دراسات اقتصادية

دور الشركات متعددة الجنسية في هيكل النظام العالمي

مر النظام الدولي بالعديد من التحولات خلال القرن العشرين بدءًا بالنظام متعدد الأقطاب الذي كان سائدًا قبل الحرب العالمية الأولى بين الدول الأوروبية الكبرى (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الإمبراطورية النمساوية المجرية)، ثم ثنائي القطبية الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية.
ومنذ عام 1991، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة في العالم، بيد أنها ليست قوة مطلقة؛ حيث بدأ يزاحمها عدد كبير من الفاعلين الدوليين، وهم ليسوا بدول بل منظمات حكومية وغير حكومية (سياسية، عسكرية، مدنية) وشركات كبرى متعددة الجنسية تتحكم في الاقتصاد العالمي وتديره، وفي بعض الأحيان تفرض قوانين وقواعد ضد مصالح واشنطن نفسها، والدليل على ذلك الأزمة المالية التي مرت بها في خريف عام 2008.
ولذا، يتضح أن الدولة بمفهومها الكلاسيكي قد فقدت الكثير من سيادتها وهيبتها في الداخل والخارج، وأصبحت سيادتها تخترق سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وذلك نتيجة تعقد طبيعة العلاقات الدولية والتبادلات الاقتصادية، وهناك عوامل ساهمت في تحقيق ذلك، منها: تفكك الاتحاد السوفيتي ونظام “العولمة”، وثورة الاتصالات الحديثة؛ حيث أصبحت الأحداث والأخبار تنتقل بشكل فوري عبر شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) ومواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك، تويتر، انستجرام… إلخ).
وفي هذا الإطار نشرت مجلة (فورين بوليسي Foreign Policy) على موقعها الإلكتروني مؤخرًا مقالاً للكاتب “ديفيد فرانسيس”،
أشار فيه إلى أن النفوذ العالمي لأكبر 25 شركة متعددة الجنسية وموازناتها يفوق عددًا كبيرًا من دول العالم الـ 192، هذا فضلاً عما تتمتع به تلك الشركات من نفوذ سياسي واقتصادي تنافس به العديد من الحكومات من أجل إدارة الاقتصاد العالمي والسيطرة على مقدراته.

                                                    قائمة فورين بوليسي

ومن خلال قراءة سريعة لتلك القائمة يتضح أن:
ـ أكثر من نصف مقرات تلك الشركات يتواجد في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم دول الاتحاد الأوروبي، ثم الصين.
ـ أبرز الأنشطة التي تعمل بها تلك الشركات هي الأنشطة الخدمية مثل (الاستشارات المالية والخدمية، الخدمات الإلكترونية، السلع الغذائية، ثم الطاقة).
وفي الحقيقة، تعد تلك الشركات من أبرز الفاعلين الدوليين عبر القوميين؛ أي إنها تعد فاعلاً دوليًا ولكنها ليست بدولة. ويوضح “فرانسيس” أن عمل تلك المؤسسات الاقتصادية المهمة التي تتخذ من الولايات المتحدة الأمريكية موطنًا لها، قد بدأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحديدًا في عام 1950، وقد أسهم في نموها عاملان الأول: اعتمادها على تقديم سلع خدمية وليس سلعًا مصنعة، والثاني: التوسع الأفقي الدولي عبر فتح مكاتب خارجية لها في المكسيك، واليابان ودول أخرى.
وكانت تلك الشركات تسعى للتوسع خارج الحدود الأمريكية للاستفادة من عدة مميزات في تلك الدول ومنها (ضرائب أقل، العمالة الرخيصة، واللوائح القانونية أقل حدة) – وأصبحت تلك الشركات مثل (أكسنتشر للاستشارات الاقتصادية والمحاسبية)، تتمتع بشبكة من الامتيازات المنسقة والفضفاضة وتمتلك الشركة السابقة 373.000 موظف في أكثر من 200 مدينة في 55 بلدًا. وخلال العقد الأخير تحول مفهوم الشركات “متعددة الجنسية” إلى مفهوم “بلا جنسية”، أي إنها لا تنتمي لأي جنسية أو دولة أو هيئة سوى الشركة فقط ومصالحها وأهدافها.
علاوة على ذلك، تختار تلك الشركات “البلا جنسية” مثل (إكسون موبيل، وشركة يونيليفر، بلاك روك، إتش إس بي سي، دي إتش إل، آي بي إم، مايكروسوفت، آبل)، مقرات عملها للأفراد والمصانع والأجنحة التنفيذية، أو الحسابات المصرفية على أساس (اللوائح القانونية الودية، الموارد المادية والبشرية الوفيرة، إمكانية تنفيذ الربط السلس).. وغالبًا ما يكون مقرها القانوني في دولة، وإدارة الشركات في دولة أخرى، والأصول المالية لها في دولة ثالثة، وينتشر موظفوها الإداريون والعاملون في عدة دول. وعلى سبيل المثال، تحتجز تلك الشركات تريليونات من الدولارات المعفاة من الضرائب في الخارج من خلال وجود إيرادات من الأسواق الخارجية التي تدفع للشركات القابضة المؤسسة سلفًا في دول تمتلك لوائح استثمارية ميسرة مثل (سويسرا، لوكسمبورج، جزر كايمان، أو سنغافورة)،وقد أطلق بعض المراقبين على تلك الأموال “دخل عديمي الجنسية”.
ولم تترك تلك الشركات طرقًا جديدة لزيادة الدخل إلا وأدركته، وسيكون من المستغرب ألا يفعلوا ذلك، مما ينذر بتحولها لـ “قوة عظمى عالمية”، ورغم أن النقاش حول هذا المصطلح تركز عادة على الدول، إلا أن تصاعد قوة ونفوذ تلك الشركات يرشحها أن تصبح قوة عالمية لها نفوذ خاص، حيث إن الناتج المحلي الإجمالي لها يتجاوز مثيله لثلثي دول العالم، مما دفع الكونجرس الأمريكي بعد الأزمة المالية لعام 2008، الى إقرار قانون (دود- فرانك) لثني البنوك من النمو المفرط مما يعرضها لكارثة اقتصادية كما حدث عام 2008. (حينما تسببت الأزمة المالية في إفلاس عدد كبير من البنوك الأمريكية تبعه إفلاس عدد من البنوك الأوروبية، مما أثر سلبًا على نمو الاقتصاد العالمي)، بيد أن هذا القانون لم ينفذ كما يجب، فهناك عشرة بنوك كبرى تسيطر على 50% من الأصول الخاضعة للإدارة في جميع أنحاء العالم.
وفي الحقيقة، دخل العالم بذلك عصر “التجريد من الجنسية – بلا جنسية”، ويشمل الآن الشركات الاقتصادية التي تعمل على تجميع قدرات مختلف المواقع في سلاسل القيمة العالمية. ولذا، فإن الشركات “عديمي الجنسية” تعيش على قاعدة واحدة هي “أن هناك دائمًا مكانًا آخر للذهاب إليه حيث الأرباح أعلى، والإشراف أقل، وفرص أكثر وفرة”، وقد ساعد هذا الاعتقاد الذكي على تفوقهم على جميع الدول بما في ذلك القوة العظمى المهيمنة في العالم.
مما سبق، يتبين أن استمرار نهج العمل القائم للشركات متعددة الجنسية والبلاجنسية سيؤدي لتغير جذري في هيكل النظام العالمي سياسيًا واقتصاديًا ولن يؤدي ذلك التغير لآثار إيجابية على الدول الصغيرة أو النامية، بل سيكون له تداعيات سلبية عليها، وهو ما يتطلب منها إدارة تجمعاتها كمجموعة الـ (77) ودول عدم الانحياز كحكمة شديدة لتشكل فاعلاً دوليًا قويًا يواجه تلك الشركات وينافسها بنفس أدواتها وسياساتها.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى