دراسات سياسية

عملية سلفيت.. الدلالات، والتحديات، والتداعيات

بقلم: العميد/ أحمد عيسى

المدير السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي

هزت عملية سلفيت الفردية المركبة التي نُفذت يوم الأحد الموافق 17/3/2019، بالقرب من مستوطنة أرييل كبرى المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية (المقامة على اراضي محافظة سلفيت الفلسطينية) المجتمع الإسرائيلي برمته بما في ذلك المستويين السياسي والعسكري، الأمر الذي يستدعي قراءة هذه العملية من حيث: دلالاتها، وما ستخلقه من تحديات للمستويين العسكري والإستخباري، وما سيكون لها من تداعيات على المؤسسة العسكرية والاستخبارية الاسرائيلية من جهة، وعلى المستوطنين والأحزاب السياسية الناطقة باسمهم من جهة ثانية، وعلى الفلسطينيين من جهة ثالثة.

فمن جهة الدلالات فيتجلى أهمها في الانطباعات التي ولدتها هذه العملية لدى أصحاب القرار في  المجتمع الاسرائيلي بأن الفلسطينيين عامة والجيل الذي ينتمي اليه منفذ العملية (ابو ليلى) خاصة، هو جيل لا يبدو أنه يأس أو أصيب بالاحباط والملل من طول فترة احتلاله، وهو جيل لا يمكنه قبول الأمر الواقع، والإستسلام للظروف مهما كانت قساوتها، كما أنه جيل غير قابل للإنكسار والهزيمة، أو السكوت والاستكانة، لا سيما وهو يرى بأم عينيه صبح مساء جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين يصادرون الأرض ويقتلون الأبرياء وينتهكون الحرمات والمقدسات، خاصة المسجد الأقصى المبارك وغيره من المقدسات الاسلامية والمسيحية.

وأكدت هذه العملية من جهة أخرى أن انزياح الفلسطينيون نحو المبادرة الفردية في الاشتباك مع الاحتلال بعيداً عن التنظيمات الفلسطينية المتعددة والمختلفة حول طبيعة الاشتباك مع الاحتلال قد أصبح ظاهرة متنامية، الأمر الذي يضع كثير من التساؤلات التي تحتاج الى دراسة وتفسير من قبل علماء الاجتماع السياسي لفحص أثر هذه الظاهرة على مدى تأثير التنظيمات الفلسطينية في توحيد المجتمع الفلسطيني حول استراتيجية واحدة.

وعلاوة على الدلالات الموضحة سابقاً فهناك دلالات أخرى كامنة في: سياق العملية،  وتوقيت ومكان حدوثها، وأخرى متضمنة في الجهات التي استهدفها رجل العملية، والأسلوب الذي استخدمه في التنفيذ.

فمن حيث السياق، تُبرز العملية المدى الذي بلغته موجة العمليات الفردية (الطعن والدهس) التي كان قد دشنها مهند الحلبي في اكتوبر العام 2015، ثم وضع بصماته عليها كل من باسل الأعرج، وأحمد جرار، واشرف نعالوة، والأخوين برغوتي، وغيرهم العشرات من الشهيدات والشهداء الذين كان لهم بصماتهم في هذا المسار، مما يدلل على أن مسببات هذه الموجة وما أكثرها، لا زالت حاضرة وفاعلة ومتصاعدة في الواقع، الأمر الذي يسمح بالقول أنه كلما ظلت هذه الأسباب حاضرة وفاعلة، كلما أخذت هذه الموجة في التطور والتنامي على الرغم من كل إجراءات الأمن المضادة.

ويعتبر عامل التوقيت من أهم الأدلة على صحة الاستنتاج السابق، حيث نُفذت العملية في الوقت الذي تُشعل فيه كل مكونات المؤسسة الاستخبارية الإسرائيلة الضوء الأحمر، للإشارة الى أن التحذيرات التي تحذر من حدوث هكذا عمليات قد بلغت ذروتها، وعلى الرغم من كثافة هذه التحذيرات التي تعدت عشرات التحذيرات وفقاً للمصادر الاعلامية الاسرائيلية، ينجح الفتى (ابو ليلى) في تحقيق مراده بهدوء وثقة لافتتين، الأمر الذي يعني أن كل إجراءات حالة الطوارئ والاستنفار المعلنة من قبل الجيش، لم تنجح في وقف ومنع  من قرر منفرداً من الفلسطينيين الاستشهاد دفاعاً عن كرامته وأرضه وممتلكاته ومقدساته.

ومن حيث الجهات التي استهدفها المنفذ حتى وان غاب عنها التخطيط المسبق، فالنتيجة في كل الأحوال واحدة، حيث نجح منفرداً في قتل وجرح افراداً من المستوطنين والجيش الذين تواجدوا في المكان لحماية المستوطنين وتوفير الأمن لهم، الأمر الذي يعني أن الخلاص من الإحتلال بجيشه ومستوطنيه هو الهدف، وأن  الفلسطينيين سيظلوا يقاومون الاحتلال والاستعمار والاستيطان الى أن ينالوا حقهم في الحرية والاستقلال والعيش الكريم اسوة بباقي الشعوب التي تسعى للعيش بسلام واستقرار.

أما من حيث الأسلوب فيبدو واحداً في كل الحالات، اذ يغلب عليه الطابع الفردي، والتسلح بسكين مطبخ لا يخلو منه بيت ومتوفر في كل محل، الأمر الذي يعني ان اي فلسطيني في الضفة الغربية يمكنه أن يحذو حذو ابو ليلى ومن سبقه على هذا الدرب.

ومن جهة التحديات، فيتجلى أهمها في التحديات الكامنة في الإجابات التي ستعكف الاستخبارات الاسرائيلية على تطويرها لأسئلة من نوع: من هو المرشح من هذا الجيل ليكون ابوليلي القادم؟ ومتى سينفذ هجومه؟ وأين؟ وكيف سيكون التنفيذ؟ وكم سيستنفذ هذا الوضع من ممكنات الجيش في لحظة هو أحوج ما يكون فيها لتركيز كل ممكناته على الجبهات الشمالية والجنوبية التي تشهد في الوقت الراهن أعلى درجات التوتر؟ وهل يمكن للجيش وحده تأمين الحدود الخارجية، والانتصار في نفس الوقت على كل الأسباب المحركة لهذه الموجة كما يطالبه اليمين الحاكم علناً؟ واذا كانت الاجابة لا فما هو الحل؟

وفي شأن البحث عن الحل، تكمن معضلة الاحتلال الاستراتيجية، اذ حرص منذ بداية احتلاله لفلسطين العام 1948 على عدم استنفاذ طاقات وجهود الجيش في مواجهة الفلسطينيين على الأرض الفلسطينية، فيما ينشغل في معالجة التهديدات على حدوده الخارجية، وفيما نجح الجيش بالمحافظة على هذه المعادلة طوال العقود السبع الماضية، إلا ان قراءة الواقع المحلي والاقليمي للإحتلال في الوقت الراهن تظهر أن هذه المعادلة قد بأت بالتآكل والاختلال، اذ فيما تبلغ التوترات على حدود الدولة الشمالية والجنوبية ذروتها، ينهمك الجيش في مواجهة موجة غضب فلسطيني متصاعدة في الضفة الغربية منذ العام 2015.

وفي هذا السياق من المتوقع أن تحتل هذه المعضلة مساحة في الجدل الاسرائيلي الداخلي أوسع من المساحة التي تبدو عليها الآن، وذلك تأسيساً على حقيقة مفادها أن العقل الاستراتيجي لقوى اليمين التي تهيمن على مفاصل الدولة في المرحلة الحالية لا يبدو مهيأ للتسليم بوجود هذه المعضلة نتيجة لتأسيس تفكيره في ما يتعلق بمكانة اسرائيل الاستراتيجية في المنطقة على تفوق اسرائيل العسكري والاقتصادي والنوعي على الفلسطينيين والعرب، وقناعته بالتالي أن أي تحول في الواقع الجيوسياسي في المنطقة لن ينطوي على تهديدات وجودية للدولة طالما ظلت تحتفظ بتفوقها الاستراتيجي.

وعلى الرغم من انكشاف خطأ هذا التفكير وعدم تمكنه من قراءة المتغيرات وتشخيص التهديدات الداخلية والخارجية بصورة صحيحة، الأمر الذي يمكن الاستدلال عليه من خلال مراجعة تقرير فينوجراد العام 2007، الذي درس نتائج حرب العام 2006 على حزب الله في لبنان، وكذلك من نتائج الاعتداءات المتكررة على قطاع غزة في سنوات 2008، 2012، 2014، لا سيما تقرير مراقب عام الدولة العام 2017 الذي درس نتائج حرب العام 2014 على قطاع غزة، إلا أن اليمين المهيمن على الدولة منذ أكثر من عقد لا زال يدير الدولة ويواجه التهديدات بنفس العقلية، ويتجلى ذلك بوضوح في استمرار توجيه قوى اليمين انتقاداتها للجيش واتهامه بالتقصير لعدم تحقيقه نصر حاسم على الفلسطينيين باستخدام مزيداً من القوة التي تجبرهم على الاستسلام.

وتظهر نتائج استطلاعات الرأي التي نُفذت في اسرائيل في الأونة الأخيرة بمناسبة انتخابات الكنيست ال 21، أن المجتمع الاسرائيلي يشهد مزيداً من الانزياح نحو اليمين، وقد بلغ هذا الانزياح الى الحد الذي سمح لبعض مكونات هذا اليمين (اليمين الجديد) التبجح باعتناق قيم فاشية وعنصرية، الأمر الذي سيعبر عن ذاته بالمزيد من الاعتداءات على المقدسات والممتلكات، والمزيد من الاستيطان وأعمال التهويد في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

ومقابل ذلك سيشهد المجتمع الفلسطيني مزيداً من الانزياح نحو نماذج: ابو ليلي، والاخوين برغوتي، ونعالوة، وغيرهم من الاسماء التي تصدرت مؤخراً عناوين النقاش الفلسطيني الداخلي في المنازل والمدارس والجامعات والأماكن العامة.

أما من جهة تداعيات العملية على جيش الاحتلال والمستوطنين فترى هذه المقالة أنها ستكون على مستويين، المستوى الأول منها عاجل وسريع، والثاني بعيد المدى، ويتضمن كل منهما نوعين من التداعيات، الأول مرئي وملموس، والثاني بعيد عن الأضواء وغير ملموس.

أما من حيث المستوى الأول الاني والمرئي فسيتضمن ابتداءً تغيير قواعد اطلاق النار من قبل جنود الجيش والمستوطنين المنتشرين في الضفة الغربية، حيث ستعطى السلطة التقديرية لكل أفراد الجيش والمستوطنين، اي اطلاق النار بهدف القتل بناء على التقديرات الخاصة للجندي والمستوطن، اذا ما قدروا أن حركة الفلسطيني في المكان تنطوي على تهديد يستدعي القتل، الأمر الذي عبرت عنه بوضوح حوادث اطلاق النار التي اعقبت عملية سلفيت من قبل جنود من جيش الاحتلال على ثلاثة شبان فلسطينيين في العشرين من عمرهم في محافظتي نابلس وبيت لحم مما أدى الى مقتلهم وإصابة اخرين غيرهم.

كما سيشمل هذا المستوى من التداعيات تنفيذ حملات اعتقال واسعة في صفوف الفلسطينيين من قبل الأجهزة الأمنية الاسرائيلية، لا سيما في صفوف الشباب بغية تعزيز الردع في صفوفهم، ثم لغايات جمع معلومات قد تساعد أجهزة الاستخبارات في تحديد نماذج محتملة لعمر ابوليلى.

ومن حيث الجانب غير المرئي في هذا المستوى فيتمثل في جملة التغييرات المتوقع أن يجريها الجيش وأجهزة الامن المتعددة العاملة في الضفة الغربية وربما في المنطقة الوسطى في صفوف القيادات العليا للجيش وأجهزة الأمن المختلفة.

أما من حيث التداعيات على الفلسطينيين متوسطة وبعيدة المدى فيمكن الاستدلال عليها من خلال قراءة تعليقات الشباب الفلسطيني على شبكات التواصل الاجتماعي التي عبر مضمونها عن مدى الاعجاب والاعتزاز بالشهيد ابو ليلى، الأمر الذي يجعل منه النموذج القدوة، واذا ما اقترن ذلك بنتائج استطلاعات الرأي الصادرة عن كثير من المؤسسات الفلسطينية وغير الفلسطينية، والتي تشير جميعها الى أن المؤشرات الدالة على فقدان ثقة الفلسطينيين بالتسوية السياسية وفق مبدأ حل الدولتين آخذة في التمدد والصعود أفقياً وعمودياً، الأمر الذي ينطوي على تحديات قد تُفقد السلطة الوطنية الفلسطينية سيطرتها على الشارع الفلسطيني، وهذا ما يجب أن يخشاه العقلاء سواء الفلسطينيون، أم اليهود في اسرائيل وخارجها.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى