clash of Civilizations” in Foreign Affairs, Vol

.96, No. 5, September/October 2017

[26]–    Michael J. MAZARR, “The Once and Future Order: What Comes After Hegemony?” in Foreign Affairs, Vol

.96, No.1, January/February 2017

[27]–    Martin WOLF, “How the Beijing Elite Sees the World: The Charms of Democracy and Free Markets have

.Withered for China’s Leaders” in Financial Times, 01 May 2018

[28]–    .W. Author, “US to Review China Intellectual Property Policies” in BBC News, 19 August 2017

[29]–    . https://www.census.gov/foreign-trade/balance/c5700.html

[30]–    .Robert J. ART, Robert JERVIS, op. cit., p. vi

[31]–    .Graham ALLISON, op. cit

[32]–    .Robert O. KEOHANE, After Hegemony: Cooperation and Discord in the World Political Economy, op. cit., p. 49-50

[33]–    Thomas BERNAUER, Vally KOUBI, Fabio ERNEST, “National and Regional Economic Consequences of

.Swiss Defense Spending

إعداد: جوزيف السخن 
باحث في العلوم السياسية

مجلة الدفاع الوطني التابعة للجيش الللبناني في عدد رقم 106 – تشرين الأول

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button