دراسات اقتصادية

تطور الرأسمالية منذ القرن الثامن عشر إلى بداية القرن الحادي والعشرين

لقد بدأ تفسخ النظام الإقطاعي في أوروبا منذ القرن السادس عشر مع تطور الإنتاج السلعي ونمو السوق الداخلي والخارجي .. الخ ، وكان من أوائل أيدلوجيي البرجوازية ميكافيلي (1469 – 1527 ) الذي ذهب إلى أن المجتمع لا يتطور تبعاً لإرادة خارجية وميتافيزيقية ، وإنما وفقاً لأسباب طبيعية ، تضرب جذورها في التاريخ وفي النفسية البشرية والوقائع الملموسة .

وفي مرحلة تشكل العلاقات الرأسمالية تأثر الفكر الاجتماعي بحركة الإصلاح المناوئة للكنيسة الإقطاعية الكاثوليكية ، التي قادها مارثن لوثر ( 1483 – 1546 ) وتوماس مونزو (1453 – 1525 ) اللذان أكدا على فكرة الاتصال المباشر بالله دون واسطة الكنيسة .. أيضاً ظهرت في هذه المرحلة بعض الأفكار الاشتراكية الطوباوية ، ومن مفكريها توماس مور (1478 – 1535 ) الذي أكد في كتابه ( الأوتوبيا – أو الكتاب الذهبي ) إلى أن أصل ويلات الشعب هو الملكية الخاصة التي لابد من القضاء عليها في رأيه ، وجاء بعده المفكر الإيطالي ( تومازوكمبانيلا 1568-1639 ) ليؤكد ويطور نفس الأفكار الطوباوية في كتابه ” مدينة الشمس ” ولكن هذه الأفكار لم يقدر لها أن تنتشر بسبب الظروف الموضوعية السائدة في القرن السادس عشر .

ومع تطور الرأسمالية شرعت البرجوازية في التصدي لسلطة الإقطاعيين ، وطالبت بإلغاء الامتيازات والتقسيمات المراتبية ، وبرز في هذا السياق عدد من المفكرين من أبرزهم سبينوزا الذي طالب بتأسيس الدولة كتنظيم يخدم مصالح كل الناس ، وجون لوك ، الذي قال بأن الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحرية والمساواة كمفاهيم أساسية تحكم المجتمع .
وفي القرن 18 تطور الفكر الاجتماعي في أوروبا تحت راية التنوير في فرنسا ، وكان فولتير (1694 – 1778 ) من أبرز مفكري التنوير ، أكد على الحق الطبيعي في نقده للنظام الإقطاعي ، وعنده أن القوانين الطبيعية هي قوانين العقل ، فالإنسان يولد حراً ولا يجب أن يخضع إلا لقوانين الطبيعة .

ومن بين المفكرين أصحاب النزعة الديمقراطية الثورية كان جان جاك روسو (1712-1778) صاحب المؤلفين ( في أسباب التفاوت ) و ( العقد الاجتماعي ) ، إنه يرى أن أصل الشرور والتفاوت بين البشر يعود إلى الملكية الخاصة كسبب أولي وحيد فهو القائل ” إن العداء والكراهية والأنانية بين البشر، بدأت حينما وضع أول إنسان سياجاً حول قطعة من الأرض معلناً أنها ملكيته الخاصة ” .

أما الفيلسوف المادي الفرنسي هولباخ (1723- 1789 ) فنادى بتأسيس دولة أو عقد اجتماعي قائم على الحرية والملكية والأمن ، واعتبر أن العالم الروحي للإنسان هو نتاج للوسط الاجتماعي ، وجاء رائد الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ( كانط 1724- 1804) الذي اعتبر التاريخ تطوراً للحرية البشرية وبلوغاً لحالة قائمة على العقل ، واعترف بمساواة المواطنين أمام القانون ، لكنه قسم الناس إلى نوعين: المالكين لوسائل الانتاج وهم الذين اعترف لهم بحق المواطنة والحرية، أما الذين لا يملكون فقد سماهم ” حاملي جنسية ” وهؤلاء ليسوا أحراراً أو مواطنين ، إنهم جموع الكادحين والجماهير المستغلة.

وبعد “كانط” جاء فيلسوف الجدل هيجل (1770 –1831) الذي أسهم بقسط كبير في معالجة المشكلات الفلسفية لتاريخ المجتمع ، وهو يذهب إلى أنه في صلب الكون تقوم ” الفكرة المطلقة ” الدائمة التطور ، والتي تولد أو تخلق العالم كله – الطبيعة والإنسان ، والمجتمع ، لقد صَوَّر هيجل التاريخ العالمي على شكل مسيرة للروح ( الفكرة ) على الأرض وهذا الروح الكوني ، يسكن الشعب السائد في التاريخ العالمي بالعصر المعني ، ولم يكن غريباً – بعد حوالي مائة عام – أن يستلهم هتلر والنازية جوهر أفكار هيجل (إلى جانب أفكار شوبنهور ونيتشه وتريتشكه) وتطبيقها على الشعب الألماني باعتباره سوبرمان العالم أو ” الشعب السائد ” .

ولكن، رغم أهمية الفلسفة السابقة ودورها ، إلا أنها لم تتمكن من وضع الحلول الاجتماعية الملائمة للأغلبية الساحقة من البشر ، ومع تطور وتفاقم أوضاع الطبقة العاملة في النصف الأول من القرن 19 ، وباستخدام التحليل الفلسفي لأحدث منجزات العلم ، ومن خلال معالجة وتطوير الانجازات الإيجابية لمفكري الماضي ، أمكن لماركس وانجلز وضع المادية التاريخية و القوانين العامة للتطور التاريخي وأشكال تحققها في نشاط الناس في ضوء معطيات النظام الرأسمالي وعلاقاته الاقتصادية والاجتماعية القائمة على الاستغلال.

ارتبط نشوء العلاقات الرأسمالية مع بداية تكون الملامح الأولى للطبقة البرجوازية ، كطبقة مالكه لوسائل وأدوات الإنتاج ، وقد كان مستوى التطور النسبي للإنتاج البضاعي ( السلعي ) في أواخر التشكيلة الإقطاعية ، السبب الرئيسي ( عبر الإنتاج والتجارة والمرابين والتراكم النقدي ) في نشوء الطبقة البورجوازية ومن ثم العلاقات الرأسمالية .

ومع تطور الرأسمالية ، تتطور قوى الإنتاج باستمرار ، وما ينتج عن ذلك من تعارض حاد أحياناً بينها وبين علاقات الإنتاج القديمة ، وهذا لا يعني أن الرأسمالية تستطيع دائماً أن تحل أزماتها الداخلية بما يضمن استمرار صعودها ، فبالرغم من كل ما نلاحظه اليوم من تطور هائل وانتشار ” واسع ” ، إلا أن ذلك لا يلغي إطلاقاً طبيعة الأزمة والتناقضات الداخلية للنظام الرأسمالي منذ وصوله إلى مرحلة الامبريالية [1] ، في نهاية القرن التاسع عشر ، وامتداده إلى عصرنا الراهن حيث أصبحت العولمة في اطار النمط الرأسمالي، هي الشكل الأعلى من تطور النظام الرأسمالي او ما بعد الامبريالية ، وانحسار دور الدولة الرأسمالية لحساب الدولة المركزية الأقوى ، وبروز الدور الملموس للشركات المتعددة الجنسية فى التحكم بقيادة الاقتصاد العالمى ، إلى جانب ذلك نلاحظ بدايات انهيار الدولة المركزية في بلدان العالم الثالث – التي تتعرض الى مزيدمن التراجع والافقار .

الرأسمالية هي السمة الأساسية للإمبريالية في طورها الجديد ، إن العولمة ” صيغة تهدف إلى إعادة صياغة النظم السياسية والاقتصادية السائدة في العالم ، بهدف إخضاع العالم لإرادة كونية واحدة ، إنها انفتاح عالمي بلا حدود ، وهيمنة بلا حدود ، تقوم على حرية حركة رؤوس الأموال والمنتجات والتسليم بسيادة السوق ، وفي العولمة، باتت دول العالم الثالث والوطن العربي تحديداً –بحكم عوامل/ مصالح طبقية خارجية وداخلية-، مجرد مشروعات يتم بواسطتها تدمير السوق الوطني أو القومي ومن ثم تكريس تبعيتها وتخلفها وارتهانها.

ولكن كما أن للعولمة مخططاتها ومقوماتها، فإن لبديل العولمة أو نقيضها مقوماته ، المسألة إذن مرتبطة باللحظة التاريخية الراهنة ، وتطور تراكمات النقيض في ضوء الأزمة المالية العالمية إلى جانب تفاقم استغلال وإفقار دول العالم الثالث وما ستحمله هذه التراكمات من متغيرات نوعية لن تقتصر على الصراع الاقتصادي فحسب ، بل ستمتد للصراع السياسي والأيديولوجي ” بشكل متجدد ومستمر سيدفع بالضرورة إلى كسر أحادية العولمة الأمريكية باتجاه التعددية القطبية الرأسمالية، وباتجاه بروز أشكال وأطر ثورية ماركسية نقيضه للنظام الرأسمالي كله، ذلك إن التناقض الموضوعي الحاد والتناحري ، سيستمر ، إذا لم يتم حسمه بوضوح لصالح الأغلبية الساحقة من البشر (80% من سكان كوكبنا ) المتضررة من هذه الظاهرة الامبريالية العالمية الجديدة ، وهذا يستدعي بالضرورة رؤية وإطاراً جديدين ، على الصعيد الوطني أولاً والقومي ثانياً والأممي ثالثاً دون أي انفصام بين هذه العناصر، لمواجهة هذه الهيمنة المتوحشة، وتجاوز رموزها وأدواتها الطبقية في بلدان الوطن العربي كما في بلدان العالم الثالث ، خاصة وأن المنظور في المستقبل – كما يقول اريك هوبسباوم· – يبدو واعدا أكثر مما كان في تسعينيات القرن العشرين ، فالازمة المالية الراهنة في العالم والتي قد تصبح هبوطا اقتصاديا رئيسيا في الولايات المتحدة الامريكية ، تضفي دراماتيكية على فشل “ديانة” السوق الحر العولمي الذي لا يخضع لاية رقابة واشراف ، ويرغم حتى الحكومة الامريكية على التفكير في اتخاذ اجراءات عامة تم نسيانها منذ ثلاثينيات القرن العشرين .

المراحل التاريخية ( الأساسية) لتطور الرأسمالية :

تمهيد

منذ اجتياز النظام الرأسمالي العالمي – في العقد التاسع من القرن العشرين- لمرحلة تمركز الانتاج والاستقطاب والصراع من أجل التوسع في اطار الثنائية القطبية، وانتقاله الى مرحلة سيادة العولمه
وتعمقها، لتصبح السمة المركزية للمنظومة الرأسمالية العالمية التي قادتها، وحددت مسارها الولايات المتحدة الامريكية، عبر هيمنتها الاحاديه على نظام العولمة الرأسمالي طوال العقود الثلاث الماضية حيث برز النظام الانتاجي المعولم ساعياً الى مزيد من الهيمنة لكي يفرض نفسه بديلاً للنظم الانتاجية، الوطنية، القومية في دول العالم الثالث التي بدأت – ولأسباب داخلية وخارجية- تفقد القدرة على توفير احتياجات شعوبها، اضافة الى عجزها في مواجهة متطلبات او شروط الاقتصاد الراسمالي المعولم، وقد ترافق مع هذا التحول الاقتصادي، تغيرات نوعية، سياسية واجتماعية وايديولوجية في بلدان الأطراف أو العالم الثالث بوجه خاص، عززت انقسامها -كما يقول د. سمير أمين- إلى بلدان توفرت لديها إمكانات التصنيع في حدود معينه، بما يسمح بإدخالها إلى السوق العالمي وفق شروطه الجديدة مع بقاءها ضمن دائرة العالم الثالث مثل بعض دول أمريكا اللاتينية وآسيا، وبلدان عجزت عن توفير هذه الإمكانيات ، خرجت من إطار العالم الثالث وأصبحت تندرج فيما يسمى ببلدان العالم الرابع (أو أكثر)، تتوزع على قارتي أفريقيا وآسيا عموماً، ومعظم بلدان الوطن العربي خصوصاً.

كما شهدت العقود الثلاث الماضية، انتشاراً واسعاً لأفكار الليبرالية الجديدة، ومع تفاقم الأزمة المالية العالمية في نهاية عام 2008 كشفت هذه الأزمة ، أن هناك وجه آخر للحقائق أو الوقائع الأمريكية التي تنمو وتتراكم بصورة سلبية، جعلت وجه الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً وبلدان المركز الرأسمالي عموماً في نظر شعوب العالم في بلدان الأطراف خصوصاً، أكثر بشاعة من وجه النازية في أحط درجاتها وممارستها، وذلك عبر سياسة “عولمة السلاح” وإرادة القوة الباغية التي تمارسها الولايات المتحدة وحلفائها ضد شعوب العالم في أمريكا اللاتينية وأفريقيا واسيا، وفي بلداننا العربية، عبر وكيلها الامبريالي الصغير دولة العدو الصهيوني التي تقوم في هذه المرحلة بممارسة أبشع أدوارها الوظيفية في خدمة المصالح والسياسات الامبريالية الأمريكية في بلادنا.
فإذا كانت السياسة هي تكثيف للاقتصاد ، فإن الاضطراب العام الذي يعرفه النظام الرأسمالي هو تأكيد على صحة مقولة ماركس حول فوضى الإنتاج باعتبارها قانونا ملازما للرأسمالية من ناحية وهو أيضا تعبير عما يجري في أسواق المال العالمية من ناحية ثانية ، إذ أن هذا الاضطراب (الأزمة) سيوفر بالضرورة مناخاً جديداً لمتغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية هامة على الصعيد العالمي ،كما هو حال التطور التاريخي للبشرية ، فالمتغيرات التي رافقت النمط الإقطاعي في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر أدت إلى نمو البورجوازية ومن ثم ولادة النمط الرأسمالي بالانسجام مع أفكار وأسس ليبرالية السوق كما صاغها ” آدم سميث ” (1723-1790) وفق شعار “دعه يعمل دعه يمر” أو سياسة حرية السوق دون أية قيود[1]، وقد استمر تطبيق هذه السياسة حتى عام 1929 عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية ، وأدت إلى متغيرات جديدة دفعت إلى الاستعانة بآراء “جون

———————————————-
[1] امتد هذا النمط عملياً منذ المرحلة المركنتيلية أو الرأسمالية التجارية (منتصف القرن 17)، ثم مرحلة الثورة الصناعية (أواخر القرن 18)، ثم مرحلة الاستعمار (منتصف القرن 19)، ثم مرحلة الامبريالية (نهاية القرن 19- عام 1870)، ثم مرحلة العولمة (1985) (الأزمة الحالية) 2008.

ماينارد كينز” (1883-1946) التي دعت إلى ضرورة تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد وتحمل مسئولية التخلص من حالات الركود الاقتصادي، خلافاً للنظرية الليبرالية/الكلاسيكية التي تقوم على مبدأ حرية السوق وعدم التدخل،وإلغاء كافة الرسوم ومفهوم اليد الخفية.

من هنا فإن الدعوة إلى مقاومة عولمة الاستسلام ، تمثل أحد أبرز عناوين الصراع العربي الراهن من أجل التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية – ، مدركين أن أحد أهم شروط هذا التحدي العربي لهذه الظاهرة، هو امتلاك تقنيات العصر ومعلوماته وفق مفاهيم العقل والعلم والحداثة ، في إطار قومي سياسي تقدمي وديمقراطي من قلب الجماهير الشعبية الفقيرة والمثقفين الثوريين، يناضل من أجل تجاوز واقع التبعية والتخلف والخضوع صوب التحرر والعدالة الاجتماعية والوحدة، مستنداً ومسترشداً بالاشتراكية والفكر الماركسي كضرورة تاريخية للخلاص والتحرر الوطني والقومي و الاجتماعي ، إنها مهمة لا تقبل التأجيل ، يتحمل تبعاتها – بشكل مباشر – المثقف التقدمي الملتزم في كل أقطار الوطن العربي ، إذ أنه في ظل استفحال التخلف وعدم تبلور الحامل الاجتماعي الطبقي النقيض للعولمة وتأثيرها المدمر ، لا خيار أمام المثقف العربي سوى أن يتحمل مسئوليته – في المراحل الأولى – منفرداً ، وهذا يستلزم – كخطوة أولى – من كافة الأحزاب والقوى والأطر اليسارية المسترشدة بالماركسية المتجددة، أن تتخطى شروط أزمتها الذاتية ، وأن تخرج من حالة الفوضى والتشتت الفكري والسياسي والتنظيمي الذي يكاد يصل إلى درجة الغربة عن الواقع عبر التوجهات الليبرالية الهابطة أو العدمية التائهة .

لقد آن الأوان لاستخدام النظرية والمنهج العلمي استخداماً جدلياً مع الواقع العربي بكل تفاصيله وخصوصياته ، وذلك على قاعدة الالتزام الأيدلوجي من جهة والالتزام بالديمقراطية كوسيلة لا بد من نشرها وتعميقها ومأسستها على الصعيد المجتمعي ، وتطويرها من شكلها السياسي أو التعددي الفوقي إلى جوهرها الشعبي الاجتماعي الاقتصادي الذي يمثل نقيضاً لأوهام الليبرالية الغربية وشروطها المعولمة من جهة أخرى .

إن الدعوة للالتزام بهذه الرؤية وآلياتها ، تستهدف في أحد أهم جوانبها ، وقف حالة الإحباط واليأس التي تستشري الآن في أوساط الطبقات الاجتماعية الكادحة والفقيرة ، ومن ثم إعادة تفعيل مشروع النهضة القومي الوحدوي كفكرة مركزية توحيدية في الواقع الشعبي العربي ، ونقله من حالة السكون أو الجمود الراهنة إلى حالة الحركة والحياة والتجدد ، بما يمكن من تغيير وتجاوز الواقع الراهن .

من هنا تأتي أهمية الوعي بالمراحل التاريخية لتطور الرأسمالية، بعد أن نجحت –كما يقول المفكر الراحل رمزي زكي- في فرض برامج التثبيت والتكيف الهيكلي التي تم تطبيقها في بلدان العالم الثالث منذ ثمانينات القرن الماضي، وإعادة صياغة علاقة الجنوب بالشمال على أسس الليبرالية الجديدة التي تعتمد على الأيديولوجية الصارخة لنظام الاستغلال الرأسمالي، الذي بدأ مع نشوء وتوسع النمط الرأسمالي منذ أوائل القرن التاسع عشر.

والواقع، انه منذ أن نشأت الرأسمالية كنظام عالمي، وهي تسعى دائماً لأن تخضع العالم أجمع لمتطلبات نموها وشروط حركتها.

وكان “تكييف” الأجزاء غير الرأسمالية في مختلف أنحاء المعمورة، لكي تتلاءم مع الحاجات المتغيرة، والأزمات المختلفة للمراكز الرأسمالية، شرطا ضروريا ولازما لاستمرار بقاء الرأسمالية وديمومة نموها.

ولهذا فإن مصطلح “عمليات التكيف” الذي راج مؤخرا في كتابات المنظمات الدولية،-كما يضيف رمزي زكي- لا يشير إلى ظاهرة جديدة ، بل في الحقيقة إلى ظاهرة قديمة،قدم النظام الرأسمالي نفسه.

من هنا فإن منطق التحليل العلمي، يتطلب منا، أن نعرض التجارب التاريخية لعمليات التكيف الدولية المختلفة التي فرضتها الرأسمالية العالمية إبان مراحل تطورها المتعاقبة على البلاد المتخلفة.

وسوف نميز هنا بين خمسه “مراحل” أساسية، جرى فيها ضغط لا هوادة فيه من جانب الرأسمالية العالمية على البلاد المتخلفة لتطويع هذه البلاد وإخضاعها لشروط نمو الرأسمالية وحركة تراكم رأس المال بالمراكز الصناعية. وهذه المراحل هي:

1. مرحلة الكشوف الجغرافية .(تمتد من نهاية القرن15 – منتصف القرن17).

2. المرحلة المركنتيلية (الرأسمالية التجارية).(منتصف القرن17 – النصف الثاني من القرن18).

3. مرحلة الثروة الصناعية.(من منتصف القرن18 – سبعينات القرن 19).

4. مرحلة الاستعمار والتوسع الإمبريالي (من النصف الثاني للقرن 19-1990 (انهيار الإتحاد السوفياتي).

5. مرحلة العولمة الإمبريالية وصولاً إلى الأزمة المالية العالمية الراهنة.(1990-……)

المرحلة الأولى: مرحلة الكشوف الجغرافية :

وهي مرحلة التمهيد لنشأة الرأسمالية، أي فترة الكشوف الجغرافية التي امتدت من نهاية القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن السابع عشر، وهي الفترة التي مهدت لتكوين السوق العالمية فيما بعد. عبر اندفاع جحافل من التجار والبحارة المغامرين في أوروبا (أسبانيا، البرتغال….) الى البحار والمحيطات الواسعة من ناحية ولكسر حدة السيطرة التجارية التي كانت تفرضها الإمبراطورية العثمانية على مبادلات أوروبا مع المناطق الشرقية الأفريقية من ناحية ثانية.

ومن هنا، استهدفت حركة الكشوف الجغرافية التي تمت في هذه المرحلة هدفين رئيسيين:-

– الأول، هو كسر الحصار التجاري الذي فرضته الإمبراطورية العثمانية.

– الثاني، هو البحث عن الذهب ومصادره.

وبالفعل تمكن عدد كبير من البحارة المعروفين، (فاسكودي جاما، وكريستوفر كولومبس…) بمؤازرة تمويل ضخم من الأمراء وكبار التجار، من الوصول إلى الهند والعالم الجديد (أمريكا الجنوبية والشمالية)، حيث تمكن الأوروبيون من نهب موارد هائلة من الذهب والفضة من البلاد المكتشفة، وتكوين مستعمرات للمستوطنين البيض على المناطق الساحلية، وإقامة محطات تجارية فيها.

وهكذا استطاعوا من تحويل اتجاهات التجارة الدولية وطرقها لصالحهم. وخلال هذه المرحلة التي مثلت فجر الرأسمالية المبكر بدأت أولى محاولات تكييف الهيكل الاقتصادي لتلك البلاد والمناطق من خلال فرض نمط إنتاج كولونيالي عبودي، يقوم على إجبار السكان المحليين لإنتاج بعض المنتجات الزراعية التي كان الطلب عليها قد تزايد في أوروبا، مثل الدخان والشاي والبن والسكر والقطن والأصباغ.(رمزي زكي).

ومن المهم هنا، أن نعي أن وسيلة تكييف هذه المناطق لمتطلبات القارة الأوروبية، كانت هي الغزو الحربي واستخدام القوة والقهر والإبادة الجماعية للسكان وعمليات القرصنة وإراقة الدماء.

المرحلة الثانية : المرحلة المركنتيلية (الرأسمالية التجارية):

وهي المرحلة التي تمتد من منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والتي سيطر فيها رأس المال التجاري الأوروبي على أسواق العالم وظهر فيها ما يسمى بالدول القومية. فقد استطاعت الرأسمالية التجارية من خلال جماعات التجار المغامرين والشركات الاحتكارية الكبرى (مثل شركة الهند الشرقية، وشركة الهند الغربية…) أن تُخضع البلاد المفتوحة لعمليات نهب لا رحمة فيها، وأن تتاجر في أحقر تجارة عرفتها البشرية، وهي تجارة العبيد الذين كانوا يقتنصون من أفريقيا، بأبشع وسائل القنص، ويرسلون إلى مزارع السكر والدخان في أمريكا الجنوبية والشمالية وأوروبا.

وقد استطاعت الرأسمالية التجارية بشركاتها العملاقة ومن خلال ما كونته من إمبراطوريات واسعة، أن تكدس أرباحا ضخمة عن طريق العمل على ترسيخ نمط الإنتاج الكولونيالي الذي أرسى دعائمه المستوطنون البيض في فترة الكشوف الجغرافية. وكان من شأن ذلك تحقيق موازين تجارية مواتية (ذات فائض) لدول القارة الأوروبية. وبذلك تمكنت الرأسمالية التجارية أن “تشفط” ذهب وفضة المناطق الشرقية والأفريقية والأمريكية.

والحقيقة ان تلك الأرباح والثروات الهائلة التي كونها التجار، وفرت أحد المصادر الهامة للتراكم البدائي لرأس المال في مرحلة الثورة الصناعية. وهكذا تمكنت الرأسمالية التجارية من تكييف وتطويع مناطق عبر البحار من خلال رأس المال التجاري، الذي كان قد نما وتطور في هذه الفترة وهو يقطر دماً وتفوح منه رائحة السرقة والنخاسة والغش والخداع.

المرحلة الثالثة : مرحلة الثورة الصناعية :

بدأت هذه المرحلة مع ظهور رأس المال الصناعي، وتحققت الثورة الصناعية خلال الفترة الممتدة بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر وحتى سبعينيات القرن التاسع عشر، مع استمرار المراكز الرأسمالية في تطويع وتكييف المناطق المسيطر عليها.

فلم تعد حاجة الرأسمالية قاصرة على السكر والدخان والبهارات والتوابل والرق والمعادن النفيسة ، بل اتسعت لتشمل المواد الخام التي تلزم لاستمرار دوران عجلات الصناعة، والمواد الغذائية (القمح واللحوم والزبد…) التي تلزم لإطعام سكان المدن والعمال الصناعيين.

ومن ناحية أخرى، سرعان ما أدى النمو الهائل الذي حدث في المنتجات الصناعية بفضل ثورة الماكينات إلى ظهور الحاجة للبحث عن منافذ إضافية لهذه المنتجات خارج الحدود القومية للرأسمالية الصناعية المحلية.

وقد لعبت “ثورة المواصلات” –النقل البحري والسكك الحديدية- وما أتاحته من اتصال بأبعد المناطق، دورا خطيرا في فتح هذه المناطق وغزوها بالمنتجات الصناعية الجديدة. وتشير بعض المصادر، إلى أن التجارة توسعت خلال الفترة 1820-1900 بمعدل أسرع بكثير من معدل نمو الإنتاج الصناعي، إذ تضاعفت واحدا وثلاثين مرة في تلك الفترة.

وعند هذه المرحلة –كما يقول رمزي زكي- أُرسيت دعائم تقسيم العمل الدولي غير المتكافئ بين البلاد الرأسمالية الصناعية والمستعمرات وأشباه المستعمرات. ففي ضوء التفاوت الحاد الذي برز بين درجة التطور في قوى الإنتاج في البلاد الأوروبية التي دخلت مرحلة الثورة الصناعية، وبين البلاد الأخرى عبر البحار، في افريقيا واسيا وأمريكا الجنوبية والتي ظلت تراوح مكانها وما زالت تعيش في حالة سابقة على الرأسمالية، وفي ضوء التنافس الضاري على التصدير الخارجي وفتح الأسواق الخارجية بالقوة، وجدت مجموعة البلاد الأخيرة نفسها أمام جحافل ضخمة من المنتجات المصنعة الرخيصة نسبيا التي تنافس بشدة الإنتاج المحلي. وقد أدى ذلك إلى دمار الإنتاج الحرفي الداخلي. ومن الآن فصاعدا ، سيفرض على هذه البلاد نمط جديد للتخصص، تقوم بمقتضاه بإنتاج المواد الخام ، الزراعية والمنجمية، على أن تستورد في مقابل ذلك المنتجات المصنعة في الغرب الرأسمالي، وأن تتبع في ذلك سياسة الباب المفتوح، أو التجارة الحرة.

وبذلك أدمجت مناطق وراء البحار، والتي كانت مكتفية ذاتيا وذات بنيان إنتاجي متنوع، أدمجت في الاقتصاد الرأسمالي العالمي لكي تكون منبعا لإنتاج وتوريد المواد الخام والمواد الغذائية وسوقا واسعة لتصريف فائض الإنتاج السلعي الذي كانت تضيق عن استيعابه الأسواق المحلية للرأسماليات الصناعية الغربية.

ومنذ تلك اللحظة التاريخية، سيتحدد مركز وقوة كل بلد في النظام الرأسمالي العالمي بدرجة نموه وتفوقه على الآخرين في التجارة العالمية، وبموقعه في نظام التخصص وتقسيم العمل الدوليين.

المرحلة الرابعة: مرحلة الاستعمار والإمبريالية :

بدأت هذه المرحلة مع دخول الرأسمالية مرحلة الاحتكار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث زادت درجة تركز الإنتاج ورأس المال، وأخذت المؤسسات الصناعية الكبيرة تزيح من أمامها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، منهية بذلك عصر رأسمالية المنافسة، وبرزت قوة رأس المال المالي، وهو رأسمال يستخدم في الصناعة بصورة أساسية، وتسيطر عليه البنوك والشركات الصناعية. فلم تعد مهمة البنوك مجرد التوسط لجمع المدخرات وإعادة إقراضها لمن يريد بل “غدت احتكارات قوية” تجمع تحت أيديها الجزء الأكبر من رأس المال النقدي للجماعة، وتتحكم في جانب من وسائل الإنتاج ومصادر المواد الأولية.

وبذلك دخلت البنوك في عملية الإنتاج ، ونفذت إلى الصناعة، وامتزج رأسمال البنوك برأسمال الصناعة، مكونا أقلية مالية هائلة القوة الاقتصادية.

وعند هذه المرحلة تحتدم مشكلة فائض رأس المال داخل البلاد الرأسمالية الصناعية، وتنشأ الحاجة الموضوعية لتصديره. والفائض هنا نسبي وليس مطلقا، بمعنى أنه لا يعني بأي حال من الأحوال ، أن هذه البلاد أصبحت تعج بوفرة كبيرة من رؤوس الأموال، ومن ثم لا تحتاج لاستثمارها بالداخل في الصناعة والزراعة والخدمات، وإنما الفائض يعني هنا، أنه إذا استثمر في الداخل، فإنه سيؤدي إلى تدهور معدل الربح. وهنا يسعى الرأسماليون للبحث عن مجالات خارجية للاستثمار يكون فيها متوسط معدل الربح أعلى من نظيره في الداخل.( وهذه هي السمة الرئيسية لرأس المال الذي يسعى دوماً للتوسع لمزيد من الربح عبر ممارسة أبشع وسائل الاستغلال والاضطهاد لكل الفقراء والكادحين في بلدانه عموماً وفي بلدان الأطراف خصوصاً)

ولهذا فقد شهدت الفترة 1875 وحتى عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى، سباقا محموما، ولكن غير متكافئ، بين الدول الرأسمالية الصناعية في مجال تصدير رؤوس الأموال، ولم تعد بريطانيا وحدها تستأثر بهذا التصدير وإنما سرعان ما شاركها في ذلك فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة.

فقد أصبح البحث – في هذه المرحلة- عن مغانم جديدة في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية من خلال تصدير رأس المال إليها للاستثمار في مجال إنتاج المواد الخام، أصبح حقلاً للتنافس الضاري بين الدول الرأسمالية الصناعية.

ولهذا فقد تميزت الفترة الممتدة من العقد الثامن من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى بصراع محموم بين المراكز الرأسمالية الاحتكارية لاقتسام مناطق العالم وضمان احتوائها للوفاء بمتطلبات استمرار عمليات تراكم رأس المال في تلك المراكز. يشهد على ذلك أنه في عام 1900 كان 90.4% من مساحة افريقيا و 75% من مساحة آسيا قد تم اقتسامها بين القوى الاستعمارية، لكن هذا التقسيم لم يكن متكافئا بين هذه القوى، وهو الأمر الذي أجج صراعا محموما فيما بينها، انتهى بإشعال الحرب العالمية الأولى.

على أن تكييف وتطويع المستعمرات والبلاد التابعة على النحو الذي يلبي حاجات تراكم رأس المال بالمراكز الرأسمالية الاستعمارية، كان يتطلب تحقيق مجموعة هامة من التغيرات الجذرية الداخلية.

وقد تمثلت أهم هذه التغيرات في إدخال نظام الملكية الخاصة للأراضي الزراعية، وإلغاء نظام المقايضة والتوسع في استخدام النقود، وإنشاء نظام نقدي ومصرفي يخضع لآليات نظام النقد الدولي آنذاك (قاعدة الذهب)، والقضاء على نظام الطوائف الحرفية، وخلق طبقة عاملة أجيرة للعمل في المناجم والمزارع والمشروعات الأجنبية بأجور زهيدة لا علاقة لها بمستوى الإنتاجية.

وفوق هذا وذاك، العمل على تكوين شرائح وفئات اجتماعية موالية، ترتبط مصالحها مع المستعمر. كما استخدمت سياسة إغراق هذه البلاد في الديون الخارجية، لإحكام السيطرة عليها والتدخل المباشر في شئونها الداخلية ، وفرض الاحتلال العسكري عليها فيما بعد.

ومن المؤكد ان تلك التغيرات الجذرية وما تمخض عنها من تنظيمات وقوانين وعلاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية ، أصبحت تتكفل فيما بعد بإعادة إنتاج واستمرار تقسيم العمل الدولي اللامتكافئ بين الرأسمالية المسيطرة والبلاد المتخلفة المسيطر عليها.

كان لهذه التغيرات نتائج مدمرة على مستقبل تطور المستعمرات وأشباه المستعمرات والبلاد التابعة، فقد تم تشويه بنيانها الإنتاجي من خلال نمط التخصص الذي فرض عليها وتم “شفط” فائضها الاقتصادي وحرمانها ، ومن ثم من مصادرها الذاتية للتراكم، عبر آليات الاستثمار الأجنبي وحرية التجارة.

ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية، وكان اندلاعها تجسيما لأزمة كبرى تمر بها منظومة النظام الرأسمالي، وانعكاسا للتناقض الشديد الذي تفجر بين القوى الاحتكارية في الدول الرأسمالية الصناعية.(على أثر بروز ألمانيا النازية وسعيها إلى مزيد من السيطرة على الأسواق العالمية بقوة السلاح)

وما يعنينا هنا أنه في خضم هذه الحرب وما بعدها، نشأت وتطورت حركات التحرر الوطني في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية ، لتؤدي في النهاية إلى الحصول على الاستقلال السياسي وخروج المستعمر، أو بعبارة اخرى الى إزاحة نظام السيطرة العسكرية والسياسية والإدارية المباشرة في المستعمرات وشبه المستعمرات، مع استمرار السيطرة عبر أشكال جديدة من الهيمنة الإمبريالية بالتعاون مع الشرائح الطبقية العليا من كبار الملاك والرأسمالية الزراعية والتجارية والكومبرادور إلى جانب الشرائح البيروقراطية في المستعمرات السابقة.

فقد أدركت الرأسمالية العالمية التي تولت قيادتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، أدركت ان إعادة إنتاج علاقات السيطرة والاستغلال تجاه الدول المتخلفة سوف يتطلب أشكالا جديدة، تأخذ بعين الاعتبار التغيرات المختلفة التي طرأت على علاقات القوى النسبية الفاعلة في العالم. وكان الوصول إلى هذه الأشكال هو أهم ما عبرت عنه مرحلة الإمبريالية.

إن السند الرئيسي الذي استندت عليه الرأسمالية العالمية في سعيها الدءوب لتجديد علاقات التبعية والسيطرة على البلاد المتخلفة حديثة الاستقلال، كان يتمثل في استمرارية بقاء الهيكل الاقتصادي التابع والمشوه الذي ورثته هذه البلاد من الفترة الكولونياليه والاستعمارية ، وما يرتبط بهذا الهيكل من شرائح وقوى اجتماعية اعتمدت مصالحها وقوتها في المجتمع على دوام هذا الهيكل.

ومهما يكن من أمر، فإننا لو ألقينا إطلالة سريعة على جوانب الخبرة التاريخية التي تراكمت في العقود السته التي تلت الحرب العالمية الثانية، لنستخلص منها أهم أدوات الإمبريالية الجديدة التي استخدمتها المراكز الرأسمالية الصناعية لاستمرار “تكييف” البلاد المتخلفة بعد حصولها على استقلالها السياسي، لأمكننا رصد الأدوات التالية:

1. سعت الدول الرأسمالية الاستعمارية إلى إيجاد نوع من العلاقات الخاصة الثنائية مع مستعمراتها السابقة.

2. استخدام سلاح ما سمي “بالمعونة الاقتصادية” : المعونات الغذائية والهبات والقروض والتسهيلات الائتمانية.

3. خلق روابط متينة مع بعض الفئات والشرائح الاجتماعية (من أشباه الإقطاعيين من كبار الملاك وكبار التجار إلى جانب ما يسمى بالوجهاء من أبناء العائلات .. الخ) ثم من رجال الحكم الجدد من كبار الموظفين المدنيين والعسكريين (البيروقراطية العليا) من أوساط البورجوازية الصغيرة والمتوسطة في الجيش والإدارة الذي ارتقوا إلى أعلى مراتب السلم الطبقي بدعم صريح من المراكز الرأسمالية، وتحولوا إلى خدام مخلصين لمصالحها كما هو حال الفئات الحاكمة في النظام العربي اليوم.

4. استخدام القوة العسكرية لوقف تطور بعض البلدان وتفكيكها (العراق والصومال والسودان وفلسطين) وكذلك أسلوب المعونات العسكرية التي قدمت لكثير من الأنظمة الديكتاتورية والرجعية لحماية وتأمين الأمن الداخلي لهذه النظم وقمع أي حركات ثورية بالداخل، ودمجها ضمن الإستراتيجية العسكرية للرأسمالية العالمية، من خلال إقامة القواعد العسكرية والدخول في الأحلاف واتفاقيات الأمن المتبادل (السعودية والإمارات وقطر ودبي والبحرين … إلخ).

كانت محصلة هذه الأدوات الهامة، استمرار هذه البلاد مجالا مفتوحا أمام الصادرات الاستهلاكية من البلاد الرأسمالية، ومجالاً مربحا للاستثمارات الأجنبية، ومصدرا غنيا ورخيصا للمواد الخام، دون أن تتحقق فيها أي تنمية ذات بال في مجال قواها الإنتاجية وتنويع بنيانها الإنتاجي في سياق تكريس مظاهر وأدوات التخلف والتبعية كما هو حال بلدان النظام العربي الرسمي في هذه المرحلة ، حيث تعمقت تبعية وخضوع الشرائح الطبقية الحاكمة في بلادنا العربية للهيمنة والشروط الأمريكية – الإسرائيلية، ما يؤكد على فقدان هذه الأنظمة لوعيها الوطني بعد أن فقدت وعيها القومي ولم يعد لها من هم سوى المزيد من استغلال ونهب ثروات شعوبها التي باتت من شدة معاناتها وحرمانها تتطلع بشوق للمشاركة في تغيير وتجاوز هذا الواقع المهزوم.

خامساً: مرحلة العولمة الرأسمالية الأحادية وصولاً إلى الأزمة المالية العالمية الراهنة:

لم يعد ثمة خلاف على أن المتغيرات العالمية ، النوعية المتدفقة ، التي ميزت العقدين الأخيرين من القرن العشرين، في السياسة و الاقتصاد و التطور العلمي ، شكلت في مجملها واقعاً تاريخياً معاصراً و رئيسياً وضع كوكبنا الأرضي على عتبة مرحلة جديدة ، في القرن الحادي و العشرين ، لم يعهدها من قبل ، و لم يتنبأ بمعطياتها ووتائرها المتسـارعة أشد الساسة و المفكرين استشرافا أو تشاؤماً و أقربهم إلى صناع القرار ، خاصة ذلك الانهيار المريع في كل من المنظومة الاشتراكية العالمية و منظومة التحرر القومي من جهة ، و الانحسار أو التراجع المريع أيضاً ، و لكن المؤقت للبنية الأيديولوجية أو الفكرية لقوى الاشتراكية و التحرر القومي من جهة أخرى ، الأمر الذي أخل بكل توازنات القوة و المصالح وفق مفاهيم و أسس الثنائية القطبية التي سادت طوال حقبة الحرب الباردة السابقة ، ووفر معظم مقومات بروز مرحلة الأحادية القطبية أو العولمة منذ ثمانينات القرن الماضي، التي اقترنت بالإمبريالية الأمريكية التي استطاعت -حتى تفجر الأزمة العالمية المالية في سبتمبر 2008- استكمال فرض هيمنتها على مقدرات هذا الكوكب ، بحكم ادعائها أنها المنتصر الوحيد ، و بالتالي صاحبة الحق الرئيسي في رسم و تحديد طبيعة و مسار العلاقات الدولية في المرحلة الجديدة وفق آليات ومفاهيم الليبرالية الجديدة ، لكن تفجر أزمة الرأسمالية الراهنة اكد بصورة جلية على دحض افكار منظري الليبرالية الجديدة أو نهاية التاريخ أو سقوط الايديولوجيا ، بمثل ما أكد ايضا على صحة ما تنبأ به كارل ماركس قبل 150 عاما بالنسبة لطبيعة الاقتصاد العالمي في مطلع القرن الحادي والعشرين ، وذلك استنادا إلى تحليله للمجتمع البورجوازي حيث اشار إلى ان مولد الاقتصاد الدولي المعولم هو أمر ملازم لنمط الإنتاج الرأسمالي ، وان هذه العملية ستولد ليس نموا ورفاهية فقط ، كما كان يبشر به منظرو الرأسمالية وساستها ، بل أيضا تولد نزاعات عنيفة وأزمات اقتصادية ومظالم اجتماعية ليس في بلدانها فحسب بل –وبصورة أكثر بشاعة- في بلدان الأطراف عموما وبلدان وطننا العربي خصوصا من حيث إبقائها رهينة للتبعية والتخلف والخضوع والهيمنة واحتجاز تطورها الصناعي وتنميتها الاقتصادية المستقلة .

تطور مفهوم العولمة وآثاره الضارة :

في سياق هذا التحول المادي الهائل الذي انتشر تأثيره في كافة أرجاء كوكبنا الأرضي بعد أن تحررت الرأسمالية العالمية من كل قيود التوسع اللامحدود ، بتأثير هذا التطور النوعي الهائل في مجال الاتصالات وثورة المعلومات والتكنولوجيا ، وقيام التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة ، كان لابد من تطوير وإنتاج النظم المعرفية ، السياسية والاقتصادية التي تبرر وتعزز هذا النظام العالمي الأحادي في ظل حالة من القبول أو التكييف السلبي ، بل والمشاركة أحيانا من البلدان الأوروبية واليابان وروسيا الاتحادية ، شجعت على تطبيق شروط العولمة ، إضافة إلى هذا المناخ العام المهزوم أو المنكسر في بلدان العالم الثالث أو الأطراف ، الذي أصبح جاهزاً للاستقبال والامتثال للمعطيات السياسية والاقتصادية ، الفكرية والمادية الجديدة عبر أوضاع مأزومة لأنظمة محكومة للشرائح العليا من التحالف البيروقراطي الكومبرادوري من ناحية أو لهذه الشرائح أيضاً بالتحالف مع رموز التخلف القبلي أو العشائري كما في مشيخات الخليج والسعودية، وقامت – حفاظاً على مصالحها الطبقية النقيضة لمصالح شعوبها- بتمهيد تربة بلادها للبذور التي استنبتها النظام العالمي ” الجديد ” تحت عناوين تحرير التجارة العالمية ، إعادة الهيكلة ، والتكيف ، والخصخصة، باعتبارها أحد الركائز الضرورية اللازمة لتوليد وتفعيل آليات النظام العالمي ” الجديد ” أو العولمة Globalization، كظاهرة نشأت في ظروف موضوعية وذاتية –دولية وإقليمية- مواتية ، وليس كحتمية تاريخية كما يدعي أو يتذرع أصحابها أو المدافعين عنها الخاضعين لشروطها المذلة ، فالعولمة ليست في حد ذاتها شكلا طارئا من أشكال التطور البشري ، وإنما هي امتداد بالمعنى التاريخي والسياسي والمعرفي والاقتصادي لعملية التطور الرأسمالي التي لم تعرف التوقف عن الحركة والصراع والتوسع والنمو ، المتسارع والبطيء ، منذ مرحلتها الجنينية الأولى في القرن الخامس عشر ، الى مرحلة نشوئها في القرن الثامن عشر ، ومن ثم تطورها الى شكلها الإمبريالي في نهاية القرن التاسع عشر ، هذه المرحلة التي وصل فيها النظام الرأسمالي طوره الإمبريالي المعولم الذي يسعى –استنادا الى منطق إرادة القوة المتوحشة- الى العودة بشعوب العالم الى جوهر وقواعد مرحلة النشوء الأولى للرأسمالية وآلياتها التدميرية القائمة على قواعد المنافسة الأنانية التي تضمن هيمنة الأقوى للاستيلاء على فائض القيمة المحلي في بلادنا كما في بلدان الأطراف جميعا ، باسم الشعار القديم “دعه يعمل دعه يمر” كدعوة صريحة تستجيب لفكرة الهيمنة التي تشكل اليوم هدف ومحور نشاط المراكز الرأسمالية المعولمة الراهنة ، ولضمان عملية التوسع الاكراهي -بالقوة العسكرية والاحتلال المباشر أو عبر أنظمة التبعية والتخلف والخضوع أو كلاهما معا- ضد مقدرات شعوب العالم الفقيرة باسم الخصخصة والانفتاح والليبرالية الجديدة، تحت ستار زائف من الشكل الأحـادي “الديمقراطي” الليبرالي وحقوق الإنسان (تتكفل به ما يسمى بـ “المنظمات غير الحكومية”)، هدفه الضغط على دول العالم عموما ، والعالم الثالث على وجه الخصوص ، للأخذ بالشروط الجديدة تحت شعار “برامج التصحيح والتكيف” التي تمثل كما يقول د.رمزي زكي “أول مشروع أممي ، تقوم به الرأسمالية العالمية في تاريخها لإعادة دمج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد الرأسمالي من موقع ضعيف ، بما يحقق مزيدا من إضعاف جهاز الدولة ، وحرمانها من الفائض الاقتصادي ، وهما الدعامتان الرئيسيتان اللتان تعتمد عليهما الليبرالية الجديدة” .

هذا هو جوهر الإمبريالية في طورها المعولم في القرن الحادي والعشرين ، وبالتالي فإننا نرى أنه ليس نظاما دوليا جديدا ، وإنما هو امتداد لجوهر العملية الرأسمالية القائم على التوسع والامتداد ، وهو أيضا استمرار للصراع في ظروف دولية لم يعد لتوازن القوى فيها أي دور أو مكانة ، ولذلك كان من الطبيعي أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي واليابان، باعتبارها القوة الوحيدة المهيمنة في هذه الحقبة ، بملء الفراغ الناجم عن انهيار التوازنات الدولية السابقة بهذه الصورة الاستبدادية المتوحشة.
وبنشوء هذا الفراغ ، السياسي ، الاقتصادي ، الأيديولوجي ، أصبحت الطريق ممهدة أمام المخططات التوسعية للرأسمالية صوب المزيـد من السيطرة ، ففي ضـوء وضوح هذه المخططات خلال العقود الثلاثة الماضية تتكشف الطبيعة المتوحشة للرأسمالية المعولمة اليوم على حقيقتها عبر ممارساتها البشعة ضد شعوب العالم الفقيرة ، وضد القيم الإنسانية الكبرى في العدالة الاجتماعية والمساواة ، كما في الثقافة والفكر والحضارة ، وذلك بالاستناد الى المؤسسات الدولية التي تكرست لخدمة نظام العولمة الرأسمالي الراهن ، وهي :

1. صندوق النقد الدولي الذي يشرف على إدارة النظام النقدي العالمي ويقوم بوضع سياساته وقواعده الأساسية ، وذلك بالتنسيق الكامل مع البنك الدولي ، سواء في تطبيق برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي أو في إدارة القروض والفوائد والإشراف على فتح أسواق البلدان النامية أمام حركة بضائع ورؤوس أموال بلدان المراكز الصناعية .

2.منظمة التجارة العالمية WTO وهي أهم وأخطر مؤسسة من مؤسسات العولمة الاقتصادية ، تقوم الآن بالإشراف على إدارة النظام التجاري العالمي الهادف الى تحرير التجارة الدولية وإزالة العوائق الجمركية، وتأمين حرية السوق وتنقل البضائع ، بالتنسيق المباشر وعبر دور مركزي للشركات المتعددة الجنسية .

وفي ضوء هذه السياسات والشروط المحددة من قبل الصندوق والبنك الدوليان من جهة ، ومنظمة التجارة الدولية من جهة ثانية ، أصبحت السياسة التجارية للدول المستقلة ، ولأول مرة في التاريخ الاقتصادي للأمم ، شأنا دوليا ، أو معولما ، وليس عملا من أعمال السيادة الوطنية أو القومية الخالصة … فعلى النقيض من كل ما كتبه مفكرو العولمة ، المدافعين عن إجراءات الخصخصة والليبرالية وتحرير التجارة العالمية ، وآثارها الإيجابية على الدول النامية ، فإن النتائج الناجمة عن اندماج بلدان العالم الثالث في هذه الإجراءات ، تشير الى تكريس مظاهر التبعية السياسية والمالية والتجارية والتكنولوجية، مع تزايد مظاهر الإفقار والبطالة وتراجع النمو وإعاقة عمليات التنمية في هذه البلدان وفقدانها لجوهر استقلالها السياسي والاقتصادي.

لكن تطور التناقضات الناجمة عن سياسات إقتصاد السوق والمنافسة الحرة والانفتاح بلا قيود أمام حركة رأس المال المالي والسلعي، ادى إلى نشوء وتراكم عوامل الأزمة المالية والاقتصادية التي تفجرت في سبتمبر/ أيلول 2008 ، الأمر الذي يؤذن ببداية مرحلة جديدة _ في إطار النمط الرأسمالي _ تقوم على حساب أحاديه الهيمنة الأمريكية على كوكبنا، وإزاحتها –بدرجات قليلة- صوب نظام قطبي تعددي في الاقتصاد والسياسة العالمية عبر ادوار جديدة ونسبية للاتحاد الأوروبي وروسيا والصين* واليابان والهند والبرازيل في إطار كتل سياسية اقتصادية وقواعد جديدة للعلاقات الرأسمالية العالمية فـي مرحلة ما بعد الأزمـة، دون أن نغفل دوماً دور الاقتصـاد القوي لأي دولة من الدول -خاصة أمريكا والاتحاد الأوروبي- ليلعب دوراً رئيسياً في كوكبنا لحساب النظام الرأسمالي، ودون أن نغفل أيضا تحليل كارل ماركس للرأسمالية ومكانتها في التطور التاريخي للإنسانية ، خاصة تحليله لعدم الاستقرار المركزي للتطور الرأسمالي الذي يمر عبر أزمات اقتصادية دورية تتولد ذاتيا ، ولها أبعاد سياسية واجتماعية كما يقول اريك هوبسباوم الذي يضيف قائلا :” ليس بوسع أي ماركسي أن يصدق ولو للحظة واحدة ما كان يقوله الأيديولوجيون الليبراليون الجدد في العام 1989 بأن الرأسمالية الليبرالية قد وطدت أقدامها للأبد ، وأن التاريخ قد وصل إلى نهايته ، أو أن يصدق بأن بمقدور أي نظام علاقات إنسانية أن يكون نهائيا وحاسما” .

———————————
* تسبب التحول الشامل إلى اقتصاد السوق الحر + رأسمالية الدولة في الصين إلى تكريس ظاهرة عدم المساواة والظلم الطبقي على نطاق واسع الأمر الذي أدى حسب اريك هوبسباوم إلى “مشاكل كبيرة لاستقرار المجتمع ، وأثار شكوكا حتى على المستويات العليا للحكومة” .

الكون تهدده العولمة الرأسمالية

تظهر دراسات وتقارير دولية كثيرة جدا مثل تقرير التنمية البشرية وتقرير البنك الدولي وتقرير منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة أن العولمة الرأسمالية في حالتها القائمة والسائدة تهدد على نحو خطير الدول والمجتمعات والبيئة والكون، ويصل حجم هذا التهديد إلى الكارثة والخطر.

كما تكشف شبكات جماعات المناهضة للعولمة الرأسمالية عن معلومات مذهلة حول ما تلحقه الأنشطة التابعة للعولمة الرأسمالية من تدمير فظيع يلحق باقتصاديات الدول والمجتمعات وثقافتها ونمط حياتها ومواردها وأنظمتها الاجتماعية والسياسية، والبيئة والهواء والأنهار والأرض والغابات والصحارى والبحار والمحيطات والجزر وجوف الأرض والموارد العالمية.

وتتفق التقارير والدراسات الدولية مع كثير مما تدعيه جماعات مناهضة العولمة حول التدمير الذي ألحقته العولمة الرأسمالية بسيادة الدول واقتصادياتها وثقافتها وبالبيئة العالمية والمحلية.

حتى في الدول الغربية قائدة العولمة حدثت أضرار كبيرة بالاقتصاد والضمان الاجتماعي وحقوق العمال والديمقراطية، وربما تكون أقوى جماعات مناهضة العولمة وأشدها فعالية بعد أميركا اللاتينية في أوروبا والولايات المتحدة.

ففي الولايات المتحدة الأميركية نفسها تبدو بوضوح مؤشرات الفجوة والتراجع الاجتماعي، ذلك أن 400 أميركي يملكون 12% من الناتج المحلي الإجمالي، أي بقدر ما يمتلكه 100 مليون أميركي، وأصبحت القروض والديون منذ العام 1990 ثلاثة أضعاف ما كانت عليه.

فقد قفزت من 185 مليار دولار إلى 584 مليار دولار، كما هبط معدل الادخار الشخصي خلال الفترة نفسها من 7% إلى 2%، ويعادل متوسط أجر واحد من الرؤساء التنفيذيين للشركات 326 مرة الأجر المتوسط للعامل، وأصبح الحد الأدنى لأجر العامل أقل بنسبة 20% عما كان عليه عام 1968.

ويكشف تقرير البنك الدولي في استطلاع أجراه وشمل 20 ألف شخص في 20 دولة قلقا متزايدا بين الناس من تأثير العولمة على الثقافة وحقوق الإنسان والبيئة والعدالة الاجتماعية، وبؤكد البنك الدولي أنه دون سياسات ترعى التقاليد المحلية فإن العولمة تقود فعلا إلى هيمنة الثقافة الأميركية.

كما أن العولمة قد تضعف الحكم، وتجعل بعض أدوات السياسة غير فعالة، وثمة ادعاءات في بعض الدول النامية بأن بعض الشركات الأجنبية تلجأ إلى الضغط خلف الكواليس والرشوة للحصول على امتيازات معينة في مجال الاتصال والتعدين على سبيل المثال.

وتتسبب سبع دول صناعية في إطلاق أكثر من 70% من غاز ثاني أكسيد الكربون في العالم، والولايات المتحدة التي تشكل أقل من 4% من سكان العالم تطلق أكثر من 25% من الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، وهذا يحتاج إلى جهد عالمي لخفض إطلاق الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وكان بروتوكول كيوتو الذي رفضت الولايات المتحدة أن توقع عليه التزاما دوليا عالميا لمعالجة سخونة الأرض.

وتبدي الدول الفقيرة -حسب تقرير البنك الدولي- غير القادرة على الاندماج في الاقتصاد العالمي والتي يعيش فيها حوالي 2000 مليون نسمة قلقها من التهميش الاقتصادي، ومن قدرتها على السيطرة على أراضيها، فالفقر والاعتماد على تصدير المواد الأولية والتراجع الاقتصادي تغذي الصراعات المسلحة الداخلية، وغالبا ما تفتقر هذه الدول إلى الخدمات العامة، ما ينذر بتدهور الوضع الاجتماعي كما حدث في بعض الدول الأفريقية.

وأظهرت تقارير منظمة الأغذية والزراعة الدولية أن العولمة والتحرر الاقتصادي تزيد من التصحر والتلوث خاصة الأنشطة القائمة على قطع الأشجار كما يحدث على نطاق واسع في المناطق الاستوائية والاعتداء على الأراضي الزراعية..

وأدى النظام الاقتصادي العالمي الجديد إلى أزمة ديون مالية أثقلت كاهل الدول، ومن أخطر مفارقات قضية الديون أن قيمتها كانت عام 1980 تساوي 529 مليار دولار، وتزايدت عام 2001 إلى 1956 مليار دولار، لكن ما سدد في الفترة نفسها كان 3784 مليار دولار.

وتؤكد الحقائق الثابتة بالتجربة وجود عدم استقرار مالي في البيئة المحدثة مؤخرا لتحرير أسواق رأس المال أكبر بكثير من السابق، وقد حلت في السنوات الأخيرة اضطرابات مالية، مثل الأزمة التي حلت بأميركا اللاتينية في السنوات 1979–1981، وأزمة ديون الدول النامية التي بدأت عام 1982، والأزمة المالية في المكسيك في العامين 1994 و 1995، والأزمة الآسيوية في العامين 1997 و 1998,وتخلف روسيا عن سداد القروض المعلقة سنة 1998، والانخفاض الشديد في قيمة العملة في البرازيل عام 1999.

ويبدو أن حدة الأزمات المالية وتكرار حدوثها تزايدت في العشرين سنة الماضية، وقد أفضت هذه الأزمات إلى اضطرابات اقتصادية حادة، وارتفاع معدلات البطالة، حتى إنها في كثير من الأحيان تسببت في عودة الفقر إلى الكثير من الأسواق الناشئة.

ويعترف صندوق النقد الدولي أن تدفقات رأس المال غير المقيدة تعرض البلدان للاضطرابات الخارجية، وقد يكون لها أثر في حدوث عدم الاستقرار، والأخطار الناتجة عن التدفقات المفاجئة نحو الخارج فد تكون مفهومة، أما تدفقات رأس المال نحو الداخل تحمل معها أخطارا، فقد تسبب صعوبات في إدارة السياسية النقدية وصعوبات في ضبط التضخم إضافة لما قد يؤثر في استقرار سعر الصرف والتنافسية التصديرية

وجاء في دراسة للصندوق عام 1997 أن هناك سببين يؤديان لإضعاف التفاؤل بمحفظة التمويل، أحدهما: احتمال حصول تغيرات في السوق العالمية للاستثمار، والتغير الحاصل في دورة الأعمال في العالم المتقدم، أو الاضطراب المالي، مثل حصول هبوط مفاجئ في أسعار الأسهم قد يسبب تزايدا كبيرا في بيع الأسهم.

وفي مثل هذه الحال ربما تنضب فجأة تدفقات محفظة الاستثمار إلى دول العالم النامي، وقد تكون عواقب ذلك كارثية، أي تجد دولة نفسها فجأة دون موارد مالية هي بحاجة إليها للحفاظ على مستوياتها الحالية في الاستهلاك والإنتاج.

والسبب الثاني فيتمثل في احتمال أن تتعرض دولة ذات أسعار صرف ثابتة لاعتداءات المضاربين على عملتها، وإذا حدث مثل هذا الهجوم فقد تنشأ حالة من عدم الثبات، ما يؤدي إلى إغلاق الباب بوجه تدفقات رأس المال.

لقد كان أول ضحية للعولمة الرأسمالية أكثر من 5000 أمة فقدت لغتها وثقافتها وأرضها ومواردها وأدمجت قسرا في حياة لا توافق عليها ولا ترغب بها، ويقدر عدد قتلى الصراعات بين الأمم والدول في الـ50 سنة الفائتة بخمسة ملايين نسمة، وأكثر من 15 مليون لاجئ، وأرغم أكثر من 50 مليوناً على ترك مواطنهم وأصبحوا مشردين داخل دولهم وأوطانهم.

مناهضة العولمة الرأسمالية أو العولمة البديلة

يرى المفكر سمير أمين أن التاريخ الطويل للحركات العمالية ومناهضة الاستعمار، وأخيرا الحركة العالمية الاجتماعية صاغ مشاريع جديدة من أجل عولمة بديلة، فالهيمنة الرأسمالية ليست قدرا حتميا ومن أهم ملامح مشروع البدائل: البحث عن تنمية معتمدة على الذات كما هي حركة التنمية ومسارها عبر التاريخ.

فهي يجب أن تخضع لحركة العلاقات الاجتماعية الداخلية ومعايير التنمية الذاتية والتحكم المحلي في إعادة إنتاج قوة العمل، وهذا يفترض أن سياسة الدولة تتضمن تنمية زراعية تنتج فائضا من الطعام بكميات كافية وبأسعار تتناسب مع متطلبات ربحية رأس المال، والتحكم في وسائل تركيز الفائض بما يضمن استقلال المؤسسات المالية الوطنية وقدرتها على توجيه الاستثمار والسيطرة المحلية على الموارد الطبيعية، لتمتلكها الدولة وبقدرة حرة على الاختيار بين استغلالها أو الإبقاء عليها، والسيطرة المحلية على التكنولوجيا بمعنى إمكانية إعادة إنتاجها بسهولة دون الحاجة لاستيراد مدخلاتها الأساسية باستمرار.

ويظهر تقرير “عولمة المقاومة، أوضاع النضال” مجموعة من الأهداف والمجالات التي استهدفتها العولمة الليبرالية الجديدة، ومن أهمها بالطبع النفط، الذي يمثل تحديا سياسيا واقتصاديا وبيئيا وجيوإستراتيجيا، والماء الذي يدخل أكثر وأكثر في إطار منطق السوق النيوليبرالي، فقد أصبح رهانا عالميا، وديون العالم الثالث التي تبدو كقمة جبل الثلج الذي يخفي آليات الاستيلاء على ثروات الجنوب لصالح اللاعبين الماليين التابعين للشمال، وسمحت الأوضاع الدولية خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول بتسارع التسلح العالمي وتدخلات القوى المسلحة الأميركية ومضاعفة مخاطر الحرب والتهديد بها.

وتهدف حركات النضال الاجتماعي في هذا السياق إلى معارضة الحتمية المفروضة حاليا في مجال الطاقة من أجل تحسين كفاءة استخدام الطاقة والحصول عليها بشروط معقولة، ويدور صراع اليوم بين وجهة النظر التقليدية التي ترى الماء حقا للجميع تشرف عليه السلطات العامة، واعتباره قيمة اقتصادية أو سلعة تخضع لظروف العرض والطلب.

والبنك الدولي أيضا يدعو في تقريره السنوي إلى مواجهة ما يصفه بالآثار الضارة للعولمة، ويدعو إلى برامج تراعي المعايير البيئية، والرعاية الاجتماعية، والحفاظ على الثقافة، وتطوير مناخ استثماري يصاحب الانفتاح الاقتصادي يجعله مفيدا وعادلا، مثل مكافحة الفساد، والتشريعات والسياسات المشجعة على الاستثمار والتنافس التي تمنع الاحتكار، والاستثمار في التعليم، وبناء مؤسسات ومرافق للصحة والضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية.

ويدعو أيضا الدول الغنية إلى زيادة مساعداتها للدول الفقيرة، وإدارة هذه المساعدات على نحو أفضل لتتمكن هذه الدول والمجتمعات من إجراء التغييرات المطلوبة للتكيف مع الاقتصاد العالمي ومواجهة التداعيات المرافقة لها، مثل فقد كثير من الوظائف، وزيادة تكاليف السلع والخدمات الأساسية، وتخفيف المعاناة الموجودة في بعض الدول بسبب الأمراض والأوبئة كالملاريا والإيدز، وتوفير الأدوية والمبتكرات الصحية إلى من يمكن أن يفيدوا منها.

ويدعو التقرير إلى تخفيف عبء الديون، فالكثير من الدول الأفريقية -حسب التقرير- ترزح تحت أعباء من الديون لا يمكنها احتمالها، وسيؤدي تخفيف أعباء الدين عن هذه الدول إلى زيادة قدرتها على خفض الفقر والمساهمة في الاقتصاد العالمي مع ضرورة دفع هذه الدول إلى تطبيق سياسات إصلاحية في الحكم والإدارة والتشريع والقضاء لتحسين المناخ الاستثماري والخدمات الاجتماعية فيها.

وقد يؤدي الانخفاض الكبير الذي حدث في تكاليف الاتصالات والمعلومات والنقل لجعل العولمة ذات مزايا وفرص للناس للتعاون ومواجهة مشكلاتهم وزيادة الوعي والرقابة العالمية على أنشطة وأداء الحكومات والشركات الكبرى وحماية البيئة والحقوق الأساسية وتحقيق العدالة والمساواة ورفع الظلم والاعتداء عن المستضعفين.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى