قضايا فلسفية

عن العلاقات الخارجية للدولة المهدية بالحبشة (1885- 1899)

د.محمد عبدالرحمن عريف

  جاءت البداية عندما كانت الدعوة المهدية ومنذ انطلاقتها في العام (1881م) تسعى إلى الانتشار خارج السودان، وقد كان الامام المهدي يقسم العالم الاسلامي إلى فرقتين الأولى مؤمنه بالمهدية والثانية كافرة بها لذلك قال: الامام المهدي أن كل من لا يؤمن بالمهدية فهو كافر. 

  أصبحت الحبشة دار حرب لأن الامام المهدي يرغب في أن تصل الدعوة المهدية لكل بقاع العالم ومن الاشياء التي أثرت وبصورة مباشرة في علاقة المهدي بالحبشة مساعدة الاحباش للحاميات على الحدود وتحديدًا حامية القلابات وبهذا العمل تصبح الحبشة قد خلت الحرب ضد المهدية ولذلك كان المهدي يخشي من الاحباش لسببين الأول أن الاحباش سوف يعملون على عرقلة طموح المهدي الساعي في التحرك نحو الشمال والسبب الثاني أن الاحباش من الممكن أن يصبحوا مصدر للخطر من الجبهة الشرقية.

   هنا كتب المهدي لعماله في منطقة القضارف والقلابات يطلب منهم مراقبة الحدود مع الحبشة والعمل على تأمينها (…أما الحبشة فعما قليل سيهلك الله باقيهم حيث أنهم تعينت لحراستهم الانصار من هنا (فلتكونوا) راصدين لهم في الثغور التي تكون مرصداً لهم …).

   كان الايمان بالمهدية هو الرابط الوحيد الذي من الممكن أن يجمع المهدية بالحبشة، وقد يمثل الأساس الفكري لسياسة المهدية الخارجية، وقد وضح ذلك عندما طلب (يوحنا) ملك الحبشة توضيحاً عن المهدية فكان رد المهدي في خطاب بعث به إليه في 15 يونيو 1885 الموافق 2 رمضان 1302ه، جاء فيه بعد أن خاطبه بعظيم الحبشة أنه أي المهدي مرسل من الله تعالى ليدعو لفكرة المهدية ثم ذكر له الملوك الذين قتلوا والدول التي انهارت لأنها فقدت نور الايمان ثم وضح ليوحنا انتصاراته على الانجليز وفي الوقت نفسه هدده بأن مصيره لن يكون أفضل منهم إن هو لم يؤمن بالمهدية.

   رد يوحنا على خطاب المهدي بخطاب آخر وصل إلى القلابات واستلمه محمد ود ارباب في سبتمبر 1885م الموافق 14 ذي الحجة 1302ه أي بعد وفاة الامام المهدي وفي الخطاب رفض يوحنا الدخول في الاسلام كما رفض الطريقة التي قدمت بها الدعوة كما قام بدعوة المهدي ومحمد ود ارباب للدخول في المسيحية لأنها حسب اعتقاده الدين الصواب والحق وبهذا الخطاب أن الدين يمثل الحاجز الأول بين المهدية والحبشة. وارسل بعد ذلك يوحنا ملك الحبشة قواته لمهاجمة القلابات بعد أن هاجمت قوات ود ارباب كنسية تقع على مسافة يوم من القلابات وخربها وقتل ود ارباب على يد الراس عدال حاكم اقليم (الأمهرا) في عام 1887م/ 1304ه. وبعد ذلك اتجهت الحبشة إلى إيواء بعض القبائل المعارضة للمهدية ثم تطور الأمر لتحرش الاحباش بحدود الدولة المهدية الشرقية مما أدى الى توتر العلاقة بين الطرفين.

   تطورت العلاقات بين المهدية والحبشة بصورة متسارعة، وبدأت بوادر الحرب تنشأ بين الطرفين. وقد كان الخليفة عبد الله وحسب التقديرات الداخلية لا يرغب في مواجهة الاحباش وذلك بسبب الوضع الداخلي والصراعات القبلية، وقد كلف الأمير يونس الدكيم أمير القلابات بحماية الجبهة الشرقية ووعد الدخول في حرب مباشرة مع الاحباش، وبعد تحسن الوضع الداخلي تم تعيين الأمير حمدان ابوعنجة عاملًا على القلابات وقد تمكن حمدان ابوعنجة من هزيمة الأحباش ودخول العاصمة (غندر) وتراجع بعد ذلك للقلابات محققا نصراً حاسماً ومهماً.

   حقق حمدان ابوعنجة العديد من الانتصارات على الأحباش وعمل على تحصين القلابات ضد الهجمات المحتملة من قبل الاحباش لأن الملك يوحنا فكر في مهاجمة المدينة ويخطط لذلك رداً على الهزائم التي مني بها، استنفر الملك يوحنا كل الاحباش بغرض تحقيق نصر حاسم وسريع على الانصار، تمكن يوحنا من حشد 250 ألف مقاتل معهم زعماء الاحباش وقادة المناطق مثل (الرأس عدل) و(الرأس الوله) وهيلا مريم وصالح شنقة زعيم التكارير وزحف بجيشة نحو القلابات.

   بعد أن وصلت أخبار هذه الحملة لحمدان ابو عنجه عمل على تحصين المدينة من خلال (زريبة) ضخمة وسور داخلي لحماية العائلات والذخائر والغلال وجعل للزريبة أربعة أبواب وعلى كل باب مدفع، وقبل أن يكمل حمدان ابوعنجة بناء الزريبة أصابته الحمى فمات في  (29 يناير 1889) فكانت وفاته صدمة لكل الجيش المرابط في القلابات وللخليفة عبدالله في أم درمان لأنه يعتبر من امير قادة المهدية.

    خاضت المهدية ضد الاحباش معركة القلابات التي تعد من واحدة من المعارك التي انتصرت فيها المهدية وهي لم تكن في حالة استعداد تام وبهذا الانتصار الذي تحقق على يد الأمير الزاكي طمل ارتفعت أسهم المهدية على المستوى الداخلي وأصبح الأحباش يطلبون ود الخليفة وبذلك تحولت العلاقة بين الطرفين من الصراع المسلح إلى مرحلة البحث عن المصالح المشتركة.

   أعقبت معركة القلابات حالة من الترقب بين الطرفين، وفي الوقت نفسه استمرت المهدية في استعداداتها الحربية على الحدود وارسال الجواسيس إلى داخل الحبشة بغرض جمع المعلومات. وبحلول العام 1890م/ 1308ه أرسل الخليفة عبدالله خطابا للملك (منليك) وذلك بعد أصبح ملكاً على الحبشة ذكر له الخليفة في هذا الخطاب الدعوة التي قدمت له قبل ذلك بغرض الدخول في الاسلام وبرر الخليفة عبدالله هذه الدعوة بخوفه عليه وشفقته لكي لا يحشر مع الكفار.

   لم يرد الملك (منليك) على خطاب الخليفة عبدالله، ولعدم وصول رد الخطاب إلى الخليفة أخذ الخليفة عبدالله يحزر منليك من عاقبة التعدي على حدود الدولة المهدية، وذكره في الوقت نفسه بمصير يوحنا لكي يتعظ بمصير من سبقوه، وقد كان هذا التهديد دلاله على أن الخليفة تأكد له أن منليك لن يسلم ولن يسلك سلك المهدية.

    انتهج الخليفة عبدالله مبدأ اللين مع الاحباش بعد فشل حملة النجومي وهزيمتها في معركة توشكي، وأضف لذلك ظهور الخطر الايطالي على حدود الدولة المهدية الشرقية. وفي 8 ربيع آخر 1309ه/ 10 نوفمبر 1891م حدث تطور ملحوظ في علاقات المهدية بالحبشة وذلك عندم أرسل الرأس (دجاج بتيوه) أحد زعماء الاحباش رسالة إلى الأمير أحمد علي أبدا فيها استسلامه للمهدية ورغبته الأكيدة في فتح الطريق التجاري بين القلابات والمدن الحبشية.

  لم تجد رسالة (دجاج) القبول من القائد أحمد علي الذي تحرك إلى داخل الحبشة في فبراير 1892م/ رجب 1309ه وهاجم (دجاج بتوه) الذي فر من أمام جيوش المهدية وأحرقت جيوش المهدية عدد كبير من المنازل وأسرت الكثير من الرجال والنساء فطلب دجاج الصلح الذي رفضة أحمد على بشرط دخوله الاسلام.

   في 6 رمضان 1309ه/ 4 ابريل 1892م تحركت حملة من القلابات تحت قيادة أحمد على إلى منطقة (غبتا) داخل الأراضي الحبشية استطاعت هذه الحملة قتل (بلاتا تفري) وبعهدها اشتبكت مع قوة من الاحباش ضمت كل من الرأس (حقوص) ودجاج برهي ودجاج تفري ودجاج دسته تمكن أحمد علي من هزيمتهم ولم ينج من الاحباش سوى دجاج (تفري) و(قرزا ماج) وقام أحمد بقطع رؤوسهم وارسلها للخليفة عبدالله في أم درمان. استغل أحمد علي حالة الصراع الداخلي الذي كانت تعيشه الحبشة بين الرأس (منقشا) وبين الملك (منليك) ووضح أن المهدية انتهجت نهج القسوة تجاه الحبشة بجانب دعوتهم للإسلام.

   فنتيجة لظهور الخطر الايطالي الذي أصبح يهدد الحبشة، وانشغاله بالمشاكل الداخلية اتجه الملك (منليك) إلى انتهاج سياسية يسودها الود مع المهدية. وفي 1893م/ رجب 1310ه طلب دجاج (بتيوه) حاكم (جلقا) فتح الطريق التجاري مع القلابات كما قام بإرسال الضريبة التي فرضها عليه الزاكي طمل مع رسوله (المزاج تسمي) وهي عبارة عن 200 ريال أبو نقطة وثمانية قناطير بن وفرس.

   بعد الانتصارات التي حققها الايطاليون على الاحباش طلب القائد الايطالي (باراتبيري) من الراس (منقشا) تسريح جيشه مستغلًا خلافة مع (منليك) وأن يقوم في الوقت نفسه بمهاجمة قوات المهدية لكن الرأس (منقشا) لم يرد على هذه الرسالة وسعى إلى تحسين علاقته بالدولة المهدية كما أرسل عدد من اتباعه إلى الأمير أحمد فضيل في القضارف كما قام بإرسال ابنه إلى القضارف حيث استقبل استقبالًا كبيرًا، بعد هذه الحادثة حدث تقارب واضح بين المهدية والاحباش على مستوى الدولتين، أما على المستوى الداخلي فقد حدث تقارب أيضاً بين منليك ومنقشا، مما انعكس سلباً على القوات الايطالية المحتلة في الحبشة مما دفع الجنرال الايطالي (باراتيري) إلى حشد قوة قوامها 3500 جندي في ازاخر عام 1894م لمواجهة الحلف الثلاثي.

  أصبح الايطاليون في حالة خطر كبير نتيجة للاتفاق بين الدولة المهدية والحبشة واذا تمت مهاجمتهم من جهة كسلا والاحباش من الداخل فسوف يؤدي ذلك إلى انهيار خطوط مواصلاتهم بين كسلا ومصوع، وفي ذلك الوقت كانت قوات المهدية تتابع تحركات القوات الايطالية في كسلا وتمكنت قوات المهدية من مهاجمة القوات الايطالية في (الملوية) عام 1895م وتمنوا من قتل القائد الايطالي (هروده)، وفي العمق الحبشي دخل الايطاليون في حرب مع الراس (منقشا) في 13 يناير 1895م وانهزم الراس منقشا وانسحب بعد ذلك إلى (سيناف) وتكبدت قواته خسائر كبيرة.

  المتتبع للعلاقات الحبشية مع الدولة المهية يجد أن هذه العلاقة مرت بثلاث مراحل حيث أن المرحلة الأولى بدأت مع الامام المهدي وارساله لخطاب الدعوة ليوحنا ملك الحبشة ثم دخلت العلاقة مرحلة ثانية عندما كرر الخليفة عبدالله نفس الخطاب للملك يوحنا لكنه لم يجد رد وأرسل خطاب آخر للملك (منليك) الذي رفض عرض الخليفة عبدالله لكنه حاول أن يطبع علاقته بالدولة المهدية يدفعه في ذلك الصراعات الداخلية حول العرش والخطر الايطالي على الحبشة. رغم محاولات الاحباش لإيجاد حلف استراتيجي بينهم والمهدية الا أن الخليفة عبدالله لم يكن متحمسًا لهذا الحلف وعندما عرض عليه في أواخر أيام الدولة المهدية رفع العلم الفرنسي على حدوده الشمالية من قبل الاحباش رفض ذلك بحجة أنه لن يستبدل استعمار باستعمار آخر.

 

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى