تطور النزاع البيئي و أثره على العلاقات شمال – جنوب

إن التحولات الدولية التي شملت كل المجالات أدت إلى إفرازات مختلفة على العلاقات الدولية ومنها بالأسس علاقات الدول الصناعية الغنية بالدول النامية و الفقيرة. فإلى جانب مشاكل التبعية الاقتصادية والسياسية التي تنخر هذه العلاقات، برزت مشاكل البيئةكمصدر أخر ضاعف من تعقد هذه العلاقات بسبب ما تحمله هذه القضية من تحديات لمشاريع التنمية في الدول النامية.

فمنذ مؤتمر قمة الأرض سنة 1992 والذي ربط بين ما سمي بالآمن البيئي و قضايا التنمية و جدت الدول النامية نفسها في معركة لا تمتلك وسائل إدارتها و هي لم تنتهي بعد من معركة التبعية و من مشاكل الفقر و الأمراض و البطالة و الإرهاب. و في وقت لم تحسم فيه معاركها مع الدول الغنية حول العديد من المسائل، لعل أهمها مسألة نقل التكنولوجيا و المساعدات.

فارتباط برامج التنمية في الدول النامية بالعون التقني و المالي من الدول الغنية و المؤسسات المالية الدولية، و امتناع هذا العون أو قصوره يعرقل هذه الدول عن النهوض بأعباء الآمن البيئي و التصدي للأخطار البيئية. و قد شكل هذا التقاطع بين البيئة و التنمية، بؤرة صراع جديدة في علاقات الدول الصناعية الغنية بالدول النامية التي عليها التوفيق بين حماية البيئة وتحقيق التنمية التي ترتبط باستثمار هذه الدول لمواردها الطبيعية، الأمر الذي يقلق الدول الصناعية التي ترى في ذلك الخطر الأكبر الذي يهدد البيئة .

أولا: تطور الاهتمام الدولي بقضايا البيئة:

بدأت أهمية المحيط الاجتماعي البيئي تتعاظم وذلك بالتوازي مع نمو النشاط البشري وتطور الحاجيات الإنسانية والذي أدى بدوره إلى الاستغلال المفرط للعديد من موارد البيئة بشكل قارب بعضها فيه على الفناء .كما أدى هذا الاستخدام المفرط أيضا إلى بروز وتطور أخطار بيئية أصبحت تهدد حياة الإنسان على كوكب الأرض على نحو أثار تخوفات أصدقاء و علماء البيئة ، الذين آخذو يدقون ناقوس الخطر مطالبين بالتدخل . لتتحول بعد ذلك قضية البيئة إلى مشكلة وقضية دولية تتحمل مسؤولياتها الدول والمنظمات الحكومية و كل الفواعل الدولية .

و بدأت الجهود الدولية في مجال البيئة تتطور مع انعقاد مؤتمر ستوكهولم في سنة 1972 الذي ربط بين القضايا البيئية وقضايا الإنسان، إذ تضمنت المبادئ الستة والعشرين (26) التي انتهى إليها المؤتمرون ضرورة المحافظة على الموارد الطبيعية للعالم لمصلحة الأجيال الحاضرة والمستقبلية كما جاء في مبدأ الأول. كما أكد المبدأ الثامن والتاسع (8-9) على أن التنمية الاقتصادية شرط مسبق لتحسين نوعية الحياة وهي علاج لتدهور البيئة، وعليه فإن حماية البيئة يجب أن تشجع أهداف التنمية ولا تعمل على تراجعها (المبدأ الحادي عشر)1.

وقد تكرس هذا الهدف مع المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية “قمة الأرض” الذي انعقد في ريو دي جنيرو بالبرازيل في سنة 1992 بمشاركة الدول الصناعية الكبرى وهي الولايات المتحدة، الدول الأوروبية واليابان وبعض دول شرق أسيا والدول النامية والمتخلفة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب أسيا، بالإضافة إلى منظمات دولية. وكانت بذلك أول قمة من نوعها كونها شكلت القاسم المشترك بين الشعوب الغنية والفقيرة من أجل بحث سبل معالجة الأخطار البيئة2، وذلك استجابة للأخطار والتحديات التي أصبحت تهدد الإنسان والتي من أهمها:

– تضاعف أخطار التلوث الناتجة عن تصاعد الغازات وانتشارها .

– ارتفاع حرارة سطح الأرض.

– اضمحلال طبقة الأوزون

– تهديد التنوع الجيني لأنظمة البيئة

– التصحر وتدمير الغابات

– تدهور التربة

– الزيادة السكانية.

