اصدارات الكتبالنظم السياسية المقارنةدراسات سياسية

عرض كتاب النظم السياسية والاجتماعية العالمية وتأثيرها على منظومة التعليم في المجتمع العربي

لو تأملنا مسيرة التطور التي طرأت على منظومة التعليم في المجتمع العربي بشكل عام خلال العقود السابقة سنجد أنها كانت تسير بشكل يكاد يكون موازياً لمسيرة التطور العلمي والحضاري في الدول المتقدمة، وإن كانت هناك فجوة بين خطي المسيرتين تؤكد دائماً تأخر المجتمع العربي عن غيره من المجتمعات المتقدمة. وهذا التخلف يعزى إلى الفترة الزمنية التي تفصل بين المرحلة التي يتم إنتاج مظاهر التقدم العلمي والحضاري فيها وبين المرحلة التي يتم إقرارها والأخذ بها في المجتمع العربي، باعتبارها منسوخة ومقلدة لما يتم إنتاجه في الغرب، وهي فترة تختلف في نفس الدولة من زمن لآخر ومن دولة إلى أخرى بحسب إمكاناتها وقدراتها وسرعتها في النسخ والتقليد!!

والغريب في هذه المعضلة، اللانهائية، والتي صنعناها بأيدينا وأغرقنا أنفسنا فيها حتى النخاع، أنها أفرزت العديد من الآراء والنقاشات والتجاذبات في الأوساط العلمية والتعليمية الأكاديمية والمهنية في المجتمع العربي، والتي تتباحث حول كيفية إصلاح منظومة التعليم من أجل اللحاق بركب الدول المتقدمة بالسرعة الممكنة والتقليل من مسافة التخلف بقدر الإمكان، بحيث أصبح المشهد وكأنه سباق مفتوح نحو وجهة علمية وحضارية محددة مسبقاً من قِبل الغير ولا خلاف عليها في الوقت الذي قد يكون في حقيقته سباقاً نحو الهاوية!!

وعند إمعان النظر في مفرزات التطور العلمي والحضاري الناتجة عن النظم السياسية والاجتماعية في الدول المتقدمة، والتي يتم استنساخها وتطبيقها في المجتمع العربي، سنجد أنها تعكس بشكل صارخ فلسفة تلك النظم وتُعبر بطريقة لا تقبل الشك عن المبادئ والقيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في مجتمعاتها، بحيث تؤدي إلى توليد المسارات العلمية المختلفة التي تتناسب معها وتتوافق مع طموحات وتطلعات مؤسسيها ومروجي أفكارها ومعتقداتها.

فالنظام الرأسمالي الغربي، مثلاً، ساهم في إفراز المسارات العلمية والتخصصات الأكاديمية التي تحقق في جوهرها أهداف وغايات الفكر الرأسمالي ذاته، ويكفي لتأكيد هذا الأمر ملاحظة انتشار علوم وتخصصات مثل “الاقتصاد والعلوم السياسية”، والذي يجعل من شقّي العلوم السياسية والاقتصادية مرتبطان ببعضهما البعض ويغذي كل منهما الآخر في الوقت الذي قد يرتبط فيه علم الاقتصاد بعلم الاجتماع بشكل أكبر وأعمق من ارتباطه بالعلوم السياسية ويعبر بالتالي عن خصائص المجتمع وثقافته السائدة بدلاً من اغترابه في حالة الاستنساخ، ويمكن والحالة هذه أن نتصور نشوء أقسام علمية وتخصصات جديدة على شاكلة “الاقتصاد والعلوم الاجتماعية”، أو حتى “العلوم السياسية والاجتماعية”، بحيث يتم من خلالها تخريج أجيال تستطيع وضع الحلول الاقتصادية وحتى السياسية التي تتناسب مع كل مجتمع بدلاً من استنساخها من الغرب!

كما تأثرت العلوم الإدارية بالفلسفة الرأسمالية أيضاً، بحيث أصبحت تخصصات الإدارة وإدارة الأعمال مرتبطة بشكل وثيق بالمجال التجاري بهدف تحقيق الأرباح أكثر من ارتباطها بالمجالات الحيوية الأخرى في المجتمع، ويتضح هذا الأمر من ملاحظة حصر تخصصات إدارة الأعمال في كليات التجارة مثلاً دوناً عن غيرها من الكليات، في الوقت الذي قد يحتاج فيه المجتمع العربي لتخصصات تستهدف تخريج أجيال تستطيع إدارة المؤسسات التعليمية والرياضية والثقافية بالطرق والأساليب المثلى وتحقيق أهدافها التربوية والرياضية والثقافية بما يتناسب مع خصائص المجتمع العربي بدلاً من التركيز على تحقيق الأهداف الربحية التجارية، بحيث نستطيع أن نرى تخصصات مثل “الإدارة وعلم الاجتماع” في كليات الآداب مثلاً، وما يمكن أن ينتج عن دمج العلوم الإدارية والاجتماعية بشكل عام في سائر الكليات الأخرى.

وعلى الجانب الآخر، ساهمت النظم المادية والاشتراكية الملحدة في تعرية العلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء والأحياء وعلوم الفلك والفضاء والعلوم الفلسفية وغيرها، من غطائها الإيماني، بحيث جرى تطويعها وإذابتها في وعاء الفكر المادي الذي ينظر إلى الكون على أنه ذات طبيعة مادية بحتة وليس على أنه من صنع الله سبحانه وتعالى يُسيره بقدرته الإلهية، بحيث أدى هذا الأمر إلى نشوء حالة من التخبط والاغتراب لدى شريحة كبيرة من العلماء في المجتمع العربي وانزوائهم عن ساحات البحث العلمي والتطوير والتنمية بكل أشكالها في مجتمعاتهم، بخاصة في المسائل العلمية المرتبطة بالمجتمع من الناحية الثقافية والدينية، وذلك بسبب تعمقهم في الجانب المادي المظلم لهذا النوع من العلوم والتي تم استنساخها كما هي من تلك النظم، في الوقت الذي كان ينبغي للمجتمعات العربية المسلمة أن تتمسك بالأساس والغطاء الفكري والثقافي الإيماني والديني لتلك العلوم وربطها ببعضها البعض من منطلق تطويعها لخدمة المجتمع بما يتناسب مع خصائصه والمحافظة عليه من الأفكار الشاذّة عنه ولحمايته من الخزعبلات والدجل والخروج عن المألوف الثقافي والديني من جهة، وكذلك من أجل الحفاظ على العلماء أنفسهم من مغبة التعمق في الجانب المظلم لتلك العلوم بدون تحصين ديني ثقافي من جهة أخرى.

والعجيب في هذه المسألة، أنها بدأت بصورة عكسية في عهد الريادة العربية والإسلامية، بحيث تم تصدير كل العلوم الطبيعية المبنية على أسس من الإيمان بالله وقدراته اللانهائية إلى الشرق والغرب، تلك الأسس التي تعزز مجتمعة ومتكاملة من مفهوم العلم والإيمان كوجهين لعملة واحدة، ولكن الغرب قام بعد ذلك باستثمارها لصالح تحقيق أهدافه وغاياته ونشر ثقافته ومعتقداته، من خلال إعادة تفكيكها وإنتاجها بشكلها الجديد بعد تعريتها من جوهرها وأهدافها الإيمانية الخالصة وتم بالتالي فصل العلم عن الإيمان، ويمكن التصديق على هذا التحول فقط بمقارنة تخصصات العلماء والباحثين في عهد الريادة العربية والإسلامية وملاحظة كيفية تنوعها لدى العالِم الواحد الذي كان يتقن معظم العلوم الطبيعية والإنسانية بشكل تكاملي مع العلوم الفقهية والدينية بطريقة جعلتهم قادرين على ربط العلم بالإيمان وحتى استنباط وإثبات المعجزات العلمية في القرآن الكريم بسهولة ويُسر، في حين تميّز العلماء الغربيين بتخصصاتهم العلمية المنفردة بعد تجريدها من الجوانب الإيمانية لتصبح في جوهرها وسيلة لتفريق العلم عن الإيمان ونشر الظلام والضلال بدلاً من أن تكون وسيلة لتعزيز تكاملهما ونشر النور والهداية!

ومن أكثر ما يؤرق الأوساط العلمية والثقافية والدينية في مختلف المجتمعات العربية والإسلامية ما يتعلق بالصراعات التي تحدث بين الدول الكبرى والنظم السياسية والاجتماعية الغربية بشكل عام حول العلماء المتخصصين في المجالات العلمية الدقيقة كعلوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء والأحياء والفلك والفضاء وغيرها من العلوم الطبيعية والفلسفية، بحيث أفرزت تلك الصراعات أساليب خفية ومتنوعة تستهدف إما إستقطاب مثل أولئك العلماء واستثمار إمكاناتهم لصالحها، أو القيام بما يمكن أن يتسبب لهم بالإحباط والعمل على تهميشهم وإبعادهم عن الساحة العلمية والثقافية في مجتمعاتهم بحيث يترتب على ذلك إضعافها وتهميشها إقليمياً ودولياً.

وبالرغم من أنهم قاموا بذلك بذريعة ربما تكون مشروعة في أخلاقيات الحروب الدولية لضمان التفوق العلمي والعسكري ومنعهم من المساهمة في تطوير الأسلحة الذرية والكيميائية والبيولوجية في بلدانهم، مثلاً، إلاّ أن الخسارة الحقيقية، والتي من المؤكد أنها لحقت حتى بتلك النظم أكثر من المجتمعات العربية والإسلامية، تمثلت في بعثرة وتشتيت الأسس العلمية للفكر الديني والمبادئ والقيم والمعتقدات الصحيحة التي يتبناها وجاءت رحمة للعالمين، باعتبار أن تلك الأسس تستند إلى المنطق والحجة العلمية والإعجاز العلمي الرباني أكثر من استنادها إلى أي شيء آخر، بحيث أدى إضعافها بطريقة تراكمية إلى اضمحلال القدرة على الفهم الحقيقي للقيم والمبادئ الأساسية لهذا الدين وانتشار الفهم السطحي له الذي تسبب في نشوء حالة من التجاذبات والانقاسامات وحتى الصراعات الدينية والمذهبية بأشكالها المتعددة بين مختلف الأمم والشعوب والقوميات، بالرغم من أنه جاء رحمة لها ويدعو في جوهره إلى النور والإرتقاء بالأخلاق الإنسانية والتنمية في جميع المجالات وفي كل العصور.

وخلاصة القول، أن التفكيك والتشتيت العلمي، الأكاديمي والمهني، الذي أصاب صميم منظومة التعليم في المجتمع العربي نتيجة تأثره بالنظم السياسية والاجتماعية المختلفة والتقليد والاستنساخ تسبب بشكل عام في تفكيك منظومة العلم والمعرفة برمتها وجعلها تبدو وكأنها مجموعة من القطع المبعثرة التي قل ما تجتمع وتتآلف ويستحيل أن ينتج عنها حالة من حالات الريادة أو السبق العلمي والحضاري القائم بذاته والذي يمكن تصديره إلى الخارج مثلما كان يحدث في العصور السابقة.

علاوة على ذلك، فإن هذا التفكيك والتشتيت العلمي انعكس على المجتمع العربي برمته، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات المتخصصة أو حتى على مستوى الدول نفسها، وباتت سمة الفرقة والتشتيت هي السمة الغالبة في المجتمع العربي بكل تفاصيله، ليس بسبب الاختلافات الاعتيادية في الرؤى أو وجهات النظر بين البشر بقدر ما هي بسبب اختلاف الأسانيد والحجج العلمية والمنطق العلمي الذي تتأسس عليه تلك الرؤى، بطريقة تجعلها أكثر حدة وعصبية وتشدداً، طالما أنها رؤى تستند إلى تخصص علمي واحد فقط من التخصصات العلمية المتعددة التي جرى تفريقها وتشتيتها.

أما فيما يخص اللغة، فقد جرى تحييد اللغة العربية عن منظومة التعليم في المجتمع العربي بشكل عجيب، بل وصل الأمر إلى حد إهمالها نهائياً في بعض التخصصات الأكاديمية المستوردة، وبطريقة أشبه ما تكون بعملية فصل وتغييب للذاكرة الإنسانية بل وتحطيم متعمد للقدرات التحليلية والمنطقية ومهارات المعالجة الأساسية التي توفرها اللغة الأم للفرد الذي يتحدث بها، بالرغم من أنها تعتبر من أهم الحاجات الذهنية اللازمة في مسيرة البحث العلمي تحديداً، بحيث ساهم هذا الأمر في تحولها تدريجياً إلى مسيرة طويلة من النسخ والتقليد الأجوف الخالي من الإبداع والابتكار، والذي لا يسمن ولا يُغني من جوع، ولا يقدم حلولاً مناسبة لمشكلات المجتمع نابعة من شخصيته وثقافته المميزة له!

وبالرغم من أن الكثير من الدول الغربية قد ساهمت بشكل مباشر، أو ربما غير مباشر، في هذا التحول السلبي في المسيرة العلمية والبحثية في المجتمع العربي، من منطلق حرصها المشروع على توسيع انتشار اللّغات الأم المستخدمة في أوطانهم وضمان انتشار استخدامها حول العالم، إلاّ أنها أخفقت، بكل تأكيد، في التقدير الإستراتيجي لهذه الرؤية، بحيث أنها ساهمت بشكل لا يقبل الشك في زيادة المتحدثين بتلك اللغات بدون إتقان حقيقي لها أولاً، والذي لا يتأتى إلاّ بتعلم اللغات الأجنبية باستخدام اللغة الأم، كما ساهمت في زيادة المتحدثين بها على حساب زيادة قدرات الإبداع والابتكار لديهم، حتى أصبحوا عبئاً إضافياً على المجتمع الدولي الذي يبادر من حين لآخر في تقديم العون المادي والعلمي والطبي لهم دون جدوى، وأصبح المشهد وكأنه أشبه بعملية نشر للجهل والتخلف والمرض والجوع في تلك المجتمعات بدلاً من نشر اللغات الأجنبية والعلم والمعرفة التي يمكن أن تساهم في الحد منها.

ويكفي للتصديق على هذا الأمر الملاحظة الإحصائية لكم الدول والمجتمعات التي تحولت فيها اللغة الرسمية إلى اللغات الأجنبية لمستعمريها سابقاً بدلاً من اللغة الأم خاصتها، واستنتاج مدى ما تعاني منه حالياً تلك المجتمعات من وابل من المشكلات الإنسانية التي لا حصر لها، مثل دول أفريقيا التي تعاني من مشكلات الفقر والجهل والمرض والجوع، في الوقت الذي تمتلك فيه أكبر الثروات الطبيعية في العالم. كما أنه بالمقابل يمكن ملاحظة دول أخرى، آسيوية، تمسكت بلغتها الأم وثقافتها الخاصة وباتت تتقدم جميع الأمم علمياً وحضارياً، وحتى أخلاقياً، بالرغم من شحة الموارد الطبيعية فيها وكثرة الكوارث الطبيعية وبالرغم من أنها بدأت من ما وراء القنابل الذرية!

وفي قطاع التقنية والمعلوماتية، المحتل كلياً، كان ظهور الحاسوب وانتشار استخدامه وما ترتب عليه من اكتشافات واستخدامات عديدة طالت معظم جوانب الحياة اليومية الواقعية، وحتى الافتراضية على الإنترنت، بمثابة السبق العلمي والحضاري والاجتماعي لدول الغرب والذي جعلها تمتلك الأرضية التي يتم البناء عليها في هذا المجال، علاوة على امتلاكها لزمام المبادرة لمسارات التحديث والتطوير التكنولوجي بشكل عام في شتى المجالات وفي كل المجتمعات، وقد ارتضى المجتمع العربي، طوعاً، بأن يكون مستهلكاً لطيفاً وظريفاً لها، يساهم في زيادة الثروة المادية لمالكيها من جهة، ويقدم الثروة المعلوماتية الخاصة بنشاطهم وسلوكهم الافتراضي لهم على طبق من فضة من جهة أخرى!.

وفي الوقت الذي يُعتبر فيه التحول الرقمي في الدول المتحضرة وسيلة أساسية، وضرورية، للارتقاء بالمجتمع ويساعد في توفير أساليب الإدارة الحديثة وتحديث آلية العمل والإنتاج والتطوير والرقابة المبنية على أسس معلوماتية ومعرفية، كما يعمل على توفير الوقت والجهد وتعزيز التواصل العلمي والفكري والاجتماعي الإيجابي الهادف للارتقاء بمنظومة التعليم وحل المشكلات القائمة في المجتمع بشكل عام، إلاّ أن هذا الأمر بدا معكوساً في المجتمع العربي، فقد بات التحول الرقمي مجرد غاية يسعى إليها المجتمع لا تعدو أن تكون مجرد نمط استهلاكي شكلي في كثير من المواضع ويندر استخدامه في تحسين أساليب الإدارة والعمل والإنتاج والارتقاء بها أو حتى من أجل توفير الوقت والجهد، كما اتخذ التواصل الرقمي العلمي والفكري والاجتماعي منحىً سلبياً في المجتمع العربي بحيث ساهم في انتشار النسخ والتقليد والسرقات العلمية ومن ثم اضمحلال القدرة على الإبداع والابتكار، كما ساهم في تأجيج الصراعات الفكرية والاجتماعية في المجتمعات أكثر من مساهمته في حلها!

وعلى الصعيد الإنساني، فإنه يمكن بقليل من التأمل ملاحظة التحولات الإستراتيجية الخطيرة التي طالت فلسفة الفكر التعليمي في المجتمع العربي، بحيث أثر هذا التحول على منظومة التعليم برمتها بكل ما تحمله من أهداف وغايات وآفاق فلسفية بعيدة المدى، فبعد أن كان التعلّم بمثابة نشاط إنساني دعى إليه الخالق سبحانه وتعالى من أجل ارتقاء الإنسان ورفعته ومنحه القدرة على سبر غمار الكون وتأمله والإيمان بوجود الخالق وبقدرته، ومنحه القدرة على تطويع وإصلاح الأرض التي استخلفه الله فيها والاستفادة من  ثرواتها لصالحه، تحول شيئاً فشيئاً إلى مجرد وسيلة للفرد من أجل الحصول على الشهادة والوظيفة ومن ثم تحقيق الربح المادي بأي شكل من الأشكال، حتى وإن كان من خلال دراسته لتخصصات غير مرغوبة ولا تتناسب مع ميوله وقدراته ومهاراته أو حتى إرادته، بحيث تحولت مسألة التعليم إلى مجرد مظهر اجتماعي يحقق مقتضيات الحياة للفرد ويدعم استمراريتها، وفقدت بذلك عملية التعلم أهم ما يميزها كنشاط إنساني، والذي يُفترض أنه يتأسس على إرادة النشاط نفسه مثل سائر الأنشطة الأخرى، كالأكل والشرب مثلاً اللذان يسدان حاجتي الجوع والعطش!

ولم يكتفِ المجتمع العربي بهذا التحول في فلسفة الفكر التعليمي الذي امتد لعشرات العقود تقليداً لفلسفة الغرب المادية الربحية، بل امتد هذا الأمر ليواصل التحول في الأهداف والغايات ووصلت إلى الرغبة في “الشهرة” حتى لامست حد الهوس بها بحيث أصبحت غاية يسعى إليها معظم الناس حول العالم، متأثرين في ذلك بحالة التواصل الإليكتروني العالمي وما نتج عنه من زيادة الطلب على مسألة الشهرة بأي ثمن وتحت أي ظرف من الظروف، وبشكل أدى إلى إهمال الحاجة للتعليم أصلاً، بحيث حلت الحاجة إلى الشهرة محل كل الحاجات الثانوية الأخرى، الربحية والاجتماعية، باعتبارها يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيقها، في وقت أقصر وبمجهود أقل!

ولكن العجيب في هذا الأمر أنه في الوقت الذي انتشر واستشرى فيه وباء “الشهرة” وحل تدريجياً محل وباء “الشكل الاجتماعي” في المجتمع العربي وما نتج عنه من خلخلة في منظومة التعليم برمتها، كانت فلسفة التعليم في دول الغرب تتحول، خلسة، من فلسفة مادية ربحية اجتماعية إلى فلسفة تتحدى كل الشكليات والمظاهر الاجتماعية وتتخطى كل الحدود وتستند على أسس من الحرية والابتكار والإبداع والإنتاج والمغامرة المحسوبة عوضاً عن الاكتفاء بالحصول على الشهادات الأكاديمية، بحيث ساهم هذا التحول في إحداث طفرة علمية وسبق حضاري عالمي لم يسبق له مثيل وتخطى كل الحدود، ويمكن استشعار ذلك التحول الإستراتيجي من مسيرة بعض رواد الأعمال المتميزين وأصحاب الشركات العالمية الكبرى في تلك الدول، الذين تركوا مقاعد الدراسة مبكراً في جامعاتهم وفضلوا السير في مسيرة حرية الابتكار والإبداع والمغامرة بعيداً عن الشكليات والمظاهر التي لا يكترثون لها ولا يهتمون بها بقدر اهتمامهم بأنفسهم أولاً وبحاجاتهم الحقيقية للإبداع والابتكار وتحقيق الإنجازات التي تخطت كل ما يمكن أن يتم تصوره من إنجازات شكلية تقليدية، والتي وصلت إلى حد المساهمة في تغيير العالم ليصبح مكاناً أفضل لكل الأمم والمجتمعات، باستثناء المجتمع العربي!

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فيجدر القول بأنه بالرغم من كل السلبيات التي طغت على مسيرة التعليم في المجتمع العربي نتيجة تأثرها بالنظم السياسية والاجتماعية الغربية، إلاّ أن هناك جانباً ظل مضيئاً في هذه المسيرة، وهو الجانب المتعلق بالعلوم القانونية، بحيث تمسك المجتمع العربي حتى وقت قريب بسمة الريادة في هذا المجال سواء على صعيد التميز الفردي لبعض علماء وفقهاء القانون العرب عموماً والمصريين على وجه الخصوص أو على صعيد التميّز والتنوع في  مسيرتهم البحثية وإنتاجهم القانوني وتأثيره الإيجابي على دول الغرب في العقود السابقة، والتي كانت بمثابة المنارة القانونية التي تُشع بنورها ليصل إلى كل مكان حول العالم، وإن كان هذا الأمر قد اتخذ طريق الاضمحلال في العقود الأخيرة نتيجة التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أحاطت بالمجتمع الدولي والعربي وما نتج عنها من إفرازات أدت إلى نشوء حالة من الاسترخاء البحثي القانوني ومن ثم التراجع والابتعاد عن الصدارة والريادة في هذا المجال.

في الواقع، إن حقيقة هذا التميز والريادة في مجالات العلوم القانونية في المجتمع العربي يستند في جوهره إلى قوة اللغة العربية أصلاً والمنطق اللغوي الذي تمتلكه هذه اللغة والذي يُعتبر هو الأساس الخفي لتميّز المنطق القانوني لفقهاء القانون العرب في تلك الحقبة، كما ساهم ارتباط العلوم القانونية ومصادر القانون بشكل عام في المجتمع العربي بالشريعة الإسلامية، إضافة للّغة العربية، في جعلها من العلوم الرائدة عربياً وعالمياً، والتي من الصعب أن تتأثر بالنظم السياسية والاجتماعية الغربية كغيرها من العلوم الأخرى التي خلعت عبائتي اللغة والإيمان، وذلك لأنها ظلّت من العلوم النابعة من عمق المجتمع العربي ومحتفظة بأصالته وفلسفته وثقافته ولغته الأم، وقد يعزى أي قصور ظاهر وتراجع في الريادة في عصرنا الحالي إلى أسباب أقرب لأن تكون ثانوية، كتلك المرتبطة بالأساليب والأدوات المستخدمة في التعليم والبحث العلمي في مجالات العلوم القانونية بشكل أكبر من ارتباطها بالتغير السلبي في الفكر والفلسفة العلمية التي تأسست عليها تلك العلوم.

وإذا استطعنا النظر لمسألة تبعية المجتمع العربي علمياً لدول الغرب ونسخه وتقليده الأجوف لكل ما يأتي من تلك الوجهة من منظور ثقافي اجتماعي، سواء ما هو سلبي بطبيعته أو حتى ما هو إيجابي ويتم استخدامه بشكل سلبي، فإنه يمكن ملاحظة ما تسببت به تلك التبعية من إفساد للثقافة العلمية الاجتماعية في المجتمع العربي، إضافة لتسببها بفقدان القدرة على الابتكار والإبداع، بحيث أدت بشكل خفي إلى تغييرها وتبديلها من ثقافة جوهرها الاحترام المتبادل والثقة والتعاضد والتكاتف والتعاون بين العلماء من أجل رفعة راية العلم وتحقيق أهدافه السامية مع التحلي بالمبادئ والأخلاقيات النبيلة والفروسية العلمية والمنافسة الصحية التي تجعلهم يتبارون أمام الله سبحانه وتعالى ممسك السموات والأرض، مع اعتقادهم المُفرح بأنه يرى أعمالهم ويقيّمها ويجزيهم عنها في الدنيا والآخرة، إلى ثقافة جوهرها يحمل الكثير من السمات والأخلاقيات غير المحمودة والتي تأسست على الفرقة والتباعد العلمي والتشكيك والتنافس المَرَضي الدنيوي بين العلماء أمام دول الغرب ممسكة العلم والحضارة الأصلية التي يتم استنساخها وتقليدها في المجتمع العربي، مع اعتقادهم المؤسف بأنها هي من تقيّم أعمالهم وتُجزيهم عنها دنيوياً، في الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون العلماء العرب والمسلمين هم المنارة العلمية والبوصلة المهمة لتلك الدول لإخراجهم من الظلمات إلى النور!

وإذ يقتضي الإنصاف التسليم بأننا ندين بالتقدم العلمي والحضاري في العصر الحديث لدول الغرب التي بذلت كل ما بوسعها على مر عقود من الزمان حتى أوصلت العالم أجمع لما نحن عليه الآن من تطور في كافة المجالات بطريقة تتناسب مع ما تأسست عليه ثقافتهم وفلسفتهم في الحياة والغايات المرجوة منها وتقديسهم وحبهم لها ولما فيها من ملذات مؤقتة ورؤيتهم تجاه الكون ودوافعهم الحقيقية للسير في خطى سبر غماره، الإيجابية أو السلبية، إلاّ أن كل ذلك، بل وكل ما سوف يأتي من تقدم وتطور في المستقبل، قد لا يُضاهي عند الله سبحانه وتعالى لحظة واحدة من لحظات التأمل والتفكر في الكون التي قد يقضيها رجل حكيم يجلس في خيمة تقبع في الصحراء بعيداً عن كل العلوم والحضارة التي صنعها الغرب وينسخها ويقلدها المجتمع العربي بدون تدبّر أو تفكير!

أما على صعيد الفكاهة والترفيه فقد تأثرت العلوم والفنون والآداب العربية بشكل عام بالنكهة المادية الجامدة للنظم السياسية والاجتماعية الغربية، بحيث جعلها تفقد شيئاً فشيئاً اللمسات والسمات الفكاهية التي كانت تغلفها ودفعها باتجاه الجمود المادي الذي يخلو من أية فكاهة أو ظرافة كانت تتميز بها في العصور السابقة، كما تأثرت الشخصيات العلمية والأدبية بنفس الصبغة وأصبحت شخصيات العلماء والأدباء أكثر جموداً وبعداً عن الفكاهة والظرافة وباتوا وكأنهم ينفّرون أفراد المجتمع من العلوم والآداب بدلاً من المساهمة في جذبهم لها، كما أن هذا التأثير قد طال كل أفراد المجتمع بجميع فئاته وشرائحه كنتيجة طبيعية للتأثر بالفكر الغربي المادي الذي أحاط بكل تفاصيل حياتهم اليومية.

وقد تسببت هذه النقلة في خسارة كبيرة في مجالات العلوم والأدب العربي بشكل خاص تمثلت في فقدان الحس الفكاهي الترفيهي الذي يمكن أن يساهم في توضيح الأفكار العلمية والأدبية وترسيخها في الأذهان بطرق إبداعية كما يمكن أن يساهم في تغذية المنطق العلمي واللغوي وتوسيع الآفق والخيال العلمي والأدبي، ويجعل من المعرفة أمراً شيقاً وأكثر وضوحاً وانسيابيةً ويسهّل وصولها إلى عقل وقلب المتعلم المتلقي لها بطريقة تساعد في تعزيز قدرته على الإبداع والابتكار عوضاً عن تراكمها وحفظها بشكلها الجامد كالآلة الصمّاء وبطريقة مؤقتة تؤدي إلى نسيانها بعد فترة وجيزة تشبه ما يحدث للطلاب بعد أداء الامتحانات النهائية في المقررات الدراسية.

والعجيب في هذه المعضلة أن الحس الفكاهي والترفيهي كان سمة شائعة في المجتمع العربي والإسلامي في العصور السابقة، حتى أنه كان سمة مميزة لكثير من الأدباء والشعراء التي تميّزهم عن غيرهم من الأدباء الأكثر جدية نسبياً، وحتى الكثير من الأنبياء اتسموا بالحس الفكاهي في كثير من المواقف بالرغم من عظمة رسالاتهم ومهماتهم الجسيمة التي كانت تقع على عاتقهم تجاه البشرية جمعاء، بل أن القرآن الكريم نفسه، بعظمته وبكل ما فيه من إعجاز علمي وإبداع بلاغي، لم يخلُ من صور الفكاهة والإشارات المتكررة لتفضيل الضحك على الحزن في كثير من المواضع للدرجة التي خصه فيها ووصفه بأنه سوف يكون هو السمة المميزة لوجوه المؤمنين الفائزين بالجنة بالرغم من كل ما فيها من نعم لا تُعد ولا تُحصى!

وفيما يرتبط بالتنمية الأخلاقية والتربية الحَسَنة، التي تتبناها مؤسسات التربية والتعليم بشكل خاص، فقد تأثرت هي أيضاً بالنظم السياسية والاجتماعية الغربية ذات الطابع الشكلي والمادي، بحيث جعلتها ترتبط شيئاً فشيئاً بالمظهر الاجتماعي والمستوى الاقتصادي للفرد بشكل أكبر من ارتباطها بالسلوك والقيم والمبادئ الأخلاقية التي يحملها، وتحولت بذلك إلى مؤشر يدل على مستوى التربية والرُقي الأخلاقي بالرغم من أنه قد يعمل بشكل عكسي في كثير من الأحيان، بخاصة في المجتمعات العربية ذات الطابع الشرقي المحافظ!.

وقد تجلت هذه المعضلة التربوية الاقتصادية أكثر ما يمكن في المجتمعات التي يتوفر فيها التعليم الحكومي المجاني، بحيث أصبح فيها الإقبال على مؤسسات التعليم الخاص، ذات التكلفة المرتفعة نسبياً، وسيلة سهلة من وسائل إبراز المقدرة الاقتصادية للمقبلين عليها، بطريقة تُشبه إلى حدٍ كبير عملية شراء المنتجات العالمية ذات العلامة التجارية الشهيرة، حتى وإن كانت جودتها أقل من جودة المنتج المحلي أو حتى لو كانت لا تتناسب مع خصائص وسمات المجتمع وثقافته السائدة.

وقد تسببت هذه المعضلة في تخريج أجيال كثيرة يمكن اعتبارها نُسخ هشّة مقلدة من أجيال الغرب ولكنها مُنتقاة وفق مقاييس اقتصادية محددة مسبقاً، بحيث أنها تُمثل الامتداد الخفي للغرب الأجنبي في المجتمع، سواء من حيث إتقان اللغة الأجنبية أو الميول والاهتمامات العلمية الأكاديمية والمهنية الغربية أو من حيث أسلوب الحياة والميول الاستهلاكية لما ينتجه الغرب من منتجات يكون بمقدورهم شراءها طالما تنطبق عليهم تلك المقاييس الاقتصادية، بل والأكثر من ذلك يكون بمقدورهم اعتياد هذا السلوك الاستهلاكي على المدى البعيد أكثر من غيرهم ممن لا تنطبق عليهم تلك المقاييس.

ويبقى الجانب المضيء في هذه المعضلة المركّبة أنها لم تؤثر على المبدعين والمتميزين من طلاب المؤسسات التعليمية المجانية أو شبه المجانية، بحيث استطاعوا التفوق بالإجمال على طلاب المؤسسات التعليمية الخاصة، وهذا ما تُظهره الملاحظة الإحصائية التي تبين تكرار تفوقهم وتميزهم واعتلائهم للمراكز الأولى في نتائج الامتحانات النهائية بالرغم من أنهم قد يحتلون المراكز الأخيرة وفقاً للمقاييس الاقتصادية والاستهلاكية الغربية!

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى