دراسة شاملة حول أسس نظرية توازن القوى وتوازن المصالح

انقسم العالم أثناء الحرب العالمية الثانية إلى كتلتين تمثل كل منهما تجمعاً دولياً له مصالحه وأهدافه، فألمانيا وإيطاليا وباقي دول المحور تسعى لفرض سيطرتها وهيمنتها على العالم، وإنجلترا وفرنسا والاتحاد السوفيتي، وانضمت إليهم الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى مكونة لمجموعة الحلفاء. وقد شكلت هذه التجمعات توازناً عالمياً قبل اندلاع الحرب بفترة قصيرة، إلا أن الصراع المسلح أنهى هذا التوازن لصالح دول الحلفاء. وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى بحث العالم عن شكل جديد من أشكال التوازن، وخرجت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي بتوجهات متعارضة، بعد أن كانا أقرب ما يكون في مجموعة الحلفاء أثناء إدارة الصراع في الحرب.

وهكذا وجدنا صديق اليوم هو عدو الغد، وقد يكون عدو اليوم هو صديق الغد، كما حدث بينهما بعد ذلك في فترة الوفاق الدولي. وقد ظهر عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، انقسام من نوع آخر في العالم؛ ليعطي بعداً أيديولوجياً جيداً للتوازن الدولي، وليكون في طرفي الميزان كتلة غربية رأسمالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وكتلة شرقية شيوعية بزعامة الاتحاد السوفيتي. ولم يأت هذا التقسيم من فراغ فكل له مصالحه وأهدافه. ومحور الصراع هو الثروة والموارد، فدائماً كان البعد الاقتصادي يغلب على ردود الأفعال السياسية والعسكرية، ويحكمها الأيديولوجيات والتوجهات وتصنع منهم الإستراتيجيات والسياسات، ما كان له الأثر في بروز نظرية توازن القوى.

وعلى الرغم من أن العالم خرج من الحرب العالمية الثانية بدروس عديدة، ومنها ضرورة تجنب الحروب وإيجاد المنظمات الدولية التي تحكم الصراعات بالحلول الدبلوماسية، تجنباً للفوضى والتدمير ـ ويمثل ذلك تغييراً حاداً في العلاقات الدولية ـ إلا أن طبيعة التوازنات الدولية حكمت إطار الحركة بين القطبين الجديدين وحلفائهم، فأسرعوا إلى وضع الأسس والقواعد للاستعداد لأي صراعات مستقبلية، وبدأوا بتكوين الأحلاف العسكرية بدعوى توحد الرؤى السياسية والاقتصادية التي لم تفلح في إيقاف سباق التسلح في العالم، وخاصة السلاح النووي، إلى أن وجد العالم نفسه يستنزف قدراته الاقتصادية في سبيل تحقيق التفوق العسكري في المجال التقليدي والنووي، وقد أثر ذلك على نظرية توازن القوى، وإن اختلفت تطبيقاتها وأساليب تنفيذها لدى القوتين.

وقد ساعد هذا السباق الرهيب في التسلح على ظهور أشكال وأنماط من التكنولوجيا المتقدمة، التي أثرت في شكل التوازنات في العالم. وسار العالم في هذا المناخ فترات طويلة في تذبذب تصاعداً وهبوطاً لكلا الطرفين، واعتمد التوازن، خلال فترة الخمسينيات والستينيات، على منطق القوة، وحكمت الصراعات في العالم تارة بالمعسكر الشرقي وتارة أخرى بالمعسكر الغربي، ولم يجد العالم مفراً لتنمية قدراته الاقتصادية لمواجهة أعباء التسليح المتقدم سوى إنشاء الأحلاف الاقتصادية التي تستطيع أن تمول هذه القوة المطلوبة.

وظهرت، نتيجة لذلك، أنواع جديدة من التوازنات، وبدأ ظهور مصطلح توازن المصالح إلى جانب توازن القوى، التي بُنيت على أسس ونظريات استنبطت من الخبرات المكتسبة، وبعضها كان وليد أفكار لأشخاص ذوي ثقل في المجال السياسي والاقتصادي والعسكري. وظهرت مصطلحات جديدة لم يسمع عنها العالم من قبل، كانت تشكل أفكار وتوجهات أمم بأسرها، إلى أن وصل الوضع الدولي إلى حافة الهاوية، لينذر بحرب عالمية ثالثة. وهنا، تنبه العالم إلى الكارثة التي يمكن أن تحدث، إذا لم يبطئ الخطى في هذه النظرة الخطيرة لاستخدام القوة، وهنا، توقف العالم لفترة، ليلتقط أنفاسه، وليعقد سلسلة من الاتفاقيات والتعهدات لعدم استخدام القوة، سواء التقليدية أو النووية تجنباً للدمار الشامل، ثم تقدم خطوة أخرى للسعي لتخفيض قواته وأسلحته خاصة أسلحة الدمار الشامل، ولم يستطع العالم أن يلغي من قاموسه لغة الحرب، فسمّى هذه الفترة بالحرب الباردة بين القطبين الأعظمين في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. وبدا واضحاً الارتباط بين توازن المصالح وتوازن القوى. حيث تمثل توازن المصالح للكتلتين في مناطق معينة، على أن تسعى كل من الكتلتين لتحقيق نوع أو شكل من أشكال توازن القوى في تلك المنطقة باستخدام قدرتها العسكرية والاقتصادية لتحقيق مصالحها.

وفي إطار هذا الصراع بين الكتلتين ظهرت قوى سياسية واقتصادية جديدة في العالم، وطفا إلى السطح كتلة العالم الثالث والصين والتجمع الأوروبي، وبدأت كلا القوتين في استمالة وجذب هذه الكتل والقوى إلى جانبها، وبدأ ظهور نوع من التوازنات أكثر حدة تميل إلى توازن القوى نتيجة تغير حاد بظهور نظريات الرعب النووي. ومما ساعد على ذلك أن النظرة الاقتصادية للكتلتين للاستيلاء والسيطرة على منابع الثروات في العالم وخاصة البترولية، كانت الحافز الأساسي في تجدد الصراع، بل وفي خلق صراعات جديدة في أماكن متفرقة من العالم. وتولى السلطة في الاتحاد السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، الذي آمن بالبروسترويكا كمبدأ جديد للنهوض بالاتحاد السوفيتي، واعتنق الديموقراطية والسوق الحرة، ولم يلبث خلال سنوات عدة أن هوى العملاق الشيوعي الكبير؛ ليختفي أحد طرفي التوازن الدولي، ولتبدأ صفحة جديدة بشكل جديد من أشكال التوازن العالمي، وأصبح توازن المصالح هو الأساس في العلاقات الدولية بعد فترة وفاق لم تدم طويلاً.

واعتلى الساحة قطب واحد فرض هيمنته بالقوة العسكرية والاقتصادية، وسيطر على العالم، وأدار الصراعات والتوازنات وأحكم قبضته على مجريات الأمور، وصدَّر إلى دول العالم الثالث كافة، ثقافته وأسلحته واقتصاده ومنتجاته، حتى أصبح العالم يسبح في بحر الولايات المتحدة الأمريكية. وأُلغيت أحلاف وأُقيمت تجمعات جديدة وأُديرت حروب، وفُرضت إستراتيجيات وسياسات على بقاع كثيرة من العالم، واختفت أصوات العالم الثالث، ولم يظهر سوى الخافت منها بشرط أن يسير في ركب القطب الأوحد.

وأبدت بعض الدول معارضتها للهيمنة الأمريكية على العالم، إلا أنها لم تفصح صراحة عن ذلك إلا من خلال بعض ردود الأفعال، التي يفهم منها محاولة تقليل هذه الهيمنة، أو محاولة المشاركة في هذه السيطرة على العالم. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تر سوى مصالحها التي حكمتها. فأفرزت تلك السياسات الأمريكية بعض القوى المعارضة لها، ما أدى بها إلى محاولة المساس بهيبتها، فأضرمت النار في ميزان القوى بأحداث 11 سبتمبر 2001، وضُرِب رمز القوة الأمريكية الاقتصادي والعسكري في عقر داره، وَعَدّت ذلك أنها تحاول أن تسمع صوتها للعالم، إلا أن العالم استنكر ما حدث. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكتف بذلك، وأشعلت فتيل الحرب بما سَمّته “الحرب على الإرهاب”، ليعجل بتحقيق مصالحها بأسرع مما كان مخططاً له. وبدلاً من هيمنتها على العالم بالطرق السلمية وإدارة الصراعات الإقليمية بالطرق العسكرية، دخلت بنفسها في مواجهة عسكرية واسعة النطاق شملت العالم كله، وأعلنت أن من ليس معها فهو ضدها. وهنا أصبحت نظرية توازن القوى هي المعيار في العلاقات الدولية، وإن اختلفت في أسلوب تنفيذها، فأصبح الأسلوب هو غطرسة القوة لتحقيق مصالحها من خلاله.

ولم يتغير ميزان القوى في العالم سوى في شكله وردود أفعاله، فما زالت الولايات المتحدة الأمريكية تمسك بمقاليد الأمور، ولكن بفعل رد الاعتبار والحفاظ على الكيان والهيبة للقطب الواحد، وقد كلفها ذلك وكلف العالم كله الكثير، فتغيرت سياسات، واتسعت رقعة الصراع وردود أفعال من قوى كبيرة تحاول أن تنتهز هذه الفرصة دون أن تبدي ذلك صراحة، انتظاراً للحظة المناسبة للاشتراك في الهيمنة على العالم، وإيجاد أقطاب جديدة تحدث التوازن المطلوب. وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: ]وتلك الأيام نداولها بين الناس[ (آل عمران: الآية 140).

كما بدأت قوى فاعلة كبرى صاعدة تمتلك بعض مقومات القوى العظمى، وأصبحت في وضع يسمح لها بمنافسة القطب الأوحد مستقبلاً وفي القريب. فاتبعت الولايات المتحدة الأمريكية إستراتيجية جديدة بأن لا تسمح لهذه القوى بمنافستها، وسعت إلى وأد هذه القوة قبل صعودها، مع اتباع سياسة للإصلاح الاقتصادي داخلياً، وأعلنت ذلك صراحةً، ما دفع هذه القوى إلى السعي للخروج من دائرة الهيمنة والمنافسة واستمرار صراعها لتحقيق المصالح.

أسس توازن القوى

أولاً: تعريف القوة:

1. مفهوم القوة:

المعلومات بشأن مفهوم القوة، أنه ليس للقوة تعريف جامع شامل ومانع. ويعود السبب في ذلك إلى انعدام وجود إجماع بين المفكرين والمحللين والسياسيين أو بين علماء الاجتماع بشأن طبيعتها، لتعدد الصور التي تتخذها القوة، إذ لا يوجد تنظيم من دون أن تكون القوة هي جوهر الأسس التي يستند إليها.

فكثيراً ما ارتبطت كلمة القوة بعلم السياسية، وخاصة عند علماء السياسة التجريبيين المعاصرين، فقد ارتبط عندهم علم السياسة في مركز اهتماماتهم بموضوع بحث هو القوة، وذلك على أساس ما تبين لهم من طريق الملاحظة والتجريب من أن القوة وعلاقتها هي صلب علم السياسة. والذي لا بد أن نعترف به، قبل أن نسوق التعريف السياسي لكلمة القوة، هو أن التوافر السياسي على بحث موضوع القوى هو ظاهرة قديمة قدم المعرفة السياسية نفسها، والممارسات السياسية التي ترجع إلى بداية المجتمع البشري. على أن كلمة القوة قد استخدمت بالمعنى السياسي عام 1701، وذلك عندما احتدم الصراع السياسي وظهرت الدولة القوية في أوروبا. إن نظريات القوة أو النظريات الواقعية فرضت نفسها على اتجاهات التحليل النظري لحقائق السياسة الدولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، نتيجة تفاقم الصراعات الدولية واتجاه بعض القوى الكبرى إلى خلق مراكز قوة تستطيع بثقلها وتأثيرها أن تضع واقعاً دولياً، يلتقي مع مصالحها، ويحقق لها التفوق على خصومها.

ومهما اختلف العلماء في تحديد تاريخ ظهور هذه الكلمة على المسرح السياسي، فإن ذلك لا يغير من الحقيقة شيئاً، فالقوة هي صلب علم السياسة، إذ بها يُصْنع القرار السياسي ويوضع موضع التنفيذ في شتى نواحي الحياة.

ويُعرف فسكاران Phaskaran القوة السياسية بأنها القدرة على عمل شيء وأن يؤثر في أي شيء. وأما لازويل وكبلان Lasswell & Kaplan فهي عندهما المشاركة في صنع القرار. ويعرفها روبرت داهل Robert Dah بأنها المقدرة على جعل شخص آخر يقوم بعمل لم يكن ليقوم به دون استخدام القوة. بينما يرى بلاو Blau أن القوة هي قدرة أشخاص أو جماعات على فرض إرادتهم على الآخرين.

وفي تصور مورجانثو Morgethau القوة السياسة هي ا لمقدرة على السيطرة على تفكير الآخرين وسلوكهم، ويقول: إن القوة السياسية هي علاقة نفسية بين من يمارسونها وبين من تُمارس ضدهم، فهي تمنح الوليين سيطرة على بعض ما يقوم به الآخرون من أعمال من طريق النفوذ الذي يمارسونه على عقولهم، وقد يُتخذ ذلك بأسلوب الأمر، أو التهديد، أو الإقناع، أو بمزيج من بعض تلك الوسائل معاً.

2. القوة في الفترة المعاصرة:

يظل التسلسل التاريخي في مفهوم القوة يمضي بنا عبر العصور المختلفة، حاملاً مفاهيم تتباين أحياناً وتتآلف أحيانا أخرى، لكنها في الفترة المعاصرة تتخذ شكلاً آخر يبدو جلياً من خلال آراء مفكري السياسة في القرنين التاسع عشر والعشرين. تلك الأفكار التي تتسم بالواقعية، وإن استمدت أصولها من الفترات التاريخية المتعاقبة على من سبقهم. ويمكن القول إن معظم المذاهب السياسية التي شهدتها هذه الفترة قد تمحورت حول نظرية هيجل لسياسة المعاصرة، فلن نستطيع إغفال كل من هيجل وماركس وبوزانكيت، لما يمثله كل منهم من مكانة سياسية تكاد عند بعضهم تشكل نظرية ظلت تفرض نفسها إلى عهد قريب.

أ. هيجل Hegel:

إن ما يميز فلسفة هيجل السياسية، هو أنه أضفى على الدولة القومية قيمة عالية، لأن الدولة عنده تشكل الوحدة المهمة والأساسية في النسق الهيجلي. فالدولة إذاً ـ في نظره ـ هي تجسيد السلطة السياسية، وسلطة الدولة ـ كما تصورها ـ تعد مطلقة ولكنها ليست تحكمية. إذ لا بد أن تُمارس سلطاتها التنظيمية في ظل القانون، إلا أن الهيجلية كانت في جوهرها تمجيداً للقوة، لأنها وضعت الدولة فوق متناول القانون، فأخضعت الفرد للدولة خضوعاً كاملاً.

ب. كارل ماركس Karl Marx:

إذا كان محور فلسفة هيجل هو الدولة القومية، فإن ماركس على النقيض من ذلك، حيث يتمثل محور فلسفته الاشتراكية في الطبقة العمالية، وما تلاقيه من إرهاق مادي ومعنوي من أرباب العمل، الأمر الذي حمله على نداء هؤلاء إلى الثورة الاجتماعية، وفي مقابل ذلك سعى إلى إلغاء الدولة كنظام سياسي في المجتمع.

ونستطيع أن نلخص الفلسفة التي دعا إليها ماركس في أنها تعبير اجتماعي، يتمثل في وصول الطبقة العمالية إلى إدراك قوتها السياسية ومدى نفوذها وتأثيرها على البناء الاجتماعي في الدولة، وذلك ما يعبر عنه ماركس بقوله: “إن التاريخ الاجتماعي يبلغ الذروة بقيام البروليتاريا وهي الطبقة العاملة التي ليس لها إلا سواعدها وسيلة للكسب في الحياة”. وقد تطلع ماركس إلى زحف تلك الطبقة؛ كي تشغل مكاناً مسيطراً في المجتمع الحديث، وتمثل القوة عنده في الصراع الاجتماعي لصالح الطبقة العمالية، وعليه تكون غاية القوة لديه قد اختلفت تماماً عن غاية القوة في فكر من سبقوه إلى الحديث عنها.

ج. برنارد بوزانكيت Bosanquet:

يُعَدّ بوزانكيت من فلاسفة القرن العشرين، ولقد تأثر بمن سبقوه في فلسفتهم السياسية، خاصة هيجل وروسو. ومن ثَم، يمكن القول بإن بوزانكيت سار على نفس النسق الفلسفي لهيجل.

نخلص من هذه التعريفات كلها أن القوة هي علاقة خاصة بين طرفين، علاقة يستلزم أن يكون أحد الطرفين فيها على قدر أكبر من الإمكانات، ما يتيح له بعض التفوق في السلطة والسلطان، وإلا فلن تتوفر للقوة فعاليتها وسوف تتحول إلى عملية أخرى فيما نسميه الصراع. ثم إن هذا الذي يمارس القوة، لا بد أن يمتلك حرية العمل والتصرف، وإلا فما معنى أن تتوافر للفرد مقومات القوة، وتُغل يده بأي صورة من الصور. مثال ذلك الشخص الذي يتمتع بالقوة حين تُلقي به وحيداً في الصحراء الجرداء، ما يجعله غير قادر على ممارسة قوته على الآخرين، ولذلك فإن السياسة تسعى دائماً إلى الاحتفاظ بالقوة ومضاعفة هذه القوة.

ثانياً: المفاهيم النظرية لتوازنات القوى:

على الرغم من أن تعبير التوازن يُعد من التعبيرات الدولية الأكثر انتشاراً واستخداماً، إلا أن المعنى الدقيق لهذا التعبير ظل غامضاً لعصور كثيرة حتى جاء العالم نيوتن بقانون الجاذبية الكونية Universal Gravitation . وهو يؤكد أن أي جسمين يجذب كل منهما الآخر بقوة تتناسب طردياً مع ناتج كتلتيهما، وتتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينهما. ولقد برهن نيوتن أن هذا القانون ينطبق على الأجسام التي على الأرض، وأيضاً الموجودة في الفضاء الكوني، وهو مسؤول عن استقرار دوران كواكب المجموعة الشمسية حول الشمس. وسبحان الله أنها تدور كلها في اتجاه واحد ومستوى واحد عدا الكوكب “بلوتو” محدثة التوازن في الفضاء الخارجي. وبالتحليل الدقيق لقوانين النظريات العلمية الخاصة بعلوم الكيمياء الطبيعية. يمكننا الوصول إلى مفهوم التوازن بأنه وصف لحالة تعادلية بين قوى عدة متضادة بينها قدر من الترابط، وقد تؤدي إلى الاستقرار.

والمفهوم الشامل لتوازنات القوى أنها “الحالة التي تتعادل وتتكافأ عندها المقدرات البنائية والسلوكية والقيمية لدولة ما منفردة أو مجموعة من الدول المتحالفة مع غيرها من الوحدات السياسية المتنافسة معها، بحيث تضمن هذه الحالة للدولة أو لمجموعة الدول المتحالفة ردع أو مجابهة التهديدات الموجهة ضدها من دولة أخرى أو أكثر، وبما يمكنها أيضاً من التحرك السريع وحرية العمل في جميع المجالات للعودة إلى هذه الحالة عند حدوث أي خلل فيها بما يحقق الاستقرار”.

ويُطلق على هذا المفهوم أيضاً التوازن الإستراتيجي، وهو يتميز بثلاث خصائص محددة:

1. تكافؤ مجموعة من المتغيرات فإذا استمر هذا التكافؤ عُرف بالتوازن الإستراتيجي المستقر، وإذا تغيرت حالة هذا التكافؤ سلباً أو إيجاباً سُمي بالتوازن الإستراتيجي غير المستقر.

2. إمكانية تحقيق هذا التوازن بدولة منفردة بصورة كاملة معتمدة على إمكانياتها الذاتية وقدراتها القومية، بحيث تتكافأ مع التهديدات الموجهة ضدها أو قد يتم ذلك من خلال تحالفات وفية تعبئ مقومات القوة القومية للدول المتحالفة ضد التهديدات الموجهة لهذا التحالف.

3. أن هذا التوازن له ثلاثة أبعاد، وهي البعد البنائي، ويتمثل في القدرات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية لدولة أو مجموعة دول. أما البعد الثاني وهو سلوكي، وينبع من مرونة وحركة القوى الفاعلة دولية أو إقليمية. والبعد الثالث هو بُعد يُقيم من خلاله حالة القبول أو الرفض للقوى الفاعلة.

ثالثاً: مفهوم وأبعاد توازن القوى:

على الرغم من أن تعبير توازن القوى يُعد من أكثر التعبيرات انتشاراً واستخداماً في مختلف العصور، وفقاً لاختلاف وتطور الفكر والنظريات في كل عصر، إلا أن هذا التعبير قد ظل من أكثر المفاهيم غموضاً، إذ لا يكاد يوجد اتفاق على مفهومه، بل لعله لا يكون تجاوزاً لحقيقة القول بأنه لا يوجد تعريف مانع جامع لهذا التعبير، وسوف تتناول مكونات هذا التعبير بشيء من الإيضاح للوصول إلى التعريف المناسب.

1. معنى التوازن بشكل عام:

يعني التوازن في مفهومه، الحالة المستقرة، فيتحدث الناس دونما تفكير عن التوازن كرمز للحالة المعتادة المستقرة، وهذه الحالة ليست بالضرورة مثالية دائماً، ولكنها توحي بالاستقرار وعدم التوتر، ولكنهم في كثير من الأحيان وعند تدقيق معانيهم يشيرون إلى ما هو أبعد من الاستقرار المعتاد إلى الحالة المثالية. وتستخدم جميع العلوم مصطلح التوازن، رمزاً للحالة المعتادة المستقرة، فيستعمل علم النفس مصطلح التوازن النفسي للتعبير عن الحالة العادية للإنسان العادي، ويستخدم علم الاجتماع مصطلح التوازن الاجتماعي لوصف المجتمع الخالي من التوترات، ويكثر علم الاقتصاد من استخدام التوازن لوصف الأوضاع المقبولة، فيقول التوازن بين العرض والطلب، والتوازن في التنمية، والتوازن بين الصادرات والواردات، والتوازن التجاري… إلخ.

ويستخدم علم السياسة أيضاً مصطلح التوازن للإشارة إلى الحالة المستقرة على أسس عقلانية، فيقول النظام قائم على توازن السلطات، كإشارة إلى نظام لا يخضع لهيمنة سلطة واحدة، كما يستخدم مصطلح قوى سياسية متوازنة. إن التوازن في المعنى العام يشير إلى الحالة المستقرة التي لا تسيطر عليها قوى التطرف.

2. توازن القوى:

إن مفهوم توازن القوى مازال ملفوفاً بالغموض عند الكثير من علماء السياسة والعلاقات الدولية. ومبعث هذا الغموض أسباب كثيرة ومتعددة، منها فهم توازن القوى على أنه نقطة التعادل بين قوتين متعارضتين، ومنها افتراض جمود توازن القوى وانعدام حركاته، أو على الأقل تحركه ببطء شديد، ومنها افتراضه كسياسة دولية مقصود لذاتها بوصفها إدارة لحفظ الاستقرار الدولي.

ويعرف الدكتور إسماعيل مقلد توازن القوى بقوله: “ينشأ التوازن في حالة إمكان دولة واحدة أن تحصل على تفوق ضخم وساحق في قواها، ما يهدد حرية الدول الأخرى واستقلالها، وهذا التحدي هو الذي يدفع الدول المحدودة القوة إلى مواجهة القوة بالقوة عن طريق التجمع في محاور أو ائتلاف قوى مضادة. وهذه إحدى طرق تكوين التوازن الدولي وليست الطريقة الوحيدة، وهي طريقة تكوين توازنات ما بعد الحروب الدولية”، ويوصف توازن القوى بأنه سياسة ترمز إلى المدرسة الواقعية في السياسة الدولية، وهي المدرسة التي تعني بظاهرة القوة”، وأن الدول حينما تسعى للحفاظ على وجودها وأمنها ومركزها الدولي من خلال عملية الصراع على اكتساب القوة، فإن رائدها في ذلك هو تحقيق توازن القوى، وهو في الوقت ذاته، سلاح في تنظيم استخدام القوة والسيطرة عليها”.

غير أن توازن القوى ليس سياسة بحد ذاتها تسعى الدول إلى تحقيقها وتجاهد من أجلها، فالدولة لا تسعى إلى التوازن، بل تسعى إلى التفوق والهيمنة، ما يؤدي إلى نشوء توازن القوة، فتوازن القوة ليس حالة مقصودة لذاتها، بل هو حالة يتوصل إليها بشكل عرضي من خلال السعي إلى التفوق. فالدولة الساعية إلى التفوق تجد نفسها في وضع الدول المتوازنة في لحظة تاريخية ما.

3. أشكال توازن القوى:

ليس لتوازن القوى صورة واحدة، فعلى الرغم من أن فكرته الجوهرية هي توزيع القوة بين الأطراف الدولية، إلا أن هذه الأطراف قد تزيد أو تنقص. ففي أثناء الصراع، قد يصل عدد قليل من الدول إلى حالة من التعادل النسبي في القوة، فيتشكل بينهما توازن للقوى، يعتمد على تعدد الأقطاب الدولية. وقد أطلق على هذا النوع من التوازن (التوازن المتعدد الأقطاب ـ أو التوازن المركب وأحياناً التوازن المعقد، بحكم تعقد العلاقة المعتمدة على كثرة التحالفات بين الأقطاب أنفسهم). وقد يسيطر على توازن القوى دولتان، فيصبح التوازن ثنائي الأطراف، وقد أُطلق على هذا التوازن (التوازن البسيط). فهو توازن يقوم على وضوح بروز قوتين عظميين، وتأتي البساطة من طبيعة العلاقة التي يفرضها هذا النوع من التوازن بين هاتين القوتين، فخطوط العلاقات الدولية في هذا النوع تصبح أكثر وضوحاً بالنسبة للأطراف الدولية الأخرى.

تلك هي الصور الرئيسية لتوازن القوى، لكنه كما يقول أرسو “ليس هناك من الرياح سوى الشمالية والجنوبية، أما بقية الرياح فهي مشتقة منها”، فكذلك التوازن هو بسيط أو مركب، لكن هذين الشكلين الرئيسيين للتوازن ينتجان أنواعاً أخرى، مثل التوازن المرن والتوازن الجامد، أو توازن الأنظمة المتجانسة أنواعاً، وتوازن الأنظمة المتنافرة، وتوازن الأنظمة المعتدلة والأنظمة الثورية.

أ. توازن القوى المتعدد الأقطاب:

هو التوازن الذي يتكون من قوى كثيرة وتعمل هذه المجموعات على موازنة بعضها بعضاً. وليست هناك حدود قصوى على عدد تلك المحاور والتجمعات في ظل النظام المتعدد لتوازن القوى. ويعرف مورجانتو توازن القوى، ولكنه يشرح صوره، فهو في نظره توازن لا تقل أطرافه عن ثلاثة، يترتب عليه الاستقرار وحفظ استقلال هذه الأطراف مهما كان أحدهم ضعيفاً.

ويتصف التوازن المتعدد الأقطاب بالخصائص الآتية:

(1) الكثرة النسبية لأطرافه وبما لا يقل عن ثلاثة أطراف، سواء كانت الأطراف دولاً أو كتلاً تتكون كل منها من عدد من الدول، فإذا قلت الأطراف عن ثلاثة تحول إلى التوازن البسيط.

(2) الطبيعة التنافسية، وتلك هي الخاصية الجوهرية التي تقود إلى الاستقرار والسلام.

(3) خضوع الأطراف وقبولهم لمبادئ تنافس تتصف بظهور قواعد شرعية مقبولة من الأطراف جميعاً.

(4) تحقيق الاستقرار والسلام.

ب. التوازن البسيط (التوازن الثنائي):

هو الصورة الأكثر وضوحاً، ويقوم هذا التوازن عند وجود دولتين أو كتلتين متعارضتين في حالة من التعادل النسبي. والواقع أن هذا التوازن ينشأ عادة في شكل وجود كتلتين دوليتين، غير أن ذلك لا يمنع من قيامه بين دولتين أيضاً. ويغلب على توازن القوى البسيط بين دولتين أن يكون توازناً إقليمياً، أما التوازن الدولي العام فالصورة الغالبة له هي توازن الكتل. لكن وجود الكتلة الدولية يعتمد على وجود دولة قطب تكون بمثابة النواة، التي تتجمع حولها مجموعة من الدول الأضعف للاحتماء بها أو التحالف معها، ومن ثَم، تكوين كتلة دولية واحدة. ولأن هذا التوازن يعتمد على دولة قطب، فإنه كثيراً ما يبدو توازناً بين دولتين.

وخصائص التوازن البسيط هي:

(1) ينشأ غالباً كنتيجة حتمية لتوازن القوى المركب، فبما أن هذا الأخير يتصف بالحركية فإنه يشهد جملة من تحالف الدول، بقصد الحفاظ على المصالح الوطنية لهذه الأطراف. إن فترة التحالفات التي يشهدها توازن القوى المركب هي التي تتسم بالاستقرار والسلام، فالوسائل الدبلوماسية في هذه المرحلة هي الأكثر طغياناً، أما عند تشكيل توازن القوى البسيط فإن الدبلوماسية تصبح أقل فاعلية.

(2) توازن القوى البسيط يشكل مرحلة الاقتراب من الحرب ويؤدي إليها. إن المدلولات الإستراتيجية لتوازن القوى المركب يؤدي إلى الاستقرار بسبب الطبيعة التنافسية التي تتيح العمل الدبلوماسي. أما توازن القوى البسيط فإن طبيعته هي المعارضة المباشرة والتنافس السافر.

(3) إن هذا النوع من التوازن لا يخلق سوى فترة استقرار قصيرة الأمد، وهي الفترة الضرورية للإعداد إلى الحرب، وهذا الاستقرار يتصف بالقلق والاضطراب أياً كانت مدته. وحيث إن التحالفات تسبق التشكيل النهائي للتوازن، لذلك فإن الحرب لا تبدأ إلا بعد التأكد من متانة هذه التحالفات.

(4) يمتلئ التاريخ بالأمثلة لهذا النوع من التوازن. فإذا كان توازن القوى المتعدد الأقطاب هو الغالب في القرون الأربعة الماضية، فإن توازن القوى الثنائي هو الأسبق في الوجود بحكم وسائل الاتصال البدائية بين الدول في العصور القديمة. ففي مثل هذه الظروف، يكون من الطبيعي أن يظهر توازن القوى في حيز إقليمي ضيق بين دول قليلة ومتجاورة تعيش في عالمها الخاص دونما ارتباط وثيق بالمجموعات الإقليمية الأخرى.

ج. التوازن المرن والتوازن الجامد:

يقول ريمون أورن، إن ميزان القوى ليس من طبيعة واحدة، ولا يخضع دائماً لعدد الأطراف المكونة لهذا التوازن، بل يخضع أيضاً لطبيعة الدول والأهداف التي يلتزم بتحقيقها أولئك الذين يسيطرون على السلطة.

(1) التوازن المرن:

هو الذي يقوم بين دول تنتمي إلى فكر سياسي واقتصادي واجتماعي موحد أو متجانس، ولذلك يُطلق عليه أحياناً توازن الأنظمة المتجانسة أو توازن الأنظمة المعتدلة.

(2) التوازن الجامد:

هو، على العكس، يقوم بين دول تنتمي إلى نماذج فكرية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حضارية متناقضة أو متنافرة، ولذلك يُطلق عليه أحياناً توازن الأنظمة المتنافرة أو الأنظمة الثورية.

من خلال استعراض الأشكال المختلفة للتوازنات، نرى أن المرونة والجمود هي أوصاف تلحق بالنوع الأصلي للتوازن، فتجعل له أشكالاً أخرى فرعية، فقد يكون التوازن بسيطاً ومرناً، أو بسيطاً وجامداً، كما يكون مركباً ومرناً أو مركباً وجامداً، لكن الحرب ترتبط بنوع التوازن لا وصفه، فالتوازن المركب هو توازن الاستقرار، دون النظر إلى وصفه، فتوازن ما بين الحربين في مرحلته الأولى 1918-1936 كان توازناً مركباً وجامداً.

إن أنظمة التوازن المركب في تلك الفترة السابقة، كانت متعددة ومتناقضة فكرياً وسياسياً، فقد شمل الدول الديموقراطية الغربية وروسيا الشيوعية وإيطاليا الفاشية، لكن هذه الأنظمة استطاعت التعايش بسبب طبيعة التوازن المركب. وعلى العكس، فإن توازن ما قبل الحرب العالمية الأولى كان توازناً مرناً، لأنه يضم أنظمة ليست متناقضة، لكنه توازن مضطرب بحكم تحوله إلى توازن ثنائي، ومع أن أطرافه متجانسة فكرياً وسياسياً، إلا أنها دخلت الحرب.

الحرب والسلام يرتبطان بنوع من التوازن، والمرونة والجمود يلعبان دوراً كبيراً في حركة التوازنات. فالمرونة تساعد على التهدئة وربط نسج التحالفات، أما الجمود فإنه يدفع بالتوازن نحو سرعة الحركة والتحالف والتكتل. فإذا كان التوازن مركباً ومرناً، فإن الاستقرار يدوم لفترة طويلة. أما إذا كان جامداً فإن الاستقرار يكون قصيراً، لأن المتناقضات الحادة تدفع نحو التحالف والتكتل وسرعة الميل بالتوازن من طبيعة المركب إلى الثنائية، ما يعجل بالحرب. فالقاعدة والاستنتاج هي أن المرونة والجمود هما روح التوازن وسر حركته.

4. التوازن الإقليمي وأثره في التوازن الدولي:

ويطلق عليه أحياناً توازن القوى الرئيسي أو التوازن المسيطر، لأنه ينظم علاقات القوى الرئيسية المسيطرة على السياسة العالمية. وهو على أهميته وشموله، يعتمد على توازنات أخرى ذات طابع محلي يتأثر بها وتتأثر به، وهو ما يطلق عليه التوازن الإقليمي أو التوازن الفرعي. وهي أشكال من التوازنات تتكون داخل أطر جغرافية محدودة، تجمع عدداً من الدول في علاقات تتسم بالصراع على السلطان والنفوذ في هذا الإطار الجغرافي المحدود. وكمحصلة لهذا الصراع، فإن دولاً محدودة تصل إلى مرحلة التعادل أو شبه التعادل في القوة، ما يؤدي إلى قيام توازن قوى محلي، يتحكم في سلوك الدول ويضبط علاقات بعضها بعضا، ويكون التنافس بين أقطابه أيضا بالأساليب السلمية وينتهي بالحروب، مثله في ذلك مثل توازن القوى العالمي.

وتوازن القوى الإقليمي، مثل توازن القوى العالمي، يخضع لنفس القواعد، ويتسم بخصائص مشابهة إلى النتائج عينها تقريباً، على المستوي المحلي أو الإقليمي. ولكنه يلعب دوراً مركباً، إذ إنه يؤثر تأثيراً مباشراً في الصراع العالمي، ويؤدي إلى حسمه أحياناً. ولا توجد مبالغة كبيرة في القول إن الصراعات العالمية الكبرى تعتمد في تطوراتها ونتائجها على ما يجري في الصراعات والتوازنات المحلية.

إن هذه القاعدة أصبحت اليوم أكثر أهمية، وخاصة في وجود أسلحة نووية، إذ تراجعت فرص الحروب المباشرة والواسعة بين القوى الكبرى، أركان التوازن العالمي. فاستعيض عن ذلك بالصراعات الإقليمية المحدودة، حيث يتدخل كل طرف دولي في هذا الصراع، بقصد تحقيق مكاسب إقليمية تزيد رصيده في ميزان القوى العالمي وتحطم معسكر خصمه. فإذا تحققت المكاسب وتعددت في مناطق الصراع، فإن توازن القوى العالمي يتحول نحو الطرف المنتصر، وهو ما حدث أثناء الحرب الباردة وبعدها، في منطقة الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط. ويوجد شروط عدة لهذه العلاقة، وهي:

أ. أهمية الطرف الإقليمي:

من شروط تأثير التوازن الفرعي في التوازن الرئيسي العالمي، أن يكون للطرف الإقليمي أهميته وقدراته العسكرية والاقتصادية والجغرافية، كي يستطيع أداء دوره لحساب القوى العالمية، وليحقق لنفسه مكاسب مهمة علي الصعيد الإقليمي. ففي كل توازن محلي يظهر عدد من الأطراف، لكنها ليست على المستوي نفسه من الأهمية والقدرة. فبعضها لا يستطيع تجاوز الدور المحلي والاحتماء بالقوي المحلية، لأن قدراته العسكرية أو الاقتصادية لا تمكنه من أداء دور قيادي. ففي التوازن الإقليمي الآسيوي مثلاً، لا تستطيع دول مثل سنغافورة، أو لاوس .. القيام بدور جوهري، لأنها ذات قدرات محدودة لا تمكنها من خوض الصراع المستمر.

ب. إدراك القطب الدولي لأهمية توازن القوى الإقليمي:

تشارك الأقطاب الدولية في الصراعات الإقليمية، من أجل زيادة مكاسبها ودعم مكانتها في توازن القوى العالمي. وهي لا تخوض هذا الصراع، إلا إذا أدركت أهمية الصراع المحلي، ووجدت الطرف الإقليمي المناسب، الذي يجب دعمه، والاستفادة من دوره. وعلى الطرف الدولي، بناء استراتيجية واضحة لضمان تفوق الطرف الإقليمي في الصراع. ويُعَدّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وحرب تحرير الكويت مثالين لإبرار مسألة إدراك الطرف الدولي لأهمية الصراع الإقليمي وقدرة أطرافه.

ج. وجود مصالح مشتركة بين الطرفين الدولي والإقليمي:

هذه المصالح ذات طابع إستراتيجي، إما عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية أو تاريخية. فمن دون وجود المصالح، يغدو التحالف بين الطرفين هشاً ومرحلياً، وكلما ارتفع مستوي هذه المصالح، كان التحالف متماسكاً وقوياً.

لذلك فإن التوازن الإقليمي يلعب دوراً أساسياً وفاعلاً في توازن القوى العالمي. فإذا كانت الحرب العالمية الواسعة أصبحت مستبعدة، فإن الحروب القادمة ستأخذ الطابع الإقليمي. حيث تستطيع القوى الكبرى مواجهة بعضها خارج أراضيها ودون خسائر مباشرة تقع على مدنها وسكانها ومواردها. وهي تستطيع عن طريق التوازن الإقليمي تعديل ميزان القوى العالمي لمصلحتها، سواء بالحفاظ عليه، أو تحطيمه. إن هذا هو الدرس المستفاد الذي أفرزته الحرب الباردة، وأحد أهم الدروس من حرب تحرير الكويت، والصراع العربي ـ الإسرائيلي.

رابعاً: المدلولات الرئيسية لميزان القوى:

1. المدلول العلمي لميزان القوى:

ويعني ذلك وصف حالة ميزان القوى، أي توزيع القوة في نسق دولي معين في وقت معين، وهو أيضاً واقع يتسم فيه توزيع القوة بين الدول بالتعادل التقريبي. وفي هذه الحالة، لا توجد دولة لديها القدرة على فرض هيمنتها على باقي الدول. ولذلك، فإن التوازن يحدث، نتيجة انتظام علاقات الدول الأعضاء في المجتمع الدولي. ويشير كل من هارتمان، سبوكمان إلى أن المدلول العلمي لميزان القوى يعني توازن يتحقق بين الدول بصورة عفوية وتلقائية. حيث إنه ليس هدفاً تسعى الدول إلى تحقيقه، وإنما تسعى في الأصل إلى تحقيق هامش من التفوق بمحاولة الإخلال بالاتزان الموجود، ومن ثَم، يتحقق الاتزان، نتيجة محاولة القوى الإخلال به، كُلٍ لصالحه.

2. المدلول النمطي لميزان القوى:

أ. يُعَدّ أكثر المدلولات حدوثاً، ويعني به ميزان القوى السياسية، وله برنامج عمل إرادي تطبقه الدولة في المجال الخارجي، تحقيقاً لهدف معين، أي أنه يرتبط بما يجب أن يكون وليس بما هو قائم فعلاً، لذلك فهو توازن مقصود ومستهدف، وقد أظهر هذا المدلول ما يعرف بسياسات ميزان القوة كأدوات دبلوماسية.

ب. يبقى هذا المدلول على التوازن الدولي، إذ لا تستطيع أي دولة أو أكثر أن تهاجم ما عداها دون أسباب مقبولة.

ج. يُعرف كاسلري ـ أحد وزراء الخارجية البريطانية ـ ميزان القوى بأنه الإبقاء على حالة من الاتزان بين أعضاء الجماعة الدولية، حيث لا تتمكن أي من الدول من زيادة قوتها بدرجة كافية لأن تمكنها من فرض إرادتها على باقي الدول.

د. يرى جينتز أن تحقيق توازن القوى يقتضي الحيلولة دون تمكين أي دولة من أعضاء المجموعة الدولية من زيادة قواها إلى الحد الذي تصبح معه قادرة على إجبار باقي الدول مجتمعة على الامتثال لإرادتها.

هـ. تتنوع سياسات ووسائل وتقنيات تحقيق ميزان القوى من المدلول النمطي أو السياسي كالآتي:

(1) سياسة المؤتمرات: وتعني عقد سلسلة من المؤتمرات بين زعماء أو ممثلي دول مختلفة لتسوية منازعات والاتفاق على مجموعة مبادئ وصور جديدة لتوزيع القوة، وذلك في إطار فكرة الشرعية الدولية، والتي عرفها هنري كيسنجر بأنها لا تعني العدالة أو الحق، وإنما هي اتفاق دولي بشأن طبيعة الترتيبات والقواعد التي تحكم سلوك الدول في علاقاتها المتبادلة.

(2) سياسة فرق تسُد: وتعمل فيها دولة ما على إضعاف الدولة المعادية من طريق: إشاعة الفرقة بينها وبين حلفائها أو الدول الموالية لها، أو محاولة الإبقاء على مجموعة من الكيانات الضعيفة في حالة تفكك وانقسام، أو العمل على تفتيت قوة كبيرة، أو عرقلة قيامها.

(3) سياسات التحالف: وتعني تجمع دولتين أو أكثر لمواجهة قوة أخرى. بمعنى الاتفاق بين دولتين أو أكثر على تدابير معينة للحماية من قوة أخرى تهدد أمن هذه الدول. وتتسم التحالفات عند تعدد القطبية بالمرونة والتبدل، فحليف اليوم عدو الغد. لذلك نجد أن من بين أسس التحالفات أن يُبْقي على الدول المهزومة في حالة من القوة، تحسباً لتبدل موازين القوى الدولية، حين البحث عن حلفاء للغد عند الاختلاف مع حلفاء اليوم.

(4) سياسة حامل الميزان: ويُقصد بها إلقاء ثقل الدولة إلى جانب دولة معرضة للتهديد، هذه الدولة تُعَدّ حاملة للميزان بدلاً من أن تكون إحدى كفتيه، وذلك بسبب أنها على درجة من القوة تمكنها تقرير أو التلويح بانحيازها إلى أي من المحاور المتصارعة، وشروط أن تقوم دولة ما بهذه السياسة وممارسة هذا الدور كالآتي:

(أ) أن تكون الدولة في موقع قوة في المجتمع الدولي، حيث يمكنها التأثير في علاقات القوة.

(ب) ألا يكون لهذه الدولة مصلحة سوى الإبقاء على توازن القوى للدول المتصارعة.

(ج) أن تكون هذه الدولة لديها حرية الحركة وغير مرتبطة بأي من الأطراف المتصارعة.

(5) سياسة التعويضات الإقليمية: وتتم هذه السياسة عادة بعد انتهاء حالات الحروب، ويتم فيها ضم أو تقسيم أقاليم محددة بين الدول المتصارعة، بهدف إعطاء دولة ما اقتطع منها أو حصلت عليه دولة أخرى من قبل، كما أن اقتسام مناطق النفوذ للقوى الكبرى يُعَدّ جزءاً من هذه السياسة.

(6) سياسة المناطق الفاصلة (العازلة): ويُقصد بها إيجاد كيانات ضعيفة ومحايدة بين الدول القوية، بهدف تقليل احتمالات الصدام المباشر. وتستمد الدولة الفاصلة ذات الكيان الضعيف قدرتها على حماية استقلالها، على الرغم من ضعفها، بسبب إدراك الدول القوية أن أي محاولة للسيطرة عليها سيغير ميزان القوى لصالحها. الأمر الذي لن تقبله الدول الكبرى القوية الأخرى. ولكن قد تفشل هذه السياسة، إذا ما اتفق بين الدول الكبرى على اقتسام هذه الكيانات الضعيفة.

(7) سياسة التدخل وعدم التدخل: وهو أسلوب لحماية مصالح الدول المتدخلة. وقد يكون هذا التدخل دفاعياً، من خلال الإبقاء على الأوضاع الراهنة داخل الدولة المعنية. وقد يكون التدخل هجومياً، عند تغيير الوضع القائم داخل دولة ما لعدم ملاءمته للمصالح الخاصة بالدولة أو الدول المتدخلة. وفي هذه الحالة قد يكون التدخل صريحاً بصورة عسكرية، أو مستتراً من طريق العمليات السرية كالاغتيالات أو الانقلابات. وعند تطبيق سياسة عدم التدخل، فإن الهدف يكون للحفاظ على ميزان القوة بالوقوف على الحياد من نزاع معين أو حصر الحروب في نطاق ضيق أو بحماية حقوق المحايدين في زمن الحروب.

(8) سياسات التسلح ونزع السلاح والرقابة على التسلح: بتطبيق سياسة التسلح، تدخل الدول في سباق للتسلح، في محاولة للوصول إلى إحداث تفوق على بعض الدول. وهذه الحالة تحدث عندما لا يكون هناك قياس حقيقي لقوة الدولة الذاتية أو لقوة أعدائها المحتملين. ولكن قد تلجأ بعض الدول إلى نزع السلاح كسياسة لإحداث توازن القوى، إلا أن افتقاد الثقة بين الدول قد تفشل هذا النوع من السياسات. ويوجد أسلوب آخر باتباع سياسة الرقابة على التسلح، من خلال تنظيم التسلح، ووضع قيود على بعض الأنواع من الأسلحة. ونظراً إلى صعوبة عمليات التفتيش والتحقق، فتوضع هذه السياسة في المرتبة نفسها لسياسة نزع السلاح.

(9) سياسة الإثناء: وتتبع هذه السياسة، عندما تسعى دولة ما للإخلال بميزان القوة، فتحاول بعض الدول الكبرى إثناءها عن هذا الإخلال. ويتبع في هذه السياسة أسلوبان للتطبيق هما: دبلوماسية الإثناء أي الإثناء بالإقناع، وإستراتيجية الإثناء أي الإثناء بالإكراه.

(10) سياسة الحرب: وتُعَدّ الحرب أو استخدام القوة العسكرية هي الملاذ الأخير لتحقيق توازن القوى، إذا ما فشلت كل أو بعض السياسات السابقة في تحقيق هذا الهدف.

3. المدلول الأيديولوجي لميزان القوى:

يذهب المعنى الأيديولوجي إلى وصف السياسات التبريرية والدعائية لدولة ما. فعندما يكون الميزان في صالحها، فإنها تدعي وجود توازن للقوى لتبرير المحافظة عليه. وعندما يكون الأمر عكس ذلك، فإنها تحاول تبرير سياستها الهادفة إلى تعديل الوضع القائم بالادعاء باختلال توازن القوى ووجوب تعديله. فتتخذ الدول، في هذه الحالة، ميزان القوى كسند للدفاع عن صورة معينة، لتوزيع القوة في المجال الدولي، أو التنكر لها على مقتضى مصالحها الوطنية.

أسس توازن المصالح

أولاً: مفهوم المصلحة القومية ومستوياتها:

المصلحة القومية هي: الحاجات والرغبات التي تدركها دولة ذات سيادة، وعلاقة ذلك بدول أخرى ذات سيادة تشكل المجال الخارجي لهذه الدولة.

ويصور (جدول المصلحة القومية) جوهر الإطار الفكري العام لتعريف المصلحة القومية. ويشمل الجدول أربع مصالح قومية أساسية، وأربعة مستويات لدرجة أهمية كل مصلحة.

ولاستخدام الجدول يجب وضع تعريفات محددة، والاصطلاح الأول الذي يجب تحديده هو “المصلحة القومية”. ويُلاحظ احتواء هذا التعريف على العناصر الرئيسية التالية:

1. أهمية عنصر الإدراك لحاجات الدولة.

2. ينطبق التعريف فقط على الدول ذات السيادة الكاملة، ولا ينطبق على المنظمات الدولية، أو الأقاليم ناقصة السيادة، التي تعتمد على دول أخرى. وما زلنا حتى الآن، نرى أن اتخاذ قرارات مثل استخدام القوة العسكرية، وفرض قيود تجارية، والدخول في التحالفات، وتوفير كميات كبيرة من المعونة الخارجية، يتم فقط بواسطة حكومات الدول ذات السيادة.

3. هناك حد فاصل بين المجال الخارجي والمجال الداخلي للدول، فالحكومة، التي تتعامل مع مجالها الداخلي، عادة ما توصف بأنها تعمل لمصلحة العامة. في الوقت الذي تُوصف فيه الحكومة، التي تتعامل مع مجالها الخارجي، بأنها تعمل في مجال المصلحة القومية.

أنواع المصالح القومية:

1. المصلحة الدفاعية Defense Interest:

الدفاع عن الدولة (مجموعة دول) ومواطنيها من أي تهديد بالعنف المادي بواسطة دولة أخرى أو مجموعة دول، والحماية من أي تهديد خارجي محتمل، مباشر أو غير مباشر، ضد النظام السياسي القومي.

2. المصلحة الاقتصادية  Economic Interest:

تعظيم الرفاهية الاقتصادية للدولة أو مجموعة دول بالنسبة للدول الأخرى.

3. مصلحة النظام الدولي World- Order Interest:

الحفاظ على نظام دولي سياسي واقتصادي، تستطيع الدولة أن تشعر في إطاره بالأمن، ويمكن أن يمتد نشاطها التجاري خارج النطاق الجغرافي للدولة بحرية.

4. المصلحة العقائدية Ideological Interest:

حماية وتدعيم مجموعة من القيم، التي يشترك فيها المواطنون والدولة أو مجموعة دول، والاعتقاد في صلاحيتها في كل العالم.

والعلاقات بين هذه المصالح الأساسية الأربع يمكن إيجازها في الآتي:

أ. لا يعني الترتيب الذي ذكرت به تقدم أولوية لإحدى هذه المصالح على الأخرى، ولكن ما لم تحقق المصلحة الدفاعية ـ سواء من طريق قوة دفاعية قوية، أو بالتحالف مع قوى كبرى، أو كليهما ـ فلن يصبح لأي من المصالح الثلاث الأخرى أي أهمية.

ب. أن هذه المصالح الأربع لا يستبدل أحدهما بالآخر، كما يجب على متخذي القرار أن يقبلوا موازنة هذه المصالح لتحقيق المصلحة القومية. وعلى سبيل المثال: قد يضحى في بعض الأحيان بالمصالح الاقتصادية للدولة لصالح مصلحة النظام الدولي، والتي تشمل دولة أخرى تحتاج الدولة لصداقتها وتعاونها لصالح الاستقرار في جزء مهم من العالم. والمثال الواضح لذلك هو الصادرات اليابانية من السيارات والتليفزيونات إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

ج. تشكل عقيدة الدولة جزءاً مهماً من مصلحتها القومية، قد لا تكون بنفس القوة التي تمثلها المصالح الثلاث الأخرى، إلا أنها تُعَدّ بصفة عامة مهمة في تحديد ردود أفعال الحكومة للموضوعات الدولية.

وتركز السياسات البيروقراطية وجماعات الضغط المختلفة داخل الدولة، على تحديد أولويات المصالح الأساسية في فترات محددة. ففي خلال فترة الخمسينيات، وحينما بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تملك موارد لا حدود لها للاشتراك في النشاطات الدولية، تلقت المصالح الأربع الأساسية دعماً قوياً. إلا أنه خلال فترة السبعينيات، وحينما قُيد الاقتصاد الأمريكي نظراً إلى الحرب في فيتنام، وانخفاض القدرة التنافسية للولايات المتحدة الأمريكية أمام ألمانيا واليابان وبعض الدول الأخرى، اضطرت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لإعطاء أولوية متقدمة للمصالح الاقتصادية وأوليات بدرجة اقل إلى حد ما لمصالح النظام الدولي. وفي عام 1977، أعطت الولايات المتحدة الأمريكية أولوية متقدمة للمصلحة العقائدية أكثر منها في الأعوام السابقة.

وتتعامل مصالح النظام الدولي مع العديد من الموضوعات الدولية، بواسطة المنظمات الدولية، من أجل أن يكون الهدف الأول منها لمصلحة النظام الدولي هو الحفاظ على توازن القوى لصالح الإحساس بالأمن للدولة أو مجموعة دول.

قبل الحرب العالمية الثانية، لم تعط الولايات المتحدة الأمريكية اهتماماً كافياً لمصلحة النظام الدولي، إذ كانت تعتقد أنها تستطيع أن تكون في أمان ورخاء، دون التورط بالدخول في عصبة الأمم أو في أي تحالفات. وفي فترة ما بعد الحرب، غيرت الولايات المتحدة الأمريكية من موقفها، وقررت إعطاء عناية أكبر لصالح النظام الدولي، وذلك نتيجة لتمزق التركيب القديم للعلاقات الدولية نتيجة للحرب.

وبدلاً من العزلة التي كانت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، ظهرت بعض الأفكار الأمريكية، مثل مشروع مارشال لإعادة تعمير أوروبا، وحلف شمال الأطلسي، وعقيدة ترومان التي دعت إلى مساعدة اليونان وتركيا لتحجيم الضغوط السوفيتية في شرق البحر المتوسط. وبالطبع لم تكن أي من هذه الخطوات للسياسة الخارجية الأمريكية، بين عامي 1947-1949، ضرورية للدفاع عن أمريكا الشمالية، إلا أنها كانت جميعاً جزءاً من اعتقاد بأن مثل هذا التدخل الذي تم خارج الحدود كان مطلوباً للمحافظة على النظام الدولي لفترة ما بعد الحرب. فقد خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب العالمية الثانية أعظم قوة مؤثرة في العالم، وقد رغبت في البقاء كذلك.

إن الأربع مصالح القومية الأساسية هي عناصر ديناميكية تحدد سلوك الدول، والتغيرات في درجة أسبقياتها فيما بينها، غالباً ما تُقاس بالسنين وعشرات السنين، وليس على فترات زمنية قصيرة.

ويُعَدّ تحديد المصالح القومية الأساسية، التي تتواجد في الأزمات الخارجية، الخطوة الأولى في تحديد السياسة الخارجية للدولة. والخطوة التالية هي التحليل الصحيح لدرجة أهمية هذه المصالح، أو المكاسب القومية التي يعتقد بوجودها القادة السياسيون لدولة ما. فقد يكون اهتمام الدولة كبيراً في إمكانية حدوث تغيير للنظام السياسي بالقوة في دولة أخرى صديقة، إلا أن درجة أهمية هذا الاهتمام ستعتمد على عدد من العناصر، من بينها بُعد الدولة الصديقة عن حدود هذه الدولة، وتكوين اتجاهات الحكومة الجديدة، والاستثمارات والتجارة معها، والعلاقات التاريخية بينهما (مثال الانقلاب الشيوعي في السودان، خلال السبعينيات، ودعم مصر للحكومة الشرعية).

كما يجب أن يضع صانعو السياسة في الحسبان التكاليف المحتملة لأي أعمال إيجابية قد يتخذونها، في حالة مواجهة تغيرات غير مناسبة لها في دولة أخرى (أي مخاطر الحرب). وبذلك، فإن درجة أهمية المصلحة التي قد تراها الدولة الوطنية في موضوع دولي محدد، هي نتاج لعملية تفكير ـ لتحليل المكاسب والخسائر التي يدركها القادة السياسيون لهذه الدولة.

وفي النهاية، فقد تخرج الدولة بنتيجة، بشأن ما يجب عمله، وأي سياسات يجب اتخاذها، إلا أن إجراءات تحديد أهمية المصلحة والتي ترى الدولة اتخاذها تتضمن إيجاد التوازن المطلوب بين المصالح الأربع الأساسية التي ذُكرت من قبل.

وبذا فإن تغيير حكومة ما نتيجة لانقلاب عسكري، قد تكون غير موائمة للدولة الوطنية ـ سواء من زاوية المصلحة العقائدية أو مصلحة النظام الدولي. ولكن إذا كان هناك روابط اقتصادية مهمة مع هذه الدولة، مع عدم وجود أي تهديدات لأراضي الدولة الوطنية، فمن المحتمل تأخير درجة الأهمية العقائدية، ومشاكل الأمن المحتملة عن الاعتبارات الاقتصادية.

مما سبق، نجد أن الأسس التي يُبنى عليها تحديد موضوعات درجة أهمية المصلحة هي:

1. موضوعات البقاء:

يُصبح الوجود الأساسي للدولة في خطر داهم للأسباب الآتية:

أ. إما نتيجة لهجوم عسكري علني على أراضيها.

ب. أو نتيجة للتهديد بهجوم وشيك الوقوع، إذا رفضت الدولة مطالب عدوها.

المقياس الحقيقي لدرجة أهمية المصلحة هو وجود تهديد فوري بضرر مادي شامل، بواسطة دولة ما، وضد دولة أخرى. وبذا، فإن المصلحة الدفاعية هي المصلحة الوحيدة، التي قد تتقدم في درجة أهميتها. ويصبح هذا أكثر وضوحاً إذا تضمن احتمال استخدام الأسلحة النووية الإستراتيجية. وترى الدول العظمى أن وصول أهمية الموضوع إلى مستوى البقاء، يبرر الاستخدام الفعلي للأسلحة النووية الإستراتيجية ضد العدو.

2. الموضوعات الحيوية:

من المحتمل أن ينتج ضرر حقيقي للدولة، ما لم تتخذ إجراءات قوية، بما فيها استخدام القوة العسكرية التقليدية، لمواجهة أعمال عدائية من دولة أخرى، أو لردع هذه الدولة من التصعيد الجاد للأزمة. وقد يكون الموضوع الحيوي ـ على المدى الطويل ـ بنفس جدية موضوعات البقاء، إذا كان التهديد موجهاً ضد رفاهية الدولة السياسية والاقتصادية، والزمن هو: الاختلاف الجوهري في هذا الموضوع. فعادة ما يوفر الموضوع الحيوي للحكومة وقتاً كافياً لطلب معاونة الحلفاء، أو التفاوض مع الدولة المقابلة، أو اتخاذ إجراءات مضادة حاسمة لإنذار العدو بعظم الثمن الذي سيتكلفه، إذا لم ترفع الضغوط السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية. وعلى العكس موضوعات البقاء، فقد يتضمن الموضوع الحيوي، ليس فقط المصلحة الدفاعية، ولكن أيضاً المصالح العقائدية. وعلى سبيل المثال، فقد أشارت الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1971، إلى أن رفعها للجمارك بنسبة 10% لإجبار شركائها في التجارة على قبول تخفيض قيمة الدولار، كان نتيجة لوصول صعوبات في ميزان المدفوعات الأمريكي إلى المستوى الحيوي.

3. الموضوعات الرئيسية:

قد تتأثر الأوضاع السياسية والاقتصادية للدولة سلباً بأحداث واتجاهات في المناخ الدولي، تتطلب الاضطلاع بعمل، لمنعها من أن تصبح تهديدات جادة (موضوعات حيوية). وتقع معظم موضوعات العلاقات الدولية ضمن هذا التقسيم، وغالباً ما تحل خلال المفاوضات الدبلوماسية. وحينما تفشل الدبلوماسية في حل مثل هذه النزاعات، تصبح خطيرة، إذ يجب على الحكومات في هذا الموقف إعادة تقدير كمية تأثير مصالحها بالحدث الجاري في حينه.

وإذا أصبحت الحكومة ـ في التحليل النهائي ـ غير راغبة أو غير قادرة على تسوية ما تُعَدّه موضوعاً أساسياً، فقد أكدت ضمنياً أن هذا الموضوع هو موضوع حيوي. وعلى الجانب الآخر، إذا عُدَت المفاوضات والتسوية هما أفضل البدائل، فيحتمل أن يكون الموضوع موضوعاً رئيسياً فقط. وتُعدّ معظم المشاكل الاقتصادية بين الدول موضوعات رئيسية ـ وليست حيوية ـ ويُعدّ الشيء نفسه صحيحاً في المصالح العقائدية. على الرغم من حجب الدول في بعض الأحيان لبعض المشاكل الأخرى في المجال العقائدي لتعبئة الرأي العام داخل الدولة وخارجها. وتُعدّ مصالح النظام الدولي أكثر صعوبة في التسوية لتأثيرها على إحساس الدولة بالأمن.

4. الموضوعات الهامشية:

لا تتأثر رفاهية الدولة سلبياً بأحداث خارج حدودها، ولكن يمكن أن تتعرض لمصالح المواطنين والشركات التي تعمل في دول أجنبية للخطر قبل هذه الأحداث. وبالطبع تعطي المؤسسات متعددة الجنسية الكبيرة والرئيسية أولوية كبيرة من الدول الأم حيث أن لمكاسبها والضرائب المأخوذة منها تأثير كبير على الرفاهية الاقتصادية للدولة. وتحدد كل دولة وطنية قيمة هذه المؤسسات، التي تعمل خارج الحدود. وتشكل هذه الشركات لبعض الدول موضوعات رئيسية للمصلحة القومية، بينما تشكل لبعض الدول الأخرى أهمية هامشية.

5. المصلحة الحيوية:

تُعَدّ المصلحة حيوية، حينما ترى أعلى مستويات صانعي السياسة في الدولة ذات السيادة أن الموضوع تحت الاعتبار في أي نزاع دولي أساسي بدرجة كبيرة للرفاهية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدولتهم، بالشكل الذي يحتم عدم المضي في المساومة عليه، حتى إذا نتج من ذلك حتمية استخدام القوة الاقتصادية والعسكرية.

وبالوصول إلى هذا التقدير، فإن صانعي السياسة يؤسسون تحليلاتهم بناء على معايير عدة Criteria، إلا أن ذلك قد يتم في بعض الأحيان، اعتماداً على خواطر طارئة. ففي عام 1965، على سبيل المثال، أثبتت السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة الأمريكية اعتمادها على طبيعة غير نظامية لمجلس الأمن القومي، في ذلك الوقت، خلال تقديره لمدى حسبان الاحتفاظ بفيتنام الجنوبية كمصلحة حيوية للولايات المتحدة الأمريكية.

ويوضح (جدول تحليل المصالح الحيوية) ستة عشر عنصراً تُعَدّ أسئلة مناسبة، يجب التعامل معها، بواسطة صانعي القرار، الذين يتولون مسؤولية عمل تقدير منطقي ومنظم.

ومعظم هذه العناصر الستة عشر واضحة وتفسر نفسها، إلا أن بعضها يحتاج إلى المزيد من التفسير. فإلى جانب العوامل الحيوية، تُعَدّ أهم العوامل هي:

أ. الارتباط العاطفي:

يُشير هذا العامل إلى التأييد الذي يعطي إلى بعض الدول، نظراً إلى طبيعة الاتصال الثقافي والروابط العرقية القوية التي يشعر بها المواطنون تجاه هذه الدول. والمثال الواضح على ذلك هو الارتباط العاطفي للولايات المتحدة الأمريكية تجاه إسرائيل، وارتباط المسلمين والمسيحيين تجاه الأماكن المقدسة في مدينة القدس.

ب. التأثير على هيبة الدولة:

تُعَدّ فكرة التأثير على هيبة الدولة فكرة غامضة إلى حد ما، إلا أن قادة الدول الكبرى يعملون بتأثير قراراتهم في أحد أجزاء العالم، على الرغم من مصداقية وهيبة دولتهم في مكان آخر من العالم.

ج. نوعية الحكومة:

يرتبط هذا العامل مع الموضوعات الأيديولوجية في السياسة الخارجية ومدى نوعية النظام ديموقراطي أم ديكتاتوري؟ وهل يرتبط النظام بحقوق الإنسان وكرامته من عدمه؟

د.  وعلى جانب عوامل التكاليف/ المخاطر، توجد علاقة مباشرة بين مدة ونطاق الصراع وبين مخاطر هذا الصراع. وعموماً، فإن أهم العوامل في هذا المجال هي:

(1) مخاطر الصراع طويل الأمد:

ويحدد هذا العامل بشكل كبير بتحليل مدى رغبة العدو في مقاومة الضغط العسكري، كما يُعَدّ عاملاً أساسياً لجميع عوامل التكاليف/ المخاطر.

(2) مخاطر معارضة البرلمان:

وفي الولايات المتحدة الأمريكية تعلّم كل من: الرئيس جونسون، والرئيس نيكسون هذا الدرس القاسي، حينما أجبرت قوى الكونجرس كلا الرئيسين على تغيير مسار الحرب في فيتنام.

والنقطة الأساسية هنا، هي ضرورة أن يكون صانعو السياسة أكثر عنفاً وصرامة في تقرير هل المصلحة حيوية من عدمه؟

ثانياً: تحديد شكل المصلحة القومية:

تُعَدّ المصلحة القومية هي المحددة للسياسات الخارجية للدول، وعلى قدر الاختلاف في المصلحة القومية تتغير اتجاهات السياسة الخارجية، ويبدو شكل المصلحة القومية للدولة في إحدى الصور الآتية:

1. حماية السيادة الوطنية ودعم الأمن القومي، وهذا الهدف له أولوية مطلقة لدى الدول أياً كانت نظمها وقوتها وموقعها وحجمها، وهي توفر لذلك كل إمكانياتها سواء الذاتية أو المضافة، حيث يرتبط هذا الهدف بالحاجة إلى مواجهة التهديدات ضد كيانها، وحتى تدعم الدولة قدراتها قد تدخل في تحالفات، وليس شرطاً أن يكون في إطار رسمي بتوقيع بعض المواثيق.

2. تنمية مقدرات الدولة من القوة، وهو ما يدفع بالدول إلى التصارع في شن حروب ضد بعضها، وقد أدى التطور التكنولوجي الحالي في أدوات الحرب الحديثة إلى مضاعفة هذه القوة.

3. زيادة مستوى الثراء الاقتصادي عن الحد الأدنى المتوفر للثروة الوطنية، ويُعَدّ ذلك هدفاً رئيسياً لسياسة الدولة الخارجية، حيث ترى في تحقيقه نفوذاً أكبر في المجتمع الدولي، وقد أصبح الثراء الاقتصادي نوعاً من الدعاية للأيديولوجية التي تنجح الدولة في تحقيقها.

4. تحرص دول كثيرة على نشر أيديولوجيتها والدفاع عن معتقداتها، اقتناعاً منها بأن هذا الأسلوب يدعم مصالحها بصورة أفضل، في حالة اعتناق دول أخرى لنفس هذه الأيديولوجية، ويُعَدّ ذلك نجاحاً لها.

5. صيانة الثقافة الوطنية وحمايتها وتأمينها ضد الأخطار الخارجية، التي قد تهددها، في محاولة لتشويه هذه الثقافة وتدميرها، وقد تتبع الدول في سبيل الحفاظ على هذه الثقافة أساليب كثيرة، منها: دعم استقلال الدولة، وفرض قيود على الهجرة القادمة إليها، وقد تقوم بعض الدول بعمل إيجابي وهو تصدير ثقافاتها إلى الآخرين.

6. الذود عن السلام، حيث إن الأعباء على ميزانيات الدول وتأثر الدخل القومي نتيجة تخصيص أموال كثيرة لصالح التسليح، يُعيق مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لذلك فإن توفير هذه المخصصات والحفاظ على المصالح في إطار السلام يحقق معدلات أسرع في التنمية ويرفع من مستوى شعوبها.

ثالثاً: اختيار شكل التحالفات والترابط بين الدول:

1. تعريف الحلف:

أ. تعريف الدكتور محمد طه بدوي: هو اتفاق بين دولتين أو أكثر على تدابير معينة لحماية أعضائه من قوة أخرى معينة تبدو مهددة لأمن كل هؤلاء الأعضاء.

ب. تعريف أوسجود: هو اتفاق رسمي تتعهد بموجبه مجموعة من الدول بأن تتعاون فيما بينها في مجال الاستخدام المشترك لقدراتها العسكرية ضد دولة أو دول معينة، كما تلتزم عادة بمقتضاه دولة أو أكثر من الدول الموقعة عليه باستخدام القوة أو التشاور بشأن استخدامها في ظل ظروف معينة.

ج. تعريف هنري كابتانت: هو معاهدة بين دولتين تتعهد بمقتضاها كل منهما بأن تهب لنجدة الأخرى، سواء كان ذلك من خلال عمل عسكري أو بأي وسيلة أخرى من وسائل العون، وذلك في حال تعرض أي منهما لخطر الحرب.

د. تعريف بروس روسيت: هو اتفاق رسمي بين عدد محدود من الدول يتعلق بالظروف التي في ظلها ستلجأ هذه الدول إلى استخدام القوة العسكرية.

هـ. تعريف كين بوث: هو اتفاق رسمي بين دولتين أو أكثر يتعلق بالتعاون في مجالات الأمن القومي.

و. تعريف     أرنولد وولفيرس: هو الوعد بتقديم المساعدة العسكرية المتبادلة بين دولتين أو أكثر، أو بالقتال جنباً إلى جنب ضد عدو مشترك.

ز. تعريف     ديفيد إدوارد: هو التزام مشروط ذو طابع سياسي أو عسكري بين مجموعة من الدول، باتخاذ بعض التدابير التعاونية المشتركة، في مواجهة دولة أو مجموعة من الدول الأخرى المعينة.

ح. تعريف إدوين فيدر: هو تضافر قوى مجموعة من الدول، خلال فترة زمنية معينة، بهدف زيادة أمن الدول الأعضاء.

ط. تعريف فايتل: هو كل اتحاد بين دولتين أو أكثر يهدف إلى متابعة العمل على تحقيق هدف سياسي مشترك.

ي. تعريف فريتاج: هو ذلك الاتفاق المبرم بهدف اتباع سياسة موحدة، سواء في المجالات كافة أو فيما يتصل بموضوعات محددة.

ج. تعريف وايتنج وهاس: هو اندماج قوة دولتين أو أكثر والتوحيد بين سياساتهما الخارجية، بهدف بلوغ غايات محددة.

2. أشكال أخرى للترابط بين الدول بخلاف الحلف:

أ. نظام الحماية:

يوجد منها نوعان، وهما حماية اختيارية، وحماية استعمارية يترتب عليها تنازل الدولة المحمية، سواء بإرادتها، أو رغماً عنها، عن جزء من السيادة القومية لها. وينحصر دور الدولة الحامية في تنظيم العلاقات الخارجية، والدفاع عن الدولة المحمية. وقد يكون هناك ستار للحماية الاستعمارية للدول الضعيفة من خلال اتفاقيات الدفاع، بحيث يصبح للدولة الحامية الحق في بقاء قوات عسكرية ومطارات وموانئ، بحجة تقديم المساعدة العسكرية عند تعرض الدولة المحمية للعدوان.

ب. الاتحاد الفيدرالي:

ويترتب على إقامته بروز كيان جديد لشخصية دولية ذات نظام دستوري، حيث يُعدل في العلاقات الخارجية للدول الأعضاء، ومن ثَم، لا يظهر هنا التحالف، وإنما تذوب الدول الأعضاء في دولة واحدة.

ج. منظمة الأمن الجماعي:

تمثل تنظيماً عالمياً للسلام ينضم إليها أي دولة في العالم، وهي لحساب الجماعة الدولية، ومن ثَم، لا تتكتل ضد أحد، وقد أكد جيروم سلاتار ضرورة توفر شروط لبناء هذا النوع من التحالفات، وهي:

(1) تخلي الدول عن النظرة بأسلوب المصلحة القومية.

(2) قبول مبدأ عدم قابلية السلام للتجزئة.

(3) القناعة بأنه لا أصدقاء ولا أعداء مسبقاً.

(4) لا توجد أي استعدادات عسكرية مسبقة.

(5) إمكانية التحرك الجماعي لوقف أي عدوان.

(6) تخلي الدول عن القيام بأعمال منفردة دفاعاً عن مصالحها.

(7) تخلي الدول عن سعيها لزيادة قواها.

د. التجمعات الدولية الإقليمية:

(1) يهدف إلى تحقيق التكامل بين أعضائه في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية كافة.

(2) تقوى عنصري التضامن والتوحد، وتميل إلى خلق المؤسسات ذات الاختصاصات لإصدار التشريعات والقرارات.

(3) تعكس تطابقاً وتكاملاً بين مصالح الأعضاء في وجود التجانس القومي أو المذهبي أو السياسي.

هـ. مواثيق عدم الاعتداء:

ذات طبيعة سلبية يتعهد أطرافها بالامتناع عن القيام بأي عمل عدواني، وتختلف هذه المواثيق عن الأحلاف بأنها تُبرم بين أعداء محتملين عكس الأحلاف.

3. قد يتخذ التحالف أشكالاً رسمية مثل الائتلاف والانحياز:

أ. الائتلاف: وهو تعاون دولتين أو أكثر دون اتفاق رسمي، ويمثل استخدام مشترك للقدرات لتحقيق هدف معين متفق عليه.

ب. الانحياز: وهو تشابه سلوك دولتين أو أكثر، نتيجة التنسيق فيما بينها، على الرغم من عدم وجود اتفاق رسمي.

4. أسباب اتباع سياسات التحالف:

أ. ردع العدو.

ب. السعي إلى زيادة القوة.

ج. حسابات توازن القوى.

د. الهيمنة والسيطرة على المتحالفين.

هـ. حسابات متعلقة بالسياسات الداخلية في الدول المتحالفة.

و. حسابات الهيبة والمكانة الدولية.

5. تصنيف الأحلاف:

أ. من حيث قانونية علاقة التحالف:

(1) تحالفات رسمية.

(2) تحالفات غير رسمية.

ب. من حيث عدد الأعضاء في الحلف:

(1) أحلاف ثنائية.

(2) أحلاف جماعية.

ج. من حيث الهدف من التحالف:

(1) أحلاف دفاعية.

(2) أحلاف هجومية.

د. من حيث مدة سريان التحالف:

(1) أحلاف مؤقتة.

(2) أحلاف دائمة.

هـ. من حيث سرية وعلانية التحالف:

(1) أحلاف علنية.

(2) أحلاف سرية.

و. من حيث درجة التكافؤ للمتحالفين:

(1) أحلاف متكافئة.

(2) أحلاف غير متكافئة.

ز. من حيث توقيت قيام الحلف:

(1) أحلاف وقت السلم.

(2) أحلاف وقت الحرب.

ح. من حيث الجوار الجغرافي:

(1) أحلاف دول متجاورة جغرافياً.

(2) أحلاف دول متباعدة جغرافياً.

ط. من حيث توافق أو تعارض المصالح للحلفاء:

(1) أحلاف تخدم أهدافاً متطابقة.

(2) أحلاف تخدم أهدافاً متكاملة.

ي. من حيث دواعي قيام التحالف:

(1) تحالفات تعزيزية.

(2) تحالفات وقائية.

(3) تحالفات إستراتيجية.

(4) تحالفات تخدم أهداف أيديولوجية.

ك. من حيث محدودية أو عمومية التحالف:

(1) أحلاف ذات أهداف عامة.

(2) أحلاف ذات أهداف محددة.

6. دورة حياة الحلف:

أ. مرحلة النمو: وتعقب قيام الحلف وتنامي قدراته، في محاولة لاكتساب مزيد من الأعضاء، لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية أو عسكرية.

ب. مرحلة التدهور: وتسبق انتهاء التحالف بصورة رسمية، ويحدث انسحاب بعض الدول، أو تراجعها عن الإيفاء بالتزاماتها وانخفاض المشاركة.

إستراتيجيات ونظريات توازنات القوى والمصالح

يحكم توازن القوى بين الدول أو بين مجموعة من الدول اتباع الأسس والمبادئ لهذا التوازن المطلوب، سواء كان توازناً للقوى أو توازناً للمصالح القومية.

ولا يكفي أن تتقيد مجموعات الدول أو دولة ما بالأسس والمبادئ، وإنما في كل حالة من حالات التوازن، وطبقاً للمواقف المتباينة والمتحركة دائماً، تتبع الدول أو التكتلات، سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، مجموعة من الإستراتيجيات والنظريات، التي تطوع علاقاتها لمفاهيم محددة ترتبط بالتوازن في المقام الأول. ولذلك فإنها قد تدخل في أحلاف أو  في معاهدات أو في تكتلات، وقد تعقد اتفاقيات أو تجري محادثات كلها، بهدف الوصول إلى نقطة التوازن المطلوبة للقوى أو للمصالح.

أولاً: عناصر ومكونات أبعاد التوازنات: (انظر شكل عناصر ومكونات أبعاد التوازنات)

1. البعد البنائي:

ويُقصد به القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية والحضارية، وهي عناصر القوى الشاملة القومية للدولة أو لمجموعة دول. وقد عَرّف علماء الجيوبوليتيك مفهوم القوة أنه مرادف للسيطرة. وقد أسهم “راتزل” في ظهور الجيوبوليتيكا العضوية، حيث آمن أن الدولة تحتاج إلى القوة للنمو والتطور. أما “كيلين” فقد ذهب إلى أن القوة تكمن في الكيانات الكبيرة، بل أبعد من ذلك فقد أشار إلى أن القوة أفضل من القانون.

والقوى القومية الشاملة لدولة أو لمجموعة دول ما يمكن قياسها، حيث هي مستندة أساساً إلى مصادر وموارد الدولة الطبيعية، وأيضاً التي يمكن توفيرها والحصول عليها، وهناك قوى أخرى غير ملموسة.

أ. عناصر قوى الدولة/ الدول القومية الشاملة: (انظر شكل عناصر قوى الدولة)

(1) العنصر الجيوبولوتيكي:

ويُقصد به الدراسة الدقيقة لجميع العوامل المؤثرة والموارد الطبيعية للدولة أو للدول التي يمكن توفيرها أو الحصول عليها، لتحقيق الأهداف والمصالح القومية.

(أ) الموقع الجغرافي:

يُعَدّ الموقع الجغرافي للدولة أو لمجموعة الدول أحد العوامل المؤثرة على القوة وعلى توجهات النظام السياسي. وهو ينقسم إلى أربعة أقسام، وهي الموقع الفلكي بالنسبة لخطوط الطول والعرض، بما فيها من تأثيرات مناخية، ثم الموقع بالنسبة للبحار والمحيطات، وهو يتدخل في تحديد إستراتيجية الدول، ويأتي الموقع الإستراتيجي في المرتبة الثالثة، حيث يتحكم في حركة المواصلات العالمية والتجارة الدولية، ثم يأتي القسم الأخير وهو الموقع بالنسبة للدول المجاورة، بما يحدد شكل العلاقات مع هذه الدول نتيجة طول الحدود معها.

(ب) مساحة الدولة/ الدول:

تلعب مساحة الدولة دوراً كبيراً في حسابات القوة القومية، حيث تحدد شكل إستراتيجية الدولة أو الدول من حيث (اتباع إستراتيجية معينة محايدة ـ متوازنة العلاقات ـ الارتباط بقوى أخرى ـ  تبني سياسة النفس الطويل ـ تبني إستراتيجية الحرب الخاطفة ـ نقل العمليات العسكرية خارج الأراضي)، والمعروف أن المساحة تهيئ القوة، وأن القوة تصون المساحة.

(ج) الحدود السياسية:

وتؤثر الحدود السياسية، من حيث كبرها أو صغرها، على القوة السياسية والعمل الدبلوماسي، وشكل قواتها المسلحة، والتأثير بالسلب أو بالإيجاب على المقدرة الاقتصادية ودورها في حرية الانتقال والتبادل التجاري والثقافي والتكنولوجي.

(د)    أبعاد أخرى:

يلعب شكل الدولة والقوة البشرية وموارد الثروة الطبيعية أدواراً مؤثرة وكبيرة في قوة الدولة/ الدول القومية الشاملة.

(2) القوة الاقتصادية:

وهي تعني الموارد الاقتصادية، ولا يمكن إغفال أهمية القوة الاقتصادية في الوقت الراهن، فبعد أن كانت السياسة تقود الاقتصاد، أصبح الاقتصاد الآن يقود ويحرك السياسات. والموارد الاقتصادية تنقسم إلى: موارد متاحة فوراً، وهي المواد الإستراتيجية والثروات الطبيعية، وموارد يمكن توفيرها بعد وقت محدود، والتي يحتاج إعدادها إلى (72 ساعة حتى 3 أسابيع). وتُعَدّ قوات الاحتياط والمعدات والأسلحة والذخائر التي يتم فك تخزينها من هذا النوع من الموارد. أما النوع الثالث من الموارد فهي التي يمكن الحصول عليها بعد تعديل المنتج الأصلي، ويصل زمن إعدادها إلى أكثر من 3 أسابيع، ومنها تحويل الإنتاج المدني إلى عسكري، وتأهيل طلبة الجامعات للانضمام إلى التنظيمات العسكرية، وتحويل بعض المعدات المدنية إلى معدات عسكرية.

والنوع الأخير من الموارد وهو المنتظر الحصول عليه، وهو لا يمكن التخطيط لاستخدامه ضمن السياسات الاقتصادية، ولكنه يُعَدّ من مضاعفات القوة بعد الحصول عليه.

وتنقسم الدول في العالم من الناحية الاقتصادية إلى:

·   دول محدودة الموارد ومتخلفة.

·   دول محدودة الموارد ومتقدمة.

·   دول تعتمد على مورد اقتصادي واحد.

·   دول متوازنة الموارد الاقتصادية.

·   دول غنية بالموارد الاقتصادية.

(3) القوة العسكرية:

وتُعَدّ القوة العسكرية هي الركيزة الأولى، وتنقسم إلى قوة تقليدية وقوة نووية، ويؤخذ في الحسبان عند قياس هذه القوة نوعيتها ـ كفاءتها ـ القاعدة الصناعية الحربية.

ويُقصد بالقوة النووية إجمالي الذخائر النووية ووسائل نقلها وإطلاقها، وتنقسم الدول من حيث امتلاكها هذه القوة إلى:

·   دول تمتلك القوة النووية.

·   دول في مقدورها امتلاك هذه القوة.

·   دول ليس في مقدورها امتلاك هذه القوة.

وفي حالة امتلاك دولتين للقوة النووية ينشأ ما يُسمى بتوازن الرعب، أما عند امتلاك إحدى الدول لهذه القوة وعدم امتلاكها في دولة أخرى فينشأ ما يُسمى بالردع النووي.

(4) القوة السياسية:

ويُقصد بها مدى الثقل والتأثير الإقليمي والدولي، ولها ثلاثة أبعاد أساسية وهي إعمال التأثير والنفوذ، ثم الإمكانات والأدوات المستخدمة في توجيه هذا التأثير، وأخيراً مدى الاستجابة من الدول الأخرى لعملية التأثير لهذا النفوذ.

(5) الإرادة القومية:

وتُعَدّ مصدراً رئيسياً لقوة الدولة/ الدول، وهي تعني أساساً القدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذ الخطط، وفقاً لما تراه مناسباً للمصالح القومية، ودون الخضوع للضغوط الخارجية. ومن المعروف أن تفاعل كل من النظام الحاكم والشعوب ينتج الإرادة القومية، ويؤدي ذلك إلى زيادة الاستقرار السياسي وكفاءة المؤسسات السياسية والدستورية وتنمية الرأي العام وتوحيده، وصولاً إلى إذكاء روح الولاء والانتماء.

وتتأثر الإرادة القومية بالعوامل العرقية والخبرة التاريخية التراكمية ومستجدات النواحي الثقافية وقدرة استيعاب التكنولوجيا، وأخيراً البعد العقائدي والديني.

إذاً من تحليل قوى الدولة/ الدول القومية الشاملة، يمكن أن نصل إلى مكونات هذا البعد البنائي، والذي ينحصر في عنصرين هما: توازن المكانة، وتوازن المقدرات.

ب. توازن المكانة:

يُقصد به تناسق وتوافق المقومات الأساسية للدولة/ الدول، ويصبح لكل دولة/ مجموعة دول مكانة، ومن ثَم، فإن إطلاق تعبير (توازن المكانة لدولة/ لدول ما) يعني اتزان العوامل الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والعسكرية والتقدم العلمي والتكنولوجي والثقافة والحضارة، وعند عدم توازن المكانة لدولة/ لدول يؤدي ذلك إلى إضعاف قدرتها في إحداث التأثيرات السياسية في الساحة الدولية.

ج. توازن المقدرات:

يُقصد به حجم تعادل المقدرات لدولة/ لدول في النسق الدولي ودرجة ميل التغير في هذه المقدرات، وهذا التوازن له نمطان مختلفان، الأول هو توازن القوى، والثاني هو توازن الرعب.

(1) توازن القوى:

وهو نظرة سياسية للمحافظة على ميزان القوة بين مجموعة من الدول، حيث لا يسمح لدولة ما أو مجموعة متحالفة من الدول بالانفراد بالهيمنة في العالم واستغلال إمكانياتها العسكرية والاقتصادية في السيطرة على دول أخرى أو فرض إرادتها عليها، أو التدخل ضد مصالحها. ويتحقق هذا التوازن بحشد قوى الدولة منفردة، أو بالتحالف مع غيرها من النماذج السياسية ضد منافسيها.

وحالة توازن القوى تؤدي إلى استقرار التفاعلات السياسية الدولية، وعدم توازن القوى يؤدي إلى نشوب الصراعات والحروب، إما لتحقيق مصالح وأهداف توسعية، أو طلباً لاستعادة حالة التوازن، لذا فإن توازن القوى يبدو وكأنه قانون داخل العلاقات الدولية.

(2) توازن الرعب/ التوازن النووي:

وهي حالة لا يملك فيها أي طرف تدمير الطرف الآخر، خوفاً من التدمير المتبادل. ولا يتطلب ذلك تكافؤ عددي في الوسائل النووية، ولكن وجود الحد الأدنى يُعَدّ كافياً لحدوث هذا التوازن.

وقد ينشأ هذا التوازن في غياب توازن القوى، وعلى الرغم من ذلك فإنه يؤدي إلى نوع من الاستقرار في حالة توفره، كما أن عدم وجود حالة توازن الرعب لا تؤدي بالضرورة إلى عدوانية السلوك للطرف الأقوى الذي يمتلك قوى نووية.

2. البعد السلوكي:

يتحدد سلوك القوى الدولية إزاء بعضها بعضا، بناءً على درجة التشابه أو الاختلاف في قيمتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية. ويتكون البعد السلوكي من عنصرين أساسيين، هما: توازن تدخلات القوى، وتوازن سباق التسليح.

أ. توازن تدخلات القوى:

يمكن تحقيق التدخلات، من خلال الأحلاف، أو التدخل المباشر. وتُعَدّ الأحلاف ظاهرة سلوكية لتنسيق أنشطة الدول لتحقيق أهدافها المشتركة. ويُقصد بتوازنات تدخلات القوى العظمى والكبرى أن سلوك وعلاقات الدول الكبرى والعظمى مع التكتلات السياسية في أي منطقة من العالم، والذي ينبع من امتلاك التفوق الحضاري والاقتصادي والعسكري، يُعَدّ أحد الأدوات الرئيسية لحماية مصالحها في المنطقة المحددة من العالم، بحيث يكون هناك نوع من الاستقرار والتوازن بين القوى العظمى والكبرى من خلال هذا التدخل.

ب. توازن سباق التسلح:

وفي هذا النوع من التوازن، تناصب دولتان أو مجموعة من الدول العداء بعضها بعضا، وتحاول كل منها تحسين كفاءة وتسليح قواتها العسكرية بالإنفاق العسكري الزائد. ويُعَدّ هذا السباق في التسلح نمطاً سلوكياً تسعى من خلاله الدولة أو مجموعة الدول، إلى تحقيق التوازن، بل تحقيق التفوق.

وهذا يدعو الدولة المعادية إلى السعي لتحقيق الأهداف نفسها، ومن ثَم، يصبح هناك حركة وتفاعلات لها خاصية محددة، ويصبح ذلك هو سلوك السياسة الخارجية لهذه الدول. ويتحقق هذا التوازن في حالة تعادل الإنفاق العسكري، أيضاً معدلات الزيادة فيه، إلى جانب تساوي القدرة العسكرية التقليدية وغير التقليدية في الكم والنوع للأطراف كافة الداخلة في هذا السباق.

ويُنسب إلى توازن سباق التسلح عناصر عدة منها:

(أ) أن يتضمن التسليح سباقاً في الكم والنوع.

(ب) أن يضطلع كل طرف في هذا السباق بتجسيد ورفع كفاءة قواته المسلحة.

(ج) توفر شرط التنامي السريع في كم الأسلحة.

(د) وجود دولتين أو كتلتين في حالة عداء.

3. البعد القيمي:

يتعلق هذا البعد بمدى إدراك الدولة/ الدول للتوازن الموجود داخل المجتمع الدولي، وفي ظل المتغيرات الدولية، ومدى قابلية الدولة أو الدول لهذا الشكل من التوازن.

وتدرك القيادة للدولة/ الدول طبيعة التوازن الموجود حولها، من خلال معرفة تأثير هذا التوازن على أهدافها القومية، ومدى ملاءمة الزمن اللازم لتحقيق هذه الأهداف، ويوضع في الحسبان دائماً القوة القومية والأهداف القومية والنوايا المستقبلية والإستراتيجية للقوى المضادة.

ويمكن من خلال التكافؤ والتعادل تحقيق التوازن، إلا أن درجة الرضا والقبول أو الرفض لوضع الدولة/ مجموعة الدول في المجتمع الدولي تظل هي المعيار الأساسي لتأثير هذا التوازن وفعاليته، وقد قسم “أورجانسكي” التكتلات السياسية من حيث درجة القبول والرضا إلى مجموعات عدة:

(1) دول قوية وراضية.

(2) دول قوية وغير راضية.

(3) دول ضعيفة وراضية.

(4) دول ضعيفة وغير راضية.

تبدو أبعاد ومكونات عناصر التوازن الإستراتيجي (البعد البنائي ـ البعد السلوكي ـ البعد القيمي) مترابطة، فلا يوجد توازن دون بعد بنائي أساسه التعادل والتكافؤ، وأيضاً دون بعد سلوكي أساسه مرونة وحركة بين الكتل السياسية، وكذلك دون بعد قيمي أساسه إدراك التوازن القائم مرتبطاً بحالة الموافقة عليه أو عدم الرضا عنه.

ثانياً: إستراتيجيات التوازن:

1. الإستراتيجية غير المباشرة:

أ. تعني الإستراتيجية غير المباشرة بمفهومها الصحيح تفادي الدخول في مواجهات مع العدو، انتظاراً لظروف أكثر ملاءمة من حيث تحقيق التفوق، ليسهل تدميره. ومن ثَم تعمل الدولة، التي تتبع هذه الإستراتيجية، على دفع الخصم إلى معارك جانبية، لاستنزاف موارده وإضعاف إمكانياته في المواجهة الرئيسية المرتقبة.

ب. ويعتنق الشيوعيون هذه الإستراتيجية أكثر من غيرهم، فهي في جذورهم منذ الثورة البلشفية ويتبعون في ذلك أساليب تكتيكية، منها تفجير صراعات محدودة في أماكن متشعبة، وحرب العصابات، والدعم بالأسلحة لبعض أطراف الصراع، وأسلوب المتطوعين.

ج. تُعَدّ هذه الإستراتيجية مناسبة للحركات العسكرية أو الثورية في إدارة الصراعات الدولية في ظروف عدم تكافؤ دولة ما مع خصومها.

2. الإستراتيجية النووية:

أ. ظهرت الإستراتيجية النووية، نتيجة امتلاك القوى الكبرى في المجتمع الدولي للأسلحة النووية أو أسلحة التدمير الشامل، وتستمد هذه الإستراتيجية مقوماتها من تحقيق التدمير من الضربة الأولى، ثم حدوث تغير نتيجة التطور إلى تحقيق التدمير المؤكد من الضربة الثانية.

ب. نتيجة اتساع الفجوة بين الإمكانيات النووية للقوى العظمى في المجتمع الدولي، أدى إلى صعوبة متناهية لاحتمال استخدام الأسلحة النووية في الوصول إلى حلول للصراعات القائمة.

3. الإستراتيجية البحرية:

أ. يقول الأدميرال بيتر جريتون: “إن الهدف الرئيسي من هذه الإستراتيجية هو ضمان استخدام البحار لتنفيذ أهداف الدولة وحرمان الخصم في الوقت نفسه من هذا الاستخدام”.

ب. تهدف هذه الإستراتيجية إلى استخدام القوة البحرية كأداة للردع ولدعم القوات المتحاربة وحماية المصالح الاقتصادية للدولة.

ج. تتنوع أدوات هذه الإستراتيجية لتشمل الحرب البرمائية، والحرب تحت الأعماق، والحرب البحرية المكشوفة، والحرب الجوبحرية.

4. إستراتيجية الحرب الجوية:

أ. هي حرب بها الإمكانيات الهجومية أكثر من الإمكانيات الدفاعية، وتُعَدّ الخصائص الجيوستراتيجية للدولة من العوامل العامة المؤثرة على فرص إدارة إستراتيجية حرب جوية ناجحة، حيث تصبح الدولة في مأمن من مهاجمتها جوياً، كلما اتسع مسرحها، وأمكنها إحكام المراقبة للمسرح الجوي.

ب. تتأثر الدولة أيضاً وتؤثر في إستراتيجية الحرب الجوية بمدى تعاظم وسائل الدفاع الجوي الإلكترونية، وابتعاد الأهداف الحيوية بها عن  مناطق الحدود الملاصقة للخصم، ويشترط أيضاً انتشارها.

ج. يلعب الإخفاء دوراً مهماً في إستراتيجية الحرب الجوية، من حيث التأثير سلباً على تحقيق المهام، إذا ما أحكم إخفاء الأهداف المهمة.

5. إستراتيجية الانتقام الشامل:

أ. وهي إستراتيجية وضعها جون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في بداية الخمسينيات، وعَدّها تصحيحاً لكل الأخطاء، التي حدثت، نتيجة تطبيق سياسات سابقة ضد الاتحاد السوفيتي، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

ب. ارتكزت هذه الإستراتيجية على أساس تبني الانتقام النووي والسريع العنيف بوسائل وفي أماكن تختارها الولايات المتحدة الأمريكية.

ج. بُنيت فكرة هذه الإستراتيجية، على أساس أن الطريقة المثلى لردع العدو، هي إقناعه مقدماً بأنه إذا لجأ للعدوان، فسوف توجه إليه ضربات انتقامية عنيفة، تجعله في النهاية خاسراً.

د. نُفذت هذه الإستراتيجية حيث برهن استخدامها على عدم قابليتها للحركة أو التصرف في مواجهة الحروب المحدودة والنزاعات المحلية.

6. إستراتيجية الاستجابة المرنة:

أ. قام الجنرال ماكسويل تيلور رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي ـ ببلورة هذه الإستراتيجية منذ الستينيات، وكان الدافع وراء هذه الإستراتيجية هو توفير قدر من الحركة والمرونة الدبلوماسية في مختلف النزاعات، مع تطور المقدرة العسكرية بما يكفل لها مواجهة التحديات، ولذا لابد من تنوع وسائل الردع والقتال، سواء كانت نووية أو تقليدية، إستراتيجية أو تكتيكية.

ب. هيرمان كاهن ـ خبير الأمن الأمريكي ـ سَمّاها إستراتيجية الردع المتعدد الأشكال. وجوهرها الاحتفاظ بالقدرة المستمرة على تدمير العدو تدميراً تاماً بالضربة الأولى. ثم سَمّاها الرئيس جون كيندي بعد ذلك، بإستراتيجية القوة المضادة المقيدة، إلا أنه ركز على أهمية استيعاب الضربة الأولى، ثم أخيراً الرد الانتقامي الذي يضمن تدمير العدو.

ج. تطورت هذه الإستراتيجية عام 1980، بما عُرف بإستراتيجية التصدي الشامل، وقد حدث هذا التحول الانتقالي نتيجة بعض المفاهيم الإستراتيجية الجديدة التي بدأت تفرض نفسها، وقد ارتكزت هذه الإستراتيجية على مبادئ أساسية هي:

(1) الكفاية الإستراتيجية: بمعنى حيازة قوات قادرة على العمل تحت مختلف الظروف، يتوفر لها القدرة على الرد بالشكل الذي يضمن تدمير العدو.

(2) اختيار الهدف: ويعني تحديد شكل العمل ونوع الأهداف المطلوب تدميرها بشكل يتناسب مع الغرض من إحداث هذا التدمير، بحيث توجه الضربات ضد المواقع العسكرية دون أن تمس الأهداف المدنية، أو أن توجه الضربات ضد الأهداف كافة مدنية وعسكرية.

(3) التحرك السريع: ويعني إمكانية الانتقال السريع والانتشار لهذه القوات.

7. إستراتيجية التدمير المؤكد:

أ. وتعني هذه الإستراتيجية كلاً من: القدرة على التدمير الشامل، والقدرة على حصر نطاق التدمير. وقد كثر الجدال والحوار، بشأن كيفية تحقيق التوازن بين هاتين القدرتين.

ب. فالقدرة على التدمير الشامل تشكل رادعاً حاسماً لأي هجوم معادٍ، حيث ستجعل هذا العدو يفكر في التدمير الذي سينال قطاعه العسكري، وهذا يدخل في إطار الممكن، حيث إن التعامل مع البنية المدنية أسهل من التعامل مع البنية العسكرية، كما أن عملية تحديد الأهداف أكثر ثباتاً واستقراراً، وهي أقل ميلاً إلى سباق التسلح، فالأهداف المطلوب تدميرها لا تحتاج إلى كم كبير من التسليح ذو التقنية العالية.

ج. تبني قدرة التدمير الشامل المؤكد على أساس الثأر والتدمير الشامل بالضربة الثانية.

د. أما القدرة على حصر نطاق التدمير، فهي باهظة التكاليف، حيث تضاعف من سباق التسلح كماً وكيفاً، وهي تلزم الجانبين بتطوير قدراتهما التدميرية، وتعمل أيضاً على استفزاز العدو لأنها تتبنى المبادأة بالضربة الأولى.

هـ. حصر نطاق التدمير في المجال العسكري، يعني ترك القطاع المدني رهينة يمكن تدميرها في المراحل التالية، وهذا السبب يجعل فرص الحل السلمي بالطرق السياسية أكثر توقعاً، وهذا الأسلوب أكثر إقناعاً للعدو ويمكن تصديقه.

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button