وخلص المؤتمر إلى توقع اتفاقيتين تتعلق الأولى بإنقاذ كوكب الأرض وأنواع الحيوانات، وقعتها أكثر من 150 دولة، وامتنعت الولايات المتحدة عن التوقيع. أما الاتفاقية الثانية فإنها تتعلق بمكافحة ارتفاع درجات الحرارة في أنحاء العالم من خلال الحد من انبعاث الغازات. كما صدر عن المؤتمر وثيقة خطة عمل من 800 صفحة سميت بمبادئ التنمية المتوافقة مع متطلبات البيئة القابلة للاستثمار في كل ميدان من ميادين النشاط الاقتصادي3

وما يمكن الإشارة إليه خلال هذا المؤتمر هو إلزام الدول الصناعية بتوفير المساعدات المالية للدول الفقيرة في إطار الجهود الدولية لحماية البيئة. فقد تضمنت اتفاقية تغير المناخ في الفقرة الثانية من المادة الرابعة : “بأنه على الدول المتقدمة ومجموع الدول المصنعة ، اتخاذ التزامات خاصة تتضمن إجراءات وسياسات تعمل على خفض الغاز الذي يتسبب في الاحتباس الحراري إلى مستواه الذي حصله في سنة 1990. كما نصت على أن الدول المتطورة مطالبة بتوفير مصادر مالية إضافية لتغطية مجمل المصاريف المستوجبة (التي تتحملها) على الدول النامية، التي تم بموجب (الاتفاقية، المادة 4 الفقرة 3) إعفائها منها4. وهو ما يعني أن تطبيق بنود الاتفاقية يبقى مرهون بالمساعدات التي تقبل الدول الغنية دفعها.

وتواصلت الجهود الدولية المتعددة الأطراف* في محاولة لضبط بعض المعايير وتحديد بعض السياسات لترشيد سلوك الدول في التعامل مع مشكلات البيئة. وبهدف تحديد قواعد ومبادئ توجيهه لمعرفة كيفية احتواء النشاطات التي يقوم بها الإنسان والمتصلة بالتغيرات المناخية، طالب بروتوكول كيوتو الذي انعقد في سنة 1997 ، بالتنسيق بين مختلف الأطراف(الولايات المتحدة والاتحاد ، الأوروبي والدول النامية ) فيما يتعلق بالتدابير الكفيلة بللحد وخفض انبعاثات الغازات الدفيئة وثاني أكسيد الكربون والكلوريد والميثان. وقد اعتمدت نسبة الانبعاثات لسنة 1990 كنسبة مرجعية التي يجب الوصول إليها في سنة 2012. كما تم تحديد نصيب الدول الصناعية من هذه الانبعاثات التي عليها الالتزام بها وتطبيقها خلال الفترة من 2008-2012 وذلك كالتالي5:

8 % بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي (بأعضائه 15) مع بعض الاستثناءات، حيث حافظت فرنسا على النسبة التي كانت تنتجها بسبب اعتمادها على الطاقة النووية التي اعتبرت ضعيفة في انبعاث الغازات، في حين سمح لأسبانيا برفع نسبة هذه الانبعاثات إلى 15% بسبب تأخرها الصناعي.

7% بالنسبة للولايات المتحدة

6% لكل من اليابان وكندا

8% بالنسبة لاستراليا

أما بالنسبة لروسيا وأوكرانيا وبسبب الانكماش الصناعي في كلا الدولتين، فقد سمح لها الاتفاق بالمحافظة على الوضع القائم، في حين أعفيت الدول النامية والصين والمكسيك والبرازيل من تحديد نسبتها.

ويرى كثير من الخبراء بأن النسبة الإجمالية لخفض الغازات والتي وقفت عند سقف 5.2% لايمكنها منع التغيرات المناخية لأن الآمر يتطلب نسبة 60% وهي نسبة تسمح بحصر والحد وبفاعلية من ارتفاع درجة الحرارة6.

وخلال مؤتمر جوهانسبورغ، الذي يعتبر القمة الثانية للأرض، تركزت جهود المشاركين حول التأكيد على التنمية المستدامة .فالسياسات الاقتصادية المتينة والمؤسسات الديمقراطية القومية وتحسين البنى التحية تشكل كلها أساسا لنمو اقتصادي مستدام والقضاء على الفقر

وإيجاد وظاالبيئة.أنها تستلزم الحرية والسلام والأمن والاستقرار الداخلي واحترام حقوق الإنسان وتدعوا إلى تعاون بين أنماط التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحماية البيئة7.

إلا ان هذه الجهود التي بدأت منذ 1992،لم تتوصل إلى اتفاق يرضى جميع الأطراف و يحدد معايير دولية واضحة تضبط الحفاظ على البيئة بمفهوم شامل يأخذ مصالح جميع الأجيال شمالا و جنوبا . فأغلب الاتفاقيات البيئية لا تحتوي إلا على نصوص ضعيفة وغير ملزمة ولم تضع ارتباطات صارمة لوقف تدهور البيئة. ولعل أحد أهم الأسباب التي حالت دون التوصل إلى مثل هذا الاتفاق على الرغم من تضاعف الأخطار البيئية ،إنما تكمن في محاولة الدول الصناعية الكبرى المحافظة على مصالحها الأمر الذي دفعها إلى التركيز الضيق على الموضوعات البيئية ، محاولة بذلك تكريس موازين القوى لصالحها على حساب الدول الفقيرة والضعيفة و هذا ما تبرزه الخلافات التي أثيرت خلال مختلف المفاوضات و التي مازالت قائمة إلى غاية اليوم.

ثانيا: قضايا النزاع البيئي وانعكاساتها على علاقات الشمال بالجنوب:

يبدو أن الدول الفقيرة أو المتخلفة أو النامية، كما تعدد التسميات، محكوم عليها بالتبعية والتخلف وذلك ما يفهم من النزاع حول قضايا البيئة وسبل مواجهة الأخطار التي تهددها وإصرار الدول الصناعية الكبرى الغنية على جر هذه الدول إلى اتفاقيات تلزمها بدفع ضريبة التدهور البيئي، الذي لم تكن المتسبب الرئيسي فيه وتفرض عليها حدا لتنميتها الاقتصادية والاجتماعية في محاولة لدفع المسؤولية الكاملة عنها.

إن محاولة إلزام الدول الجنوبية بتحمل أعباء المشاكل البيئية دون مراعاة لخصوصياتها ومساومتها على قضية النمو، يفسر فصلا أخر من فصول الصراع الجوهري بين الشمال والجنوب وهو صراع ليس بالجديد وإنما بدأ مع الحملات الاستعمارية التي ولدت ظاهرة الاستغلال والتبعية. فمنذ انعقاد مؤتمر ستوكهولم سنة 1972 وإدراج الدول النامية لمجموعة من المبادئ وافق المؤتمر عليها، والتي تتحدى النظرة السائدة للتنمية الاقتصادية و حماية البيئة ،احتدم الصراع بين الدول الصناعية و الدول النامية حول العديد من القضايا التي توضح اختلاف تصورات الطرفين التي ضاعفت من الهوة الموجودة بين الشمال و الجنوب. ففي الوقت الذي تصر فيه الدول النامية على قضايا8 :

– نقل التكنولوجيا

– حل مشكل الديون ومحاربة الفقر

– استقرار أسعار المواد الأساسية

– المطالبة بمساعدات إضافية لمواجهة التزامات حماية البيئة وتأسيس صندوق أخضر وتأكيد حق ومبدأ التنمية.

– رفض مبدأ المسؤولية المباشرة وغير المباشرة

– الدفاع عن مبدأ المسؤولية المباشرة في استغلال ثرواتها وتجنب كل أشكال المشروطية

– المطالبة بمبدأ المسؤولية والتعويض التي تتحملها الدول الصناعية بسبب سياساتها التجارية التي كانت ضارة بالبيئة.

فان دول الشمال تطالب من جهتها9:

– تجنب فرض أعباء مالية تكون الوحيدة في تحملها

– المطالبة بعولمة الأنظمة البيئة التي تضعها هي .

– رفض المساعدات الإضافية و إخضاعها للمراقبة.

– تأكيد مبدأ الحيطة والملوث الدافع Pollueur-payeur

– رفض الإدانة الأحادية ومسؤوليتها في تدهور أوضاع البيئة

-ورفض تحول لقاء ريو إلى قمة للتنمية وإجراءات تكون أثارها سلبية على اقتصادها الوطني

والمقارنة بين مطالب الطرفين توضح التصورين المختلفين لمفهوم حماية البيئة، فبينما يأخذ تصور دول الجنوب بعدا إنسانيا أشمل يتضح من خلال التأكيد على علاقة حماية البيئة بالتنمية وحل مشكلة الديون التي تؤرق الاقتصاد الجنوبي، فان تصور الشمال يأخذ مفهوما ضيقا لحماية البيئة يركز فقط على مظاهر الأزمة ويؤكد المسؤولية المشتركة في دفع ضريبة التلوث بهدف فرض مزيد من القيود على دول الجنوب ،تضاف إلى بقية القيود والضغوطات التي تعانيها على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني.

وقد طبع الخلاف بين الطرفين مختلف المؤتمرات واللقاءات الدولية التي تمت في هذا الإطار، بدءا من قمة الأرض وتحت شعار “عالم واحد” حاولت الدول الصناعية والغنية في الشمال، جرجرة الدول النامية إلى مصيدة القيود البيئية التي تحد من حركتها التنموية . ففي اتفاق كيوتو، حاولت الولايات المتحدة إلزام الدول النامية بخفض الانبعاثات الغازية الضارة بالغلاف الجوي والتي تعرف بغازات الاحتباس الحراري، وكانت حربا قوية انتهت بانتصار الدول النامية التي رفضت أن تدرج على قائمة الدول التي فرض عليها خفض الانبعاثات، مؤكدة (الدول النامية) على أن تغيير المناخ بسبب ارتفاع درجة الحرارة سببه الدول الصناعية منذ الثورة الصناعية واكتشاف الفحم والبترول ولذلك فهي المطالبة ولوحدها بدفع الضريبة، وطبقا للاتفاقية التي وقعت في سنة 1992 والتي أقرت المسؤولية المشتركة، لكن المتباينة بتباين القدرات والإمكانات لكل دولة عضو في الأمم المتحدة، فإن الدول الصناعية الغنية تتحمل الجزء الأكبر من أي أعباء مطلوبة للتعامل مع تلك الظاهرة التي تهدد مستقبل التنمية المستدامة في العالم10.

و لم تتوقف مناورات الدول الصناعية حتى اللحظات الأخيرة من الاجتماع الذي تم في مدينة كيوتو اليابانية في نوفمبر 1997. فقد أعلنت الولايات المتحدة التي تنتج نحو 25%من انبعاثات العالم من غازات الاحتباس الحراري، عن انسحابها من البروتوكول باعتباره ليس أفضل السبل لمواجهة مشكلة تغيير المناخ. وكان أن تضمن البروتوكول ما عرف بآليات المرونة وآليات كيوتو التي تتيح للدول الصناعية أن تتعامل مع بعضها أو مع الدول النامية من أجل خفض الانبعاث على المستوى العالمي واستخدام آلية التنمية النظيفة11.

ان بعض أوجه هذه الخلافات و المراوغات في كل اللقاءات تكشف النوايا الحقيقية للدول الصناعية التي استمرت في تخريب النظام البيئي خاصة في الدول الفقيرة و ترفض بعد ذلك المساهمة في حمايته. و الأكثر من ذلك فإنها تحاول فرض و إجبار الدول الفقيرة على حماية البيئة دون مراعاة لأوضاعها المتدهورة على جميع المستويات و هو ما يتضح من قضية المساعدات و الديون موضوع الصراع البيئي .

ثالثا:التنمية المستدامة و الديون البيئية.

يقصد بمفهوم التنمية، الإدارة الجيدة لكافة موارد البيئة و المحافظة عليها و استثمارها إلى أقصى حد ممكن دون تدميرها أو القضاء عليها.أما التنمية المستدامة،فتعني التنمية التي تلبي حاجات الحاضر دون المساومة على قدرة الأجيال المقبلة في تلبية حاجاتهم و هي بذلك تضم مفهومين متداخلين و هما:

– مفهوم الحاجات الأساسية لفقراء العالم و التي ينبغي أن تعطي الأولوية المطلقة.

– فكرة القيود التي تفرضها حالة التكنولوجيا و التنظيم الاجتماعي على قدرة البيئة للاستجابة لحاجات الحاضر و المستقبل.

و بهذا، فان التنمية المستدامة تعني الاستمرار أو التواصل في عملية التنمية و هي بذلك تنطوي على قيمة “المساواة بين الأجيال “.فالجيل الحالي مطالب بحماية البيئة من خلال ضمان التوزيع المناسب و العادل للموارد و الحقوق و الثروات بين الأفراد عبر الزمن.و عرفت الوكالة العالمية للبيئة و التنمية ،التنمية المستدامة بأنها” التنمية التي تواجه احتياجات الأفراد الراهنة دون الإنقاص من قدرة الأجيال المقبلة على مواجهة احتياجاتها “12. كما تعني التنمية المستدامة أيضا، وضع سياسات للبيئة و التنمية نابعة من الحاجة إلى التنمية مع التركيز على تنشيط النمو و معالجة مشكلات النمو السكاني و إعادة توجيه التكنولوجيا و دمج البيئة في الاقتصاد عند صنع القرار.

