دراسات شرق أوسطية

عام جديد… واشكالية الملفات الفلسطينية المعلقة

د. باسم عثمان كاتب وباحث سياسي

عاش الفلسطينيون في2019 – كما عاشوا السنوات التي سبقتها – في دائرة العجاف السياسي واليات العمل المقاومة للاحتلال في الميدان وصفقاته المشبوهة , والمراوحة في المكان و ديمومة الاستمرار في الانقسام الداخلي البنيوي سياسيا ومؤسساتيا, حيث كانت واحدة من أسوأ سنواتهم العجاف على كل المستويات المرتبطة بالهم الوطني والحالة الفلسطينية القائمة : حيث استمر الانقسام التدميري وتداعياته داخل المجتمع الفلسطيني وتواصل ترسيم ملامح الفصل السياسي والجغرافي والديمغرافي السكاني في داخل الوطن الواحد وخارجه – خدمة لأجندات طرفي السلطة الفلسطينية والقوى الخارجية المحركة لهما -، في الوقت الذي تصاعدت فيه حدة المواجهة والاتهامات بينهما لدرجة الاعتقاد الواعي بان قطبي الأزمة السياسية الفلسطينية ليس لهما مصلحة مباشرة في الوصول الى وضع نهاية للمشهد التراجيدي الفلسطيني “المأزوم” سياسيا وسلطويا، والذي انطلق عمليا منذ العام 2006، نتيجة انتخابات أفرزت ” اقطاب حكم ” دون تحديد واضح لقانون ينظم العلاقات بين طرفي “النظام السياس الجديد”، في الوقت الذي استمر فيه التنسيق الأمني مع الاحتلال من جانب السلطة السياسية في الضفة، وتواصلت فيه التهدئة الأمنية معه من جانب السلطة الغزاوية ، وتصاعدت فيه وتيرة حملات الاعتقال للشباب والمناضلين الفلسطينيين في الضفة والقطاع.

لقد تم ترسيخ الانقسام وبإرادة واعية، بينما يواصل المسؤولون عنه التأكيد على ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية وإنجازها في الوقت الذي يتشبثون بإدامته، وتحويله إلى أمر واقع يصعب تغييره، بحكم ارتباط “السلطتين” ببرامج واجندات داخلية وخارجية قائمة على الانقسام والفصل السياسي والجغرافي واعتمادهما على مرجعيات تغذي هذا التوجه الانقسامي وتموله.

ولقد أصبح واضحاً لكل الفلسطينيين أن التصريحات والبيانات الشعبوية لطرفي الكارثة الفلسطينية عن التوافق والمصالحة والوحدة الوطنية، ليست الا مجرد “تبريرات إعلامية” للتنصل من مسؤوليتهم الوطنية والسياسية وحتى الأخلاقية عن نزيف الحالة الفلسطينية وتدمير بنيانها.

وفي سياق المناورة السياسية والتكتيك السياسي ” المكشوف”، جاءت الدعوة لإجراء الانتخابات الفلسطينية –وهي الأولوية الوطنية والسياسية على المستويين التشريعي والرئاسي والوطني العام -كدعوة لم يتم إثبات جديتها بخطوات إجرائية وعملية، ولا حتى بمرسوم رئاسي يضع النقاط على الحروف لإجرائها والتحضير لها، وما موافقة حماس الأولية عليها لقناعتها بعدم جدية فتح لإجرائها!! ولأنها ايضا لا تريدها بالأساس وتخشى نتائجها ومحاولة منها لرمي الكرة في ملعب الاخرين.

وبالرغم من ذلك , وفي هذا الاطار , تم التوقيع خلال السنوات الماضية على جملة من الاتفاقات والتفاهمات الداخلية الفلسطينية التي كان لها “بصيص” من الامل المهدور وبإرادة واعية , ليس فقط في انهاء الانقسام فحسب، بل ايضا في بناء نظام سياسي فلسطيني جديد , قادر ان يعيد الى الواجهة صدارة القضية الوطنية الفلسطينية وتلازم حقوقها وثوابتها, لكن غياب الإرادة السياسية الوطنية الخالصة لطرفي الانقسام حال دون ذلك من جانب , وخضوعهما لقوى خارجية محركة وممولة لاستمرار الكارثة الانقسامية وتحولها الى ” انفصال سياسي كامل” تدريجيا بين سلطتي الضفة وغزة – يمنح كل منهما حصته وامتيازاته السلطوية من الكعكة الفلسطينية – من جانب اخر.

في ذات السياق، فإن غياب الفاعلية الوطنية والتنظيمية المؤثرة لقوى فلسطينية مركزية، يشهد تاريخها على بصماتها وقوة حضورها في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، -التي رأت وباجتهاد منها، ان تمسك العصا من الوسط والحفاظ على مسافة كافية من البعد والمغازلة لطرفي الانقسام دون “تثويرها” بالبعد الوطني والجماهيري، كان يمكن ان يكون كفيل بإعادة اللحمة الفلسطينية وإنتاج البديل الوطني والتزاماته البديلة عن أوسلو واستحقاقاته الكارثية-ما لعب دورا حاسما في استمرارية “الهزليةالسلطوية” في المشهد الفلسطيني.

ان واقع الحال، يكشف أن التصدي لتلك الأزمات (البنيوية والسياسية) يجري في الغالب بصورة ارتجالية وأحيانا “عاطفية”، وفق استراتيجية ردة الفعل على مفاهيم وسياسات وحراك الاخر، وليس وفق ما يتطلبه بناء الفعل وروافعه، وكأن التناقضات السياسية هي مجرد سوء فهم وليست تعبيرا عن تناقضات لواجهات سياسية تمثل مصالح فئات وشرائح اجتماعية لها مصالحها وامتيازاتها ولا يمكن التنازل عنها ,لا “بالعاطفة” ولا” بالتراضي”، لان الاختلاف مع شريحة السلطة الفلسطينية ليس اختلافا في” الطباع”,بل اختلافا في الطبيعة السياسية العضوية لتكوينها وارتباطاتها وافقها السياسي.

هذا ما حصل وبمباركة فلسطينية عامة حين تم الإعلان عن تشكيل التحالف الديمقراطي الفلسطيني من القوى اليسارية الفلسطينية كصمام امان للمشروع الوطني الفلسطيني وقوة جماهيرية مؤثرة في الحالة الفلسطينية، والذي توسمت فيه الجماهير الفلسطينية خيرا واملا في انقاذ المركب الفلسطيني من دوامة الغرق، لكن افتقاره لأليات وأدوات الفاعلية والاستمرار، كاللائحة الداخلية الملزمة لمكوناته وقواه، أفقده فاعليته وحضوره المؤثرين.

لهذا، نجد من الفصائل الفلسطينية والتي كانت تدعي اليسارية منها، لحقت بركب السلطة وامتيازاتها الوظيفية، من دون أنْ تمتلك حتى مجرّدَ القدرة على التمايز اللفظيّ عن نهج السلطة وفكرها، فأضحت ديكورا لا أكثر ولا اقل لمركز القرار الفلسطيني ومطبخه السياسي، ودعموا تراجعَهم الموقعي والسياسي بسلسلةٍ من التبريرات و” الفذلكات ” الأيديولوجية والسياسية النظرية: على سبيل المثال، لتكون بمثابة “مراجعة فكريّة ضروريّة”,  اوحماية “المشروع الوطني” من الانهيار، اوالتأقلم مع معطيات “المتغيرات الدولية والإقليمية”؟!!.

وهذا ما حصل ايضا في شهر سبتمبر (أيلول)  2019 وبمباركة الجمهور الفلسطيني ,عندما تقدمت ثمانية قوى فلسطينية برؤيتها لإنهاء الانقسام الداخلي الفلسطيني ورؤيتها الوطنية البديلة عن أوسلو والتزاماته , حيث استثنت هذه القوى “طرفي الانقسام” من هذه الرؤية الوطنية وحافظت على المسافة المطلوبة منهما , ومثلت هذه الرؤية الرادع والمتطلب الوطني في مواجهة الاستمرارية في ” المهزلة السياسية” لطرفي السلطة الانقسامية, ولكن الارتهان على التغيير في سياسات مكونات “قطبي السلطة” ودعوتهم الى ” المباركة” والالتزام بهذه الرؤية دون الفاعلية الميدانية والسياسية المؤطرة جماهيريا ,هو من الوهم السياسي و الترف الفكري الغير قادر على قراءة الواقع وتكويناته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع الفلسطيني وتياراته السياسية.

لقد كان لولادة التحالف الديمقراطي الفلسطيني والرؤية السياسية للفصائل الثمانية , امكانية ان تفعل فعلها جماهيريا وسياسيا , وان تمثل القوة الأكثر حضورا ومصداقية من خلال التعبئة العامة للجمهور الفلسطيني واستنهاض روافعه وادواته الوطنية , في مواجهة ازمة وانتكاسة الحالة الفلسطينية المتردية, لكن واقع الحال يشير إلى ان هناك إشكالية في القراءة الموضوعية والتعامل مع فكر وسياسات شريحة ومكونات النظام السياسي الفلسطيني , رغم كل المحاولات التي كانت تستهدف طرح بعض التصورات والأفكار لفهم ومواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية البنيوية للمجتمع الفلسطيني، والتي سرعان ما تسقط في الخطاب المجرد والعموميات, وكأن المشكلة يمكن تجاوزها بالخطاب وليس بتكريس الفعل الثوري وصيرورته.

هذا الواقع المنظور يعكس العديد من الإشكاليات البنيوية والفكرية على مستوى تعامل القوى الفلسطينية مع واقع الحالة الفلسطينية وقواها (الطبقية والاجتماعية)، لأن تشكل الظواهر الاجتماعية والسياسية بما في ذلك نشوء الأزمات السياسية المرتبطة بها، تأتي في سياقاتها الموضوعية، وبالتالي فإن مواجهتها تستدعي بالضرورة العمل من أجل تأسيس سياقات واليات عمل وبنى بديلة في الميدان.

ان الرهان على التغيير في فكر وبنية الشريحة السائدة في السلطة الفلسطينية وسياساتها هو رهان نظري لا يمت بصلة لأية رؤية تحليلية علمية، ذلك، يستدعي مغادرة حالة “حرب المواقع الثابتة” عن بعد، الى “حرب الحركة والفعل والبناء” في المضمار، وهذا لن يتحقق الا إذا امتلكت القوى الفلسطينية الوطنية وخاصة قوى اليسار منها شروط” التجاوز الجدلي” للواقع القائم.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى