دراسات افريقيةدراسات سياسية

دوافع التحولات الديمقراطية في أفريقيا وأسبابها

عندما بدأت عملية التحول الديمقراطي في القارة الأفريقية، كانت تسير في ظل ظروف حرجة، في ضوء الأزمة السياسية التي تمر بها دولها وتعاني منهاِ.. بمعنى أن عمليات التحول الحرجة التي تحدث في دول أفريقيا وخصوصاً في أوقاتُ الأزماتِ كالتي تمر بها في الوقت الحاضر، تجعل هناك إمكانية ليس فحسب للتأثير على أنظمتها السياسية Political Regimes بل وتغييرها. ومثل هذه التّغييراتِ، عندما تطرأ على أنظمة حكم متسلطِة/ استبدادية Authoritarian Rule، يُحتملُ أَنْ توجهه في ثلاثة طرقِ مختلفةِ: التنصيب لشكلِ ما من الديمقراطيةِ، أو إعادة الإنتاج لنظامِ استبدادي جديدِ، أو ظهورِ بديلِ ثوريِ Revolutionary Alternative.
وعلى ضوء عملية التفاعل تلك، يبدو منطقياً إثارة تساؤل مفاده: هل هذه الديمقراطية نتيجة مباشرة لنظام عالمي جديد؟ وهل ما يحدث هو عملية تكيف مع توجهات حكوميةِ في المحيطِ الدولي؟ أم هو استجابة لمزيد من التعقيدات والضغوط، التي تمارس في مواجهة الأنظمةِ السّياسيةِ الوطنيةِ؟ وهل يمكن مع استمرار ذلك، أن تصل الأمور إلى مرحلة الأزمة الحرجة ؟ ومن جهة أخرى، فإن المساعي التي يمكن أن تبذل من أجل إعادة إصلاح النظم الاستبدادية، بموجب العديد من السياسات والتحولاتِ، تثير أيضاً التساؤلات حول الضمانات، التي يمكن التعويل عليها لاستزراع نظام ديمقراطي، وللحيلولة دون إعادة إنتاج نظام استبداد/ تسلطي. علاوة على ذلك، فهل استمرار الأزمات والمشكلات والأوضاع المتردية اقتصاديا واجتماعيا وأمنياً، يمكن أن تعمل على تغييب البديلِ الثوريِ، والعودة للمرحلة الجنينية للتطور السياسي للدول؟وبصفة عامة، إذا كانت فترة أوائل التسعينيات من القرن العشرين قد شهدت اتساع نطاق حركة التحول الديمقراطي في أفريقيا، بوصفه هدفاً دولياً، وخصوصاً من جانب الدول الليبرالية، وشعبياً، في ظل التحفيز والتشجيع من جانب قوى المعارضة الداخلية، فان الدوافع لذلك التحول يمكن توضيحها وإرجاعها لأسباب عديدة، منها:
أولاً: الأسباب الداخلية
ابتداءً يمكن الإشارة إلى أنه في أوائل تسعينيات القرن الماضي، ساد نوع من التفاؤل فيما يتعلق بأفريقيا، مثل ذلك الذي أحاط بها عقب الاستقلال السياسي. وبانتهاء الحرب الباردة، دخلت القارة الأفريقية فيما يسمى بالموجة الليبرالية الثالثة، والتي تتضمن التحرر الاقتصادي والتأسيس للديمقراطية، التي حاولت بعض الدول إرسائها، كنتيجة لضغوط خارجية أو داخلية، فضلاً عن سقوط نظام التفرقة العنصرية (الأبارتهيد Apartheid) في جنوب أفريقيا. وكل ذلك كان له تأثيره على القارة الأفريقية. وفي السنوات القلائل المنصرمة، بدا أن المناشدات والمطالبات بضرورة انبعاث وإحياء القارة الأفريقية، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وأمنياً وثقافياً، قد خبا من جديد، على الرغم من المبادرات المتعددة والمتنوعة.
وربما يكون السبب الرئيسي في ذلك، راجع في أساسه إلى ضخامة التكلفة، التي تتطلبها مثل تلك التغييرات الطموحة؛ فضلاً عن عدم وجود عملية تمويل جادة للتعامل مع هذا الشأن، سواء كانت من ناتج العمليات الإستخراجية والتوزيعية الوطنية للأنظمة الحاكمة في الدول الأفريقية، أو بمشروعات إنقاذ، أو إنعاش اقتصادي خارجي، بمعنى غياب وجود مشروع مارشال جديد، لإعادة الإعمار والبناء لأفريقيا الجديدة. وفي ظل هذا الوضع المتأزم، لم تشفع سنوات الاستنزاف التي شهدتها القارة الأفريقية، إبان حقبة التكالب الاستعماري، ولا عمليات الابتزاز اللاحقة للاستقلال السياسي. وأمام هذا الواقع، وربما في إطار سياسات التجريب، التي درجت الحكومات والشعوب الأفريقية على المطالبة بالأخذ بها، كان تبرير ضرورة السعي والتحرك نحو الأخذ بالتحولات الديمقراطية. ويبدو أن هذا يحدث نتيجة لأسباب شتى، وأن من مبررات ذلك ما يلي:
1. مساوئ النظم السلطوية
رزحت غالبية الدول الأفريقية في الثمانينات تحت الحكم العسكري، أو حكم الحزب الواحد. وفى كل هذه الدول تقريباً، لم تجر أي انتخابات تنافسية طوال فترة ما بعد الاستقلال، أو في غالبيتها. وفى الحالات النادرة التي جرت فيها الانتخابات، كان ذلك في ظروف شبه تنافسية بحيث لم تكن نتائجها تحمل أي تأثير على السلطة التنفيذية. مثل تلك الانتخابات كانت صورية، تتسم بالطابع الشكلي في الغالب الأعم من الحالات. وذلك بغرض إضفاء الشرعية على هيكل السلطة السائد، واستبعاد بعض الأشخاص غير المرغوب فيهم، من قبل الرئيس التنفيذي أو معاونيه المقربين. وفى هذا الإطار، جرى قمع أي مظهر من مظاهر المعارضة السياسية والقضاء عليه. وهذا يحدث في النظم القانونية الرسمية ذاتها. كما عانت غالبية الدول الإفريقية من حالات الحبس، دون محاكمة؛ فضلاً  عن الدساتير الإفريقية التي تمنع تكوين أحزاب سياسية، وتضفى هالة من القدسية على الحزب الحاكم باعتباره الآلية الوحيدة المختصة بتحقيق الديمقراطية والاشتراكية الإفريقية والتنمية – على النحو المعتقد لدى القادة الأفارقة.
لم يكن الاتجاه إلى نظام الحزب الواحد، كنظام للحكم مفروض من قبل السلطة الحاكمة، مرفوضاً دائماً من جانب المجتمعات الأفريقية. ففي أعقاب الاستقلال، كان هناك أمل كبير في الحكومات الوطنية، التي قادت البلاد في تلك الفترة. ولم تكن هناك ريبة في صعوبة أن توجد أنظمة تامة ومتكاملة، للحكم وإدارة شئون البلاد. إلا أن ما تم تأسيسه منذ ذلك الحين، هو مجرد حكومات تبالغ في منح الوعود، باستكمال الاستقلال والسيادة. كما كانت عمليات “التنمية” و”بناء الدولة “، هما السر الكامن وراء تلك الوعود. وبالتالي ففي ظل احتياج المواطنين لإشباع حاجاتهم الأساسية، وللعمل والتعليم والعلاج وغير ذلك من خدمات مماثلة، وفي ظل الثقة المطلقة في حكومات ما بعد الاستقلال؛ فلم يكن يعني الشعوب في ذلك الحين إذا ما كانت الدولة تدار من خلال أحادية (نظام الحزب الواحد)، أم تعددية سياسية.
فشلت الأنظمة السياسية الأفريقية الحالية عن تحقيق التنمية وعن ضمان الاستقرار. فهذه الأنظمةِ كثيراً ما قدمت الوعود والعهود على القيام بما عجزت عن القيام به، ولم تتمكن غيرها من تحقيقه من انجازات اقتصادية، وتحسين مستويات المعيشة للمواطنين، وحماية الأمن والاستقرار، وضمان حكم القانون والنظام. ولكن أي من هذه الانجازات صعب عليها الوفاء بها، بل واستشرى تمترس وتَمركزَ العديد من الأنظمة الاستبدادية الحاكمة. وبالتالي فإن الدول الأفريقية فَشلتْ – باستثناءات قليلة – في الارتقاء بالتنمية والتطوير لأوضاعها. وقد أدى هذا الفشلِ بدوره إلى إضعاف إدّعاءاتَهم بوجود الشرعيةِ السياسيةِ، خصوصاً بين الطبقات المتوسطةِ الحضريةِ، التي شكّلتْ الدائرة الرئيسية لجُهودِ الإصلاحِ في جميع أنحاء أفريقيا.
كذلك، فإن شيوع سيطرة نظم الحكم الاستبدادية في دول القارة الأفريقية، والتي استولت على السلطة واحتكرتها لسنوات طويلة، وحرصت على البقاء والاستمرار على هذا الوضع دون منازع، ما جعل الصراع عليها يأخذ في بعض الأحيان الطابع العنيف، كالانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية والحروب الأهلية. ولما كانت الصراعات والحروب، التي تصاعدت في تلك الدول، قد تأثرت بها تلك النظم السلطوية، في ظل أزمة الشرعية السياسية التي تعاني منها ومن تناميها؛ لذا، فقد أصبح أحد الحلول المناسبة لتسوية الصراع على السلطة، هو أن يتم من خلال تداولها بين القوي السياسية المختلفة، بطريقة سلمية تتمثل في الأخذ بالديمقراطية، وعن طريق الانتخابات التنافسية.
2. عدم الفعالية الدستورية والمؤسسية
تتوقف، عادة، عملية إعادة بناء الدولة، أو محاولة إصلاحها، على العديد من العوامل، مثل أن يكون هناك دستور يحدد طبيعة وأركان الدولة والأسس التي تقوم عليها، والتوجهات التي تحكم قراراتها وسياساتها وسلوكياتها على المستويين، الداخلي والخارجي؛ فضلاً عن وجود العدد المناسب والمتنوع من المؤسسات القادرة على الالتزام بالدستور، ووضع توجهات وقرارات وسياسات الدولة، في المجالات المختلفة، موضع التنفيذ الفعلي، وبما يتفق وقدرات وإمكانات الدولة؛ ولكن عند وجود خلل ما دستوري أو مؤسسي، أو كلاهما معاً، فإن الأداء الحكومي سيضطرب، وقد يصل الأمر إلى الفشل المحقق، أو حتى إلى التداعي والانهيار. وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد، فلا بد من إعمال الفكر والتدبير للخروج من تلك الأزمة، ويمكن الإشارة إلى ذلك كالتالي:
أ. عدم الفعالية الدستورية
يلاحظ على دساتير الدول الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال، أنها كانت وبدرجة كبيرة نماذج مماثلة لدساتير القوى الإمبريالية، ومن ثم فهي ليست مصممة وفقاً للمتطلبات الخاصة والضرورية للدول الأفريقية، وربما كان ذلك انعكاساً للافتراضات التالية:
الأول: أن الوطنيين الأفريقيين وقد استقلت دولهم، فإنهم لن يقبلوا بدساتير أقل في تصميمها وصياغتها، عن دساتير حكامهم المستعمرين السابقين.
الثاني: أن الحكام المستعمرين لم يقوموا بالإعداد المناسب لمستعمراتهم وتهيئتها لفترة ما بعد الاستقلال، ومن ثم فإنهم لم يشغلوا أنفسهم بوضع دساتير متميزة لمستعمراتهم، تختلف عن دساتير الدول المتروبولية Metropolis، وتتناسب مع الواقع الذي يعايشونه، والظروف التي يمرون بها.
الثالث: أن المستعمرات كانت تعد أقاليم تابعة للدول المستعمرة فيما وراء البحار، ومن ثم فان دساتير تلك الدول مثلت امتداداً طبيعياً لها في تلك المستعمَرات. ويبدو أن التأثيرات الاستعمارية الموروثة، والتسرع المرحلي في إحداث التحول، جعل ثمة ضرورة لوضع دساتير خاصة بها؛ وإذا كانت تلك الدساتير الأفريقية في دول ما بعد الاستقلال قد جاءت غالباً على النمط الاستعماري السابق، فان التغييرات الدستورية اللاحقة جاءت متناسبة، إلى حد ما، مع التغييرات الجديدة والعديدة، التي طرأت على نظم الحكم ومجمل الأوضاع السياسية الداخلية.
إذن فالسؤال: إلي أي مدي يماثل أو يختلف الدستور في الحياة السياسية الأفريقية، عن غيره من النظم الدستورية؟ إن التحليل الدستوري الواسع للتطورات السياسية الأفريقية، يتضمن مدى ما وصلت إليه مراحل النمو والمصادر البشرية والتنمية التكنولوجية والوضع الاقتصادي والاجتماعي، والوضع السياسي والثقافي والتاريخي. كما يتضمن مدى المناورات، وربما النماذج غير الشرعية التي تعبر عن فشل الممارسة الدستورية في أفريقيا، مقارنة بما هو وارد في دساتير دولة ما بعد الاستقلال. وبناء على ما تقدم، فإن من الأمور التي يجب أن تميز بين الدساتير المشروعة (الدستورية) وما عداها في أفريقيا، يمكن أن يتمثل في مدي اقترابها أو ابتعادها عن تلك الهياكل الدستورية الموروثة عن الاستعمار، أو المماثلة لها في حقبة ما بعد الاستعمار، والتي هي إما منبوذة أو خطيرة؛ فالعمليات المرتبطة بالبناء وبالهياكل الدستورية في أفريقيا، لا تعكس المقترحات والافتراضات والممارسات الدستورية الغربية، كما هي واردة في دساتير تلك الدول الغربية،. وعلى ذلك فإن عمليات البناء والممارسة الدستورية الحقيقية، لم تدخل حيز العمل في أفريقيا؛ لأنها تعد أنماطاً مختلفة وغير مألوفة. ولا ترتبط من ثم بالحياة السياسية والدستورية في الدول الأفريقية، كما ينبغي أن تكون.
وقد خضعت الدول الأفريقية إلى تجريب دساتير لا تتصل بالواقع الفعلي، الذي تعايشه تلك الدول، ولا تلبي المتطلبات الحقيقية للنظم السياسية الرشيدة، ولا المتطلبات الإنسانية للشعوب الأفريقية، وحتى وإن كانت كذلك في بعض الأحيان، فثمة فجوة كبيرة بين النصوص الدستورية، كما هو منصوص عليها، وبين الممارسات الواقعية. ومع تعاظم المشكلات السياسية لتلك الدول، بات من المؤكد أن أي تحرك جاد نحو الإصلاح، ينبغي أن يتم من خلال المراجعة، أو التعديل، أو إعادة البناء الدستوري، مع وجوب مراعاة التوافق بين النصوص الدستورية الأفريقية والبيئات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية؛ إضافة إلى المؤسسات التي يتم من خلالها وضع نصوص الدساتير موضع التنفيذ الفعلي.
وفي ظل المناشدات بالتغيير من جانب القوي الوطنية، وضغوطها المتنامية في الداخل، أخذت الدول المانحة أيضاً في ممارسة ضغوطها في هذا الشأن؛ ما أسفر عن تسابق الدول الأفريقية في إجراء التعديلات التي تتناسب مع الشروط السياسية للدول المانحة، وذلك من أجل ضمان حصولها على المعونات من جهة أخري، وللتكيف مع أوضاع النظام الدولي الجديد، الذي بدأ يتشكل منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي.
ب. عدم الفعالية المؤسسية
اقترن التأسيس للنظم السياسية للدول الأفريقية، بشكل أساسي، بإقامة المؤسسات، سواء كانت تلك المؤسسات حكومية (رسمية)، أو غير حكومية (غير رسمية)، والتي يتوقف أداء وظائفها وواجباتها على مدى الدينامية والفعالية، التي يمكن أن يتسم بها كل نظام سياسي. ويمكن توضيح ذلك كالتالي:
(1) المؤسسات الحكومية (الرسمية): يلاحظ أن جميع الدول الأفريقية، على اختلاف نظم حكمها وأنظمتها السياسية، حرصت على إقامة مثل تلك المؤسسات الحكومية (الرسمية) والتي تشمل السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والحكم المحلى، وان تفاوتت فيما بينها في مدي الفصل بين تلك السلطات، وفي مدى العلاقات والتعاون فيما بينها. وعى كل ، توجد دول أفريقية كثيرة دأبت على تفضيل وتكريس علوية السلطة التنفيذية، على ما عداها من السلطات. ويبدو ذلك من خلال محاولات تعظيم سلطاتها ومكانتها، مقابل تهميش السلطات الأخرى. ويعد ذلك أحد نقاط الضعف الرئيسية للبناء المؤسسي الحكومي، الذي ترتب عليه، وفي أغلب الأحيان، تراجع أو انعدام فعالية وظائفه، بصفة عامة.
(2) المؤسسات غير الحكومية (غير الرسمية): ربما يأتي اهتمام الدول الأفريقية وأنظمتها المختلفة بالمؤسسات غير الحكومية (غير الرسمية)، في المرتبة الأدنى بعد المؤسسات الحكومية. وهذا أمر طبيعي ويتناسب مع درجة تطور تلك الدول وأنظمتها، في مرحلة ما بعد الاستقلال، خصوصاً وأن تلك المؤسسات غير الحكومية، والتي تشمل الأحزاب السياسية، وجماعات المصالح (الضغط)، تعاملت معها تلك الدول والأنظمة بحرص وتحفظ، تحت دعاوى كثيرة، تتعلق بالحيلولة دون تفتت الدولة، أو تفتت الولاء والانتماء؛ خصوصاً إذا ما اتخذت مثل هذه المؤسسات جانب التخاصم، أو التعارض، مع المؤسسات الرسمية (الحكومية). أما إذا قبلت هذه المؤسسات مبدأ الترويض من جانب المؤسسات الرسمية، فإنه يصيبها ما يصيبها من رضا الحاكم وأجهزته.
ومما تقدم، فإن من أهم الخصائص التي يتصف بها البناء المؤسسي للدولة الأفريقية بعد الاستقلال، ما يلي:
(1) تعاظم واتساع نفوذ السلطة التنفيذية المركزية (ذات الطابع المركزي)، والتي تدور في عموميتها حول شخص الزعيم أو الرئيس أو القائد العسكري، الذي يحاول السيطرة على الدولة، والإبقاء على تلك السيطرة وتعظيمها.
(2) أن مركز الزعيم أو الرئيس أو القائد يكاد يكون مقنناً ومعتمداً، على صفات تحليلية ومعقدة، للمواريث الكاريزمية وللدساتير والقوانين والمعتقدات والتقاليد والأعراف، في محاولة لإضفاء الطابع الروتيني والاحتكاري على السلطة.
(3) أن الحاكم الفرد يكون مدعوماً، في مختلف الأحوال، عن طريق ذوى المناصب والموظفين والكوادر الإدارية، الذين يتدرجون في مناصبهم ويظلون فيها لفترات طويلة، ما دام الولاء السياسي للحاكم قائماً.
ويترتب على وجود مثل هؤلاء المؤيدين والمشجعين للحاكم الفرد، المسيطر على الأجهزة الإدارية والمؤسسات التي يتكون منها الهيكل المؤسسي للدولة، أن تتكون طبقة حاكمة سياسية، يحرص جميع المنتسبين إليها والمنتفعين منها على ضرورة الإبقاء والمحافظة عليها وعلى تكريسها واستمراريتها، في ظل الولاء والانتماء لهذا الحاكم.
وهكذا يلاحظ أنه على الرغم من محاولة الدولة الأفريقية المستقلة، إضفاء هذا الطابع المؤسسي على جميع أجهزتها ومؤسساتها الحكومية وغير الحكومية، إلا أنه يظل الملمح المؤسسي البارز لتلك الدول هو سيادة ما يوصف ” بالحمى الزعامية”، أو ” بالظاهرة الرئاسية”. وتنطوي هذه الظاهرة أساساً على تركيز سلطة الدولة في قبضة الرئيس، وربما أيضاً النخبة القريبة والموالية له؛ ووفقا لهذه الصفة فانه يكون المسؤول الممثل للشعب، في كل المسائل المتعلقة بالبلاد، حتى وان لم يستمد سلطته من انتخابات شعبية، بل انتزعها بانقلاب عسكري مثلاً.
وقد تطورت ظاهرة هيمنة الرئيس على دول القارة، منذ الاستقلال. فقد كان زعيم الحركة الوطنية ينصب نفسه رئيساً، بعد رفع العلم الوطني الجديد، ويمحو أي فوارق -ربما وجدت أثناء فترة الانتقال إلى الاستقلال- بين المصادر السياسية المختلفة للسلطة، مثل تلك التي بين الرئيس ورئيس الوزراء. وقد يصبح الرئيس “ملكاً” أحياناً لبضعة سنوات، وربما لأجل غير محدود، أو أن يكون رئيساً مدى الحياة، بمبادرة ومباركة حاشيته. وإذا أخفق الزعيم في التحول إلى رئيس، خلال فترة قصيرة من نيل الاستقلال، فان هذا التأخير يرجع، في العادة، إلى مشكلة من نوع خاص، مثلما حدث في زيمبابوي حيث وجد حزبان أو زعيمان يتنافسان على السلطة. وفي ظل هذا الوضع تصبح المشكلة الرئيسية في السياسة الوطنية هي تذليل العقبات، التي تحول دون ذلك. وفي بعض الحالات قد يكون الرئيس الجديد هو القائد العسكري، الذي يحاول إقامة قاعدة أو شرعية سياسية لنظامه الاستبدادي، كما في حالة صمويل دو في ليبيريا، وفي حالة مانجستو هيلاماريم في إثيوبيا، وغيرها من نماذج متعددة في عدد من الدول الأفريقية.
وما ينبغي الإشارة إليه، بصفة عامة، أن وجود مثل هذه المؤسسات السياسية داخل الأنظمة الأفريقية، في حد ذاته لا يمثل غاية محددة، كما حدث طوال السنوات المنصرمة، منذ حصول الدول على استقلالها؛ وإنما يظل الأمر مقترناً بالوظائف الفعلية، التي تؤديها تلك المؤسسات، في إطار من الترابط بين الهياكل المؤسسية، وما هو محدد لها من اختصاصات دستورية، وبين ما تقوم به في الواقع الفعلي، وفي المجالات والأنشطة المختلفة، ذات الصلة بالنظام السياسي، ووفقاً للأولويات التي يراها مناسبة كل من صانعي ومتخذي السياسات والقرارات، على ضوء متطلبات العملية السياسية من جهة، والمطالب والتأييدات الصادرة من بيئة النظام السياسي، والتي تظل رهينة بمدى الالتزام بالتنفيذ لها على المستويات وفي المجالات المتنوعة، من جهة، ورهينة أيضا بردود الأفعال حيالها قبولاً، أو تحفظاً، أو رفضاً، من جهة أخرى. والسؤال الذي سيظل يتردد في هذا الصدد هو: هل التحولات وعمليات الإصلاح السياسية الجارية في الوقت الراهن قادرة على تحفيز تفعيل تلك المؤسسات؟ أم ستظل تلك المؤسسات المصدر الرئيسي لإعاقة أية محاولات جادة للتغيير، والإصلاح السياسي؟
3تنامي أزمة الشرعية وتصاعد المطالبة بالديمقراطية:
غالباً ما تعول أنظمة الحكم على الشرعية السياسية، كضمانة للبقاء والاستمرار في السلطة، وخصوصاً إذا كانت تلك الأنظمة تتسم بقدر من الرشدوعلى الرغم من أن العديد من الأنظمة الحاكمة في الدول الأفريقية، لا تعير هذا الأمر القدر الكافي من الاهتمام، استناداً إلى ظهير آخر وهو المؤسسة العسكرية، والذي ظلت لسنوات طويلة ترى فيه أنه الأولى بالرعاية والاهتمام في سبيل البقاء؛ إلا أن الواقع يشير إلى أن هذا الأمر يتطلب من تلك الأنظمة مراجعة ما درجت على الاعتقاد في جدواه. ولعل في تناول هذا الموضوع ما يمكن التعويل عليه، فيما يتعلق بضرورة التعرف على مضمون الشرعية وعلاقتها بأزمة وكيفية إصلاح تلك الأنظمة، وذلك كالتالي:
أ. دور الشرعية داخل الدولة
تمثل­ الدولة الحديثة المجتمع، ليس فقط من ناحية أنها تؤدي مجموعة من الأدوار والوظائف نيابة عنه أو لصالح المجتمع. ففي الدولة الحديثة، ينظر إلى أفعالها على أنها ينبغي أن تتطابق مع حاجات وتطلعات وأداء المجتمع، على اعتبار أن المصدر الأساسي للشرعية السياسية في الدولة ولجميع مؤسساتها السياسية، وقفاً للفيلسوف الإنجليزي جون لوك، هو القبول الشعبي، المستمد من الرضاء والقبول من جانب المحكومين تجاه السلطة الحاكمة، من ناحية أن أداء الدولة هو بمثابة محصلة الأداء الجمعي المجتمعي من خلال الدولة. وبناءً على ذلك، فإن أفعال الدولة ليست شيئاً خارجاً عن المجتمع؛ فالدولة هي التعبير المؤسسي لحرية المجتمع ولحاجته واستقلاليته. كما تعبر فكرة الدولة عن وحدة الحاكم والمحكوم على إقليمها، وفي ظل سيادتها واستقلاليتها.
ويستطيع أفراد المجتمع أن يسعوا إلى الإنعتاق من سلطة الأنظمة الحاكمة في الدولة وهيمنتها، من خلال تشريع وتسييس مجموعة من الحقوق، التي تعرف وتقنن حدود الأفعال الشرعية للدولة. ومثل هذا الاستقلال يأتي من خلال تسييس مجموعة أخرى من الحقوق، التي يطلق عليها حقوق المواطنة. ويلاحظ أنه بتعريف مسارات وقواعد الحقوق، تخلق الدولة مجالاً يجعل من الممكن للسوق والمجتمع المدني أن يحصلا على درجة من الاستقلالية النسبية عنها. كما أن وضع الحقوق يوضح الحدود لأفعال الدولة المشروعة. أما البعدان الآخران للمواطنة (المشاركة والأمة)، فهما يمثلان أسلوبان يربطان فيما بين الدولة والمجتمع.
وإذا كانت عملية تأسيس وبناء كل من الدولة (التكامل الرأسي في الصورة المؤسسية) والمجتمع/ الأمة (التكامل الأفقي في صورة الاندماج الوطني)، يتسمان بقدر من الخصوصية، فإن المشاركة هي لتأكيد أن البشر قادرون فعلياً على ممارسة التأثير والحكم بأنفسهم، ومن خلالها تعرِّف الأمة من هم أفراد الشعب الذين ينتمون إليها، ومن تدعي الدولة أنها تمثلهم. ولذلك فإن المشاركة والأمة كليهما يؤكدان على وحدة الحاكم والمحكوم، وخصوصا في ظل تنامي الشرعية السياسية، في حين تؤكد الحقوق على انفصالهم؛ لأن كل طرف في مواجهته للآخر، يرى أن منظومة الحقوق تقابلها واجبات والتزامات، لا تستقيم الأمور في غيابها؛ ومن ثم يكون هناك بحتمية وجودها.
ب.تنامي أزمة الشرعية
ترتبط أزمة “الشرعية السياسية”، ارتباطاً وثيقاً بكثير من القضايا المتعلقة ببناء الدولة في أفريقيا، كمشكلات التحول الاجتماعي والتطور الاقتصادي وقضايا الديمقراطية وغيرها. وقد أشار إلى ذلك من قبل ماكس فيبر، بإقراره أن النظام الحاكم يكتسب شرعيته من شعور المحكومين بأحقيته وجدارته في الحكم، وأنه من دون الشرعية يصعب على أي نظام حاكم، أن يملك القدرة الضرورية على إدارة الصراع بالدرجة اللازمة في المدى البعيد؛ ومن ثم يبقي جوهر الشرعية متمثلاً في ضرورة رضا وقبول المحكومين، وليس إذعانهم لفرد أو نخبة، في أن يمارسوا السلطة عليهم.
إن جوهر الشرعية هذا لا يمكن الاستعاضة عنه بأشكال السطوة والرهبة، حتى لو تسترت خلف القوانين المكتوبة وأحاطت نفسها بالدساتير المعلنة. ومن هذا المنطلق فإن الأنظمة غير الشرعية، أو التي انتفت شرعيتها نتيجة لممارسات غير قانونية، تسارع، عادة، إلي تعليق الدساتير، وتلجأ إلي العمل بالأحكام العرفية، وهو اعتراف صريح من جانب تلك الأنظمة بأن قانونيتها، مع ما هي عليه من شكلية، لم تعد مبررا كافيا لممارسة السلطة. كما لم يعد مبرراً، أيضاً، أن يتم في إطار ممارسة السلطة أن يظل مبدأ تفضيل أهل الثقة والولاء للنظام الحاكم، في مواجهة الإصلاحيين، وأهل الخبرة هو الأساس الذي يتم وفقا له ممارسة السلطة وتكريسها لصالح فرد ما أو نخبة ما. وفي مقابل ذلك يكون لهؤلاء مصلحة في بقاء واستمرار الطغمة الحاكمة على الرغم من انتفاء الشرعية عنها، وهو ما يدفعهم إلي المشاركة والدفاع عن سياسات وممارسات الترهيب وقمع الجماهير. كما أنها تتولى الترويج والتضخيم لمنجزات النظام الحاكم، وافتعال الأزمات الداخلية والخارجية لتبرير التقاعس والفشل؛ بمعني أنهم يقومون بالدور الأساسي في تبرير وتلفيق وفرض وسائل شرعيتها، من خلال مؤسسات الدولة المتعددة، كأجهزة الإعلام والأمن وغيرها.
ومن الواضح أن الأنظمة الحاكمة السلطوية في أفريقية ظلت تعاني من فقدان الشرعية السياسية بدرجات متفاوتة، تصل في العديد منها إلي مستوي الأزمة الحقيقية، وتتجسد في فقدان الثقة بين المواطنين الأفريقيين وتلك الأنظمة، وانعدام الثقة والمصداقية في قدرتها على إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كما لم تتح تلك الأنظمة لهؤلاء المواطنين الفرصة للتعبير السلمي عن المظالم التي يتعرضون لها، ولا تلبية حاجاتهم الإنسانية الأساسية، ولا تحقيق رغباتهم في تغيير القيادات الفاسدة وغير المقبولة شعبياً.
وفي هذا الصدد يرى البعض أن المشاكل التي واجهت قادة الدول الأفريقية منذ الاستقلال، لم تكن التنمية الاقتصادية؛ بل كانت مشكلات الشرعية هي الأكثر إلحاحاً لهم، حيث كان عليهم أن يثبتوا حقهم – وفق ما يزعمون في حكم مجتمعاتهم، ذات الطبيعة التعددية والمتنوعة ثقافياً، والممزقة بفجوات اجتماعية، والتي كانت تتسم بمستويات مختلفة من التطور السياسي والاقتصادي نتيجة التباين في تأثيرات المواريث الاستعمارية والرأسمالية، إن مشكلة الشرعية، التي كانت تواجه هؤلاء القادة، والمخاطر الناجمة عنها، شبهها بعضهم بـ”التزلج على ثلج رقيق”. كما أن تحدي الانتماءات والولاءات التحتية، على حساب الانتماء والولاء الوطني، كان وما يزال هاجساً وتحدياً رئيسياً أمام إمكانية تثبيت دعائم الشرعية السياسية، أو الادعاء بوجودها أساساً.
ج. تصاعد المطالبات بالديمقراطية
إن تزامن الاحتجاجات من جانب القوى المجتمعية المطالبة بالتغيير السياسي، مع التأثيرات المتراكمة لمساعي الإصلاح الاقتصادي، من جانب الحركات النابعة من الطبقة المتوسطةِ الحضريِة (اتحادات عمال، منظمات مجتمع مدني، نقابات…)[1]، جعل الحراك الشعبي/ الجماهيري مُسَيَّساً بدرجة كبيرة. كما ساعد في نوع من التوافق الرامي إلى الحاجة للتغير وللإصلاح السياسي والمؤسساتي. فضلاً عن موقف العديد مِنْ الحركاتِ السياسيةِ الجديدةِ ظل يتركز نحو ضرورة إعطاء الأولوية لجُهودِ الإصلاح الاقتصادي. وإن كانت هناك بعض الحركات التي ركزت اهتمامها على الاعتبارات السياسية، في قضايا التعددية والانتخابات التنافسية وتداول السلطة. على سبيل المثال، فالمعارضة في زامبيا، على الرغم من جهود النظام الحاكم برئاسة روبرت موجابي فيما يتعلق بالإصلاح الاقتصادي، وكذلك الحال للمعارضةِ الكينيةِ (في أوائل التسعينيات).
وقد امتدت الأصوات المطالبة بالديمقراطية إلى حدود أبعد من إجراء انتخابات فحسب. وقد مارست العديد من الحركات والمنظمات ضغوطاً في فترة ما بعد الاستقلال، مطالبين بالحرية واحترام حقوق الإنسان، وذلك من أجل التحول الديمقراطي في أفريقيا. كما طالبوا بمنح حق التصويت لجميع المواطنين، وإقامة حكومة ممثلة للشعب، وتحقيق سيادة القانون، وإنهاء القمع السياسي. يضاف إلى ذلك، التأكيد على ضرورة وضع حد للمساهمة الإجبارية للأفراد في المشروعات الداعمة للشرعية السياسية، للزعامات والأحزاب السياسية، التي ترعاها الأنظمة الحاكمة الأفريقية؛ فضلاً عن ممارسة الضغوط من أجل تحفيز تلك الأنظمة، من أجل تشجيعها لمشاركة جميع القوى الشعبية في عملية التنمية، بهدف تحسين ظروفهم المعيشية، وتلبية مطالبهم بشأن السياسات الاجتماعية، التي تفي باحتياجاتهم الأساسية، في مجالات التعليم والصحة والغذاء والمسكن والأمن.
ويمكن الإشارة في هذا الخصوص، إلى أنه من ضمن الذين يتصدرون لرفع المناشدات والمطالبات، ذات الصلة بالتغيير والتحول الديمقراطي، كل من قادة التنظيمات والجماعات والحركات السياسية المحظورة وأعضاء الاتحادات العمالية، والسياسيين المعرضين للنفي، والعديد من المفكرين والمثقفين، والذين تراوحت انتماءاتهم ما بين المؤسسات المتخصصة والطوائف الدينية المتمردة. والتي تضم في عضوية اتحاداتها مجموعات من الشباب والطلاب والأكاديميين الثوريين، إضافة إلى بعض رجال الدين في الكنائس والمساجد، وغيرهم من المنتمين إلى كريم المعتقدات. وعلى الرغم من الاختلاف النسبي فيما بينهم في فهمهم لأولويات ولآليات تحقيق الديمقراطية، وكذلك لشكل الحكومات، التي يمكنها أن تتبنى مثل تلك الأطروحات وتضمن استمرارها؛ إلا أنهم اجتمعوا على رغبة مشتركة في إقامة ديمقراطية. كما أنهم اجتمعوا على رفض الحكم السلطوي، سواء كان حكماً عسكرياً أو حكماً بواسطة حزب واحد. وربما تعد “الحركة من أجل العدالة في أفريقيا”، والتي نشأت في ليبيريا، هي الخطوة الفاصلة في تأسيس ما عرف لاحقاً “بالنضال من أجل الاستقلال الثاني في أفريقيا”.
4. عدم الاستقرار السياسي
يرى عدد من الدارسين أن ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في الممارسةِ العملية، إنما هينتيجة لمجموعة من الأسباب والأحداثِ، التي تُؤدّي إلى تزايد السخط السياسي والاجتماعي بين المواطنين داخل الدولة. ومن بين تلك العواملِ، السلوك السياسي للأنظمة الحاكمةِ؛ بمعنى أن ثمة علاقة تفاعلية بين عدمِ الاستقرار السياسيِ والتصلّب السياسيِ للأنظمة الحاكمة، سواء فيما تتخذه من قرارات وسياسات، أو ما تقوم به من ممارسات، تتناقض أو تؤثر على مصالح الغالبية العظمى من أفراد وجماعات الشعب. وفي أغلب الأحيان، فإن شيوع حالة السخط بين الجماهير يُدْفَعُ تلك الأنظمة الحاكمة للتمادي والمغالاة في اتخاذ قراراتِ، ضدّ الحقوق والحريات السياسية. وفي واقع الأمر، ففي الفترة ما بين عامي 1996 و2001، فإن التَوَتّرات السياسية، التي حدثت في العديد من الدول الأفريقية على مستوى مناطق القارةِ الخمسة (بوتسوانا، بوركينا فاسو، كاميرون، تشاد، ساحل العاج Cote d’Ivoire، مصر، غينيا الاستوائية، إثيوبيا، الجابون، غانا، كينيا، مالي، موريشيوس، المغرب، موزمبيق، ناميبيا، نيجيريا، السنغال، جنوب أفريقيا، تنزانيا، أوغندا وزمبابوي.) ارتَبطتْ إلى حدٍ كبير بالقراراتِ السياسيةِ القمعيةِ لأنظمتها الحاكمة.
ومن جهة أخرى، فإن من الأمور التي تجعل الوضع في أفريقيا أكثر سوءاً، هو ديمومة الحروب (الأهلية والبينية)، والانقلابات العسكرية، حيث يؤدي ذلك إلى تكريس حالة عدم الاستقرار السياسي، وربما يكون مرد هذا الوضع ابتداءً يعود إلى الميراث الأوروبي، الذي أسهم في إعادة تشكيل أفريقيا خلال الحقبة الاستعمارية، وفق منظومة أهدافه ومصالحه. وكذلك أعيد ترسيم الحدود للمستعمرات (الدول الحالية)، دون اعتبار للقبائل المختلفة والجماعات الإثنية/ العرقية المتنوعة. وفي ظل الوضع الراهن، الذي لا يسمح، في الغالب، بإعادة ترسيم الحدود بين الدول الأفريقية، أدى هذا الوضع إلى تزايد بؤر التوتر، سواء كان ذلك داخل العديد من الدول فرادى، في صورة حروب أهلية (نيجيريا، إثيوبيا، ليبيريا، سيراليون، أنجولا، الصومال، السودان، أوغندا، …)، حروب إبادة جماعية (رواندا وبوروندي)، أو محاولات انفصالية (نيجيريا، إثيوبيا، الكونغو الديمقراطية، الصومال)، أو كان ذلك فيما بين الدول ذاتها (إثيوبيا وإريتريا، نيجيريا والكاميرون، ليبيا وتشاد).
وهكذا يتضح أن معظم حالات العنف وعد الاستقرار السياسي في أفريقيا، كانت بسبب الخلافات العرقية/ الإثنية، أو العنصرية، أو الدينية، أو الأيديولوجية، أو على تحديد الحدود الوطنية. وتتباين موجات العنف وعدم الاستقرار حتى عندما تكون بين البلدان المجاورة. وقد كانت لمثل تلك الأوضاع انعكاساتها السلبية على الواقع، الذي تعايشه الدول الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وحتى الوقت الحاضر.
ومما تقدم يتضح أن حالة عدم الاستقرار في الدول الأفريقية، يمكن فهمها على ضوء ما يلي:
أ. أن عدم الاستقرار السياسي يؤدي إلى زعزعة الأمن داخل الدول، ويعد مصدر تهديد مباشر للنظام الحاكم. كما يعد أيضاً مؤشراً على التدهور السياسي. ويلاحظ أن الحركات الوطنية في ظل الحكم الاستعماري، لم تضع الأسس الكافية لاستقرار الدول الإفريقية في فترة ما بعد الاستقلال، أو أن أنظمة الحكم لفترة ما بعد الاستقلال، تولت الإلغاء للإجراءات الجنينية الموضوعة قبل الاستقلال، وخصوصاً فيما يتعلق بعمليات بناء الأمة، الشرعية، تحقيق الذات، النفوذ، المشاركة، التوزيع، الاندماج، وغيرها.
ب. أن تغييرات الحكم وحالة عدم الاستقرار، تعكس حالة من الانحراف السياسي من مسار ما قبل الاستقلال، الذي كان يركز على إنهاء الاستعمار وترسيخ الاستقلال والاهتمام بالأمور المتعلقة بالتنمية الشاملة، والانشغال بتركيز السلطة والتشبث برموزها وبمصالح النخبة الحاكمة.
ج. ادعاءات الثورة غير المنتهية Unfinished African Revaluation، فقد اتسمت النظم الإفريقية بالطابع الراديكالي ومحاولة إيهام الشعوب الإفريقية بمفاهيم الأزمة الدائمة، والعدو الخارجي، والاستعمار الجديد، وهو الأمر الذي أسهم في اعتلال النظم السياسية الإفريقية، نتيجة الإسراف والاستنزاف للموارد في استيراد الأسلحة وتكديسها، والدخول في مغامرات عسكرية داخلية، أو مع الدول المجاورة. وهذا الأمر ساعد، أيضاً، على حالة عدم الاستقرار السياسي والتشجيع لتدخل العسكريين في الحياة السياسية، وتزعمهم للانقلابات العسكرية.
ومن ثم فقد بات مستقراً في أذهان المواطنين، من ناحية، والحكام، من ناحية أخري، في أفريقيا، أن المخرج من حالة عدم الاستقرار والعنف المتفشية في دولها، لن يكون سوي بإعادة النظر في السياسات والممارسات المتعلقة بالديمقراطية، وضرورة المشاركة السياسية لجميع القوي داخل تلك الدول. وذلك كوسيلة للحد من الصراع على السلطة واحتكارها، وإساءة توظيفها.
5. الفشل الاقتصادي
يعيش الاقتصاد الأفريقي في الوقت الراهن وضعاً أسوأ بكثير مما كان عليه عند الاستقلال، باستثناء بعض الدول مثل بوتسوانا وموريشيوس، وجنوب أفريقيا. وربما كان أكثر ما يوضح هذا الأمر هو أن مجمل الناتج المحلي الإجمالي لدول أفريقيا جنوب الصحراء (باستثناء جنوب أفريقيا)، التي يزيد عدد سكانها عن 500 مليون نسمة، لا يزال أقل من دخل بلجيكا وحدها، التي لا يتجاوز عدد سكانها 15 مليون نسمة. وفي الحقيقة، فإن مجمل الناتج المحلي الإجمالي للقارة الأفريقية لا يزيد عن 1%، من الناتج نفسه في العالم ككل.
وقد اتسم الأداء الحكومي في المجالِ الاقتصادي، الذي ميز الحقبة منذ الاستقلال حتى الوقت الراهن بما يلي:
أ. أن دولة ما بعد الاستعمار تأثرت بقدراتِها الإداريةِ المحدودةِ، وربما يرجع السبب في ذلك إلى ندرةِ القوة البشريةِ الماهرةِ، وكذلك ندرةِ البياناتِ الاجتماعية والاقتصادية ذات الصلةِ؛ فضلاً عن النقص المتزايد في الأموال والاستثمارات، وتأثر أوضاع الدول الأفريقية بحركة التبادل التجاري الدولي.
ب. أن التعدّدية الاجتماعية داخل مجتمعاتِ الدول الأفريقيةِ، والتي ترتب على شيوعها وانقساماتها العديد من المشكلاتِ، وجعلت الحكومات الوطنية تدرك أن هناك أولوية وضرورة للبدء بفكرةِ بناء الدولة (المؤسسات الرسميةِ بشكل رئيسي)، كمحاولة لإقامة الوحدةِ الوطنيةِ، بين التجمّعات البشرية والدينيةِ والإقليميةِ والعرقيةِ المتباينةِ في وعلى المستويات المتنوعة والمختلفةِ، وكمحاولة أيضاً للبدء في عملية التطويرِ السياسيِ والاجتماعي والاقتصادي.
ولكي يُسهّلَ تسيير هذه العمليةِ، فإن العديد من زعماء أفريقيا بالغوا في نزعاتهم الفردية في ممارسة الحكم. وزاد من ذلك حرص النخب والصفوات على شخصنة السلطة، في إطار الترويج لهؤلاء الزعماء، وهو ما أفضى إلى امتزاج الأنظمة الحاكمة بالسلطوية Authoritarianism. وعلى الرغم من ذلك، فقد جادلَ بعضَ الباحثين بأنّ درجة الاستبدادية، التي كانت عليها تلك الأنظمة، تعد ضروريةَ لاحتواء قوى الطرد المركزيةِ المتأصّلةِ في الإثنيات المحلية،Ethno-Regionally، والمجتمعاتَ المنقسمة ثقافياً Culturally Divided Societies، وأن لا يسمح للقوى الشعبية، في إطار التعامل فيما بينها، وفيما بينها وبين الأنظمة الحاكمة، سوى بما يكون ضرورياً لأمن واستقرار الأوضاع داخل البلاد. أما قوى المعارضة، فظل يُنظر إليها على أنها حركات هدامة، ولا يشغلها سوى مصالح أعضائها الضيقة.
وقد استمر الفشل الاقتصادي على مستوى الدول الأفريقية، في ظل أنظمة الحزب الواحد، والأنظمة العسكرية، ليمثل أحد الظواهر التي تميز تلك الدول، وإذا كان العقدين الأولين بعد الاستقلال قد شهدا معدلات نمو تراوح بين 6% إلى 8%، فقد تدهور الوضع الاقتصادي بعد منتصف التسعينيات، ليصل المعدل إلى 2.3%. واستمر ذلك التدهور ليصل إلى الصفر، أو بالسالب مع بداية ثمانينات القرن الماضي، وهو الأمر الذي أضفى بعداً خطيراً وحيوياً على حالة البؤس والمعاناة الإنسانية للشعوب الإفريقية، وكرس حالة الفراغ، والوهم السياسي، لدى حكام تلك الشعوب.
ونتيجة لما تقدم برزت قضية الديمقراطية، بوصفها محور أزمة التطور السياسي في إفريقيا منذ الاستقلال، بعد أن فشلت إستراتيجيات التنمية، التي تبنتها الحكومات التسلطية في تحقيق المهام السياسية التي حددتها. وبدلاً من الوصول بالمجتمع الأفريقي إلى حالة من الوحدة والتجانس، بمعنى التكامل السياسي، أو الاندماج الوطني، دفعت به إلى حالة الانقسام والتمايز العرقي الإثني؛ وبدلاً من تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، عملت على نشر الفساد وعدم المساواة في المجتمع؛ وبدلاً من تحقيق التنمية الاقتصادية، عززت الكساد المادي والانحراف؛ وبدلاً من تأسيس أنظمة سياسية فعالة، خلقت توجهات انفصالية وانقلابات عسكرية وحروب أهلية، بما أدى إلى بقاء المجتمعات والشعوب الأفريقية رهينة الأزمة الدائمة، التي يرى بعضهم أن السبب في تكوينها والإبقاء عليها إنما يعزى إلى غياب الديمقراطية، ذلك أن التحول الديمقراطي في إفريقيا لا يعكس فقط الجوانب النظرية والأخلاقية، التي تقف وراء البحث عن بديل للمأزق السلطوي القائم؛ وإنما يعكس، كذلك، المطالب الشعبية الملحة من أجل التغيير.
6. تعثر عملية بناء الأمة(الاندماج الوطني)
تعود أزمة الاندماج الوطني في أفريقيا إلى عجز النظمالسياسية الأفريقية، عن التعامل مع الواقع التعددي للمجتمع (بالإغراء والترغيب، أو بالإكراه والترهيب)، على نحو أدى إلى علو الولاءات دون الوطنية، على الولاء الوطني. هذا الأمر أفسحالمجال أمام الصراع بين الجماعات المختلفة بعضها ببعض، أو بين هذه الجماعات والنظام السياسي، على نحو حال دون إيجاد ولاء وطني عريض، يؤدى إلى التماسك الوطني؛وبعبارة أخرى، فإن أزمة الاندماج الوطني تبدو واضحة حين يظهر النظام السياسي عجزاً عنبناء الدولة الوطنية، وحيث تخبو الرغبة في العيش معاً، لدى الجماعات المشكلة للمجتمعكشركاء متساوين، على نحو يجعل من الصعوبة بمكان إطلاق مصطلح “شعب” على تلك الجماعات،التي تعيش في إقليم هذا المجتمع؛ بل ويجعل من الصعوبة حتى إطلاق مصطلح “دولة” علىذلك الكيان.
مما تقدم يتضح أن مجموعة متشابكة ومتداخلة، من الأسباب والدوافع الداخلية، ألقت بكامل ظلالها على الواقع السياسي الأفريقي، ودفعت باتجاه محاولة تجريب التحول الديمقراطي. وهي تتفاوت بين شتى أنواع الإخفاق والفشل، على مستويات عدة؛ فعلى المستوى الداخلي إخفاقات مستمرة في عملية تأسيس الدولة وبنائها، وفي إدارة شؤونها، وفي إدارة الأزمات والمشكلات والقضايا التي تواجهها، وكذلك الإخفاق في عملية بناء الدولة الأمة، وأيضاً الإخفاق في عملية بناء المواطن. ويرتبط بذلك الفشل في إدارة العلاقات الخارجية للدولة، بما يساعد على تحقيق الأهداف والمصالح، وتحسين المكانة الدولية، وتعديل ترتيب الدول الأفريقية في هذا المضمار.
ثانياً: الأسباب الخارجية (الضغوط الدولية)
حدثت تغيرات في العالم منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، غيرت في ركائز الاستقرار النسبي، التي ظلت قائمة طوال عقود من السنوات. وقد أحدث ذلك خللاً واضطراباً في واقع العلاقات الدولية وحركتها، ذلك أن التغيرات الحديثة، التي بدأت بانهيار دور المنظومة الاشتراكية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، أوجدت نظام القطبية الأحادية ليحل محل نظام القطبية الثنائية، التي كانت تحكم العالم. وقد دفع هذا الواقع دول العالم ومنظماته الدولية ضرورة، أن تتعامل مع هذا الوضع الجديد، في ظل انفراد الولايات المتحدة، كقوة عظمى عالمية، في التحكم في شؤون العالم، وتزايد ترويجها لنظام عالمي جديد، تزعم أنه نظام العدل والاستقرار والديمقراطية. وقد سارت على هذا النهج الدول الليبرالية التقليدية الحليفة للولايات المتحدة، في الترويج لعالم ما بعد الحرب الباردة، والمطالبة باستحقاقات الانتصار الأيديولوجي الليبرالي. ويمكن الإشارة إلى تلك الضغوط، التي مورست على الدول الأفريقية في هذا الشأن كالتالي:
1. التحولات في الصراع الأيديولوجي الدولي
كان للتحولات الأساسية، التي حدثت في العالم منذ أواخر الثمانينيات، ومنها نهاية الحرب الباردة وانهيار الكتلة الشرقية، وخصوصاً الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، والتحولات التي حدثت في تلك الدول إضافة إلى تبنى القوى الغربية لقضايا الديمقراطية،وحقوق الإنسان وكذلك المنظمات النقدية العالمية – دور ملموس في دفع الدول الإفريقية إلى القيام بتلك التحولات الديمقراطية، خصوصاً وأنها اشترطت على تلك الدول، لضمان استمرار مساعداتها وقروضها، أن تلتزم بالديمقراطية.
إذن فقد دَفعتْ نهايةُ الحرب الباردةِ أفريقيا، إلى موجة جديدة مِنْ التغييراتِ السياسيةِ والاقتصادية تحت راياتِ إصلاحاتِ السوقَ والديمقراطيةَ(الليبرالية). ويلاحظ أنه صاحب هذه الموجة عند انطلاقها كثير من الُجَدَلَ؛ جوهره أيهما يُبدأ به؟ الديمقراطيةِ أم التنمية الاقتصادية؟ وبالدول التي قطعت شوطاً في المجال الاقتصادي أم على مستوى جميع الدول، بغض النظر عن مستواها الاقتصادي؟ وما يَجِبُ الإشارة إليه أنه على الرغم من أن الدول الليبرالية/ المانحة، ألقت بكل ثقلها إلى جانب حتمية التحولات الديمقراطية أولاً، فإن العديد من المتخصصين وجدوا صعوبة تحقيق هذا الأمر، ومن هؤلاء صموئيل بي. هانتينجتن، الذي شدد على أنّ التحول الديمقراطيِ في أفريقيا سَيَبْقى مستحيلاً لوقت طويلِ قادم.
وقد أدى انتهاء الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الشرقي (الماركسي)، والغربي (الليبرالي)، إلى ظهور ما يُسمى بالليبرالية الجديدة New Liberalization. ويلاحظ أنه مع انتصار إيديولوجيا النيوليبرالية، أو الليبرالية الجديدة في زمن العولمة، أن أسس الحياة الاجتماعية تزعزعت في مختلف أنحاء العالم. وقد ارتكزت تلك الأيديولوجيا على المحاور التالية:
أ. الدعوة المتطرفة إلى الحرية الاقتصادية.
ب. إنكار دور الدولة في ضبط آليات وحركة النظام الرأسمالي، والتخفيف من شروره الاجتماعية. (تحديداً في مجال التوزيع والعدالة الاجتماعية).
ج. تزايد الدور المهيمن للدول الليبرالية/ المانحة، على المنظمات المالية والتجارية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية)، وتعاملها مع البلدان النامية من منطلق ضرورة، إن لم يكن حتمية، التكيف مع السوق الرأسمالي العالمي، وإبعاد دور الدولة عن هذا المجال أو إضعافه، وترك آليات السوق لكي تعمل طليقة.
2. الضغوط الأمريكية في ظل الأحادية القطبية
كفلت الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً، قيام واستقرار الليبرالية في أوروبا، من قبل، وتحديداً غداة الحرب العالمية الثانية. وانسحب هذا الوضع أيضاً، على كل من ألمانيا الاتحادية واليابان. وكان الزعيم الفرنسي، شارل ديجول، يعتقد في ذلك الحين أن هدف الولايات المتحدة منذ 1945، السيطرة على العالم، وأنها تمكنت من التقدم من خلال كسر أوروبا؛ أوروبا الفعلية الممتدة من الأطلسي إلى الأورال، بما فيها ضمناً روسيا السوفيتية، وذلك بالتلويح بالعدوان السوفيتي، الذي لم يكن يؤمن به بمفرده، وكان ينزع إلى إستراتيجية مضادة لأوروبا الأطلسية (المشروع الأمريكي)، التي تدعمها واشنطن، ترتكز على المصالحة الفرنسية – الألمانية، كقاعدة لإعادة بناء أوروبا اللأمريكية. ويلي ذلك إحداث مصالحة أوروبية – سوفيتية، وهو ما كان يعني عملياً وضع نهاية للمشروع الأمريكي للسيطرة على العالم؛ إلا أن التطورات اللاحقة المتمثلة في انتهاء الديجولية، وقيام الأطلسي والانهيار السوفيتي، كرست المشروع الأمريكي، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى وضع إستراتيجية عسكرية شاملة، قسمت بموجبها العالم إلى مناطق أوكلت قيادة كل منها لقيادة عسكرية أمريكية، وبهدف أساسي هو وضع عقيدة مونرو وأسلافه السابقين، والتي تمنح الولايات المتحدة الحق الحصري في إدارة العالم الجديد كله، وفق مصالحها الوطنية عبر العالم بأسره. وقد سمح انهيار الاتحاد السوفيتي وتآكل الأنظمة الوطنية الشعبوية، الناتجة من التحرر الوطني لمشروع الولايات المتحدة بالبقاء والاستمرار والانتشار في أصقاع العالم المختلفة، وانتهاءً بأفريقيا.
إذن ففي إطار بناء الإمبراطورية الأمريكية الكونية، قاومت الولايات المتحدة الطموحات الديجولية، وحاربت الأيديولوجيا الماركسية، طوال حقبة الحرب الباردة حتى أقعدتها، وهي ماضية في عزمها على ملاحقة روسيا حتى النهاية. ومن ثم تبدو الولايات المتحدة وكأنها صاحبة رسالة سماوية حقيقية، وكحامية للعالم الحر. وقد فرض هذا الشعور نفسه بأن الأمة الأمريكية تجسد حقيقة سياسية واجتماعية، في كل مكان. وظلّ ذلك ظاهراً في تصرفاتها حتى يوم الناس هذا. وكانت الأمة لا تعتقد بأنها يمكن أن تكون على خطأ؛ لأن الله يؤيدها. ولذلك كان كل موقف معادٍ لها تعده غير مفهوم، ويوصف باللاشرعية. كما درجت على الإسهاب في تمجيد ذلك، جميع الأدبيات السياسية الأمريكية الموروثة.
ويلاحظ فيما يتعلق بأفريقيا، والتي ظلت الولايات المتحدة عازفة عن الوجود الواسع فيها لسنوات طويلة، أنها بدأت في التحرك الفعلي لإحكام سيطرتها عليها.وقد دفعها إلى ذلك أسباب عديدة، منها: ما يسمى بسياسة ملئ الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفيتي في أعقاب انهياره، والحيلولة دون أن تقوم فرنسا، بحكم وجودها الفعلي في القارة منذ الحقبة الاستعمارية، من خلال رابطة مجموعة الدول الفرنكفونية، وعلاقاتها مع الدول الأخرى غير الفرنكفونية الأفريقية، أن تملأ الفراغ السوفيتي، وهو الأمر الذي يعظم من مكانتها العالمية، ويجعلها تقترب من الولايات المتحدة؛ وكذلك محاولة الولايات المتحدة الأمريكية التوظيف لأحاديتها القطبية، في فرض سيطرتها غير المنقوصة على العالم بأسره، وهو التكريس الفعلي لعقيدة مونرو وسابقيه؛ فضلا عن التدشين للإمبراطورية الأمريكية في الألفية الثالثة. إذن فالولايات المتحدة الأمريكية (وفقاً لما أشار إليه كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق) أعلنتها صراحة أن الألفية الثالثة، أو القرن الحادي والعشرين، سيكون أمريكياً خالصاً، وهو ما يعني تحرك الولايات المتحدة الأمريكية المعلن والصريح، نحو إقامة إمبراطورية أمريكية في هذا القرن، مع كل ما يعنيه ذلك من استثمار لجميع الفرص المتاحة، ومواجهة، إن لم يكن تقويض، أي تهديدات يمكن أن تؤثر على هذا التوجه، وبغض النظر عن مدى شرعيته سياسياً، أو مشروعيته قانونياً. وعل ضوء ذلك يبدو الأمر صعباً للمنظمة الفرنكفونية، إذا ما حاولت أو اجتهدت في القيام بدور سياسي أو اقتصادي، في الحد من تعاظم النفوذ وتزايد التوسع الأمريكي، حتى في مناطق نفوذها التقليدية.
إذن فيما يتعلق بتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع أفريقيا، شأنها شأن مناطق العالم الأخرى، تختلط الأمور الدينية، والاقتصادية، والسياسة، والأعمال العسكرية، بشكل مبهم ومعقد، بحيث لا يمكن الفصل بينها في إطار أيديولوجية واحدة غير محددة العناصر؛ ولكن أهدافها راسخة. إن مفهوم «القدر الظاهر»، الذي يعلن حتمية التفوق الأنجلوسكسوني، ويدعو الولايات المتحدة الأمريكية لحكم العالم، سيطر بشكل أو بأخر على سياسات وسلوكيات وممارسات تلك الدولة. وقد دمج هذا المفهوم في آنٍ واحد النوايا الحسنة والعقيدة النفعية والتوسع الكوني. وقد اختلط الاقتصاد والمسيحية في كيان واحد، لا يمكن لأحد انتقاده ولا يحق له ذلك.
3. ضغوط الدول والمؤسسات المانحة
لقد بدأت الضغوط الخارجية المناهضة لنظام الحزب الواحد في إفريقيا قرب نهاية الثمانينات من القرن الماضي، تؤت بثمارها، وتحقق بعض مظاهر النجاح؛ ذلك أنه في بداية هذا العقد  بدأ البنك الدولي يعبر عن استيائه من حالة ثقل الجهاز الإداري وترهله الذي خلقته نظم الحكم في إفريقيا، بحسبان ذلك يضر التنمية وتحول دون تحقيقها في القارة. هذا بالإضافة إلى انتشار الفساد، وعدم كفاءة الموظفين الإداريين، وممارستهم للقمع السياسي؛ وذلك بتحجيم الحريات، وإحباط فرص التنظيم الجيد. وفى هذا الإطار، لجأ البنك الدولي إلى الدعوة “للحكم الرشيد” وتبني تحقيقه، بدلاً من المطالبة بالتحول الديمقراطي علاجاً لتلك الحالة. ويقصد بالحكم الرشيد هنا ذلك الحكم الذي يضمن تحقيق درجة من الحرية والأمن في المجتمع. يضاف إلى ذلك أن تتولى السلطة في الدولة إدارة نظيفة نسبياً؛ لتسيير الشؤون العامة، وتقليص الفساد إلى أدنى مستوى ممكن، وتقديم الخدمات على نحو جيد، وكل هذا وفقاً لقواعد الشفافية والمساءلة. وسرعان ما أصبحت هذه المؤشرات للحكم الرشيد شروطاً لمنح الدعم إلى الدول الإفريقية. وهو ما أصبح مظهراً من مظاهر الضغط على حكومات هذه الدول، سعياً وراء الإسراع بإجراء انتخابات حزبية تعددية، بحسبانها الاختبار الأول لتحقيق الحكم الرشيد. لذا فقد أصبح بإمكان النظم السلطوية أن تجرى انتخابات تنافسية أو شبه تنافسية، دون ضمان حقيقي لتحقيق الديمقراطية الكاملة.
إن دور العامل الدولي الخارجي إذن هو أساس في بدء هذه التطورات السياسية وتنفيذها ومتابعتها، إذ إنه يرفض الأسلوب التسلطي لنظام الحزب الواحد، وتركيز السلطات في العاصمة، وحرمان الأقليات والقوميات من المشاركة السياسية، وفي هذا الإطار تحتل إثيوبيا مركزا متقدما عن باقي دول المنطقة، بشأن الخطوات المتوالية للحكم الديمقراطي؛ إذ إن النموذج الإثيوبي يمثل بؤرة جذب وتأثير في تطور الدول المجاورة.
ويبدو من التوضيح السابق، ومن حقيقة وجوهر الضغوط التي تسير باتجاه فرض الليبرالية عموماً، والديمقراطية خصوصاً، أنها مجرد محاولة لتثبيتها أيديولوجية لما بعد انتهاء الحرب الباردة، فضلاً عن إعادة صياغة التبعية بأسلوب جديد يعتمد على الإبقاء والترويج لكل من التبعية السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية. وغيرها مباشرة، وتحسين لغة التخاطب من جانب الدول الأفريقية في تعاملها مع الدول الليبرالية التقليدية، عن طريق تعلم الديمقراطية بمفاهيمها الواسعة وبأساليبها المتنوعة، والحرص على تطبيقها، ووضعها موضع التنفيذ الفعلي وخصوصاً في مجال تعاملاتها مع أهداف تلك الدول ومصالحها.
لا مندوحة من أن الدول الأفريقية عانت وما زالت تعاني وتكابد مشكلات وأزمات شتى، وربما يكون القاسم المشترك فيها جميعاً، أساليب الإدارة والحكم في تلك الدول، وربما كان التعاطف الشعبي مع أسلوب الديمقراطية، هو الأسلوب الأكثر فهما وإدراكاً لدى قطاعات شعبية واسعة، لذلك أضحت على قناعة بضرورة اللجوء إليه والأخذ به، وفي إطار التكيف مع الواقعية السياسية فإن الأنظمة الحاكمة تعاملت معه وتفاعلت، ولكن إلى أي مدى يمكن التفاؤل به وبخيريته؟.

[1] ربما يؤثر على مدى فعالية مثل تلك الحركات وجود طبقة فلاحين كبيرة وسيّئة, وطبقة عامِلة صناعية صغيرة، ومجموعة مميّزة صغيرة جداً من رجال الدولة Statedependent سواء كانوا من البيروقراطيين، أو السياسيين المحترفين، أو رجال الأعمال وملاك الأراضي في معظم أنحاء دول أفريقيا.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى