دور المجتمع المدنى في تحقيق الأمن الإنسانى

لقد أصبح مفهوم الأمن الإنسانى أحد التحديات الهامة التى تواجه المجتمعات المعاصرة . فالسعى نحو الرقى بالإنسان ، وتحقيق تنمية مستدامة فى علاقته بالموارد التى يمتلكها والبيئة التى يعيش فيها، لا يمكن أن يتحقق دون أن يعيش الإنسان فى حالة من الأمن بمعناه الإنسانى الشامل؛ الذى يعنى تحقيق الإنسان لحاجاته الأساسية ، والعيش فى طمأنينة دون أدنى شعور بالخطر أو الخوف أو القلق من المستقبل . حقيقة أن هذا المطلب يعد مطلبًا مثاليًا قد لا يصل إليه المجتمع إلا بجهد متواصل وتنمية متواصلة ومستدامة . ولكن رغم مثالية الهدف ، إلا أن المجتمع الناهض الذى يستوعب مواطنيه ويعمل من أجلهم يجب أن يضع هذا الهدف المثالى نصب عينيه ، بل ويجعله أحد الأهداف الأساسية للعيش المشترك .

وإذا ما حاولنا توخى الطرق التى يتحقق من خلالها الأمن الإنسانى الشامل ، فأننا نجد أن هذه الطرق متداخلة ومعقدة ؛ فهى طرق تتكاتف من أجل تنمية مستدامة ، أو نهضة شاملة. و تتأسس هذه الطرق في الحقيقة على شراكة تقوم الدولة فيها بالدور الرئيسى ، وعبر اضطلاعها بدور تنموى يتحقق من خلال سياسات تتوخى العدالة الاجتماعية والرفاه الاجتماعى . ولكن هذا الدور الرئيسى للدولة لا يبلغ غايته إلا بتعاون وثيق من قبل القطاع الخاص ، والمجتمع المدنى . حيث يوفر القطاع الخاص المساعدة على تنفيذ السياسات الاقتصادية للدولة التنموية ، ويعمل  المجتمع المدنى فى حقل “المساندة” ، فيوفر الدعم والتأييد ، ويشارك بشكل فعال فى ترسيخ مفهوم الأمن الإنسانى ، ويعمل على حماية حقوق الأفراد والتعبير عن آرائهم، وإتاحة الفرصة لهم للتطوع والمشاركة. لذا يمكن القول على نحو لا لبث فيه أن المجتمع المدنى هو الذى يؤطر لتحقيق الأمن الإنسانى وما يرتبط به من تنمية، وبدونه لا يتحقق هذا الأمن وتلك التنمية استدامة .

     ونحاول فى هذه الورقة أن نستجلى معالم الدور الذى يضطلع به المجتمع المدنى فى هذا الصدد . ولتحقيق هذا الهدف ، فسوف نطرح فى البداية قضايا وتعريفات عامة تتعلق بالأمن الإنسانى وعلاقته بالتنمية المستدامة ثم نعرج بعد ذلك لدرس تفصيلى لدور المجتمع المدنى في ترسيخ الأمن الإنسانى والحفاظ عليه مركزين على مفهوم شامل للمجتمع المدنى على المستويين  المحلى والدولى .

أولا : الأمن الإنسانى والتنمية المستدامة :

لماذا استشعرت الإنسانية مفهومًا جديدًا للأمن يختلف عن المفهوم التقليدى ؟ أحسب أن الإجابة عن هذا السؤال  تدفعنا إلى تأمل طبيعة المخاطر التى تهدد الإنسان المعاصر فى حياته ، وتحيل الاستقرار والطمأنينة فى هذه الحياة إلى قلق وخوف . فقد وصل عدد الفقراء فى العالم إلــى مليار نسمة ، وازداد عدد العاطلين عن العمل إلى 200مليون فرد على اختلاف بين الدول فى نسبة العاطلين إلى عدد السكان أو العاملين منهم ، ووصل عدد الأميين الذى لم يحصلوا قط علــى تعليــم إلــى 770 مليون أميّ ، أما الأفراد غير القادرين على الوصول إلى مياه الشرب فقد بلغ عددهم 1.2 بليون نسمة(1) . وتدهورت البيئة ، وأصبحت التنمية التى يشيدها الإنسان فى مجالات عديدة كالسياحة والاستثمار العقارى والصناعة مهددة للبيئة باعثة على التلوث فتحولت إلى تنمية هادمة وليست تنمية بانية ، وأصبحت فكرة التنمية المستدامة التى تحفظ التوازن بين الإنسان والبيئة من ناحية ، وتحفظ التوازن بين هدر الموارد وبين الاحتفاظ بها فى المستقبل ، أصبحت هذه الفكرة للاستدامة فكرة ملحة .

لقد أدى هذا الظرف إلى إعادة النظر فى مفهومين : الأول هو مفهوم” التنمية “، والثانى هو مفهوم “الأمن” ، فقد أصبح ملحًا أن يتجاوز خطاب التنمية مفهوماته القديمة عن التنمية الاقتصادية أو التنمية البشرية إلى مفهوم أكثر شمولاً ، وأكثر قدرة على أن يؤسس لتوازن بين الإنسان والبيئة و بين الحاضر والمستقبل ، ومن هنا جاء مفهوم التنمية المستدامة ليشير إلى “التنمية التى تسد مطالب الحاضر دون أن تهدد قدرة الأجيال فى المستقبل فى أن يسدوا حاجاتهم”(1) . فالتنمية لا يجب أن تكون مهددة لقدرة الأجيال القادمة على سد مطالب حياتهم، فلا تذهب بالبيئة ومواردها، ولا تلوثها، بل تنميها ،ولا تتعدى على الطبيعة بل تحافظ عليها وتصونها. هنا تحقق التنمية إنسانيتها وتصبح أداه للتعمير والتطوير وليست أداه للهدم والتدمير . إن هذا النوع من التنمية يضمن للإنسان مزيدا من الأمن و الاستقرار فى الحاضر والمستقبل، ويضمن توازنا بين تلبية حاجات الإنسان والنمو الاقتصادى (الزراعى والصناعى) ، والتوازن الاجتماعى الذى يحقق العدالة والمشاركة والتمكين والحفاظ على التراث الثقافى للمجتمع ، والتوازن البيولوجى للحفاظ على الأرض وما عليها من موارد وثروات ، وعلى النظام البيئى الأشمل .ولذلك فلم يكن لمفهوم التنمية المستدامة استقرار بدون مفهوم جديد للأمن ، يتعدى مفهوم الأمن الفيزيقى ذلك أن تحقيق التوازن الإنسانى والطبيعى بكل صوره ، والذى تعمل على توفيره التنمية المستدامة ، هو تحقيق للتوازن فى حياة الإنسان . فهذه الحياة لا تستقيم بتحقيق أمنه الفيزيقى فقط ، أو بتحقيق الأمن السياسى للنظم السياسية ، بل تستقيم بتحقيق أمنه الإنسانى الشامل.

وقد دشن مفهوم الأمن البشرى أو الإنسانى فى تقرير التنمية البشرية لعام 1994(3) وكرس له فى العالم العربى تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009(4) ولقد عرف تقرير التنمية البشرية الأمن الإنسانى على أنه تحرّر الإنسان من التهديدات الشديدة، والمنتشرة والممتدّة زمنيًّا وواسعة النطاق التي تتعرّض لها حياته وحريته ” (ص383 من النص الانجليزي للتقرير). وتأسست فلسفة طرح المفهوم على اختلاف معايير مفهوم الأمن ، أو الأسس التى يقوم عليها ، هل هو أمن الدول والحكومات ؟ أم أمن الأفراد ؟ فالتركيز على أمن الأفراد وحمايتهم من المخاطر فى مجالات الاقتصاد والغذاء والصحة والبيئة والأمن الشخصى والاجتماعى والسياسى ، يحقق مصلحة أشمل، ويؤدى، بطريقة غير مباشر ، إلى حماية أمن الدول أو الأمن السياسى . فلا أمن سياسي إلا بالارتفاع بشأن الإنسان ، والارتقاء بحياته ، وحمايته من المخاطر التى تحدق به ، وتحقيق الاستقرار فى حياته فى الحاضر والمستقبل . وقد أكد تقرير التنمية الإنسانية العربية فى هذا الشأن على أن الأمن الإنسانى .

أن أمن الإنسان و أمن الدولة وجهان لعملةٍ واحدة، فضمانُ أمن الإنسان  يؤدي ليس فقط إلى المزيد من فرص التنمية البشرية و إنما يمكِّن الدولةَ أيضا من الاستفادة المستديمة من البيئة، ومن استحقاق شرعيتِها في نظر مواطنيها، ومن الاستفادة من التنوع، وتقوية اقتصادياتها في وجه التقلبات العالمية، كما يمكّنها من الوصول إلى مستوًى أعلى من الأمن الغذائي ومن تعميم الصحة في أوساط المجتمع، و أخيرًا وليس آخرًا، يمكّنها من التصدي لمصادر النزاع وربما أيضا من تجنب تلك النزاعات. بهذه المقاربة لأمن الإنسان التي اعتمدها التقرير الحاضر استطاع أن ينظر من خلال هذا المفهوم ليرى عددًا كبيرًا من الأبعاد المؤثرة  في حياة الناس: الأمن البيئيّ، أداء الدولة في ضمان أمن الإنسان، أمن الإنسانِ بالنسبة إلى الجماعات الأضعف، الأمن الاقتصاديّ، التغذية والأمن الغذائي، الصحة وأمن الإنسان، و أخيرًا وطأة التدخل العسكري الأجنبي والاحتلال على أمن الإنسان(5).

ورغم  أن مفهوم الأمن الإنسانى وما يرتبط به من أهداف الحماية من المخاطر التى يتعرض لها الإنسان قد استقر على نحو كبير عبر كثير من الجهود الأكاديمية والتنموية ، إلا أن المفهوم قد طرح صورًا من المناقشة والجدل . ومن أهم صور الجدل الاختلاف حول طبيعة المخاطر التى تهدد أمن الإنسان هل هى مخاطر أمنية تتصل بالعنف ، أم أنها مخاطر أوسع وأشمل من خطر العنف(6). ولقد دفع هذا الخلاف إلى ظهور مداخل متباينة لمفهوم الأمن الإنسانى. واستخدامه نظريًا وعمليًا. ونستطيع أن نميز فى هذا الصدد بين ثلاثة مداخل :

أ – المدخل القانونى الدولى وحقوق الإنسان :

ينظر هذا المدخل  إلى مفهوم الأمن الإنسانى باعتباره نموذجًا جديدًا لتنمية النظام القانونى الدولى الذى يؤسس الدول على مفاهيم السيادة والسلام وحماية حدود الدولة من المخاطر التى تهددها ، والانتقال به إلى مفهوم مختلف للأمن يركز على أمن الأفراد واستقرار حياتهم بسد مطالب حياتهم وحماية حقوقهم ، وانعتاق الفرد – المواطن ليصبح حرًا طليقًا قادرًا على المشاركة الفعالة على المستوى الدولى والمحلى (7) . ولقد ارتبط هذا المدخل بمفهوم القانون الدولى ، وبمفهوم حقوق الإنسان ، وأصبحت حرية المواطن وحقوقه الأساسية هى بؤرة الاهتمام الرئيسية بحيث يصبح الأمن الإنسانى المتمثل فى حماية حقوق الأفراد هو المبدأ المنظم للعلاقات الدولية ، وتصبح الدولة مسئولة مسئولية  شاملة على حماية حقوق الأفراد ، الذين عليهم مسئولية أخلاقية فى الانصياع لقانون الدولة طالما أنها تحقق له المساواة والعدل(8) .

ب – المدخل الإنسانى :

   ينطلق هذا المدخل من المبادئ الإنسانية العامة ، حيث يعتبر أن صيانة سلامة الأفراد هو الهدف الأساسى للأمن الإنسانى . وهذا هو المدخل الذي يتبناه تقرير التنمية البشرية الدولى ، وتقرير التنمية الإنسانية العربية . ولذلك فإن الأمن الإنساني في هذا المدخل يرتبط في الغالب بمفهوم القدرةcapability  الذي طرحه أماراتيا سن   Amartya Sen بأن التنمية وما يرتبط بها من أمن واستقرار لحياة الأفراد تقاس بقدرة المواطنين الفعلية ، والتي تحدد بدورها عبر تمكن هؤلاء الأفراد من إشباع حاجتهم ، وفتح الآفاق أمامهم للاختيار. يتوازي المفهوم الإنساني هنا مع مفهوم الحرية ، وتصبح قدرة الفرد على الاختيار الحر ومن ثم سد حاجاته على نحو مباشر (9).

ج – مدخل التنمية المستدامة :

     وهو يكمل المدخل السابق ويوسع من مجاله . فالأمن هنا يستهدف عملية تنمية شاملة للإنسان، والموارد التي يملكها ، والبيئة التى يعيش فيها ، تنمية تحقق التوازن بين استهلاك الموارد والمحافظة عليها ، وبين سد مطالبه وحاجاته الخاصة وسد مطالب أجيال المستقبل . ومرة أخرى فإن هذا المدخل يتم تبينه من قبل تقارير التنمية البشرية والكثير من المنظمات الدولية ، وعلى رأسها اليونسكو التي وسعت من مفهوم الأمن البشري ليشمل المحافظة على البيئة ؛ وربطت بين مشكلات البيئة ومشكلات العيش في البيئة . فالمحافظة علي البيئة هي جزء لا يتجزأ من المحافظة على المجتمع ، كما أن المحافظة على المجتمع هي جزء لا يتجزأ من المحافظة على البيئة. فالأمن الإنساني الذي يركز على الفرد ، أو على البيئة التي يعيش فيها الفرد من ناحية ، وعلى أمن البيئة من ناحية أخري هو الطريق نحو تحقيق التنمية المستدامة ، والمحافظة على البشر والبيئة معًا ، وخلق معادلة توازن بينهما (10). ويتم توسيع هذا المدخل علي نحو مطرد بالاهتمام بالجوانب الأخلاقية للأمن الإنساني ، وذلك منذ أنشاء مفوضية الأمم المتحدة للأمن الإنساني عام 2011، ولقد أصبح من خلال نشاط هذه المفوضية التناغم بين مفهوم الأمن الإنساني ومفهوم التنمية ، فكلاهما يعني بسلامة الإنسان وحرياته الأساسية . وكلاهما يكمل الآخر فى مفهوم شامل للأمن الإنسانى الذى يعنى “حماية النواة (الجوهر) الأساسية لكل إنسان بطرق تدعم الحريات وتحقق الذات الإنسانية” (11).

     ويتواكب هذا الاهتمام بالأمن الإنسانى فى مفوضية الأمم المتحدة بما يتضافر من جهود فى اليونسكو لصياغة مبادئ أخلاقية تحمى العالم المعاصر من أزماته ومشكلاته المتفاقمة ، خاصة فى مجال التطورات فى الهندسة الوراثية التى دفعت اليونسكو إلى اهتمام كبير بأخلاقيات البيولوجيا(12) و المناخ على اثر الإنبعاثات الكربونية التى تهدد البيئة والتى جعلت اليونسكو تفكر فى إرساء مبادئ أخلاقية لحماية البيئة وتجنب كوارث التغيرات فى المناخ(13).

ثانيًا: دور المجتمع المدني في تحقيق الأمن الإنساني

     يعمل المجتمع المدني في منطقة وسطى بين أجهزة المجتمع؛ ومن هنا فإنه يقيم تشبيكًا عامًا في المجتمع، يسهل عملية الاتصال بالأفراد، ويجمعهم على أهداف مشتركة، وتوفير الفرصة لهم للمشاركة والتطوع والمبادأة. ومن ناحية أخرى فإن المجتمع المدني إذ يوجه نفسه تلقاء الدولة فإنه يقدم لها الدعم والمساندة، ويسهم في تطوير برامجها عبر النقد البناء والتعبير عن مطالب الأفراد وحاجاتهم. حقيقة أن المجتمع المدني فضاء مستقل يعمل بحرية، بعيدًا عن قيود الدولة وتعقيد البيروقراطية. أو كما يقول كلينجمان Klingman: أن المجتمع المدني يشكل” شبكة من الروابط المستقلة نسبيًا عن الدولة، تربط تجمع المواطنين حول القضايا العامة (ذات الاهتمام المشترك)؛ بحيث يمكن بتواجدهم وأفعالهم أن يؤثروا على السياسات العامة”(14). إنه بذلك يشكل شبكة من العلاقات التعاقدية التي تقع خارج حدود الدولة وبشكل مستقل عنها.

       ولكن رغم هذه الاستقلالية، إلا أن المجتمع المدني لا يعمل قط بعيدًا عن الدولة خاصة في المجتمعات التي توصلت إلى اتفاق حول الأسس والمبادئ التي يدار بها المجتمع والتي تتأسس عليها الدولة . في هذا الظرف فإن المجتمع المدني يكون مكملاً للدولة مساندًا لها. هنا يتحول الصراع والمنافسة بين الدولة والمجتمع المدني ـ والذي عادة ما يوجد في المجتمعات غير المستقرة الباحثة عن طريق ـ يتحول إلى تعاون، في علاقة شراكة. إن منظمات المجتمع المدني الذي تتسم بأنها أكثر مرونة، وأكثر قدرة على المبادأة، وأكثر كفاءة من أجهزة الدولة ـ والتي تتسم بعدم المرونة، والممارسات العقيمة، والسلوك البيروقراطي الذي يستهدف دائمًا تحصيل الضرائب وتجميع العوائد للدولة. في هذا الظرف سوف تحقق السياسات الاجتماعية أقصى درجات كفاءتها إذا ما اعتمدت بشكل أكبر على شراكة المجتمع المدني(15).

        وعلى هذه الخلفية يمكن القول بأنه إذا كانت الدولة جادة في سياستها لتحقيق الأمن الإنساني الشامل، عبر مفهومات واضحة للتنمية المستدامة، فإن المجتمع المدني يمكن أن يلعب دورًا هامًا وحساسًا في تحقيق ذلك. ويتدرج هذا الدور من الدعم والشراكة إلى المشاركة الفعلية في تحقيق الأمن البشري، مرورًا بصور أخرى من التعليم والتدريب ورفع مستويات الوعي بالحق في الأمن الإنساني. وفيما يلي ندرس بعضًا من الإشكاليات المحيطة بهذه الأدوار. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الأدوار تتم عبر مستويات عديدة، عبر المستوى المحلي من خلال المنظمات المدنية العاملة في القرى والأحياء الحضرية المختلفة؛ وعبر المستوى الوطني من خلال المنظمات المدنية العاملة على مستوى القطر كله، أو عبر قطاع عريض منه كالمنظمات المهنية أو العمالية، أو عبر حقول مختلفة كالمنظمات العاملة في مجال الفقر أو المرأة أو الطفولة أو غيرها من المجالات. وأخيرًا عبر المستوى الدولي من خلال المنظمات المدنية العاملة على تحقيق تشبيك مدني دولي في مجالات البيئة ومحاربة التسلح ومقاومة العولمة وغير ذلك من المجالات.

1ـ الدعم والشراكة:

       يعد الدعم Support أحد الوظائف الأساسية للمنظمات المدنية. فطالما أن هناك اتفاقًا على الأسس التي يقوم عليها التعاقد الاجتماعي العام، فإن المجتمع المدني يتوقع أن يعرب عن استعداده للشراكة مع الحكومة ومؤسسات الدولة المختلفة في دعم السياسات العامة، وفي تنفيذ هذه السياسات وفقًا لقواعد النزاهة والشفافية والعدل.

       ويحقق المجتمع المدني هذه الوظيفة في الدعم والشراكة بحكم استقلاليته، وقربه من الناس، والقدرة على التعرف على حاجاتهم بسهولة ويسر. وغالبًا ما يطلق على المنظمات المدنية وما تلعبه من دور في عملية الشراكة من أجل تنفيذ السياسات العامة وتحقيق التنمية المستدامة مصطلح “الفاعل المشارك من خارج الدولة” non – state actor وهو مفهوم يشير إلى كل التجمعات المنظمة المشاركة في عمليات التنمية من خارج المؤسسات الرسمية للدولة كالنقابات المهنية والجمعيات الأهلية والمبادرات المجتمعية المنظمة.

       ولا تعني الشراكة بحال أن السلطة والقوة تتسرب من أيدي الدولة على نحو يفقد الدولة سيادتها. ففي أثناء انعقاد المؤتمر الدولي السنوي للتنمية في الهند عقدت حلقة نقاشية بعنوان ” القوة تتسرب من أيدي الدولة: إلى أين تذهب؟”. وكانت أهم الإجابات أنها تذهب إلى منظمات المجتمع المدني وشركاء آخرين في التنمية. ويرجع السبب في ذلك إلى أسباب عديدة أهمها نقص القدرة التمثيلية للديمقراطيات التقليدية، ونمو الهويات الجديدة كالهويات الإقليمية والمحلية والدينية والثقافية(16). ولكن ذلك لا يعني بحال أن الدولة تفقد كل سيادتها، فالدولة هي التي تمنح المجتمع المدني وجوده أصلاً. فهي التي تسن له التشريعات، وتضمن له الحماية والأمن، وتوفر له شروط المشاركة والشراكة، وتضع الأسس التي تحدد مسارات عمله وطبيعة أنشطته، وهي التي تتيح له فرصة الشراكة في صناعة السياسات العامة وتنفيذها. ومن هنا فإن الشراكة التي تنتج من جانب المجتمع المدني هي شراكة لا تتحقق إلا بوجود الدولة. فالحديث عن الاستقلالية التامة لمنظمات المجتمع المدني هو أمر صعب المنال. فالاستقلالية هي استقلالية نسبية، تتحقق في وجود الدولة وتحت لواءها. وتصبح الشراكة في أزهى أشكالها عندما تتوخى الدولة مسلكًا تنمويًا وتصبح دولة تنموية بحق تعمل من أجل تحقيق الصالح العام للأفراد والجماعات وتسير في عملها وفق أهداف محددة وخطط محددة.

2ـ  لا مركزية التنمية: الحوكمة بالمشاركة:

       تعد اللامركزية أحد الشروط الأساسية لنجاح عملية التنمية المستدامة، ومن ثم تحقيق الأمن الإنساني الشامل. فاللامركزية تتيح للأفراد المشاركة الفعالة في تحديد الحاجات، وصناعة القرارات التي تلبي هذه الحاجات. وكما يقال فإن اللامركزية هي النقطة الوسط بين النزعة المركزية المفرطة وبين الفوضى. ويعني ذلك أنها توفر الفرصة لتنظيم الحاجات على مستوى محلي، وإتاحة الفرصة لإدارة الموارد المحلية، وحوكمة السياسات التي تتجه نحو التنمية المحلية خاصة في المسائل التي تخص الأمن الإنساني كتخفيف حدة الفقر والحماية من الكوارث الطبيعية، وضمان حصول الأفراد على حقوقهم في مجال الصحة والتعليم والمرافق.

      ويمكن أن يلعب المجتمع المدني دورًا كبيرًا في تحقيق لا مركزية سياسات الأمن الإنساني أو التنمية المستدامة. ويتحدث الباحثون هنا عن دور اللامركزية في تحقيق ما يسمى بالحكومة بالمشاركة Participatory Governance ، والتي تعني إتاحة الفرصة لكل الشركاء ( الحكومة والمجتمع المدني والمجالس المحلية المنتخبة والقطاع الخاص وأصحاب المصلحة من الجماعات الفقيرة أو المحرومة والجمهور العام وأصحاب التمويل) في تحديد أولويات التنمية، ووضع السياسات، وتوزيع الموارد، ووضع البرامج التي تستهدف التنفيذ. وفي هذا النوع من إدارة التنمية يضطلع المجتمع المدني بدورين رئيسيين(17):

       الأول: التعاون مع الأجهزة الحكومية في تحديد الحاجات وإدارة الموارد وتوزيعها وفقًا لأوليات واضحة.

      الثاني: مراقبة أداء الأجهزة المختلفة في تنفيذ الخطط .

     ويتحقق للمجتمع المدني ذلك من خلال شبكة العلاقات التي يقيمها عبر خطوط أفقية ورأسية. أفقية مع الأجهزة المحلية المنتخبة وغير المنتخبة، ورأسيًا مع الحكومة المركزية والسلطات المانحة. وبهذه الطريقة يستطيع المجتمع المدني أن يكون لاعبًا رئيسيًا في عملية حوكمة التنمية.

3ـ بناء قواعد المعلومات:

        يمكن القول بشكل عام أنه كلما حقق المجتمع خطوة نحو بناء مجتمع المعرفة، كلما حقق خطوة إلى الأمام في تحقيق الأمن البشري الشامل. ويعتبر بناء قواعد المعلومات، وإتاحتها لصانع السياسة ومتخذ القرار أحد الوسائل الهامة في بناء السياسات العامة وفي حوكمة تنفيذها. ويعتبر المجتمع المدني ـ الذي هو أقرب إلى الناس ومعرفة مشكلاتهم وهمومهم ـ أحد القنوات الهامة في إنشاء قواعد البيانات. وتشتمل قواعد البيانات على معلومات حول المجالات المتضمنة في قضية الأمن البشري مثل:

ـ أعداد السكان وتوزيعهم.

ـ أعداد الفقراء الذين يحتاجون إلى مظلة حماية.

ـ حالة التعليم بالنسبة للسكان بما في ذلك أعداد الأميين.

ـ حالات العجز الصحي والبدني والخدمات التي تقدم إليهم.

ـ مؤشرات عن نوعية حياة الأسر.

ـ بيانات عن المنظمات والهيئات التي تقدم خدمات أو مساعدات، ومظاهر التنسيق بين أنشطتها.

ـ مؤشرات عن المخاطر المحدقة بالبيئة في المنطقة.

       وتدلنا أدبيات التنمية المستدامة على أن المؤشرات ونظم المعلومات تلعب دورًا أساسيًا في التنمية المستدامة. فالتنمية تتبلور حول سؤال هام: كيف يمكن أن نحقق حياة سعيدة وآمنة ومكتفية بذاتها لكل الناس؟ ويكتمل هذا السؤال بسؤال التنمية المستدامة: كيف يمكن أن نعيش ونتكيف مع قواعد وحدود البيئة البيوفيزيقية (دون المساس بها)؟ أي كيف نحافظ على البيئة والموارد داخلها إلى الأجيال القادمة؟. وتحتاج الإجابة عن أسئلة التنمية مؤشرات يمكن أن يطلق عليها مؤشرات الاستدامة Sustainability Indicators ، وهذه المؤشرات ضرورية لرسم سياسات متوازنة لتحقيق التنمية المستدامة(18). والمجتمع المدني هو الأقدر دائمًا على تجميع مؤشرات الاستدامة وإتاحتها على نحو منظم عبر قواعد البيانات. وتستهدف هذه المؤشرات حماية الناس وتحقيق أمنهم البشري، دون أن يتم استخدامها لأغراض أمنية تؤدي بها إلى تحقيق أهداف أخرى معاكسة لأهداف الأمن البشري. فالمعلومات سلاح ذو حدين، ويجب على من يحوز المعلومات أن يكون يقظًا في استخدامها وإتاحتها؛ بحيث لا تتاح إلا من أجل رفاهية البشر وأمنهم.

4ـ المتابعة والتقييم:

     إن متابعة السياسات المتعلقة بالتنمية المستدامة والأمن الإنساني، وتقييمها على نحو دائم، هو أحد الضمانات الهامة لنجاحها وتحقيق أهدافها. وللحكومة وأجهزة الدولة المختلفة دور هام في هذه العملية، ولكنها أحد المهام الأساسية للمجتمع المدني. فعمليات المتابعة والتقييم ليست عمليات رأسية تأتي من اعلى إلى أسفل فقط، ولكنها أيضًا عمليات أفقية تسهم فيها المنظمات الأهلية بدور كبير. فمن ناحية نجد أن هذه المنظمات تنخرط انخراطًا فعليًا في الجهود الرامية إلى التنمية. وتستغرق هذه الجهود عمليات مستمرة ومتتابعة من التخطيط والتنفيذ والمتابعة. وفضلاً عن ذلك فإن المنظمات المدنية يمكن أن تلتزم على نحو أفضل بالمعايير التي يقوم عليها التقييم والمتابعة، وهي معايير المحاسبية والشفافية والمسئولية والانخراط النشط في حياة المجتمع.

      إن عملية التنمية المستدامة تستغرق مراحل أربعة(19): تبدأ بتكامل الموارد المادية وغير المادية؛ ثم اختيار المشروعات التي لها قيمة مضافة في عملية التنمية المستدامة؛ ثم الشراكة في التنفيذ؛ ثم التقييم المستمر. ويبرز دور المجتمع المدني على نحو قوي في العمليتين الأخيرتين: في الشراكة وعمليات التقييم والمتابعة. ويمكن القول هنا أنه كلما ازداد انخراط المجتمع المدني في عمليات الشراكة والتقييم، كلما توطدت أواصر الثقة والتعاون بين الشركاء المختلفين في عملية التنمية، وبالتالي ضمان نجاح هذه العملية.

5 ـ التدريب والتعليم: الحق في الأمن الشامل:

       إذا كان الأمن الإنساني هو تحرير الإنسان من الخوف وتحريره من العوز، والعمل على توفير فرص كريمة للعيش تجعل الإنسان آمنًا في حياته وفي بيئته؛ إذا كان الأمر كذلك فإن الأمن الإنساني يتحول إلى حق من حقوق الإنسان. ويلعب المجتمع المدني دورًا كبيرًا في التعريف بهذا الحق ورفع الوعي به. والحقيقة أن الحق في الأمن البشري هو حق مركب يشتمل على عدد من الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي يؤدي تحقيقها إلى حماية الإنسان من المخاطر التي تهدد أمنه وسلامته. ويعمل المجتمع المدني على رفع الوعي بهذه الحقوق عبر جهود تتمثل في فاعليات عديدة منها:

أ ـ رفع الوعي بالثقافة المدنية: فالأمن البشري لا يتحقق إلا في إطار ثقافة العيش المشترك، التي تقوم على التسامح وقبول الآخر، والسلام، واحترام قوانين المجتمع وأعرافه وقيمه الأخلاقية.

ب ـ إدارة حل النزاعات المحلية والوقاية منها: وهي نزاعات يمكن أن تعطل التنمية المستدامة، وتهدد السلم الأهلي والأمن الاجتماعي وتشكل ـ في بعض المجتمعات ـ خطرًا على سلامة البيئة ولا يقتصر دور المجتمع المدني على المشاركة في حل النزاعات المحلية، بل يتجاوزه إلى رفع الوعي بالوقاية منها وتجنبها مما يعضد الأمن الاجتماعي ويقويه.

ج ـ حفز الأفراد على التطوع والمشاركة: وهي أدوار يتم تعلمها من خلال الممارسة العملية التي تقوم على تشجيع المبادرات الفردية وحفز الأفراد على المشاركة الفعالة والتطوع.

د ـ تأسيس منتديات للحوار والتدبر: من شأنها أن تعلم الأفراد القدرة على النقاش وحل المشكلات بالطرق السلمية، والقدرة على تدبر القضايا والمشكلات بشكل عقلاني، والتفاوض بشأن المسائل المتنازع عليها من أجل الصالح العام.

هـ ـ تعلم الممارسات الديمقراطية: فلا حوكمة رشيدة بغير ديمقراطية. والمجتمع المدني هو المكان الذي يتعلم فيه الأفراد الممارسات الديمقراطية من خلال أداء فعلي ومشاركة فعلية في إصدار القرارات وتنفيذها.

خاتمة

      ليس هناك من طريق لتحقيق الأمن الإنساني الشامل إلا عبر التنمية المستدامة؛ بل أن الأمن الإنساني هو الوجه الثاني للتنمية المستدامة. فكلاهما ـ الأمن الإنساني و التنمية المستدامة ـ يهدفان إلى حماية الإنسان من المخاطر وتحقيق أعلى درجات الرفاهية في العيش الآمن الكريم. وتلك مهمة للمجتمع بأسره، ولكن المجتمع المدني يعتبر أحد الفاعلين الأساسيين في تحقيق هذه المهمة. ولقد حاولنا في التحليل السابق أن نناقش بعض القضايا المرتبطة بدور المجتمع المدني في تحقيق الأمن الإنساني أو التنمية المستدامة. وقد يحق لنا أن نختم بالقول بأن هذه المهام تتطلب شروطًا اجتماعية وثقافية عامة؛ أهمها وجود إجماع اجتماعي على هذا الدور وأهميته؛ وتبني الدولة لأهداف تنموية تقوم على رؤية للشراكة مع استبعاد التسلط والقهر والتهميش؛ وقدرة النخب السياسية والمدنية على أن تتجاوز خلافاتها وأن تعمل يدًا بيد من أجل الصالح العام.

الهوامش :

(1) انظر هذه الإحصاءات في:

ـ تقرير عن أعداد الفقراء في العالم أعده البنك الدولي سنة 2008م على الموقع التالي: www.Algezeera.net

ـ وعن أعداد العاطلين في العالم انظر: تقرير أعدته منظمة العمل الدولية في سنة 2011م على الموقع التالي:

www.gustsyrian.com

ـ أما عن أعداد الأمييّن انظر: تقرير أعدته منظمة اليونسكو في سنة 2010م على الموقع التالي:

                                                               www.algareda.com

 ـ أما عن أعداد الذين لا يتمتعون بالحصول على مياه الشرب انظر: تقرير مؤتمر القمة العالمية للتنمية المستدامة. مطبوع في الأمم المتحدة ـ نيويورك سنة 2002م، ص129.

(2) انظر: تعريف اللجنة الدولية للبيئة والتنمية عام 1987 فى المصدر التالى :

–  The Brundtland commission Report, Our common Future, Oxford: Oxford University   press, 1987.

(3) برنامج الأمم المتحدة الإنمائى ، تقرير التنمية البشرية 1994 .

(4) برنامج الأمم المتحدة الإنمائى ، تقرير التنمية الإنسانية العربية : تحديات أمن الإنسان فى البلدان العربية 2009.

(5)  انظر: تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 ص 71 .

(6) أثار هذه القضية تقرير التنمية البشرية لعام 2005.

(7) انظر :

  1. Benedek, W. ” Human rights and Human Security”, in: yotoponlos Marongopoulos, A. (ed.) L’etat Actuel de driots de d’homme dans le mond Defis et perspectives, Paris, 2006. pp. 95-109.

(8) انظر :

  1. Oberletiner, “Human Security: A challenge to International Law” Global Governance ,vol. 11. pp. 185-203.

(9) انظر :

  1. Sen, Development as Freedom, Oxford: Oxford University Press, 1999.

(10) انظر :

  1. Goucha and J. Crowley (eds.) Rethinking Human Security, Paris, UNESCO, 2008. p.

(11) البشير شورو ، الأطر الأخلاقية والمعيارية التربوية لتدعيم الأمن البشرى فى الدول العربية، باريس ، اليونسكو ، 2005 ، ص ص 15-16.

(12) انظر: الإعلان العالمي الذي صدر عن اليونسكو حول أخلاقيات البيولوجيا الصادر في 19 أكتوبر 2005م. متاح على الموقع التالي:

www.Portal.Uensco.org/en/ev.Php

(13) جاء ذلك فى اجتماعات لجنة العلوم الاجتماعية والإنسانية باليونسكو فى مداولات المؤتمر العام المنعقد فى الفترة من 25/10/2011 إلى 9/11/2011 .

(14) C.Klingman, “Reclaimg the public: A Reflection on Recreating Civil Society in Romania” Eastern European Politics and Societies, Vol,14. No.3 , 1990, p.179.

(15) Lucio Baccaro, “Civil Society Meets the State: A Model of Associational Democracy”. Research Paper: DP 138/2002. International Institute for Labour Studies . Geneva. 2002.

(16) Evgenii Dainov, ” Civil Society as Partner in Local Development “, IC Regional Conference on” Partnerships for Successful Transition in Eastern Europe“, 9-13 June 2004 (Center for Social Practice , Sofia).

(17) Cornelius Adablah, The Role of Civil Society in Decentralized Governance for Poverty Reduction: The Experience in West Africa. “UNDESA Workshop on Poverty Alleviation and Social Inclusion” Dakar: 1-2 July, 2003.

(18) Donella Meadows, Indicators and Information Systems for Sustainable Development HartLand: The Sustainability Institute, 1998. p.11.

(19) انظر الخطوات الأربعة التي اعتمدها الاتحاد الأوربي:

Friend of the Earth Europe, Delivering Sustainable Development, May: 2004.

بفلم أحمد زايد

  أستاذ علم الاجتماع السياسى

 كلية الآداب – جامعة القاهرة

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button