ان الحديث عن حقوق الأجيال القادمة لا يحتاج إلى نقاش و لكن ماذا لو أن الجيل الحالي لم يحصل على حقوقه في الصحة و الغذاء و في الماء الصالح للشرب و في التعليم و في الهواء النقي؟. كيف يمكن التوفيق بين حقوق الجيل الحاضر و الأجيال القادمة كما هوحال شعوب الدول الفقيرة ؟ ،التي هضمت الدول الغنية حقوقها لعدة قرون و استنزفت ثرواتها و تحاول اليوم الحد من حقها في التنمية من خلال تحميلها مسؤولية المحافظة على ما تبقى من ثروات من خلال الإستراتجية البيئية التي تحاول بلورتها عبر الاتفاقيات البيئية الخاصة بالتصحر و الجفاف و التغيير المناحي و التنوع البيولوجي . و هي إستراتجية تقوم على العديد من الآليات التي تكرس التبعية و التخلف و من أبرزها:

أ- إستراتجية المعايير البيئية . تتلخص هذه الإستراتجية، في وضع معايير تقاس على أساسها المشروعات التنموية و ترتب حسب اقتراب أو ابتعاد مقدار التلوث و التدهور البيئي الذي يمكن ان يحدثه كل من تلك المشاريع في المعيار الموضوع.و هذا يعني عدم البحث في أصل المشكلة و أطرافها الحقيقية . كما يعني أيضا تهميش مطالب الدول النامية و حقها في النمو الاقتصادي ، من حيث ان هذه المعايير تشكل قيودا على حركتها التنموية . و بهذا، فان حق الأجيال القادمة يستثني حق الأجيال الحاضرة في الدول النامية بالنظر إلى انتشار الأمراض و الفقر و تدني مستويات المعيشة في هذه الدول إلى أدنى مستوياتها.

ب-إستراتجية المساعدات. و تقوم على اختزال الدول الغنية لمسؤوليتها في حماية البيئة إلى حفنة المساعدات الموجهة و المشروطة التي تقدم إلى الدول النامية ، لتضاف إلى تلك التي تحصل عليها هذه الدول من قبل و التي ضاعفت من تبعيتها و تخلفها .

ان تجربة الدول النامية مع المساعدات توضح كيف أن هذه الأخيرة أسست أنماطا تنموية غير فعالة ،الأمر الذي ساهم في تهميش هذه الدول وشعوبها، وباستثناء المشروطية والانعكاسات السلبية لهذه المساعدات، فهي أيضا غير مضمونة وغير مستقرة لأنها تخضع لتقلبات الأوضاع الاقتصادية للدول المانحة. فقد انخفضت مساعدات الدول المانحة في إطار لجنة المساعدة « Comité d’aide audéveloppement »،التابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE ما بين سنة 1991 وسنة 1997، إلى ما يقارب 25% 13وتراجعت هذه المساعدات من 195.5 مليار دولار سنة 1996 إلى 189.5 مليار دولار في سنة 199714 .ولم تستطع الدول الغنية في إطار لجنة المساعدة الوفاء بالتزاماتها وتحقيق النسبة التي حددتها الأمم المتحدة منذ سنة 1970، وهي 0.7% 15.

فتحت تأثير انخفاض دخل الدول المانحة، الذي وصل إلى 0.22% سنة 1997، (بعد سلسلة من الانخفاضات بدأت منذ 1993 . 0.30% سنة 1993-1994، 0.25%في سنة 1996)، لم تستطع سوى أربع دول ،الوفاء بهذه الالتزامات وهي الدانمرك (0.97%)، النرويج (0.86%) دول الهضاب المنخفضة (0.81%) والسويد (0.79%)، أما باقي الدول الأخرى، فقد تراوحت مساهمتها ما بين 0.1% و 0.45% (السويس 0.32%)، كندا 0.28%، أستراليا 0.26%، اليابان 0.23%، الولايات المتحدة 0.13%، (أرقام سنة 2002).16كما أن معظم هذه المساعدات كانت توجه نحو أوربا الوسطى والشرقية (ألبانيا، كرواتيا، يوغسلافيا) ودول أمريكا اللاتينية (الأرجنتين، بوليفيا، البرازيل، الشيلي) 17، وهذا يعني أن نصيب القارة الإفريقية كان ضعيف جدا وهي القارة الأكثر فقرا. ان الوضع الاقتصادي المتردي في العديد من دول الجنوب يبن محدودية نتائج إستراتجية المساعدات في إدارة القضايا البيئية و يدين الدول الصناعية في التدهور البيئي و ذلك من زاويتين هما:

أولا: أنها هي التي تسببت في الانبعاثات الغازية السامة.

ثانيا: أنها كرست الفقر والجوع في الدول الفقيرة التي تريد الوصول بالركب الحضاري اليوم، من خلال استغلال ثرواتها الباطنية.

ج- إستراتجية المقايضة. فقد تحولت مسألة الأمن البيئي إلى ما أطلق عليه البعض بالاستعمار البيئي. و تعتمد عملية المقايضة على ربط قضايا البيئة بتسوية مشكل الديون والتي بلغت سنة 1989 إلى 1200مليار دولار18 ووصلت سنة 2001 إلى نحو 2527 مليار دولار حسب إحصائيات البنك الدولي وتسدد الدول النامية ما قيمته 200 مليار دولار سنويا19.

ووجدت الدول النامية فرصة في ربط تسوية مشكل المديونية بحماية التدهور البيئي، و بدأت الفكرة مع إعلان أمازوني الذي تم تبنيه في سنة 1984 بمانوس Manaus الذي ربط ضمنيا، بين أعباء البيئة واستغلال الموارد الطبيعية كما جاء في الفقرة السابعة.و أكد إعلان التعاون الاقتصادي الدولي الذي تم تبينه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في ماي سنة 1990، على العلاقة بين التنمية الاقتصادية وتدهور البيئة، وجاء في إعلان طوكيو لجوان 1992 ،بأن الحلول الدائمة لمشاكل الديون الخاصة بالدول النامية تشكل أولوية للانتقال نحو تنمية مستدامة20.

وقد تمت أول عملية مقايضة للديون بالطبيعة في سنة 1987، مع بوليفيا التي أنشأت ثلاث مناطق عازلة بمساحة 3.7 مليون كلم 21 بالقرب من محمية بني بيوسفير. وقد تم تجنيد ما قيمته 250 ألف دولار بالعملة المحلية لتغطية نفقات الإدارة طويلة المدى للحفاظ على البيئة (ConservationInternational CI) بشراء ما قيمته 650 ألف دولار من ديون بوليفيا بمبلغ 100 ألف دولار (بحجم بلغ 85% من السعر الحقيقي للدين) . وفي سنة 1987، تم التفاوض أيضا مع كل من الاكوادور وكوستاريكا بشأن مقايضات وتم شراء ديونها بحجم بلغ 65% و85%، كما أبرمت مقايضات مع كل من الفلبين وزامبيا ومدغشقر، هذه الأخيرة بمساهمة الوكالة الأمريكية للتعاون الدولي22.و وافق نادي باريس على عملية مقايضة مع بولندا، حيث تم صرف ما قيمته 3.3 مليار دولار في تنظيف البيئة، وتقضي الخطة البولندية بتقديم 100% من الإعفاء لتمويل البرامج البيئية يدفع بالعملة المحلية، وكانت هذه زيادة -على الإعفاء المقدم من دول نادي باريس من دين خارجي بلغ 35 مليار دولار- مكافأة لبولندا على برامجها للإصلاح الاقتصادي23.

إن سياسة بيئنة écologeالمساعدات وتسوية مشاكل الديون، أضخت وسائل ابتزاز جديدة وضغوط، سوف لن تساعد الدول النامية على تحقيق مشاريعها من أجل الرفع من مستوى معيشة شعوبها ، لأن هذه المساعدات والمقايضة تنطوي على العديد من الشروط المجحفة في حق التنمية ومنها إخضاع هذه المساعدات إلى إجراءات تقيمية وتفحصية تحدد ملائمتها وتدرس آثارها على البيئة، مما يعني أن تحسين الوضعية الاقتصادية لا يشكل أولوية المساعدات.

فخلال قمة أمستردام سنة 1997 جعل الاتحاد الأوروبي من التنمية المستدامة هدفا أساسيا لاتفاقيات الشراكة الاقتصادية مع الدول الإفريقية، الكرابيب والباسفيك(حلت محل اتفاق لومي ). كما أن صندوق النقد الدولي كان أول مؤسسة مالية دولية تنشأ وحدة مكلفة بمسائل البيئة،مهمتها إدماج المعايير البيئية في المشاريع التي تمولها في الدول النامية. وفي سنة 1969 عين البنك الدولي مستشارا خاصا بالبيئة وتم في سنة 1971 خلق مكتب شؤون البيئة مهمته دراسة وتقسيم أثار مختلف المشاريع التي تستفيد من قروض البيئة24.

إن هذا التصور لمعالجة الأخطار البيئية الذي يقوم على المساعدات والمقايضة المشروطة يعني وبكل بساطة أن الدول الغنية تتهرب من مسؤوليتها عن التدهور البيئي و نهب الثروات في الدول النامية، وهي بذلك ترفض أن تساوم على رفاهها و رفاه أجيالها ،كما جاء في تصريح الرئيس بوش خلال قمة ريو”: ان نمط العيش الأمريكي لا يقبل التفاوض”25.

و من هنا، فان مسألة الاتفاق حول حماية البيئة يجب أن تطرح في إطار أوسع و هو إعادة النظر في النظام الاقتصادي الدولي القائم و مختلف المؤسسات المالية التي تهيمن عليها الدول الغنية إلى غاية اليوم و تحدد معاييرها بما يتماشى و مصالحها، و هذا لن يتأتى إلا بتكتل الدول النامية و توسيع موضوع التفاوض إلى طرح شامل يأخذ بعين الاعتبار مشاكل التجارة و أسعار المواد الأولية و نقل التكنولوجيا و لا تكتفي بحفنة المساعدات التي تعمق التبعية و التخلف . فقد أعلن موريس سترونغ قبل بدأ قمة الأرض بريو ، أن الأمر يتطلب ما قيمته 125 مليار سنويا لتنفيذ برنامج الأمم المتحدة (برنامج 21) ، و أن حجم الأموال التي وعد بها قليلة26.كما يجب. على الدول النامية أن تبدأ بالمطالبة بديونها البيئية من الدول الصناعية، والتي لا ترحم أحدا من الديون المالية بينما تستمر في استنزاف واستهلاك الموارد الطبيعية لهذه الدول بكثافة وبأسعار قليلة جدا ولا تمنحها أية فرصة للتحرر من هذه الديون كما لا تعترف بالديون البيئية التي تراكمت على مدى عقود وقرون من الاستغلال المتواصل.

فبالاعتماد على معايير أخرى أكثر موضوعية، نصبح أمام مفهوم آخر من الديون و هو الدين البيئي الذي يمثل مجمل مستحقات الدول الغنية تجاه الدول الفقيرة و التي ولدتها سياسة الاستعمار و الاستغلال و هو دين يفوق ديون الدول النامية كثيرا .في سنة 1990 صاغ معهد البيئة السياسية في الشيلي ،مفهوم الدين البيئي معتمدا في ذلك على معاينة أمراض الجلد الناتج عن ثقب طبقة الأوزون ووجه التهمة مباشرة إلى الدول الغنية المسؤولة عن إنتاج مادة CFCالتي تتسبب في التغير المناخي. و في سنة 1999 طرحت قضية الدين البيئي في جوهانسبورغ بإفريقيا الجنوبية و بدأت حملة المطالبة بتسديده و الاعتراف به و من أهم مظاهر هذا الدين يمكن الإشارة إلى27:

– الدين الناتج عن استغلال و استنزاف الثروات الطبيعية للدول النامية (البترول،النباتات،الثروة الحيوانية…..)

– دين الفحم الناتج عن الغازات التي تتسبب في الاحتباس الحراري، 50% من الغازات الملوثة تنبعث من الدول الغنية.

– تصدير المواد الخطرة و النفايات السامة للدول النامية

– القرصنة البيولوجية إذ تحتوي البلدان النامية على نحو 85 % من التنوع البيولوجي تستغلها الدول الصناعية الكبرى .

و قد قدرت هذه الديون بنسبة 40 إلى 60 مليار دولار. و في إطار المطالبة بتسديد هذا الدين ، تأسست الشبكة الأوروبية لفرض الاعتراف بالدين و تضم جمعيات عديدة من اسبانيا ،الهند ايطاليا،البيرو ،الاكواتور ،فرنسا و بريطانيا .و تمثل هذه الديون جزءا بسيطا من مسؤولية الدول الصناعية تجاه الدول النامية ،التي لا تريد ان تتحملها .

ان تعنت الدول الغنية و إصرارها على تحميل الدول النامية مسؤولية التدهور البيئي دون مراعاة لأوضاعها ، تظهر آثاره بجلاء في عدم القدرة على بلورة قواعد دولية ملزمة لحماية البيئة . فمنذ أن برزت القضية البيئية علىالساحة العالمية منذ ،1972عندما انعقد مؤتمر ستوكهولم و إلى غاية الفترة الحالية تضاعفت الأخطار البيئية ومنها خاصة مشكل طبقة الأوزون و التصحر و الاحتباس الحراري بنسبة تفوق كل الفترات السابقة كما تضاعفت نسبة الفقر و الأمراض في الدول الفقيرة و لم تتغير مواقف الدول الصناعية .

الخاتمة

إن الأخطار البيئية التي تتعاظم مهددة الكون في شماله و جنوبه لا يمكن مواجهتها إلا إذا توحدت الجهود و ابتعدت الدول الغربية عن مساومة الدول النامية عن مشروعها التنموي و تحملت مسؤوليتها باعتبارها الطرف الذي ساهم في التدهور البيئي.

التهميش:

[1] — Philippe le Prestre. Protection de l’environnement et relations internationales : les défis de l’eco-polique. Paris : Armand colin. 2005. p 145 -146.

2- عامر طراف. التلوث البيئي والعلاقات الدولية. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى. 2008.ص 153-156.

3- نفس المرجع. ص 157.

4- Moise Tsayem Demaze. ” Les conventions internationales sur l’environnement : état des ratifications et des engagements des pays développés et des pays en développement .”l’Information géographique 73 .N° 3. 2009.P3.

* وأكدت اتفاقية التنوع البيولوجي “الاتفاقية الإطار لحماية البيئة” على ضرورة حماية التنوع البيولوجي والتقسيم العادل للثروات الجينية من جهة ومن جهة أخرى، نصت الفقرة الرابعة من المادة 20 على أن التنمية الاقتصادية والقضاء على الفقر تمثل الأولويات المطلقة للدول النامية* .كما ناقشت قمة ريو مسألة الجفاف و تم التوصل في سنة 1994 بباريس إلى عقد اتفاقية التصحر والجفاف .والجدير بالملاحظة أن هذه الاتفاقية أولت اهتماماً كبيراً بأفريقيا باعتبارها الأكثر تضرراً من ظاهرة .

5 – Moise Tsayem Demaze . Op-cit. p 04.

6 – Ibid.

7- عامر طراف. مرجع سبق ذكره.ص 169.

8 – Philippe Le Prestre .Op -cit .P 178.177.180.

9- Ibid. P 229

10- إبراهيم عبد الجليل. البيئة و التنمية .القاهرة:دار المعارف. 2001. ص 83-84.

11- نفس المرجع. ص 84-91.

12- رئاسة مجلس الوزراء.جهاز شؤون البيئة .مشروع التدريب و الوعي البيئي .دانيدا.1992.ص 568-569.

13- Philippe Le Prestre. Op-cit. P254.

14 – Nabyla Daidj”. L’aide à l’Afrique : Numéro spécial”. 4e trimestre. 1998, P16.

15- لورانس أ.سسكند .دبلوماسية البيئة .التفاوض لتحقيق اتفاقيات عالمية أكثر فعالية. ترجمة.احمد أمين الجمل .القاهرة: الجمعية المصرية لنشر الثقافة العالمية.1996.ص54-55.

16 Philippe Le Prestre. Op-cit. P254 .

17 – Nabyla Daidj.Op-ci. P19.

18- Philippe Le Prestre. Op-cit. P276.

19- الدين البيئي.ماذا لو طالبت البلدان الفقيرة بديونها المخلدة لدي الدول الغنية. http :www .alfikralarabi.net

20 – Philippe Le Prestre. Op-cit. P277-278.

21- لورانس أ.سسكند .مرجع سبق ذكره.ص99-100.

22- نفس المرجع.ص99-100.

23- نفس المرجع. 100.

24 – Philippe Le Prestre. Op-cit. P262 -263- 267.

25 – Ibid. 247.

26- لورانس أ.سسكند .مرجع سبق ذكره.ص 54.

www .alfikralarabi.net.27 – الدين البيئي.ماذا لو طالبت البلدان الفقيرة بديونها المخلدة لدي الدول الغنية .في:
*********
د.بوشنافة شمسة
جامعة قاصدي مرباح ورقلة( الجزائر)

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button